علم

الفصل الثاني



الفصل الثاني

الفصل الثاني

تقديم أثناسيوس أسقفاً على الإسكندرية

وجهاده حتى منفاه الأول

 

[إن اسم أثناسيوس الخالد لا يمكن أن ينفصل أبداً عن عقيدة
الثالوث التي كرَّس لها حياته وكل قدراته العقلية وكل كيانه … وقد شهدت كل ولاية
من ولايات الإمبراطورية الرومانية ما كان يتحلَّى به أثناسيوس من فضائل وما كان
يعانيه من آلام في سبيل قضية وحدة الابن مع الآب في الجوهر التي أصبحت عمله الوحيد
وهمَّه الوحيد.]
المؤرِّخ جيبون([1])

كانت نياحة البابا ألكسندروس في 22 برمودة الموافق 17
أبريل، أي في موسم الصوم الفصحي سنة 328م. بعد أن أرسل أول خطاب فصحي دوري لجميع
أساقفة العالم محدِّداً فيه ميعاد بدء الصوم وميعاد القيامة، وذلك بمقتضى التكليف
الذي صدر من مجمع نيقية إلى الكرسي الإسكندري، باعتبار المصريين أقدر أساقفة
العالم من جهة الحسابات الشمسية والقمرية.

ولكن لم تعبر نياحة هذا البابا القديس اللطيف الهادئ (بحسب
وصف المؤرِّخ روفينوس)
([2]) دون إشارة إلهامية من الروح القدس بخصوص مَنْ سيخلفه على الكرسي، من أجل
هذه المهمة السماوية الخطيرة التي بدأها الله على يديه ألا وهي الدفاع عن الإيمان
الصحيح والشهادة للاهوت المسيح. فألكسندروس وهو في النزع الأخير، وكل الإكليروس
مجتمعون حوله يتباركون منه، بدأ ينادي بإلحاح: “أثناسيوس … أثناسيوس”. ولكن لأن
أثناسيوس كان يخشى هذه اللحظة وما يمكن أن يكون وراءها من مسئولية، هرب. فلمَّا
كرَّر البابا نداءه: “أثناسيوس … أثناسيوس”، ردَّ عليه أحد الإكليروس من
الواقفين وكان يُدعى أثناسيوس أيضاً، فاستنكر البابا رد هذا المدَّعي، وبدأ ينادي
أثناسيوس أيضاً. ولكن عندما تحقَّق من عدم وجوده قال: “وهل تظن أن بهروبك يمكنك أن
تفلت … لا يمكن”.

انقضى شهران إلاَّ قليلاً بين نياحة ألكسندروس (17 أبريل
سنة 328م) ورسامة أثناسيوس (8 يونيو سنة 328م)، بعد أن تعبَّأ لها الرأي العام
بصورة ساحقة، فيما عدا قلة مغرضة من الأريوسيين والميليتيين، بتحريض من الأسقف
يوسابيوس النيقوميدي

الذين تجرَّأوا ورسموا أسقفاً من قِبَلِهم كان مقطوعاً من الشركة اسمه “ثيئوناس”،
كان سابقاً أسقفاً على منطقة مارمريكا، ولكن لم يستطيعوا تقديمه إزاء إجماع الرأي
الهائل حول أثناسيوس، الذي ناهز المائة أسقف (94 أسقفاً مقابل 35 من الميليتيين)
من الإسكندرية ومصر وليبيا
([3])، بالرغم من الاعتراضات التي أُبديت من جهة صغر سنه، إذ كان وقت رسامته قد
قارب الثلاثين من عمره فقط وهو دون السن القانونية بحسب التقليد الكنسي.

وكانت تزكية جميع أساقفة الإسكندرية ومصر وطيبة وليبيا
والخمس مدن، كما وصفناها في صفحة 58، تشهد بذلك. إذ يقرر
هؤلاء الأساقفة في رسالتهم لإخوانهم أساقفة العالم:

[إنه قد اُختير بأغلبيتنا العظمى على مرأى من جميع الشعب
وباستحسانه، ونحن الذين أقمناه نشهد بذلك كشهود عيان، وتُعتبر شهادتنا أصدق من
الذين لم يحضروا رسامته وجاءوا الآن لينشروا تقاريرهم المزيَّفة،
وهوذا لا
يزال يوسابيوس (أسقف نيقوميديا عاصمة الإمبراطورية) يجد أخطاءً في اختيار أثناسيوس
أسقفًا، الذي هو نفسه ربما لم يتلقَّ أية موافقة عند اختياره على الإطلاق، وحتى
ولو كان قد حاز على موافقة فهو نفسه قد جعلها بلا أية قيمة.]
([4])

ويعلِّق
على هذه الوثيقة التاريخية المؤرِّخ جيبون بقوله: [ولا يمكن أن يُعقل أنهم يشهدون
هكذا رسمياً لحادثة يمكن أن تكون مكذوبة.]([5])

ويقرِّر
أيضاً القديس غريغوريوس النزينزي: [إنه بأصوات الشعب كله وتشفُّعاته
وليس بالعنف وإراقة الدماء التي سادت بعد ذلك بل إنما في وقار رسولي
وروحاني أُقيم أثناسيوس على عرش مارمرقس.]([6])

لم
تكن أسقفية أثناسيوس على كرسي الإسكندرية شيئاً قليلاً، فكان يترأَّس وقتها على
129 أسقفاً من مصر وليبيا والخمس مدن، فوإن كانت الإسكندرية في ذلك الوقت وما قبله
تعتبر الثانية (أي بعد روما) في الأهمية السياسية كمدينة، ولكن بالنسبة للدفاع عن
الإيمان المسيحي بل وبالنسبة للمعرفة اللاهوتية عموماً والروحية خصوصاً، كانت
كنيسة الإسكندرية “أم كنائس العالم” وأسقفها عظيم الأساقفة بلا منازع، أو بحد
تعبير القديس باسيليوس: “أسقف الأساقفة”.

ولكن
هذه المضادة المؤلمة: أن تكون الإسكندرية الثانية بعد روما، أو ربما الثالثة بعد القسطنطينية، في الأهمية السياسية ثم تكون هي
بآن واحد الأُولى والعُظمى على المستوى اللاهوتي والعلمي والروحي معًا؛ هذا أنشأ
صراعًا كان لابد أن يكون بين الأساقفة الخاملين لهذه المدن السياسية المرموقة وبين
أسقف ذائع الصيت لاهوتي عالِم على أعلى مستوى روحاني يجلس على كرسي مدينة تحت
الاحتلال والقهر السياسي! … على أن هذه المضادة الحزينة المؤلمة ظلَّت قائمة لا
في زمن أثناسيوس فحسب؛ بل وفي زمن البابا ثاوفيلس ثم البابا كيرلس الكبير، حتى
انتهت بالبابا ديسقوروس الذي دفع ثمن القهر السياسي قهرًا لاهوتياً وأدبياً
(ملفَّقًا) عندما رخصت المعايير اللاهوتية والأدبية، وانحنت في ذلة الاستجداء
للمجد الدنيوي حينما ازداد تعظُّم السياسة وسطوتها وتغلغلها في الدين وارتداؤها
أخيراً لباس الكهنوت! …

ألقاب القديس أثناسيوس التي كان يُخاطَب بها:

كان
لقب القديس أثناسيوس المحبوب لدى كل المصريين هو “أبونا” ولكن في أعلى معنى
للكلمة، وهذا يتضح من الحوار الآتي، وهو بين الدوق أرتيميوس المُرسَل من
الإمبراطور للتفتيش على القديس أثناسيوس والقبض عليه سنة 359360م،
وبين رهبان دير بافو الذي كان يقيم فيه القديس باخوم مع أولاده. فعندما وصل هذا
الدوق إلى الدير سائلاً عن البابا أثناسيوس جاوبه الرهبان هكذا: [وإن كان أثناسيوس
هو أبونا بعد الله، إلاَّ أننا لم نَرَ وجهه حتى الآن].

وفي
نفس هذا التاريخ بالذات أرسل القديس أثناسيوس رسالة لكافة رهبان البراري كان
عنوانها كالآتي: [أثناسيوس رئيس أساقفة الإسكندرية إلى المتوحدين].

على
أن اللقب الكنسي الذي كان يُذكر به في الكنيسة عامة كان لقب “بابا” أو “باباس”.
وأول مَنْ أُطلق عليه هذا اللقب هو هيراكلاس البابا الثالث عشر، وهو لقب روحي صرف
يفيد معنى الأبوَّة العزيزة.

وقد
قال عنه القديس غريغوريوس النزينزي: “إن رأس كنيسة الإسكندرية هو رأس العالم.([7])

أمَّا
القديس باسيليوس الكبير فكان يعتبر القديس أثناسيوس “أسقف الأساقفة”، وقد أرسل
إليه مستغيثاً ليتدخَّل في مشكلة أنطاكية ويستميل إليه مناصرة الغرب، وخاطب
أثناسيوس بقوله: “إن حسم النزاع في مشكلة أسقف كنيسة أنطاكية منوط بك وحدك بوصفك أسقف
الأساقفة

الأيام الأُولى في أسقفية البابا أثناسيوس:

يلزمنا
منذ الآن أن نعلم أن حياة القديس أثناسيوس في أسقفيته انقسمت بصورة واضحة جدًّا
إلى فترات هدوء واستقرار، وفترات عنف ونفي. وسوف نوضِّحها في نهاية سيرته في جدول
عام. أمَّا الآن فنكتفي بالقول إن بداية أسقفية القديس أثناسيوس كانت فترة هدوء
واستقرار استمرت من 8 يونيو سنة 328م إلى 11
يوليو سنة 335م وهي فترة زمنية تبلغ سبع سنوات وشهرًا واحدًا وثلاثة
أيام.

فأعمال
القديس أثناسيوس في هذه الفترة الهادئة قليلة، أو على وجه أصح لم يبلغنا عنها شيء
يُذكر إلاَّ خبرين، أولهما هذا الخبر الهام جدًّا وهو: اضطلاع أثناسيوس برسامة
فرومنتيوس أسقفًا على كرسي أكسوم في الحبشة أي أثيوبيا، وهذه كانت بداية تأسيس
كنيسة رسمية على هذه الديار المباركة، والقصة كالآتي:

كان
البابا أثناسيوس يوماً جالساً وسط الأساقفة في مجمع ملتئم بالإسكندرية، عندما حضر
شخص قال إنه قادم من بلاد أثيوبيا يتوسَّل لمقابلة القديس أثناسيوس في أمر هام،
وأبلغ الرسول أن اسمه “فرومنتيوس”. وقص على القديس أثناسيوس قصته هو وأخاه
“إيديسيوس”؛ كيف أنهما مسيحيان وكيف كانا وهما شابان ضمن رفقة قريب لهما يُدعى
“ميروبيوس” وهو رجل فيلسوف، في رحلة إلى بلاد أثيوبيا. وفي العودة عندما رست
السفينة في إحدى مواني البحر الأحمر في حدود أثيوبيا داهمها بعض القبائل
المتوحِّشة، ونجا “فرومنتيوس” وأخوه بأعجوبة، وبيعا كعبدين للملك، ولكن الملك
أحبهما واستأمنهما على خدمته. وكان “إيديسيوس” ساقيًا للملك وكان ذا إيمان طاهر
ونفس صاحية.

وبعد
موت الملك عيَّنوا فرومنتيوس حارسًا ورائدًا لابنه، فانتهز فرصة وظيفته وبدأ
يشيِّد أماكن للعبادة لزملائه المسيحيين المتغرِّبين في هذه البلاد للتجارة. كما
بدأ ينشر التعاليم المسيحية بين المقرَّبين إليهما من الشعب الأثيوبي. وقد تأثَّرت
الملكة بأخلاقهما وتعاليمهما وقبلت الإيمان المسيحي هي وبعض أشراف المملكة. فلما
استولى ابن الملك على الحكم سنة 328م استعفى فرومنتيوس وأخوه من خدمة الملك بالرغم
من الإلحاحات الكثيرة التي قدَّمها لهما الملك وأُمه، وعادا مرَّة أخرى إلى
“العالم الروماني”.

أمَّا
“إيديسيوس” فقد انطلق إلى صور حيث رُسم هناك قساً، وأمَّا فرومنتيوس فقد رأى [أنه
ليس من اللائق أن يُخفَى عمل الرب هكذا]. ومن أجل هذا أسرع إلى الإسكندرية
متوسِّلاً لكي يقوم القديس أثناسيوس بتعيين أسقف لكي يبني كنيسة لهذه الديار التي
أحبها وعاش فيها.

فكان
جواب البابا أثناسيوس: [ومَنْ ذا يكون أصلح منك لهذه المهمة؟]. وبعد موافقة
الأساقفة المجتمعين رُسم فرومنتيوس أول أسقف إسكندري على أثيوبيا. وانطلق الأسقف
فرومنتيوس عائداً إلى أثيوبيا حاملاً بركة الإنجيل، وأسَّس كرسيه في أكسوم وخدم
هناك خدمة محبوبة، لأن اسم فرومنتيوس ظل محبوبًا في كل ديار أثيوبيا حتى هذا
اليوم. وقد لقَّبوه “أبَّا سلامة” بصفته “أول مَنْ فجَّر نور المسيح الباهر في
أثيوبيا”. وتعيِّد له الكنيسة في 18 كيهك 14 ديسمبر من كل عام.

أمَّا
هذه القصة الممتعة فقد نقلها إلينا المؤرِّخ روفينوس إذ قد سمعها من فرومنتيوس بعد
سنين كثيرة من بداية وقائعها، وقد تناقلها عن روفينوس كل من المؤرِّخين سقراط
وسوزومين([8]).

أمَّا
من جهة تاريخ رسامة فرومنتيوس أسقفًا على أكسوم بأثيوبيا فقد كان مرجَّحًا إلى عهد
قريب أن ذلك حدث في بداية خدمة البابا أثناسيوس أي حوالي سنة 330م.
ولكن قام حديثًا المؤرِّخ أرشيبالد روبرتسون
Archibald Robertson بتحقيق زمن هذه الرسامة فأخَّرها كثيراً جدًّا عن هذا التاريخ، إذ
جعلها مرتبطة بقيام الإمبراطور قسطنطيوس وتعيين الأسقف الأريوسي الدخيل على
الإسكندرية سنة 357م مستعينًا في ذلك بروح ونص الخطاب الذي أرسله الإمبراطور
قسطنطيوس إلى بلاد الحبشة أي أثيوبيا “ضد فرومنتيوس أسقف أكسوم”، وقد وجَّهه
الإمبراطور إلى أمراء وحكام أكسوم عاصمة أثيوبيا هكذا:

[قسطنطيوس
فيكتور مكسيموس أغسطس إلى إيزانس وسازانس … أرسلوا سريعًا الأسقف فرومنتيوس إلى
مصر عائدًا لمقابلة الأسقف جورج (الأسقف الأريوسي الدخيل على كرسي الإسكندرية) …
ليعيِّن له مسئولياته … لأن هذا الأسقف فرومنتيوس قدَّمه إلى هذه الرتبة
أثناسيوس (هكذا بدون لقب) رجل متهم بعشرة آلاف جريمة … وقد حُرم من كرسيه …
وإن هو (فرمنتيوس) تأخَّر عن طاعة هذا الأمر فهذا سيكون بيِّنة على أنه متواطئ مع
أثناسيوس الشرير، وهكذا يسيء إلى عبادة الله مختارًا طريق أثناسيوس الذي أصبح شرّه
واضحًا … وإن خوفنا شديد لئلاَّ يعبر أثناسيوس إليكم ويُفسد شعبكم … ولكني أثق
أن فرومنتيوس سيعود إلى وطنه في الحال … ليستلم النصائح من الكلِّي
الوقار جورج (هكذا) … وليحفظكم الله دائماً أيها الإخوة الجزيلي الاحترام.]([9])

ومن
هذا الخطاب يبدو أن أخبار رسامة فرومنتيوس ووصوله إلى الحبشة حديثة العهد جدًّا
ومناسبة للغة هذا الخطاب الذي يرتبط زمنه بزمن وصول الأسقف الأريوسي جورج إلى
الإسكندرية في 24 فبراير سنة 357م.

كذلك
يتضح من هذا الخطاب أن فرومنتيوس إسكندري المولد والجنسية من الجملة الواردة في
الخطاب: [يعود إلى وطنه في الحال].

وعلى
أي حال يُعتبر هذا الخطاب وثيقة بالغة الأهمية من جهة تاريخ تأسيس الكنيسة
الأثيوبية الشقيقة وعلاقتها الوثيقة بالإسكندرية.

 

أمَّا
الخبر الثاني في الفترة الهادئة من حياة القديس أثناسيوس فهو بخصوص جولة رعائية
كبيرة قام بها البابا أثناسيوس في بكور خدمته سنة 329م. وصل فيها إلى حدود أسوان
وقطع فيها كل صعيد مصر عبر مجرى النيل الصاعد، وكان يُدعى آنئذ إقليم طيبة أو
طيبايد، حيث اتخذه كثير من أتباع أريوس وميليتس مراكز للتجمُّع والمقاومة. أمَّا
غاية البابا أثناسيوس العميقة التي كانت تجيش في قلبه من متابعة هؤلاء المنشقين في
عقر دارهم فهو لا أن يُخضِعهم بالعنف؛ بل أن يضمهم إلى الكنيسة بالحب والإقناع،
كما يخبرنا القديس إبيفانيوس أسقف قبرس في تسجيلاته التاريخية([10]).

وإليك
أيها القارئ العزيز مقتطف من تاريخ حياة القديس أنبا باخوميوس يكشف لنا بعبارات
شيِّقة خبر هذه الرحلة البابوية النشيطة:

[وكان
وقتئذ الأب الفاضل أثناسيوس رئيس أساقفة مدينة الإسكندرية أول ما تقلَّد
الكرسي،
ولمَّا أزمع على المضي إلى بلد الصعيد الأعلى وإلى بلد “سين” أو
“سينوس” وهي أسوان، ليفتقد البِيَع التي هناك ويوطِّدها ويحكم أمورها، وكان طريقه
على طبانسين (منطقة أديرة أنبا باخوم في إيبارشية دندرة)، وهي جزيرة في النيل،
ولمَّا وصل إلى دوناسا (دوفانيس)، خرج أبونا باخوميوس مع جماعة الإخوة في خلق كثير
وجمع غفير واستقبله قبولاً حسناً بالصلوات الكثيرة والتسابيح والأضواء وبكل بشاشة
وفرح لأجل حضور رئيس الأساقفة وراعيهم، وكان أنبا سيرابيون أسقف تنتيرون (دندرة)
المقدّم ذكره (كان أنبا باخوم يتردَّد على إيبارشيتيه ليخدم شعبه ويعظهم) موجوداً،
فتقدَّم إلى رئيس الأساقفة وعرَّفه أن في بلدته المختصة بكرسيه رجلاً فاضلاً
مباركاً ولله عابداً وطلب منه أن يقدِّمه قسيساً ويرسمه مقدِّماً على سائر الأديرة
والرهبان الذين في الصقع، ولمَّا تحقَّق الأب باخوميوس هذا الخبر اختفى من رئيس
الأساقفة في وسط الجمع، فلما جلس أنبا أثناسيوس والجمع العظيم الذي معه قال لأنبا
سيرابيون: بالحقيقة الرجل الذي قلت لي عنه الذي هو أنبا باخوميوس قد سمعت خبر
إيمانه وأنا في الصعيد من قبل أن يضعوا عليَّ اليد([11]).
ومن بعد ذلك قام وصلَّى وقال لأولاده: سلِّموا على أبيكم وقولوا له إنك وإن كنت قد
اختفيت مني وهربت من الأشياء التي بسببها تكون الغيرة والحزن والحسد واخترت لك
العلو الفاضل الدائم إلى الأبد مع المسيح، فربنا يعطيك مثل قلبك. وإن كنت قد هربت
من العظمة الفارغة الوقتية الفانية فليس أنت فقط لا تشاء أن يكون لك هذا الأمر بل
وأنا أيضاً أمدُّ يدي إلى العلي الأبدي إني لا أغصب رئاستك ولا أُكلِّفك على هذا
الأمر، بل بمشيئة الله إذا عدت (من رحلتي) ليتني أكون مستحقاً أن أرى محبتك للإله.

ثم
خرج من عندهم ومضى إلى الصعيد ومعه أساقفة كثيرون وجموع لا تُحصى، ومن بعد ذهابه
خرج أبونا باخوميوس من الموضع الذي كان مختفياً فيه، وفي حال رجوع أنبا أثناسيوس
في المركب وكان في زهرة النيل (أيام الفيضان) أتى إليه
أبونا باخوميوس لأخذ بركته لعلمه أنه وليُّ الله وخادمه ولا سيما بسبب ما بلغه عنه
من الصبر على صنوف الاضطهادات وما قاساه من التجارب التي كابدها لأجل نصرة الإنجيل
والإيمان القويم.]([12])

ومن
هذا الفصل نستطيع أن نؤكِّد:

أولاً: أن رحلة البابا أثناسيوس الرعائية كانت فعلاً في
بداية أسقفيته (أول ما تقلَّد الكرسي).

ثانياً: أن القديس أثناسيوس بلغ إلى حدود منطقة أسوان
التي كانت مليئة بالكنائس، ويُقال إنه بلغ إلى حدود الحبشة.

ثالثاً: أن القديس أثناسيوس مواطن صعيدي أصلاً وكان يعيش
في الصعيد حتى إلى ما قبل رسامته بقليل: [وأنا في الصعيد قبل أن يضعوا عليَّ
اليد].
وهذا يؤكِّد ما جاء في ورقة المخطوطة التي اكتشفتها حديثاً المذكورة صفحة 43و44.

رابعاً: أن أثناسيوس البابا استطاع فعلاً أن يضم صفوف
أساقفته ويشجِّع كنائسه ورعاياه ويوطِّد إيمانهم، وعاد من هذه الرحلة أكثر إيماناً
بقدرته في النضال الطويل.

والأريوسيون أيضاً ينظِّمون صفوفهم، استعداداً للمقاومة:

لم
يقبل أريوس ولا الأريوسيون هزيمة نيقية الماحقة، ولا ميليتس المتروبوليت المصري
المنشق ارتضى بالحل الذي قرره مجمع الأساقفة بنيقية، وحاول الإمبراطور قسطنطين
مرَّة أخرى أن يجري السلام بينهم وبين الكنيسة راغباً أن يحصل على الأمن والسلام
من وجهة نظرته السياسية، وذلك بفرض حلول عادلة، ولكن إزاء مراوغتهم وعنادهم انقلب
ضدَّهم جميعاً، وقرَّر اتخاذ الإجراءات المدنية الرادعة بواسطة القوة العسكرية
التي لم تعرف أيَّة رحمة أو مهادنة مع المعارضين، فنفاهم جميعاً، ولكن للأسف عاد
فعفى عنهم الواحد تلو الآخر.

ذهب
أريوس إلى منفاه في إلليريكون (المناطق الجبلية شمال اليونان ألبانيا
والبلقان الآن). والمعتقد عند بعض المؤرِّخين أنه أُفرج عنه بعد سنة واحدة، ولكن
يُظن أنه استمر هناك خمس أو ست سنوات بحسب تحقيق المؤرِّخ جواتكن، خرج بعدها من
المنفى ليستأنف نشاطه([13])،
ولكن بعد أن استطاع أن يتلمذ في هذه النواحي أسقفين صارا عماد الأريوسية بعد ذلك
على مدى نصف قرن، وهما:

· الأسقف
فالنس:
Valense of Mursa

· والأسقف
أورساكيوس:
Ursacius of
Belgrade

كما
نشط في هذه المدة اثنان من أكبر أعوان أريوس رضعا منه مرارة حقده وجنونه:

· ثيئوجينيس
أسقف صور، خرج من منفاه أيضاً بعد سنة واحدة، وسكوندس أسقف برقة بشمال أفريقيا.

ولكن
أصعب من هؤلاء جميعاً وأخطرهم في الحقد والمكائد والسلطان:

· الأسقف
يوسابيوس ذئب نيقوميديا الذي خرج من منفاه بعد سنة واحدة ليبدأ نشاطه على مستوى
الإمبراطورية، كان أريوسياً، كان ميليتياً، وكان كل شيء يمكن أن يكون ضد مجمع
نيقية وضد البابا أثناسيوس بالذات. وباختصار كان يوسابيوس النيقوميدي قوة مخرِّبة
في الكنيسة ليس بذي مبدأ ولا لاهوت بالرغم من تظاهره بذلك، يجمع حوله ويحرِّك من
بعيد كل العناصر المقاومة للإيمان الأرثوذكسي في كافة نواحي الإمبراطورية، وبالأخص
أساقفة آسيا الصغرى ونواحي فلسطين، عدوُّ نيقية الذي لم يكف ساعة واحدة عن مقاومة
كل مبادئ نيقية حتى مات. وكان البلاط الإمبراطوري هو مسرحه الذي يستمد منه أدواره
وعملياته الإرهابية.

· ومن ضمن
هذه الزمرة الأريوسية التي كانت ناشطة على المستوى السياسي وليس اللاهوتي:
يوسابيوس أسقف قيصرية المؤرِّخ الكنسي المشهور، لم يكن أريوسياً بالمعنى اللاهوتي
الكامل ولكنه أعطى لنفسه حرية الحركة بالفكر والكلمة وسط الأريوسيين، ممالأة لهم
وللإمبراطور قسطنطين، فلم يخلُ فكره وعمله من الأريوسية.

الميليتيُّون يتحِدون مع الآريوسيين تحت إغراءات ووعود:

وإن
كان الميليتيُّون هم شيعة متروبوليت ليكوبوليس، وجملة عددهم 35 أسقفاً، احتلُّوا
مراكز حسَّاسة وخطيرة في القطر كله مع عدة مئات من الكهنة والرهبان([14])،
ظلُّوا بعد مجمع نيقية محافظين في البداية على طاعتهم نوعاً ما على تقليد إيمانهم
الأرثوذكسي، إلاَّ أنهم بدأوا شيئاً فشيئاً يتحلَّلون من طاعتهم للكنيسة ومن
التقليد الإيماني، وأخيراً وقعوا في شرك الأريوسيين إذ انخدعوا بإغراءات يوسابيوس
النيقوميدي ونظَّموا صفوفهم ضد البابا أثناسيوس متحِدين مع الأريوسيين في معاهدة
ذات منافع مشتركة، خصوصاً بعد موت ميليتوس وقيام خلفه “يوحنا أركاف” وهو أسقف غير
قانوني إذ رسمه ميليتوس قبل أن يموت وعيَّنه خلفاً له سنة 330م. وكان من أشد خصوم
أثناسيوس عنفاً ودهاءً.

وينبغي
أن نلاحظ أن الميليتيين كحزب كنسي منشق ظل قائماً بنشاطه في الكنيسة حتى القرن
الخامس([15]).
وقد حزن وبكى عليهم كثيراً إبيفانيوس أسقف قبرس، وهو المؤرِّخ الوحيد الذي اعتنى
جدًّا بسرد تاريخ انشقاقهم([16]).
انظر تعليق القديس أثناسيوس عليهم حيث يكشف ترتيب المؤامرة بينهم وبين الأريوسيين،
إذ كان على الأريوسيين أن يقدِّموا التهم وعلى الميليتيين بصفتهم داخل الكنيسة
(بأمر مجمع نيقية) أن يجلسوا ويحكموا على البابا أثناسيوس: [لقد قسَّموا المؤامرة
بينهم، فالفريق الأول (الأريوسيون) أعطوا لأنفسهم الحق في تقديم الاتهامات ضدِّي،
والفريق الآخر (الميليتيُّون) كان عليهم أن يجلسوا ويحكموا في الموضوع.]([17])

· ولكن ليس
الجانب الكنسي فقط بزعامة الأريوسيين والميليتيين هو الذي كان موضع خطر ومصدر
الصراع بالنسبة للقديس أثناسيوس وبالتالي للأرثوذكسية كلها، بل الإمبراطور قسطنطين
نفسه الذي لم يستطع أن يحفظ حزمه ويحترم كلمته في ضبط الخارجين على قوانين المجمع
الذي ظلَّ يفتخر به كل أيام حياته، ففي ظرف ثلاث سنين كان قد بدأ يتذبذب هو نفسه
بين الأريوسية والمسيحية الحقة وبدأ يسهِّل للأريوسيين استعادة كراسيهم وسلطانهم،
مشدوداً بفكرة وحدة الكنيسة وبالتالي وحدة الإمبراطورية وسلامتها، بالإضافة إلى
شعور دفين بالحقد على البابا أثناسيوس بسبب بروز شخصيته.

· بل وأخت
الإمبراطور قسطنطين، وكانت تُدعى “قسطنطيا” وهي أرملة الأمير ليسينيوس الذي قتله
قسطنطين، استغلَّ إشبينها الكاهن يوستاثيوس علاقته بها، وهو أريوسي، وأقنعها بأن
تطلب من أخيها الإمبراطور أن يُفرج عن الأريوسيين ويعاملهم بلطف، وقد نجحت بالفعل
في التأثير عليه تأثيراً جدياً لأنها كانت على فراش الموت سنة 328م([18]).

· وعلى هذه
الصورة أصبح الإمبراطور والبلاط الإمبراطوري كله غير مؤهَّل على الإطلاق لأي مُثُل
عليا دينية أو أخلاقية أو حتى قضائية؛ بل مكاناً للوشايات الدنيئة واصطياد المواقف
والمبارزة في الخفاء بواسطة جماعات ذات أهداف دنيئة([19]).
وكانت المصائب تُحاك والخطط والمؤامرات تُدبَّر في نيقوميديا عاصمة الإمبراطورية
لتظهر انفجاراتها في مصر وأنطاكية وكل المناطق الأخرى التي أظهرت ولاءها لإيمان
نيقية.

الأعداء غير المباشرين يمثِّلون خطراً ليس بقليل:

اليهود: لقد انتهز اليهود فرصة
هذا النزاع الأريوسي وبدأوا يساعدون الأريوسيين ضد الكنيسة. وكان اليهود في
الإسكندرية يمثِّلون قطاعاً خطيراً مسلَّحاً بالمال والدهاء والجواسيس والخطط
والحقد الذي لا يهدأ ضد المسيح، ولم يكن التعاطف بين اليهود والأريوسيين على مستوى
الحقد والخسَّة في انتهاز الفرص لإضعاف المسيحيين فقط، بل وعلى مستوى الإيمان
المشترك الذي يجحد ألوهية المسيح بالدرجة الأُولى. وكان أثناسيوس هو الهدف المباشر
الذي تركَّزت عليه كل الخطط والمؤامرات([20]).
ومما جعل حماس اليهود في مشاركتهم للأريوسيين ضد البابا أثناسيوس يبلغ إلى درجة
العداء السافر والمواجهة، علمهم أن هذا يزيدهم تقرُّباً من الإمبراطور ومن السلطات
الحاكمة المحلية([21]).

الوثنيُّون: وهؤلاء
أيضاً شكَّلوا عبئاً على البابا أثناسيوس لا يُستهان به، لأنهم كانوا خصماً رسمياً
له وذلك من جهة العقيدة الوثنية التي كان البابا أثناسيوس قد كرَّس نفسه لهدمها من
الأساس، وبدأ يعمِّد الراجعين منهم بالألوف، مما أثار حفيظتهم وجعلهم على نقطة
الاشتعال، فكانوا دائماً كمية عداء خطيرة موضوعة موضع الاحتياط يمكن أن تنضم لأية
حركة ضد البابا أثناسيوس، علماً بأنهم كانوا يمثِّلون أغلبية في الجيش وبين موظفي
الدولة والفلاسفة وطبقة المتعلِّمين والمثقَّفين والتجَّار وجزء كبير من الشعب
والطبقة العاملة([22]).

بداية تحرُّك الأريوسيين، ورسم الخطة ضد أثناسيوس:

كان
في ذهن الأريوسيين معركة حقيقية جنَّدوا لها كل أعوانهم في الخارج والداخل، وكان
يوسابيوس أسقف نيقوميديا هو الرأس المدبِّر والمحرِّك. ففي ظرف سنة واحدة من رسامة
البابا أثناسيوس كان يوسابيوس قد نجح في نَيْل العفو والرجوع من المنفى؛ بل وصار
صديقاً حميماً للإمبراطور قسطنطين، وفي الحال لم يؤخِّر جهده ولا لحظة واحدة منذ
خروجه من المنفى في الهجوم على مجمع نيقية، لا علانية ولكن في شخص الأساقفة الذين
أيَّدوه وتصدَّروه، وذلك علماً منه أن الإمبراطور قسطنطين بالرغم من تذبذبه بين
الأريوسية والأرثوذكسية إلاَّ أنه ظل أميناً لكل مقررات مجمع نيقية ككل وظل يدافع
عنه ويؤيِّده.

عملية كماشة للإطباق على أثناسيوس:

العجيب
والمذهل للعقل أن يخطِّط يوسابيوس النيقوميدي بهذا الذكاء والدهاء، فإنه لم يبدأ
بأثناسيوس بل بدأ بأساقفة آسيا، حيث الموالون لمجمع نيقية بالحق كانوا قلة وكانوا
ضعفاء، فابتدأ بأسقف مدينة أنطاكية وكان يدعى يوستاثيوس وكان أرثوذكسياً أميناً في
عقيدته مخلصاً للمسيح لأقصى حد.

هذا
عقدوا عليه مجمعاً أريوسيًا محليًا بأنطاكية ولفَّقوا عليه تهمة الجنوح إلى
السابيلية في تعليمه، مع عدة تهم أخلاقية، وأنه أساء إلى سمعة الإمبراطور قسطنطين.
فأسقطوه من كرسيه نهائياً بقوة البوليس المدني سنة 330م. وظل عائشاً بعيداً عن
كرسيه حتى مات سنة 358م([23]).
ولكن الذي يُدهَش له، أن الشعب لم يقبل بهذا الحكم وثار ثورة عارمة في وجه هؤلاء
الملفِّقين ولم يقبل أي أسقف آخر يُرسم على مدينتهم طوال حياة يوستاثيوس، وظلُّوا
أمناء له إلى آخر نسمة!! بل وبعد أن مات ظلُّوا في حداد وحزن عليه مدة ليست بقليلة([24]).

أمَّا
لماذا وقع الاختيار على يوستاثيوس أسقف أنطاكية ليكون أول ضحية للأريوسيين، فلأنه
كان أوفى الأصدقاء للقديس أثناسيوس، ليس هو فقط بل وكل شعبه، حتى أن أثناسيوس عند ذهابه
لأنطاكية سنة 346م لم يقبل أن يشترك في الصلاة إلاَّ مع شعب يوستاثيوس فقط مما
أقام المدينة وأقعدها([25]).

أمَّا
الضحية الثانية فكانت يوتروبيوس أسقف أدريانوبل، وهو رجل كامل في الإيمان وذلك
بشهادة القديس أثناسيوس هذا أيضاً أسقطوه ونفوه. فلمَّا رأوا أنهم قد
نجحوا في خطتهم وليس من يتصدَّى لهم، نشطوا بصورة جنونية في تلفيق التهم والإطاحة
بالأساقفة الأرثوذكسيين مؤيدي نيقية الواحد تلو الآخر!! يوفراتيون أسقف بالانيا،
كيماتيوس أسقف بالتوس، كارتيروس أسقف انترادوس، اسكليباس أسقف غزة، كيريوس أسقف
بيريا بإقليم سوريا، ديودوروس أسقف آسيا، دومينون أسقف سيرميم، هلانيكوس أسقف
تريبوليس.

هؤلاء
جميعاً لفِّقت ضدَّهم التهم وأُسقطوا من كراسيهم بمجامع محلية أو حتى بمجرَّد
استصدار خطاب من الإمبراطور!! وعُيِّن خلفاً لكل واحد منهم أسقف أريوسي موالٍ.

ثم انقضُّوا على أسقف آخر له وزنه العالي، وكان من
المتصدِّين لكفر يوسابيوس النيقوميدي،
وهو مارسيللوس أسقف إقليم غلاطية، هذا
أحاطوا به بكل جراءة بالرغم من علوِّ مقامه وذيوع صيته.

وأخيراً
واتتهم الفرصة والجرأة وانقضُّوا على بولس أسقف القسطنطينية واستطاعوا بمعونة
الإمبراطور أن يسقطوه وينفوه عدة مرَّات إلى عدة مدن، حتى أنه في آخر منفى له مات
في جبل القوقاز والسلسلة في يديه!!([26])

والآن جاء دور أثناسيوس:

اتُّخذت
كل الوسائل من قريب ومن بعيد للبدء بإثارة الجو في مصر. اتصل يوسابيوس النيقوميدي
بأتباعه الأريوسيين في مصر ونصحهم لكي يضمُّوا إلى صفوفهم الميليتيين، ووعدهم
كثيراً بإغراءات كبيرة، وكانت الخطة التي رسمها يوسابيوس تنقسم إلى مرحلتين:

المرحلة الأُولى: بذل كل الجهد باللين
وباللطف وإلاَّ فبالتهديد والعنف، لقبول أريوس في شركة الكنيسة في مصر، في هذا
سيكون ليس نصرة للأريوسيين فقط بل وردّ شرف من الدرجة الأُولى.

المرحلة الثانية: إسقاط القديس أثناسيوس
عن كرسيه، وهو العقبة الوحيدة المتبقية أمامهم، ثم نفيه، حتى يخلو الجو نهائياً
للأريوسية كمنهج لاهوتي ومبدأ فكري ورسالة تبشيرية للكنيسة في العالم كله!!

محاولة تحقيق المرحلة الأُولى:

اتحد
الأريوسيون بالفعل مع الميليتيين مبكِّراً جدًّا حسب تحقيق المؤرِّخ
سوزومين([27]).
وفي سنة 330م كان يوحنا أركاف بطل الموقف كله. وفي هذه السنة (والتاريخ هنا غير
مقطوع به)، استطاع يوسابيوس النيقوميدي أن يأخذ أمراً من الإمبراطور بخروج أريوس
من المنفى، بعد ادعاء توبته وكتابته قانون إيمانه بصيغة ملتوية جازت على
الإمبراطور. وفي الحال أرسل يوسابيوس خطاباً مع رسول خاص إلى أثناسيوس يطلب منه
برجاء أن يقبل أريوس وكل أعوانه في الشركة، أمَّا شفاهاً فقد هدده يوسابيوس إذا لم
يقبل رجاءه المكتوب. وقد نجح يوسابيوس فعلاً في إثبات قدرته على التهديد، لأنه
عندما رفض أثناسيوس “رجاءه” وتهديده، إذا برسول من الإمبراطور وخطاب بتهديد شخصي
من الإمبراطور نفسه أن يفتح القديس أثناسيوس الكنيسة لا لأريوس فقط بل ولكل مَنْ
يريد أن يدخل الكنيسة بلا أي شرط.

وهنا
ننبه ذهن القارئ حتى يستخلص من مجريات الأمور مقدار الصلة المريبة التي ظهرت هنا
بين يوسابيوس والإمبراطور، والتي استخدمها الشيطان بذكاء أوفر لتعذيب الكنيسة
والتنكيل بالإيمان في شخص البابا أثناسيوس.

وكان
رفض القديس أثناسيوس القاطع لرجاء الإمبراطور وتهديده معاً، أول وأقوى ضربة قاصمة
في وجه الشيطان: [إن هرطقة تقاوم المسيح لا يمكن أن يكون لها شركة مع الكنيسة
الجامعة!].

وهنا
فشلت المحاولة الأُولى ليوسابيوس …

ولكنه
لم ييأس، إلاَّ أنه غيَّر أسلوبه السياسي وبدأ في أسلوب الانقضاض السافر.

محاولة تحقيق المرحلة الثانية:

وهنا
في الحقيقة يبدأ تاريخ الصراع المرّ الذي جازه القديس أثناسيوس، أو بالحري الذي
عاشه كل أيام حياته، فقد آل يوسابيوس النيقوميدي أن لا يذوق أثناسيوس يوماً من
أيام الراحة طالما هو حيّ وذلك بحسب تعبير المؤرِّخ “هوكر”([28]).

فمنذ
بداية سنة 330م، والعواصف لم تفارق سماء القديس أثناسيوس حتى أشرقت الشمس فجأة على
روحه في السماء بعد جهاد دام أكثر من أربعين سنة!!

أمَّا
اليد التي بدأ يستخدمها يوسابيوس في إثارة القلاقل والعواصف والمصائب في سماء مصر،
فكانت هي يد الإمبراطور العظيم قسطنطين، الذي لم يكن عظيماً حقا إلاَّ في سرعة
انفعاله وتذبذبه من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، وقد استطاع يوسابيوس
النيقوميدي أن يجعله لا يبالي كثيراً بألفاظ وعبارات العقيدة المستقيمة([29]).
وقد حسَّن وزخرف له العقيدة الأريوسية([30])
حتى بدت لائقة له وجميلة بعد أن أخفى السمّ الذي فيها، كما فعلت الحية بحواء.

الميليتيُّون يدخلون المعركة بوجه سافر:

بترتيبات
تمَّت في الخفاء، من صنع يوسابيوس والأعوان المتفقون على المؤامرة بين نيقوميديا
ومصر، أبحر ثلاثة أساقفة ميليتيُّون سرًّا من الإسكندرية إلى عاصمة الإمبراطورية
نيقوميديا، ومعهم عريضة اتهام ضد البابا أثناسيوس. أمَّا هؤلاء الثعالب الثلاثة
فهم: إيسيون أسقف أتريب، وإيدامون أسقف تانيس، وغاللينيكوس أسقف بيلوزيوم (الفرما
قديماً، شرق بورفؤاد، وتسمَّى الآن بالوظة). أمَّا اتهاماتهم فيصفها القديس
أثناسيوس بنفسه:

[فلمَّا
كتبت للإمبراطور وأقنعته أن هرطقة ضد المسيح لا يُمكن أن يُسمح لها بشركة مع
الكنيسة الجامعة، عاد يوسابيوس من اتجاه آخر مغتنماً فرصة الاتفاق المبرم مع
الميليتيين فكتب وأقنعهم أن يخترعوا ادعاءات وتهماً ضدِّي مثل التي حبكوها سابقاً
ضد بطرس وأخيلاس وألكسندر (الباباوات السابقين)، وبعد البحث والمشورة إذ لم يجدوا
شيئاً، اتفقوا معاً بنصيحة من يوسابيوس وأتباعه ودبَّروا أول اتهام بواسطة
“إيسيون” و“إيدامون” و“غاللينيكوس”، بخصوص ملابس الكتان الخاصة بالكهنة
stic£rion (الاستيخارة)([31])
مدعياً أني وضعت قانوناً على المصريين يلزمهم بتقديمها كفريضة (وهذا معناه أن
القديس أثناسيوس اغتصب حقا من حقوق الحكومة الرومانية وحدها وهي فرض القوانين
والضرائب).]([32])

وبتدبير
من العناية الإلهية كان يوجد في هذه اللحظة اثنان من الكهنة تابعين للقديس
أثناسيوس هما: “أبيس” و“مكاريوس”، هذان تقدَّما للإمبراطور وفنَّدا افتراء هؤلاء
الأساقفة، فتحقَّق الإمبراطور فعلاً من كذب هؤلاء وأدانهم. وكتب الإمبراطور للبابا
أثناسيوس للحضور إلى نيقوميديا. وإليك كلام القديس أثناسيوس:

[ولكن
كان بعض الكهنة الذين لي حاضرين “أبيس ومكاريوس” وتحقَّق الإمبراطور من الأمر
فأدان الأساقفة، وكتب لي الإمبراطور بنفسه وأدان “إيسيون” (زعيم البعثة) وأمرني أن
أحضر أمامه وكان خطابه كالآتي: (للأسف فُقد هذا الخطاب).]([33])

يوسابيوس يستعد لملاقاة أثناسيوس في نيقوميديا:

خاف
يوسابيوس من حضور القديس أثناسيوس وعلم أن في ذلك خطراً عليه، فألحَّ على الأساقفة
الميليتيِّين الثلاثة بالبقاء في نيقوميديا ورتَّب معهم اتهامات جديدة، ولفَّقوا
تهمة لمكاريوس الكاهن الذي فضحهم أمام الإمبراطور. وإليك كلام القديس أثناسيوس:

[وإذ
كان يوسابيوس منتبهاً لهذا الأمر (حضور القديس أثناسيوس) أقنع الأساقفة الثلاثة،
فلمَّا وصلت اتهموا مكاريوس بكسر الكأس (سنروي هذه القصة بعد ذلك
ومؤدَّاها أن مكاريوس اقتحم كنيسة للميليتيِّين وضرب الكاهن المدعو “إسخيراس” وهو
كاهن غير قانوني وكسر كأس الإفخارستيا الكأس كان من الزجاج). أمَّا
بخصوص التهمة التي قدَّموها ضدِّي فكانت أفظع تهمة يمكن أن تكون وهي: أني بصفتي
عدواً للإمبراطور قد أرسلت كيساً من الذهب لأحد أعداء الإمبراطور (الثائرين عليه)
ويُدعى “فيلومينوس”، فسمع الإمبراطور لدفاعي في هذا الاتهام، وأدانهم
كما هي العادة وطردهم من حضرته، وعندما عدت أرسل خطاباً إلى الشعب
(المصري) يقول فيه: “(بعد مهاجمة عنيفة على الأساقفة المخادعين الملفِّقين للتهم
والحاسدين الحاقدين على القديس أثناسيوس والمقلقين للكنيسة والمحبة والإيمان) …
لقد استقبلت بفرح أسقفكم أثناسيوس وتكلَّمت معه بخصوص هذه الأمور لأني مقتنع أنه
رجل الله، وينبغي أن تعلموا أنتم هذا وليس لي أنا أن أحكم فيها، وإني أرى أنه من
اللائق أن أثناسيوس الكلِّي الاحترام يقدِّم لكم بنفسه تحيَّاتي إليكم، وإني أعلم
مقدار عنايته الرحيمة بكم التي هي حقا تتفق مع الإيمان المملوءة سلاماً الذي أنا
أيضاً أعترف به، كما أعلم أنه دائب العمل في إعلان معرفة الخلاص لكم وأنه قادر أن
يعظكم كما يليق. ليت الله يحفظكم يا إخوتي المحبوبين” هذا هو خطاب
قسطنطين.]([34])

ملاحظة هامة: على القارئ النبيه أن يدرك كيف أصبحت
الاتهامات الموجَّهة ضد القديس أثناسيوس خارجة عن مضمون الإيمان والعقيدة والمسيح
نهائياً. ولماذا؟

يوسابيوس
يعلم تماماً أن الإمبراطور يتمسَّك تمسُّكاً لا هوادة فيه بمجمع نيقية ككل، فأي
اتهام للقديس أثناسيوس بخصوص العقيدة أو الإيمان يعني مهاجمة صريحة وعلنية لمجمع
نيقية. إذاً فينبغي عليه بحسب دهاء الشيطان أن يتجنَّب نهائياً أي مساس بالعقيدة،
وليكتفِ بهذه التهم الصغيرة الحقيرة المخجلة، التي صارت بسبب جنونهم وشرهم
ونميمتهم سبب قلاقل وتمزق في الخدمة والرسالة والعبادة على مستوى العالم كله ومصر
بصفة خاصة!! كما تسببت في جروح نافذة عميقة في نفس القديس أثناسيوس!!

القديس أثناسيوس يتعوَّق في العودة إلى الإسكندرية:

لقد
وصل القديس أثناسيوس إلى نيقوميديا في أواخر سنة 330م. ولكن بالرغم من نجاح زيارته
وحفاوة الإمبراطور، إلاَّ أن الأمور سارت ببطء بعد ذلك، إذ أقعده مرض طويل عن
العودة إلى الوطن. فلمَّا تعافى، كان قد حلَّ الشتاء وبدأ موسم العواصف التي تعرقل
الملاحة وتجعلها أحياناً مستحيلة، ومضى الوقت ثقيلاً مملاًّ. وبحسب التحقيق
التاريخي كان قد اتفق العلماء على أن بقاءه في نيقوميديا قارب السنة، وكان معروفاً
أنها المدة بين سنة 330م 331م؛ ولكن التحقيق الحديث يكشف من واقع
الخطابات الفصحية (الخطابين الثالث والرابع) أنه حضر إلى الإسكندرية سنة 332م بعد
أن عبر أكثر من نصف صوم الفصح المقدَّس، وهذا ينكشف جدًّا من صيغة وزمن الخطاب الفصحي
الرابع سنة 332م حيث اضطر أن يرسله من نيقوميديا بيد أحد الجنود بعد بدء الصوم
بمدة طويلة، مع أنه كان يتحتَّم بحسب العادة أن يرسل الخطاب الفصحي قبل موسم الصوم
بفترة مناسبة حتى يُعلِم الشعب وأساقفة العالم كله موعد بدء الصوم!!

وإليك
جانباً من هذا الخطاب الفصحي التاريخي:

[إني
أرسل لكم يا أحبائي متأخِّراً وبعد فوات الوقت المعتاد، ولكني أثق أنكم ستعذرونني
في التأخير بسبب رحلتي الطويلة، ولأني قد امتُحنت بمرض، وبسبب هذين السببين وأيضاً
بسبب العواصف الشديدة التي حدثت على غير العادة فقد تأخَّرت في الكتابة إليكم. ولكن
بالرغم من رحلاتي الطويلة ومرضي الخطير لم أنسَ أن أخطركم بموعد العيد بحسب واجبي،
فلو أن زمن الخطاب أصبح متأخِّراً (عن ميعاد بدء الصوم) عن المعتاد وغير مناسب
لهذا الإعلان، إلاَّ أنه لا يزال يعتبر في حينه الحسن لأن أعداءنا قد صاروا في خزي
ووقع عليهم اللوم من الكنيسة لأنهم اضطهدونا بلا سبب. إذاً، فلنسبح للرب تسبحة
العيد بالمديح.]([35])

مزيد من الاتهامات والافتراءات التي لا علاقة لها بالإيمان
أو العقيدة:

لم
يهدأ يوسابيوس لأن شيطان الحقد كان قد أرضعه مرارة السخط الذي لا يمكن أن ينتهي
إلاَّ بنهاية العمر … فمهما أصابه من هزائم أحياناً إلى حدّ الخزي إلاَّ أنه لم
يكف عن العداء لحظة واحدة: فعلى مدى سنة كان قد استطاع أن يحبك مع الميليتيين في
مصر اتهامين جديدين على درجة من الخطورة يمكن أن يُدخِلا القديس أثناسيوس تحت
الفحص والمسئولية الكنسية:

أولاً: موضوع إسخيراس:

إسخيراس هذا قس غير قانوني رسمه كودلوتوس الأسقف الميليتي
لمدينة “سينوبوليس العلا” وقد اجتمع
في الإسكندرية مجمع سنة
324م برئاسة البابا ألكسندروس وأوقف هذه الرسامة واعتبرها باطلة.

وبالرغم
من ذلك فقد ظلَّ هذا الرجل المأجور في ممارسة الكهنوت في قريته التي تُدعى “إيرين”
وهي في منطقة مريوط([36]).
وهذا أرسل له أنبا أثناسيوس كاهناً سكرتيراً من قِبَلِهِ يُدعى “مكاريوس” ينذره أن
لا يمارس خدمة الكهنوت بحسب أمر المجمع. ولكن إسخيراس التجأ إلى الميليتيين يحتمي
فيهم، وهؤلاء استكتبوه عريضة ادَّعى فيها أن الكاهن مكاريوس سكرتير البابا اقتحم
كنيسته وكسر كأس الإفخارستيا (من زجاج) وحطَّم المائدة (من الخشب). وأُرسلت
العريضة مُمضاة إلى يوسابيوس في نيقوميديا، وهذا بدوره رفعها إلى الإمبراطور.

ثانياً: موضوع أرسانيوس:

أرسانيوس
هذا أسقف ميليتي رُسم حديثاً بعد تسجيل الكشف بأسماء الأساقفة الميليتيين الخمسة
والثلاثين، الذين قُدِّمت أسماؤهم سنة 327م بعد مجمع نيقية لقبولهم في الكنيسة،
على شرط أن لا يُرسم بعد ذلك أي أسقف أو كاهن أو شماس جديد بمعرفة الميليتيين.
إذاً فهو أسقف غير قانوني بالمرَّة. هذا كانوا قد أقاموه على مدينة تُدعى
“إِبسيله”. هذا المأجور كان قد أخذ من يد يوحنا أركاف رأس شيعة
الميليتيين بعد وفاة ميليتوس رشوة كبيرة على أن يختبئ وسط الرهبان
الميليتيين في الصعيد، ثم أشاعوا في كل مكان أن القديس أثناسيوس بسبب حقده على
الميليتيين، قتل الأسقف أرسانيوس!! وقطَّع
أعضاءه لأعمال السحر الخاصة التي يقوم بها، وللتدليل على صدق دعواهم

احتفظوا بذراع ميت داخل صندوق خشبي وأخذوا يقيمون عليها مناحة على أنها إحدى بقايا
جثته.

وفي
الحال أرسل الميليتيون عريضة مُمضاة بحادثة أرسانيوس ومعها حادثة إسخيراس. وللأسف
فقد صدَّق الإمبراطور على هاتين التهمتين وأرسل في الحال إلى إخٍ له (أو ربما ابن
أخت) المدعو دالماتيوس أحد الحكام في الشرق، وهو من الضباط العظام في أنطاكية،
ليقوم بتحقيق هذه التهم واقترح عقد مجمع في قيصرية وبرئاسة يوسابيوس القيصري
(المؤرِّخ الكنسي المشهور) على أن يلتئم المجمع في سنة 334م([37]).
أمَّا القديس أثناسيوس فقدَّم احتجاجه لدى الإمبراطور وأصرَّ على عدم امتثاله أمام
محكمة قاضيها معتبرٌ أنه متحيِّز. فكان رفض القديس أثناسيوس ذا وقع مرٍّ على نفسية
المؤرِّخ العجوز.

 

احتجاج أثناسيوس لدى الإمبراطور

وإلغاء اقتراح مجمع قيصرية

 

جمع الوثائق:

الوثيقة الأُولى: بخصوص ادعاء إسخيراس:

بمجرَّد
أن علم القديس أثناسيوس بالمؤامرة التي دبَّرها الميليتيون بخصوص إسخيراس القس
المزيَّف وبخصوص أرسانيوس الأسقف غير القانوني المقتول كذباً والمختفي وسط الرهبان
الميليتيين في الصعيد، بدأ البابا أثناسيوس يستقصي هذه الأمور ويرتِّب دفاعه.
وإليك كلماته:

[وبعد
هذه الحوادث (التي سافر من أجلها القديس أثناسيوس إلى نيقوميديا وأبطل مؤامرة
يوسابيوس مع الميليتيين ضدَّه من جهة فرض ضريبة قماش التيل الأبيض)، لزم
الميليتيون الهدوء قليلاً ولكنهم عادوا يدبِّرون مكائد أخرى. فإن مريوط المُعتبرة
ضاحية للإسكندرية لم يستطع الميليتيون أن يبثُّوا فيها انشقاقهم، وكانت كل الكنائس
هناك محتفظة بحدودها الرسمية وكان الكهنة يسهرون على رعاياهم، وكان كل الشعب يعيش
بسلام. ولكن ظهر شخص يُدعى إسخيراس لم يكن من الإكليروس وكانوا قد رسموه خارجاً عن
القانون، فلم يكن بذي اعتبار. هذا ابتدأ يضلِّل شعب قريته معلناً نفسه أنه كاهن،
وفي الحال أعلمني بذلك كاهن هذه الناحية عندما كنت أقوم بزياراتي لكنائس هذه
النواحي، فأرسلت كاهني الخاص مكاريوس ليستدعيه للمحاكمة، فوجدوه مريضاً راقداً في
قلايته فأخبروا أباه أن يمنع ابنه من التمادي في أعماله التي وصلت ضده إلى علم
الكنيسة.

ولكنه
لمَّا تعافى من مرضه وابتدأ أقاربه وأصدقاؤه يمنعونه من التمادي في خطته قام وهرب
إلى الميليتيين، وهؤلاء اتصلوا بيوسابيوس وأتباعه وأخيراً دبَّروا هذه المؤامرة أن
مكاريوس (كاهن البابا أثناسيوس الخصوصي) كسر الكأس (كأس الإفخارستيا)، وأضافوا
إليها مسألة المدعو أرسانيوس الأسقف أني قتلته، وأخفوا هذا الأرسانيوس حتى يظهر
أنه قد انتهى فعلاً عندما يبحث عنه الناس فلا يجدونه، واحتفظوا بذراع ميتٍ توكيداً
لادعائهم أنه قد تمزَّق إلى قطع.

أمَّا
إسخيراس، فلمَّا راجعه أصدقاؤه ولاموه جاء إليَّ باكياً واعترف لي أنه لم يحصل له
قط شيء من هذا الذي أخبروا به أن الكاهن مكاريوس فعله. ولكن الميليتيين “أغروه
برشوة لهذه الشهادة الزور” حتى يخترعوا هذه الوشاية، وكتب هذا الخطاب:

خطاب إسخيراس إلى أثناسيوس يعترف فيه بجريمته:

إلى
البابا المطوَّب أثناسيوس، يرسل إسخيراس دعاءه للرب بالصحة: لمَّا جئت إليك يا
سيِّدي الأسقف طالباً أن أُقبَل في الكنيسة راجعتني بملامة عمَّا سبق أن قلته
وكأنني تطاولت عليك في هذا بحرية إرادتي، ولذلك أقدِّم لك اعتذاري هذا مكتوباً
ليكون تحت يدكم حتى تعلموا أنهم قد استخدموا العنف معي وقد ضربني إسحق وهيراكليدس
وجماعتهم([38]).
وأني أُعلن وأُشهد الله على نفسي في هذا الأمر أن لا شيء صحيح على الإطلاق في كل
ما قالوه عنكم واتهموكم به، فلا كأس انكسر ولا مائدة مقدَّسة انقلبت، ولكنهم
أجبروني بالقوة أن أدَّعي هذا. وهذا الدفاع عن نفسي أُقدِّمه لكم مكتوباً طالباً
أن أُقبل ضمن شعبكم سائلاً ومتوسِّلاً لدى الرب أن يعطيكم الصحة. وإني أضع هذا
أمامكم أيها الأسقف أثناسيوس في حضرة الكهنة أموناس هيراكليدس … إلخ إلخ (وعدَّتهم
ثلاثة عشر كاهناً.]([39])

ويُلاحَظ
أن هذه الوثيقة الاعتذارية التي قدَّمها إسخيراس صاحب مؤامرة الكأس المكسور كُتبت
وقُدِّمت للبابا أثناسيوس بعد عودته من نيقوميديا منتصراً، بعد إقناع الإمبراطور
ببطلانها وبعد أن تحقَّق الإمبراطور من مكاريوس الكاهن نفسه بعدم صحتها. وبالرغم
من ذلك عاد الإمبراطور وقبلها وجعلها إحدى الدعائم التي قام عليها الاتهام في
محاكمات مجمع صور! …

الوثيقة الثانية: بخصوص أرسانيوس المقتول كذباً:

ولمَّا
وصلت للقديس أثناسيوس الدعوى المرفوعة ضدَّه من الميليتيين والمصدَّق عليها ضدَّه
من الإمبراطور لحضور المحاكمة في أنطاكية بمعرفة “دالماتيوس”، قام البابا أثناسيوس
في الحال بتقصِّي بنود الاتهام. وإليك كلماته:

[فلمَّا
استلمت هذا الخطاب (الذي به الدعوى) ولو أني لم أهتم كثيراً بالموضوع لأني أعلم أن
الأمر كله عارٍ من الحقيقة، ولكن لمَّا وجدت الإمبراطور قد اهتمَّ هكذا وانشغل
بالموضوع كتبت([40])
إلى زملائي في الخدمة (الأساقفة والكهنة) في مصر. وأرسلت شماساً، راغباً في تقصِّي
الحقائق عن أرسانيوس، لأني لم أكن قد رأيت هذا الرجل منذ خمس أو ست
سنوات، … ووجدوا أرسانيوس في مخبئه وجدوه في دير عند بلدة
بتيمن سركيس التابعة للعاصمة أنتيوبوليس على الشاطئ الشرقي للنيل
والذين كانوا مع أرسانيوس شهدوا بذلك وأنه كان مختبئاً لهذا الغرض حتى يحبكوا
الادعاء بموته، أمَّا الشخص الذي كان متولياً حراسته في مخبئه فكان يُدعى بنيس وهو
كاهن هذا الدير. وهذا الكاهن بنيس أرسل خطاباً إلى يوحنا (أركاف) مؤدَّاه هكذا([41]):

]… بنيس كاهن دير بتيمن سركيس بإقليم أنتيوبوليس يكتب إلى أخيه
المحبوب يوحنا مرسلاً تحياته. أود أن تعلم أن أثناسيوس أرسل شماسه إلى الصعيد
ليبحث عن أرسانيوس في كل مكان، وقد تصادف مقابلته أولاً مع الكاهن بسيسيوس وسلوانس
أخي إلياس وتابيناسيراميوس وبول راهب إبسيله (مدينة شطب الآن). وهؤلاء اعترفوا له
بأن أرسانيوس كان موجوداً معنا بالفعل. فلما سمعنا بهذا وضعنا أرسانيوس في الحال
في مركب أقلعت نحو الجنوب مع إلياس الراهب. وفجأة عاد إلينا هذا الشماس مع آخرين
ودخلوا ديرنا باحثين عن أرسانيوس فلم يجدوه، لأنه كما قلت لك كنا قد أرسلناه
جنوباً. ولكنهم قبضوا علينا أنا وإيلياس الراهب وأبحروا بنا إلى الإسكندرية،
وقدَّمونا أمام الدوق، ولمَّا وجدت أني غير قادر على الإنكار اعترفت بأنه حيٌّ
وأنه لم يُقتل واعترف أيضاً كذلك الراهب الذي أخذوه معي، ومن أجل هذا أردت أن
أعرِّفك بهذه الأمور أيها الأب حتى لا ترتب اتهامك لأثناسيوس معتمداً على هذا،
لأني قلت إنه حيٌّ وأنه قد أُجري إخفاؤه بيننا، وكل هذا أصبح معروفاً في مصر ولم
يعد الأمر سرًّا …
[([42])

وبعد
ذلك وجدناه (أي أرسانيوس) للمرة الثانية مختبئاً في مدينة صور. والمدهش جدًّا أنه
حتى بعد أن اكتشفوا([43])
أمره هناك، لم يشأ أن يعترف أنه هو أرسانيوس حتى جرَّموه وشهدوا عليه أمام “بول”
أسقف صور (الذي كان يعرفه بنفسه منذ القديم). وأخيراً ومن شدة الخجل اعترف بغير
إرادته.]([44])

رفع التقرير مع الوثائق إلى الإمبراطور، وإيقاف إجراءات
المحاكمة:

[فكتبت
للإمبراطور بهذا أن أرسانيوس حيٌّ، وقد اكتُشف مخبأه. وذكَّرته بموضوع إسخيراس وما
كان قد سمعه سابقاً من كاهني مكاريوس في نيقوميديا. فأوقف الإمبراطور كل إجراءات
محاكمتي، وكتب شاجبًا كل الاتهامات الموجَّهة ضدِّي حاكمًا ببطلانها. وأرسل إلى
يوسابيوس (أسقف قيصرية المؤرِّخ الكنسي المشهور) وكل مرافقيه الذين قد صدر لهم
الأمر بالتوجُّه إلى الشرق لإجراء المواجهات معي أن يعودوا!]([45])

الإمبراطور قسطنطين يعتذر للبابا أثناسيوس ويمتدح حكمته:

[قسطنطين
فيكتور مكسيموس، أغسطس، إلى البابا أثناسيوس: لقد قرأت خطابات “حكمتكم”، وشعرت
بدافع أن أكتب بالتالي إليكم لكي تتشدَّدوا … أمَّا بخصوص هؤلاء الأشخاص
المستحقين كل لعنة، وأقصد بذلك الميليتيين المتمرِّدين الجاحدين الذين أثبتوا
حماقتهم بأعمالهم المجنونة، الذين رفعوا هذا الشغب ولفَّقوا هذه الفتنة بسبب حقدهم
ليكشفوا بالأكثر جحودهم. أقول إن هذا يكفيهم، فالذين ادَّعوا عليه أنه ذُبح بالسيف
ها هوذا موجود وحيٌّ بعد.

وفيما
تمادى فيه هؤلاء الميليتيُّون من اتهامكم مؤكِّدين أنكم تهجَّمتم بعنف ووضاعة
ومسكتم الكأس وكسرتموه في المكان المقدَّس (الهيكل)، مع أنه لا صدق لهذا الاتهام
ولا وجود لمثل هذا العنف وإن هذا كله مُلفَّق … أمور أصبحت حقيقتها واضحة
أكثر من النور أنهم يخطِّطون مؤامرة ضد حكمتكم. وبعد ذلك مَنْ ذا الذي يرضى أن
يتبعهم بعد ذلك؟
(مع الأسف أنه هو نفسه بعد ذلك أجاز كل اتهاماتهم للمرَّة
الثالثة وأمر أن يُحقَّق فيها في مجمع صور الآتي ذكره). هؤلاء الناس الذين لفَّقوا
مثل هذه التهم للإيذاء بالآخرين … يتهمونكم بجرائم كاذبة … وأخيراً أحب أن
أضيف أنني أرغب في أن يُقرأ هذا الخطاب مراراً بواسطة “حكمتكم” علناً حتى يصير
معروفاً لجميع الناس، وبالأخص لكي يصل إلى آذان هؤلاء الناس الذين يعملون هذه
الأمور … وليعلموا أنهم إذا أثاروا شيئاً من هذا الشغب مرَّة أخرى فسأحقِّق
بنفسي معهم وليس بعد بحسب القوانين الكنسية، ولكن بحسب القوانين المدنية … لأنهم
لصوص ليس إزاء الناس فقط بل وإزاء التعاليم الإلهية. ليت الله يحفظكم دائماً أيها
الأخ المحبوب]([46])

اعتراف الأسقف أرسانيوس المقتول “كذباً”:

وإزاء هذا الانتصار لم يجد أرسانيوس مفرًّا من كتابة اعتذار
للبابا أثناسيوس يعترف فيه بكل شيء:

[إلى
المطوَّب البابا أثناسيوس، يكتب أرسانيوس أسقف على الذين كانوا “سابقاً” تحت
ميليتيوس في مدينة الإبسيليين (إبسيله وهي مدينة “شطب” الآن) مع الكهنة والشمامسة
يطلبون الصحة لكم من الرب. إذ أصبحت في غاية الاشتياق إلى السلام والاتحاد مع
الكنيسة الجامعة التي تترأسونها بنعمة الله، راغباً في أن أخضع أنا نفسي ومَنْ معي
لقانون الكنيسة بحسب التقليد القديم (تبادل خطابات الشركة) نكتب إليك أيها البابا
العزيز والمحبوب، معلناً باسم الرب أننا لن نجري شركة في المستقبل مع الذين
يستمرون في انشقاقهم وكل مَنْ هم ليسوا في سلام مع الكنيسة الجامعة، سواء كانوا
أساقفة أو كهنة أو شمامسة …]

وأخيراً يوحنا أركاف ينسحب:

[وليس
أدل من انسحاب يوحنا أركاف دليلاً على نوع المؤامرات التي كانت تُحاك ضدّنا، التي
أصبح الإمبراطور قسطنطين المحبوب لدى الله والمطوَّب الذكر شاهداً عليها بنفسه
عندما أرسل يوحنا خطابات إلى الإمبراطور هكذا: … لقد سررت غاية السرور بخطاباتك،
إذ علمت منها ما كنت أشتاق طويلاً أن أسمعه أنك تركت جانباً كل مشاعرك الصغيرة
وأنك صرت في اتصال الشركة مع الكنيسة كما يليق بك، وأنك صرت في اتفاق كامل مع
الكلِّي الوقار الأسقف أثناسيوس …]([47])

ولكن
ظلَّت اعترافات أرسانيوس التي كتبها للقديس أثناسيوس مخفية لا يعلم بها خصوم
أثناسيوس، وقد استخدمها القديس أثناسيوس في الوقت المناسب.

وهكذا
ظهر وكأن الميليتيين انتهى أمرهم، ولكن للأسف لم ينتهوا لأنهم لم يكونوا هم أصحاب
أية غنيمة من هذا كله ولا كانوا يتحرَّكون بمشيئتهم بل برأي الأريوسيين يفكِّرون
وبتدبير الأريوسيين يتحرَّكون، ومن أجل زعزعة الإيمان المسيحي يتحرَّك هؤلاء
وهؤلاء بيد الشيطان الذي تملَّك على قلب يوسابيوس النيقوميدي!

ملاحظة هامة:

لا
تسأم أيها القارئ العزيز من متابعة هذه الافتراءات والصغائر التي تهبط بمستوى
التفكير إلى الحضيض، فالأمر ليس في حقيقته صغيراً أبداً ولا الافتراءات هينة في
هدفها، إنها ضربات موجَّهة بإحكام للشخص الوحيد في العالم الذي تبقَّى في وجه
الأريوسيين، أثناسيوس كان في هذه اللحظات هو اللسان الوحيد القادر أن يحكم على
الأريوسيين، فلو استطاعوا أن يسكتوه بأية طريقة مهما كانت دنيئة (وسوف ترى كيف
تبلغ الدناءة إلى مستوى الدناءة حقا)، يكونون قد انتهوا نهائياً من كل خصومهم
مرَّة واحدة، ويحكم أريوس العالم، … أو بالحري الشيطان!! …

مجمع صور

(يوليو
سبتمبر سنة 335م)

الغيوم تتكاثف بشدة وبسرعة، مهاترات أكثر منها محاكمات:

هنا
نقدِّم موجزاً للظروف المحزنة والعصيبة حقا في تاريخ القديس البابا أثناسيوس؛ وبعد
أن كشف كل هذه المؤامرات وفضح كل أساليبهم وأوقعهم في الفخاخ التي نصبوها وكتبوا
بأيديهم اعترافات جرمهم وفشلهم واعتذروا، دخلوا الكنيسة … ولكن ماذا تنفع الحجة
في لسان الأعزل وأمامه سلطان الخبث يستمد قوته من سلطان الإمبراطور؟ لقد ضاعت كل
جهود القديس أثناسيوس، ولمدة ثلاث أو أربع سنوات، في تعقُّب خصومه والتدليل على
جنونهم وشرِّهم ونميمتهم، ببراهين دامغة قال عنها نفس الإمبراطور قسطنطين: [أمور
أصبحت حقيقتها واضحة أكثر من النور، إنهم يخطِّطون مؤامرة ضد حكمتكم ومَنْ ذا
الذي بعد ذلك يرضى أن يتبعهم؟]

ولكن
لو علم هذا الإمبراطور أن المؤامرة كانت حقا وبالفعل ضد الحكمة نفسها، ضد المسيح؛
لما استهان هكذا وسلَّم سلطانه لينفِّذ به الأريوسيون كل ما أرادوا.

بداية تُنبئ بالنهاية:

وإليك
البيان من مذكرات البابا أثناسيوس نفسه:

[وهكذا
وكأن المؤامرة انتهت وكأن الميليتيين قد ارتدوا يغطيهم الخجل، إلاَّ يوسابيوس
النيقوميدي وأتباعه، لأن الأمر لم يكن يخصّ الميليتيين ولكن أريوس
والأريوسيين، وهذا كان نصب أعينهم؛ وكان كل خوفهم هو إبطال حركة الميليتيين (في
مصر) لأن هذا معناه أنه لن يتوفَّر لهم بعد أشخاص يلعبون بواسطتهم الأدوار لكي
بواسطتهم ينفُذون بهرطقتهم إلى الداخل … ومن أجل هذا بدأوا مرَّة أخرى يحرِّكون
الميليتيين، وأقنعوا الإمبراطور أن يصدر أمره بعقد مجمع جديد في صور، وكان الكونت
ديونيسيوس قد أنفذوه إلى هناك على وجه السرعة ووفَّروا الحماية العسكرية ليوسابيوس
وأتباعه.

وأرسلوا
الكاهن مكاريوس (سكرتير البابا أثناسيوس) مقبوضًا عليه، والسلسلة في يده، إلى صور
بصفته سجينًا تحت حراسة الجنود، وأرسل إليَّ الإمبراطور أمرًا لا يقبل الأخذ
والردّ بمعنى أنه حتى ولو كنت غير راغب فلابد عليَّ أن أقلع.]([48])

في المجمع:

اجتمع
في هذا المجمع 150 أسقفاً، في 11 يوليو الموافق 17 أبيب سنة 335م، وكان للبابا
أثناسيوس نسبة 2: 1 من مجموع المقاعد، وبالتحديد كان أساقفة مصر خمسين ومن بينهم
الأسقف المعترف بوتامون والأسقف المعترف بافنوتيوس، وكانا عضويْن سابقين في مجمع
نيقية.

وبنظرة
واحدة من القديس أثناسيوس لوجوههم أدرك أنه في وسط خصوم مائة بالمائة، معظمهم
أريوسيون متحمِّسون لأريوس وخاضعون خضوعاً موجَّهًا ليوسابيوس النيقوميدي.

ترأَّس
المجمع يوسابيوس القيصري، ومن ورائه يوسابيوس النيقوميدي يوجِّه ويحرِّك، مع بعض
أسماء أخرى معروفة مثل ثاركيسوس ومارس وثيئوجينس، باتروفيلوس وجورج المصري أصلاً
أسقف لاوديكا، كما تصدَّر أيضاً أسقفان صغيران في السن والعقل، بحسب تعبير
“جواتكن” المؤرِّخ المشهور([49]).

وقد
أبدى الأساقفة المصريون سخطهم حال وصولهم المجمع … لأنه لم تُتخذ الأصول في
تقديمهم إلى المجمع بواسطة شمامسة كالمعتاد، وإنما بواسطة “مسجِّل الدعاوي
والاتهامات” (حاجب المحكمة).

كما
احتج القديس أثناسيوس على بعض الأساقفة أنهم غير أهل أن يكونوا قضاة له:

[يتدخَّلون
في قضية لم يشاهدوا شيئًا منها ولا فحصوها ولا حتى من أجلها اجتمعوا أصلاً([50])
… وأي مجمع للأساقفة هذا؟ أليست مهاجمات يوسابيوس وأتباعه ضدَّنا تنبع أصلاً من
تحمُّسهم لأريوس المجنون … ألم تُكتب دائماً ضدَّهم بصفتهم مفسِّرين لتعاليم
أريوس، ألم يشهد جميع المعترفين (الذين تألَّموا وقت الاضطهاد) ضد الأسقف يوسابيوس
القيصري في فلسطين أنه قدَّم ذبيحة للأوثان؟ ألم يُسقِط البابا ألكسندروس “جورج”
من كرسيه؟]([51])

وقد
قام الأسقف بوتامون وهو قديس مصري معترف، فَقَدَ إحدى عينيه وقت
الاضطهاد ووجَّه الكلام ليوسابيوس القيصري في وسط المجمع يسأله عمَّا
حدث معه داخل السجن أثناء الاضطهاد؟ ثم يسأله كيف يجلس بعد ذلك قاضياً ليحاكم البابا
أثناسيوس!!!

وكان بوتامون زميلاً ليوسابيوس القيصري في السجن، مشيراً
إلى حنثه وتقديمه ذبيحة للأوثان!([52])،
وبذلك
يُسقط حقه في جلوسه لرئاسة مجمع يحكم في الإيمان!!

وإليك ملخَّصًا لوصف المؤرِّخ ثيئودوريت لإحدى جلسات مجمع
صور (كتاب 30: 1):

[وفي
الصباح الباكر حضر أثناسيوس إلى المجمع، وفي هذا اليوم كانت أول قضية قُدِّمت (ضد
أثناسيوس) قضية امرأة فاسدة بدأت بوقاحة وتهوُّر وصوتٍ عالٍ تقول إنها كانت قد
نذرت بتوليتها ولكن أثناسيوس جاء إلى منزلها وأفسد عفتها، وبعدما انتهت من اتهامها
تقدَّم أثناسيوس وبجانبه شماسه المدعو تيموثاوس وهو يستحق المديح حقا، فلما طلبت
المحكمة من أثناسيوس أن يرد الاتهام، صَمَتَ
أثناسيوس، وبدأ تيموثاوس يتكلَّم وكأنه هو أثناسيوس وخاطب المرأة قائلاً: “وهل أنا
تحدَّثت معك يا امرأة أبداً؟ وهل دخلت قط بيتكِ؟” فأجابت بوقاحة أكثر وصراخ وهي
تشير إليه بإصبعها: “نعم أنت هو الذي سلبتني بتوليتي وأفقدتني عفتي”، مع ألفاظ
أخرى نابية مما يستخدمها النساء اللائي فَقَدن حياءهن. وهكذا وقع مدبرو
هذه
المؤامرة في خزي، أمَّا الأساقفة المطلعون على سر المؤامرة فأصابهم الخجل بصورة
واضحة.

وبينما
هم يُخرجون المرأة من المحكمة، وإذ بأثناسيوس يحتج أنه ليس من العدل أن يُخلَى
سبيلها هكذا بل يتحتَّم أن تُسأل هذه المرأة عن الذي دبَّر معها هذه المؤامرة؟
وهنا أخذ المُتهمون لأثناسيوس بالصياح كعملية تغطية أنه
لا تزال جرائم أخرى أنكى وأشد وسوف يستحيل عليه مهما كانت مهارته أن يبرِّئ نفسه
منها. وسوف تشترك العين وليس الأذن فقط في التصديق على جريمته.

وفي
الحال قدَّموا صندوقاً خشبياً وفتحوه، وإذا به ذراع محنَّطة، فصرخ الأساقفة
(بافتعال كاذب) حتى أن البعض صدَّق أن الاتهام حقيقي. ولكن كثيرين أدركوا المكيدة
(بخصوص مقتل أرسانيوس وتقطيع جثته).

وبعد
فترة وجيزة بدأ أثناسيوس (المتهم) يسأل قضاته هل يوجد أحدٌ بينهم كان قد رأى
أرسانيوس؟ فأجاب كثيرون معًا أنهم يعرفونه جيداً. وفي الحال أمر أثناسيوس أتباعه
أن يُحضروا أرسانيوس أمامهم. ثم سألهم: هل هذا هو أرسانيوس؟ الرجل الذي قتلته؟ هل
هذا هو صاحب الجثة التي قطعوا ذراعها هؤلاء المشتكون عليَّ؟ فلما اعترفوا اضطراراً
أنه هو أرسانيوس بالفعل مدَّ أثناسيوس يده ورفع عنه رداءه الخارجي وكشف عن كلتا
ذراعيه اليمنى واليسرى (وبدأ يتهكَّم على مشتكيه): لا تبحثوا عن موضوع الذراع
الثالثة المقطوعة لأن الإنسان لم يُوهَب من الخالق إلاَّ ذراعين فقط!…

ولكن
بدلاً من أن يخزى هؤلاء الأساقفة الملفِّقون، بدأوا يصيحون ويضجُّون قائلين: هذا
سحر، إن أثناسيوس ساحر!!

أمَّا
الأساقفة المدبِّرون للعبة مع أرسانيوس المقتول كذباً، فهالهم الأمر وأخذوا يحرقون
أسنانهم عليه يريدون قتله بالفعل! بل ويتمنون أن يقطِّعوه قطعًا قطعًا بأيديهم هم
…]

ملاحظة:

يلزم
هنا أن نوضِّح للقارئ كيف أتى أرسانيوس هكذا ليصبح شاهدًا للقديس أثناسيوس وليس
شاهدًا عليه باعتباره “جسم الجريمة” حسبما دبَّرها يوحنا أركاف:

نعلم
أن أرسانيوس انكشف أمره في الصعيد (انظر صفحة 90)، ثم
انكشف أمره أيضاً في صور بواسطة أسقفها “بول”، وهنا يبدو أن أتباع البابا أثناسيوس
قبضوا عليه وأرسلوه إلى أثناسيوس في الإسكندرية بمعرفة “بول” أسقف صور، فلمَّا
قابل أرسانيوس البابا أثناسيوس في الإسكندرية اعتذر وكتب في خطابه اعترافه بيده،
وقبله أثناسيوس بالفعل في شركة الكنيسة سرًّا، ولكنه اتفق معه أن يظلَّ مختفياً
حتى زمان انعقاد المجمع في صور، وأن يحضر معه المجمع ويكشف أمامهم مؤامرة
الميليتيين، فوافق. وهكذا حضر بالفعل وتمَّم دوره الذي طلبه منه البابا أثناسيوس،
ومعروف أن القديس أثناسيوس جعله بعد ذلك أسقفًا رسميًا على “إبسيلة” وهي مدينة
“شطب” الآن.

والمعروف
أيضًا أن الأسقف الميليتي يوحنا أركاف، وهو الذي دبَّر بكل جهد وإحكام مؤامرة
أرسانيوس، كان حاضرًا المجمع إلى وقت كشف فضيحة أرسانيوس وظهوره وسط المجمع وبعدها
لم يستطع البقاء، إذ قد انسحب في الحال وأقلع إلى مصر مع لجنة تقصِّي الحقائق
(اللجنة المزوِّرة المغرضة) الخاصة بقضية إسخيراس والتي عيَّنها الخصوم، مع أنه
بحسب القانون كان ينبغي أن تكون بالانتخاب.

أمَّا
بقية جلسات المجمع فبدأت تزداد عنفًا وتحدِّياً، وتبادلوا الاتهامات. أمَّا أبرز
الاتهامات التي وُجِّهت لأثناسيوس فكانت طريقته العنيفة مع خصومه وقسوته في معاملة
معارضيه الذين احتجوا على رسامته، فقد اتُّهم بضرب وسجن بعض الأساقفة الميليتيين
الذين احتجوا على عدم قانونية رسامته، وأنه أسقط “غاللينيكوس” أسقف بيلوزيوم
(الفرما قديماً، شرق بور فؤاد، تسمَّى الآن بالوظة) عن كرسيه، لأنه ساند إسخيراس،
وأنه أقام بدلاً منه مرقس بقوة الشرطة.

وقد
حشدوا عددًا ضخمًا من شهود الزور، ولكن أصعب ما كان على نفسية القديس البابا
أثناسيوس هو سرعة تصديق الأساقفة لكل تهمة مهما كانت فظيعة وغير معقولة، مما جعله
يفقد أي رجاء في سيادة القانون أو العدل.

وقد
ضاعت كل احتجاجاته على تحيُّز القضاة، كما ضاعت كل احتجاجات الأساقفة المصريين لدى
المجمع ولدى ديونيسيوس القنصل العام المسئول عن المحاكمات والعدل والنظام، كما
ضاعت احتجاجات ونصائح الأسقف الوقور ألكسندروس أسقف تسالونيكي للكونت ديونيسيوس
وكشفه لخطوط التآمر الحادث بين الأريوسيين والميليتيين.

وللأسف كان صوت الأريوسيين أقوى وأكثر سلطاناً وسيادة من
صوت الكونت ديونيسيوس([53]).

أمَّا
بخصوص قضية إسخيراس التي شبعت فحصًا وتحقيقًا واقتنع الإمبراطور بكذبها وتسجَّلت
على إسخيراس اعترافاته وتوبته مكتوبة، فبالرغم من كل ذلك قدَّمها الخصوم تحدياً
لكل منطق وإمعاناً في الاستهزاء بالحقيقة والتنكيل بنفسية القديس أثناسيوس
الحسَّاسة. أمَّا “الخص” الذي كان يسكنه إسخيراس في قريته الحقيرة “إيرين” على
بركة مريوط فقد صوَّروه للمجمع على أنه “بازيليكا” على مستوى
كاتدرائية وأن أثناسيوس اعتدى بنفسه على حرمة الكنيسة وكسر كأس
الإفخارستيا وقلب المائدة المقدَّسة الخشبية وأحرق الكتب الطقسية.

وقد
ضُربت بعرض الحائط كل إثباتات القديس أثناسيوس وحججه الدامغة أن إسخيراس ليس
كاهناً قانونياً، ولا توجد له كنيسة على الإطلاق في قرية “إيرين” ولا توجد كنائس
للميليتيين في مريوط بالمرَّة، وأنه كان مريضاً وراقدًا في خصِّه وقت أن ذهب
الكاهن مكاريوس لمقابلته، وأنه لم يكن يومًا للرب (الأحد) وهو اليوم الوحيد الذي
كانت تُقام فيه الذبيحة حسب التقليد الكنسي وقتئذ، وقد اعترف بخط يده أنه كذب
وتواطأ مع الميليتيين وأقرَّ بذنبه.
نعم كل هذه الوقائع رفضها الأساقفة القضاة
وارتأوا بحسب خبثهم في تدعيم الكذب وإتاحة فرصة لمزيد من الاتهامات والشغب، أن
يرسلوا لجنة (مكوَّنة من ستة من الأريوسيين والميليتيين ومعهم إسخيراس واستبقوا
مكاريوس!!) لتقصِّي الحقائق، يعيِّنها الخصوم بأنفسهم، مع أنه كان ينبغي أن تكون
منتخَبة. وضغطوا على الكونت ديونيسيوس فرضخ لأنه كان موالياً لهم بالرغم من عدم
استحسانه لهذا الإجراء بسبب مقاومة البابا أثناسيوس لشرعية الموضوع قانونياً، لأنه
كان ممكناً أن يكتفي بأقوال كل من الكاهن مكاريوس وإسخيراس نفسه لأنهما كانا حاضرين
أمام المجمع، خصوصاً وأن الموضوع كان قد مضى عليه عدة سنوات.

ولكن
اللجنة ذهبت بخطابات توصية مغرِضة، وفي الإسكندرية استقبلتها فرقة من الجند
رافقتهم مع فيلارجيوس الوالي ومع جماعة من اليهود والوثنيين إلى مريوط حيث كان قد
سبقهم إلى هناك سرًّا رسلٌ من الميليتيين قبل قيام البعثة بأربعة أيام، واستحضروا
عدة أساقفة وكهنة ورهبان من الميليتيين وتجمهروا هناك في قرية “إيرين” عند وصول
اللجنة، حتى يثبتوا للجنة أن للميليتيين مكانة كبيرة وكنائس كثيرة هناك.

وهناك
زوَّروا الحقائق وأتوا بشهود زور من اليهود، ادَّعوا أنهم جماعة من الموعوظين
الجدد كانوا حاضرين في الكنيسة وقت القداس وأنهم شاهدوا كسر الكأس، وأقرُّوا كل
التهم الملفَّقة، كل ذلك تحت التهديد لأن التحقيق كان يجري والجنود شاهرون السيوف

وفات
على المحققين الملفِّقين أنه بحسب قانون الكنيسة يستحيل إقامة الذبيحة المقدَّسة
والموعوظون موجودون، فكيف شاهد هؤلاء تحطيم الكأس وقلب المائدة؟([54])

وقد
احتجَّ أساقفة وقسوس إقليم مريوط بشدة وشجبوا هذا التحقيق واعتبروه باطلاً، لأن
مكاريوس القس المتهم لم يحضر التحقيق، ولأنه لم يُسمح لهم بدخوله بل ظلُّوا
محبوسين حتى انتهوا من أخذ أقوال الشهود الذين سخَّروهم لهذا الأمر، ولمَّا خرجوا
تركوا عليهم الجنود والوثنيين فأهانوهم بشدة، وكان اليوم يوماً من أيام الصوم.
والخطاب الذي يحمل احتجاجهم جاء بتاريخ 10 توت الموافق 8 سبتمبر سنة 335م.

ولكن
وقبل أن تصل هذه اللجنة إلى صور عائدة من الإسكندرية وقبل أن يقطعوا بعزل القديس
أثناسيوس عن كرسيه، كان أثناسيوس قد ترك صور صاعدًا إلى القسطنطينية ووصلها في 30
أكتوبر الموافق 2 هاتور سنة 335م:

[فلما
رأينا أن الأمور تجري هكذا انسحبنا من وسطهم كما من وسط “جماعة خائنين”([55])
لأن كل ما كان يحلو لهم كانوا يعملونه …]([56])

[فإسخيراس
الذي لم يكن له أصلاً كنيسة ولا شعب يتبعه، فإنهم استطاعوا بعد ذلك أن يقنعوا
الإمبراطور أن يرسل أمرًا إلى الحارس القضائي في مصر أن تُبنى له كنيسة (على حساب
خزينة الدولة) … وأسرعوا في الحال وجعلوه أسقفًا أيضًا (وهذا ضد القانون الكنسي
أن تصبح قرية مركزًا لأسقفية)].

وهذا
هو نص خطاب الحارس القضائي بالإسكندرية إلى مأمور ضرائب منطقة مريوط (أمين خزينة
الدولة):

[…
فلافيوس هميريوس يرسل السلام إلى مأمور ضرائب مريوط. القس إسخيراس إذ قد تظلَّم
لدى شفقة أسيادنا أصحاب الفخامة القياصرة لكي تُبنى له كنيسة في منطقة “إيرين”
بلدة سيكونداروروس، وجلالتهم قد أمروا أن يجرى ذلك بأقصى سرعة، فيلزم أنه بمجرَّد
أن يصلك هذا المكتوب بالمرسوم المقدَّس المرفق بكل احترام أعلاه الذي قد صار
ترتيبه بمعرفتي، أن تسرع وتوقعه في دفتر السجلات حتى يصبح الأمر المقدَّس نافذ
المفعول).]([57])

وبالرغم
من أن التحقيق الذي أجرته لجنة تقصِّي “الحقائق” في مريوط ظلَّ في طيِّ الكتمان
بسبب فضائح الغش الذي فيه، حيث سُلِّم ليوسابيوس رئيس المجمع حال وصول اللجنة إلى
“صور”، وكان ذلك في غيبة البابا أثناسيوس الذي كان قد أقلع إلى القسطنطينية
إلاَّ أن نسخة منه وصلت ليد “يوليوس” أسقف روما، وهذا سلَّمها بدوره لأثناسيوس سنة
339م بعد عودته من المنفى([58]).

أثناسيوس يقلع سرًّا ومعه أربعة أساقفة
إلى القسطنطينية

لرفع دعواه إلى الإمبراطور، وذلك في 30
أكتوبر سنة 335م

ويمكث ثمانية أيام يتحيَّن الفرصة
لملاقاة الإمبراطور
([59]):

وهاك نص القصة بخط يده:

[فبينما
هُم منهمكون في تدبير المؤامرات والخطط، أقلعتُ. واستعدتُ أمام الإمبراطور صورة من
السلوك غير العادل الذي سلكه يوسابيوس وأعوانه، لأنه هو الذي أمر بتشكيل المجمع
وترأسه مندوبه الكونت ديونيسيوس. فلما سمع الإمبراطور تقريري، انفعل (كالعادة)
وكتب إلى الأساقفة المجتمعين بصور كالآتي:

قسطنطين
فيكتور مكسيموس أُغسطس، إلى الأساقفة المجتمعين في صور:

لست
أعلم ما هي القرارات التي وصلتم إليها وسط هذه الضجَّة والشغب، ولكن يبدو أن الحق
قد انحرف بسبب هذه الفوضى والإخلال بالنظام … إن السبب الذي كتبت إليكم من أجله
أدعوكم للحضور بهذه الرسالة ستعلمونه من الآتي:

بينما
أنا عائد متأخِّراً إلى مدينتنا السعيدة “القسطنطينية” ممتطياً جوادي، إذا فجأة
يعترض طريقي الأسقف أثناسيوس ومَنْ معه، ولأني كنت لا أتوقَّع هذا اندهشت جدًّا،
الله الذي يعلم كل شيء هو شاهد لي إني لم أستطع أن أتعرَّف عليه في بادئ الأمر،
لولا أن المرافقين لي أعلموني مَنْ هو، كما أعلموني أيضاً بأي ظلم كان يعاني.
إلاَّ أني لم أدخل معه في أي حوار في ذلك الوقت ولا سمحت له بالمقابلة، ولمَّا
ألحَّ عليَّ أن أستمع له كنت رافضاً، بل وأعطيت أمرًا أن يُستبعد من أمامي، ولكنه
بجرأة متزايدة أصرَّ في طلب هذا المعروف الواحد أن أستدعيكم أمامي حتى يتسنَّى له
فرصة أن يعرض عليَّ شكواه في حضوركم بخصوص المعاملة التي لاقاها.

وقد
تراءى لي أن هذا الطلب معقول، وأن الوقت موافق، فأمرت بمسرَّتي أن يُكتب هذا
الخطاب إليكم حتى تحضروا جميعاً بكل أعضاء المجمع المنعقد في صور وتسرعوا جميعاً
إلى البلاط بلا أي تأخير …]([60])

اختلاق مؤامرة جديدة أتت بنتيجتها فوراً:

[وكان حكَّام القسطنطينية يقيسون عظمتهم بمقياس الطاعة
الذليلة التي فرضوها على شعبهم، ولم يدركوا أن هذا الخُلُق السلبي يُضعف كل ملكات العقل ويورِّثها الانحطاط.] (جيبون)

والكلام
هنا أيضاً من مذكرات البابا القديس أثناسيوس:

[فلمَّا
قرأ يوسابيوس وأعوانه هذا الخطاب وأحسوا بخطورة ما صنعوه، منعوا بقية الأساقفة من
الإقلاع واقتصروا الذهاب على أنفسهم فقط وهم يوسابيوس وثيئوجينوس وباتروفيلوس
ويوسابيوس الآخر وأرساكيوس وفالنس. وهناك لم يفتحوا سيرة الكأس ولا موضوع أرسانيوس
لأنه لم تكن لديهم الشجاعة أن يُقْدموا على هذا ولكنهم
اخترعوا اتهاماً آخر يهم الإمبراطور نفسه، فأعلنوا أمامه أن أثناسيوس هدَّد أنه
يستطيع أن يمنع القمح الذي يُرسَل من الإسكندرية إلى القسطنطينية. وكان الأساقفة
أدامنتيوس وأنوبيوس وأغاثامون وأربيثيون وبيتر حاضرين وسمعوا هذا، وقد تحقَّق
لديهم أن الإمبراطور صدَّق هذا بسبب الغضب الذي ظهر عليه، فبالرغم من أنه أرسل
الخطاب السابق وأدان عدم عدالتهم، إلاَّ أنه بمجرَّد أن سمع هذه التهمة تهيَّج.]([61])

النفي الحزين إلى تريف:

[وبدل
أن يعطيني فرصة ويسمع مني أرسلني بعيداً إلى الغال]([62])
إلى مدينة تريف.

ومدينة
تريف كانت عاصمة الغال (فرنسا) واسمها بالكامل أوجوستا تريفوروم، وتُختصر تريفري
أو تريير أو تريفس، وهي على نهر الموزل على حدود ألمانيا.

وأبحر
القديس أثناسيوس إلى تريف في 10 أمشير الموافق 5 فبراير 336م([63]).

حقيقة نفي تريف من الوجهة الكنسية:

أولاً: أمَّا هذا النفي فهو من الوجهة الكنسية إجراء لا
يقع في دائرة الروح أو الإيمان عمومًا، إنما هو عمل إداري محض قام به إمبراطور
منفعل لوشاية واحدة لا علاقة لها بالكنيسة أو الإيمان. وهو أيضًا عمل غير عادل
وغير قانوني من الوجهة المدنية الصرف، لأنه لم يتم فيه أي تحقيق بخصوص هذه الوشاية الوحيدة التي قُدِّمت شفاهًا وبدون شهود من شخص لا علاقة له بمصر أو بالشئون
الإدارية التي تخص الإمبراطور، فهو أسقف وليس ضابط
مباحث.

ثانياً: أمَّا قرارات مجمع صور من جهة عزل أثناسيوس من
كرسيه فقد طعن فيها كل أساقفة مصر، وهم الأعضاء الرسميون في المجمع ويبلغ عددهم
أكثر من الثلث من مجموع الحاضرين، ولم تُفحص هذه الشكوى أو يُنظر إليها، كما طعن
في إجراءات المجمع الأسقف الوقور ألكسندروس أسقف تسالونيكي ولم تُنظر شكواه.

وكانت
الشكاوي متركِّزة على أساس أن الخصوم صاروا قضاة وصاروا محقِّقين في لجنة تقصِّي
الحقائق في مريوط، وهذا غير جائز، علمًا بأن تشكيل المجمع من الوجهة الكنسية
الشكلية جاء غير قانوني، لأن الأغلبية كانوا من الأريوسيين المحكوم عليهم في مجمع
نيقية بالمروق من الإيمان المستقيم، ولم يتم قبولهم أو شركتهم في الكنيسة بعد.

على
أن هذه الأحكام التي أصدرها المجمع قد تجاوزت كل حدود العقل والمنطق بالنسبة
لمستوى الشكاوي والاتهامات. فالشكاوي انحصرت في مستوى كسر كأس وقلب مائدة قام بها
كاهن، وقتل أسقف ظهر حيًّا في وسط المجمع، والأحكام بلغت في عنفها إلى عزل رئيس
أساقفة من كرسيه!! وهكذا يبدو هذا الحكم تهوريًا ومبالغًا فيه مبالغة تكشف عن
النية التي على أساسها انعقد المجمع أصلاً. فقد وضعوا في ذهنهم الحكم قبل أن
يفحصوا الاتهامات، وأيضًا لجهلهم وعدم رزانتهم لم يوفقَّوا في تلفيق الاتهامات
التي تساوي الحكم الذي أصدروه.

نيَّة الإمبراطور قسطنطين من جهة نفي القديس أثناسيوس:

كثرت
تكهنات المؤرِّخين بخصوص نيَّة الإمبراطور قسطنطين في نفي أثناسيوس إلى تريف. وقد
رأى معظمهم أنه اتخذ هذا الإجراء للحفاظ على حياة أثناسيوس من حقد خصومه، واستندوا
في ذلك على خطاب قسطنطين الابن الذي أشار فيه إلى أن هذا كان إبعادًا لخير حياته
وليس نفيًا للإيذاء به. وإليك نص الخطاب الذي أرسله قسطنطين قيصر ابن الإمبراطور
قسطنطين الكبير إلى أهل الإسكندرية في مدينة تريف بحضور أثناسيوس، وذلك قبل عودة
أثناسيوس إلى الوطن مباشرة في 17 يونيو سنة 337م([64])،
والكلام هنا بقلم أثناسيوس نفسه:

[ولكن
لمَّا تذكَّر قسطنطين الابن المطوَّب، أعادني إلى الوطن متذكِّراً ما كان قد كتبه
أبوه، وكتب هو أيضًا هذا:

قسطنطين
قيصر، إلى شعب الكنيسة الجامعة لمدينة الإسكندرية.

إني
أعتقد أنه لم يَفُتْ على ذهنكم التقي أن أثناسيوس مفسِّر ناموس العبادة كان قد
أُرسل إلى الغال (فرنسا) مؤقَّتاً، وذلك عن قصد بسبب وحشية أعدائه المتعطِّشين
لسفك الدماء المتأصِّلين في عداوتهم، الذين تعقَّبوه باضطهادهم إلى درجة المخاطرة
للقضاء على حياته المقدَّسة، وهكذا خلُص من مؤامرة لم يكن ممكنًا علاجها بسبب سلوك
هؤلاء الأشرار المتمرِّدين. فلكي يجنِّبه (الإمبراطور) هذا كله، اقتلعه من بين
فكيِّ خصومه، وكلَّفه أن يقضي بعض الوقت تحت حكومتي، وهكذا كنَّا نمده بكل
احتياجاته بوفرة في هذه المدينة (تريف العاصمة) حيث عاش (في وسطنا). غير أنه
بقداسته المشهورة كان في الحقيقة يعتمد على المعونة السمائية تمامًا غير عابئ على
الإطلاق بالضيقات التي ألمَّت به.

والآن
وإذ أعلم أنه كان في عزم إرادة أبي الإمبراطور قسطنطين قيصر أن يعيد الأسقف
أثناسيوس إلى مكانه وإليكم، أيها الأتقياء المحبوبون، ولكن وقد أُخذ بغتة إلى
نصيبه الذي هو نصيب كل بشر، وذهب إلى راحته قبل أن ينفِّذ هذه الرغبة، رأيت أنه من
اللائق أن أُحقِّق هذه النية التي كانت لأبي الإمبراطور صاحب الذكرى المقدَّسة،
هذه النيَّة التي ورثتها أنا أيضاً منه.

وحينما
يأتيكم ستعلمون منه بأي احترام كنا نعامله. وفي الحقيقة ليس هو أمر فائق كل ما
قدَّمتُه له بالنسبة لما تكنونه أنتم من شوق إليه، لأن رؤية هذا الإنسان العظيم
حرَّكت نفسي وحثَّتني أن أعمل هذا. فلتحفظكم العناية الإلهية أيها الإخوة
المحبوبون.

كُتبت
في تريفري 17 يونيو سنة 337م.]([65])

تعليق القديس أثناسيوس على هذا الخطاب مؤيِّداً ما جاء به:

[هذا
هو السبب الذي من أجله أُرسلتُ إلى الغال (فرنسا)، فمَنْ ذا الذي لا يدرك
من ذلك وبوضوح نيَّة الإمبراطور؟ وروح يوسابيوس السفَّاك مع أتباعه،
وأن الإمبراطور عمل هذا ليوقف نشاط مؤامراتهم اليائسة.]([66])

وهكذا
طاش السهم الأول للأريوسيين في صور بعد أن أصاب منه جرحًا وليس مقتلاً؛ ثم يتبقَّى
له بعد ذلك أربعة أسهم، حتى يكمل خمسة جروح كخمسة جروح الرب!!

ولكن
وبالرغم من هذا التسامح الذي بلغ إليه تفكير القديس أثناسيوس من جهة نيَّة
الإمبراطور، وبالرغم أيضًا من الكلمات المعسولة التي خاطب بها قسطنطين الثاني
(الابن) شعب الإسكندرية عند عودة أسقفهم إليهم، فالحقيقة لديَّ أنا، كمؤرِّخ، هي
غير ذلك تماماً.

أولاً: لأن أثناسيوس لم يكن في الوضع الذي يمكِّنه أن
ينتقد عمل الإمبراطور قسطنطين لا بالتلميح ولا بالتصريح، بل على العكس يتحتَّم
عليه أن يمتدحه لكي لا يعطي فرصة له أو لغيره، من بعده وهم أولاده
أن ينظروا إليه كمقاوم لمشيئة الإمبراطور الذي كان يتظاهر بالإيمان المستقيم، لأنه
إذا صحَّ ذلك فإنه يدعِّم ادعاءات الأريوسيين.

ثانياً: لأنه لا يمكن أن نعتبر نفي أثناسيوس هو الوسيلة
الوحيدة التي تبقَّت أمام الإمبراطور لإنقاذه من أيدي يوسابيوس والحاقدين عليه
ظلمًا، فمعلوم ما هي سلطة الإمبراطور، وكان عليه بالحري بل وبالدرجة الأُولى أن
يعاقب وينفي هؤلاء المفسدين والمشاغبين بعد أن ثبت لديه بالدليل القاطع ومن فمه هو
نفسه أنهم أشرار.

ثالثاً: ولأن الإمبراطور أصدر أمرًا شفعه بالتوكيد
والاستعجال الفوري أن ينتقل مجمع صور إلى القسطنطينية؛ ولكن يوسابيوس ضرب بأمر
الإمبراطور عرض الحائط وسرَّح معظم الأساقفة([67])
إلى بلادهم، وأرسل بعضهم لتدشين كنيسة القيامة، ولم يذهب إلى الإمبراطور إلاَّ ستة
أساقفة فقط! فماذا كان موقف الإمبراطور إزاء هذا التحدِّي والعصيان؟ علمًا بأنه
صادق بنفسه على الظلم الذي لحق أثناسيوس في خطابه إلى أساقفة مجمع صور، كما صادق
على هذا الظلم حاشيته أيضًا التي كانت راكبة معه عند ظهور أثناسيوس أمامه في
الطريق مستعطفين أن يصغي إلى شكواه، وذلك باعتراف الإمبراطور نفسه في خطابه
المذكور.

رابعاً: لأنه لا يزال يقف ضد نيَّة الإمبراطور خطاب خطير
يقدِّم الدليل المادي القاطع أنه كان متحيِّزاً للأريوسيين، وأنه كان حاقدًا على
أثناسيوس بسبب ذيوع شهرته وتفوُّق شخصيته، ولذلك كان يقصد تمامًا معاقبة أثناسيوس
بالنفي. وأمَّا الإحساس الدفين بالتنافس بين شخصية البابا أثناسيوس وشخصية الإمبراطور قسطنطين فقد كشفه القديس غريغوريوس الثيئولوغوس
عندما عمل هذه المقارنة:

[إن
شخصية أثناسيوس حجبت
™kle…yij شخصية قسطنطين.]([68])

أمَّا
هذا الدليل، فهو خطاب هام أرسله الإمبراطور إلى أهل الإسكندرية ردًّا على
استعطافات كثيرة أرسلها له القديس أنطونيوس الكبير مع شعب الإسكندرية. وقد احتفظ
لنا بمضمونه المؤرِّخ سوزومين في سجلات تاريخه الكنسي:

[وقد
رفع شعب الإسكندرية صوتهم عالياً محتجين على نفي أثناسيوس وقدَّموا تشفعات من أجل
عودته، وأنطونيوس الراهب المشهور كتب مرارًا كثيرة إلى الإمبراطور يترجَّاه أن لا
يصدِّق ادعاءات الميليتيين بل ويرفض كل اتهاماتهم باعتبارها مجرَّد مؤامرة. إلاَّ
أن الإمبراطور لم يكن مقتنعًا بهذه الحجج، وكتب إلى الإسكندريين يتهمهم بالتهور
والفوضى، وأمر الإكليروس والعذارى أن يلزموا الهدوء، وأعلن أنه لن يغيِّر رأيه ولن
يستدعي أثناسيوس الذي وصفه بأنه مثير للشغب، كما حكم عليه قضاة الكنيسة (هكذا) بحق
(هكذا).

وردَّ
على أنطونيوس أنه لا يستطيع أن يتجاوز القوانين التي أصدرها المجمع (في صور)، لأنه
حتى وإن كان هناك قلة من الأساقفة (في مجمع صور) سلكوا بإرادة خبيثة وبرغبة في
إرغام الآخرين، فإنه لا يُعقل ولا يُصدَّق أن البقية، وهي الكثيرة، من الأساقفة
الحكماء الممتازين (هكذا) تكون قد انساقت أيضًا بمثل هذه الدوافع. وأضاف: إن
أثناسيوس هذا متمرِّد غير مطيع ومتكبِّر وهو السبب في كل هذا النزاع والشغب.

(وهنا
يضيف المؤرِّخ سوزومين من عنده قائلاً): ولأن أعداء أثناسيوس كانوا يعلمون أن
الإمبراطور يمقت هذه الصفات بصورة خاصة، لذلك كانوا يتمادون بالأكثر في اتهامه
أمامه بهذه الجرائم.]([69])

هذا
هو الشعور الحقيقي الذي كان يحمله الإمبراطور قسطنطين ضد أثناسيوس، وقد ظهر واضحًا
تمام الوضوح الحقد والتحامل والبغضة الشخصية التي لا ترتكز على أسباب حقيقية. ومنه
يتبيَّن مقدار عمق وخطورة التيارات العدائية التي كانت تعصف بأثناسيوس والتي كان
يحسها ويدركها تمام الإدراك، ويحاول جاهدًا أن يحد من سطوتها وعنفها بالحجة
والإقناع كلما وجد إلى ذلك سبيلاً، ثم بالمواجهة والاتهام عندما يتلاعب خصومه
بالحق والدليل؛ وأخيراً بهذا الأسلوب الفريد في تقريظ عداء الإمبراطور وحقده وكأنه
تلطُّف ورحمة!!

يا
للمعاناة التي احتملها هذا القديس!! ويا للحزن الذي كان يملأ قلبه ويعصف بتفكيره
حينما كان يحس أن الأريوسيين كسبوا الموقف، وأصبح الإيمان بلاهوت المسيح على مرمى
مكشوف!!

ولكن،
وفي آخر لحظة، سجَّل التاريخ للإمبراطور قسطنطين على يد المؤرِّخ ثيئوذوريت فضيلة
الرجوع إلى الحق. فبينما هو على فراش الموت يلفظ أنفاسه الأخيرة، وعلى مسمع من
يوسابيوس، أصدر أمره بعودة أثناسيوس الكبير([70])،
وما ذلك إلاَّ لأن الشعور بالموت ألغى الشعور بالحقد.

وفي
ختام هذا الفصل من سيرة القديس أثناسيوس نرى كيف طاش السهم الأول للأريوسيين في
مجمع صور بعد أن أصاب من القديس جرحًا وليس مقتلاً … وبعد ذلك يتبقَّى لهم أربعة
سهام ليكمِّلوا بها جروحاً خمسة في حياة هذا القديس كخمسة جروح الرب! يبقى بعدها
أثناسيوس هو أثناسيوس، “الصخرة التي لم تقوَ عليها أبواب الجحيم” كقول القديس
غريغوريوس الناطق بالإلهيات.



اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى