علم المسيح

38- ناموس الحياة في المسيح يسوع



38- ناموس الحياة في المسيح يسوع

38- ناموس الحياة في المسيح يسوع

+”
الكلام الذي أكلِّمكم به هو روح وحياة” (يو 63: 6)

إن
آخر آية قالها المسيح في القسم الأول من العظة كانت “فليُضئ نوركم هكذا
قدَّام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجِّدوا أباكم الذي في السموات” هذا
حضٌّ على التعليم عن السلوكيات،
والتعليم الذي يقصده المسيح، ليس بحسب الكتبة
والفرِّيسيين ومن واقع التوراة والناموس، ولكن من واقع كشف مطالب العهد الجديد
والأسس التي تقوم عليها أعماله وتعاليمه. هنا مهَّد المسيح بالآيات من (1720)،
إذ اعتبرها ضرورة قصوى أن يفهم الناس على أي أساس سيبدأ المسيح يضع تعاليم العهد
الجديد. فالمعروف في التعليم اليهودي أن أي معلِّم يقف للتعليم عليه أن يوضِّح
المرجع الذي يرجع إليه في التعليم: إن كان رابِّي من الرابيِّين المعترف بهم ذوي
الحيثية والمصداقية الرسمية لدى السنهدرين، أو من التلمود نفسه مستشهداً بالنص وموضعه
بتدقيق بحيث لا يقرأ النص إلاَّ وهو في حالة خشوع واضح، واضعاً الطاقية الرسمية
التي للقرَّائين على رأسه تحشُّماً من حضرة الله. كان المسيح يَعْلم هذا تمام
العلم. وإن كان قد شاع عنه بواسطة الكتبة والفرِّيسيين أنه لا يتمسَّك بالناموس،
ولا بالتقليد الذي انحدر من الشيوخ، ولا بأي معلِّم سابق. هنا أراد المسيح أن
يصحِّح مفهوم موقفه أولاً أمام الجمع فقال: “ما جئت لأنقض بل لأُكمِّل.”
(مت 17: 5)

(أ)”
لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأُكمِّل”:

+
فلما أخذ يسوع الخل قال قد أُكمل”
(يو 30: 19)

المسيح
يَرُدُّ على الذين روَّجوا الإشاعة من الكتبة والفرِّيسيين. يقولها المسيح بهدوء
ملكي يسنده سلطان الألوهة. والمسيح يقولها على أساس أنه هو المسيَّا المنوط به هذا
التكميل، ومن كلام المسيح وألفاظه الموزونة بالميزان المسيحي الراسخ والقوي، يحس
الإنسان على التو أن هنا مَنْ هو أقوى من موسى والناموس والأنبياء جميعاً، هنا
مَنْ يقول ويسند قوله ببرِّه المطلق وشهادته بالحق الناطق والمنطوق. ويقول بعض
الكُتَّاب: إن المسيح في هذه العظة التي يصحِّح ويكمِّل فيها معارف الناموس
والتوراة، يتكلَّم من موقع تاريخي، وكأنه على قمة جبل يطال السماء: “قيل
للقدماء.. وأمَّا أنا فأقول لكم” هنا صوت العهد الجديد النازل من السماء
وبيده مفاتيح الملكوت ومغاليقها: “صوت الرب على المياه. إله المجد
أرعد.” (مز 3: 29)

وهو
لا يقصد بالتكميل أن يخضع هو لها، بل أن يكمِّل عجزها
أي عجز وصايا الناموس يمسك بيدها من حيث وقفت غير قادرة أن
تلبِّي حاجة الإنسان المريض الساقط تحت ثقلها، يعطيها روحاً جديداً يرفعها من
مستواها المتدنِّي إلى المستوى الروحي، حيث يرفع الإنسان فوق نفسه، يرفع وجه
الإنسان الساقط غير القادر أن يتطلَّع إلى وجه الله، ويقدِّمه في إحساس الدَّالة
والثقة والإيمان نحو الله في درجة التبنِّي، حتى أنه بعد الحزن والأنين ومرارة
السقوط لهذه الآلاف من السنين يعود الإنسان الخاطئ يطلب الله بدالة الابن: يا أبا
الآب!! لا يعود يعرقله الناموس بحروفه، بل يطير الإنسان بروحه بلا عائق في سماء
الحب والفرح والسلام المنسكب عليه من قلب الله. فالمسيح جاء ومعه كل حب الآب
وحنانه وعطفه. والمسيح جاء ليرفع الغطاء الثقيل من فوق الناموس ليرى الإنسان صورته
الأُولى
إنسانه الجديد الخارجة من لدن الله ثانية، التي استطاع
الناموسيون والفرِّيسيون والربيُّون أن يحجبوها بتعاليمهم وتخاريجهم، فلم يعد يُرى
الناموس إلاَّ في صورة هؤلاء المعلمين بعقلهم المنحصر ووجوههم العابسة، والعصا بيد
وحجر الرجم باليد الأخرى. فالمسيح جاء ومعه ناموس حب الآب: ” هكذا أحب
الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة
الأبدية”
(يو 16: 3)، كنور سلَّطه على بنود الناموس وحروفه فنضحت كلها
بالحب وأخرجت من أعماقها ودًّا ومصالحة. وعِوَض الذبائح الحيوانية التي كانت تقف
عند خطايا السهو لا تتعدَّاها، جاء المسيح وبيده دم الابن الوحيد ليرفع خطايا
العَمْد ويغسل الضمير منها، ويطهِّر القلب، ويجدِّد الروح، ويقدِّم الإنسان أمام
الله قديساً وبلا لوم!!

وعِوَض
ما قدَّمه الناموس من ضرب العِصِىِّ ورجم الحجارة والقتل بلا رحمة، جاء الابن
الوحيد يحمل الخاطئ على كتفه ليعبر به أهوال الموت، وليضعه كوديعة غالية أمام كرسي
رحمة الآب.

فالناموس
أخذ زمانه في التأديب والجفاء بحسب غضب الله، وجاء زمان الحب والسلام واللطف
المنسكب بيد الابن من قلب الله!

فالمسيح
لم يجيء ليلغي الناموس، بل ليكمِّل تأديبه بحبه الإلهي، وضرب العصا بقبلات فمه.
وما بدأه المعلِّم الحق بالعصا يكمِّله بالنُّصح
والمودَّة. وما حفظه التاريخ من دموع الإنسان، سجَّلته له السماء بحروف من نور:
“اجعل أنت دموعي في زقك.” (مز 8: 56)

ولكن زوال السماء والأرض أيسر
من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس” (لو 17: 16). فقد احتُسب تأديب الإنسان من
نصيب الابن: ” تأديب سلامنا عليه” (إش 5: 53). فهو الذي وازن التأديب
بدمه!! ومشيئة الله جمعت هذا وذاك: التأديب والرحمة معاً!! والله لا يتغيَّر، ولكن
الإنسان هو الذي يتحتَّم أن يتغيَّر بل يتجدَّد.

المحبة هي تكميل
الناموس”
(رو
10: 13):

لمَّا
لخّص المسيح تعاليم العهد القديم بجميع بنوده لخَّصه كالآتي: “تحب الرب إلهك
من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك.. وتحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلَّق
الناموس كله والأنبياء” (مت 22: 3740). بمعنى أن المسيح كشف في
البدء أن قاعدة الناموس القديم هي محبة الله ومحبة القريب
التي جاءت في الوصايا العشر والآن يبتدئ المسيح تطبيق هذا على العهد
الجديد، بمعنى أن يعيد العهد القديم إلى قاعدته الأُولى التي انبثقت منها كل
التعاليم. وإن كان الإنسان قد عجز عن تنفيذ وصايا المحبة في القديم، فلأن الحياة كانت تحتاج إلى تجديد ونعمة،
وهذا ما جاء المسيح
ليكمِّله.

(ب)
لا تقتل: الوصية السادسة من الناموس:

+”
قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل. ومَنْ قتل يكون مستوجب الحكم. وأمَّا أنا
فأقول لكم: إن كل مَنْ يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم”
(مت 5:
21و22)

لقد
رفع المسيح صوته في العظة على الجبل لكل أذن ليصل إلى أقطار الأرض وإلى أقصى الزمن
والتاريخ، ولكي يُحيي به الإنسان ويهنئه أنه قد بلغ الطوق وزمان الحب:
“ليقبِّلني بقبلات فمه” (نش 2: 1)، “لا أعود أسمِّيكم عبيداً..
لكني قد سمَّيتكم أحباء، لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي (عن الحب).” (يو
15: 15و16)

وحينما
يقول: “قد سمعتم” فهو يخاطب قوماً لا يقرأون ولا يكتبون، يُساق إليهم
التعليم شفهياً ويحفظونه بسماع الأذن. وحينما يكشف الغطاء عن الوصية القديمة:
“لا تقتل” يُظهر أساسها الذي انتهى بالمخالفة إلى القتل: “وهو
الغضب”. فقال المسيح: ” أمَّا أنا فأقول لكم: إن كل مَنْ يغضب على
أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم”،
وهكذا عاد بالوصية إلى أصولها الأُولى
النفسية أي الوجه الروحي لأصل الوصية. هذا لا يهدم الوصية، بل يُجلِّيها ويعطيها
المعنى والمبنى الإلهي الأصيل الذي ينبغي أن يكون لإنسان شبَّ على الانفعال القاتل
الذي لا يليق إلاَّ بالوحوش. فالمسيح يطلب ردع الغضب من القلب. لأن وصية “لا تقتل” لا تليق بإنسان يتهيَّأ لميراث
السماء. فالوصية
الجديدة دعوة
للإنسان أن يتخلَّى عمَّا هو للأرض، ويستعد لكي يستوطن الملكوت.

+” ومَنْ قال لأخيه: رَقَا، يكون مستوجب المجمع،
ومَنْ قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم”
(مت 22: 5)

وحينما يسترسل المسيح في توابع الآية من حيث الشتيمة
“يا أحمق” وما يماثلها، بقصد إثارة
النفس التي تفضي بها إلى العراك والقتل فهذه
يجعل عقوبتها رادعة أيضاً. فهو يجتث الغضب أيضاً من
أصوله.

وحينما
يقول المسيح: “مَنْ يغضب على أخيه “باطلاً”” يقصد
الغضب الخارج من قلب شرير، فالغضب الباطل هو الغضب الذي تكون منابعه وأسبابه شريرة
حاقدة، المُفْضي إلى العراك والقتل. لأن هناك غضباً حميداً هو الذي قال عنه بولس
الرسول: “اغضبوا ولا تخطئوا” (أف 26: 4). ولكن على العموم فالغضب كما
قال يعقوب الرسول: “غضب الإنسان لا يصنع بر الله” (يع 20: 1)، فالغضب
الباطل غضب قاتل. وعلى أية حال فالوصية الجديدة قائمة على أساس المحبة، فكل ما
يتنافى مع المحبة محظور وممنوع وله عقوبة. وهنا تأتي الشتيمة: مَنْ قال لأخيه يا
أحمق، أو حتى رقا وهي الأقل خروجاً عن المحبة؛ فإن ذلك يدخل في عصيان وصية الله
بالمحبة. وكل ما يجرح المحبة يسيء إلى الله، ويعود بالنقمة على الإنسان.

فالله
لا يقبل قربان مَنْ أساء إلى أخيه، فقبل أن تصلِّي وقبل أن تقدِّم قربانك، اذهب
اصطلح مع أخيك أولاً. وويل لمن يختصم الله، فهو الديان ورضاه يساوي الحياة،
فمراضاة الله هي مصالحة الإخوة، وطالما لنا خصومة مع أحد فالخصومة مع الله قائمة
والحياة مهدَّدة وبالنهاية هلاك أبدي.

(ج)
لا تزنِ: الوصية السابعة من الناموس:

وهي
شديدة الصلة بالوصية العاشرة عن الزواج.

وقد
استغرق المسيح في شرح ما يتعلَّق بها في العهد الجديد من (27: 530)،
إذ هي قوام الحياة الزوجية وسعادة البشر. والمسيح يصنع مقارنة شديدة الوطأة بينها
وبين الزنا في قول في القديم: “لا تشته امرأة قريبك” (خر 17: 20). والمسيح لمَّا كشف الغطاء عن وصية الطهارة
أوضح أنها لا تنبع من
العلاقات، ولا هي
في محيط الجسد، بل هي” طهارة القلب”. فالزنا يبدأ من
داخل
القلب، لذلك انتقل العقاب على الزنا من أيدي الشهود إلى فحص القلوب.

+”
سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزنِ. وأمَّا أنا فأقول لكم: إن كل مَنْ نظر إلى
امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه”
(مت 27: 5و28)

إذن،
فليست العلاقات الأسرية أو الاجتماعية هي المطلوب رفعها إلى درجة الطهارة، بل
القلب. حيث تُحسب طهارة القلب في الدرجة العظمى من الأهمية للمدعوين إلى الملكوت.

وحينما
أعطى المسيح إمكانية قلع العين وقطع اليد اليمنى ليحتفظ الإنسان بطهارة قلبه، يكون
المسيح قد رفع طهارة القلب لتكون أهم للإنسان بالنسبة لحياته وللملكوت من العين
واليد اليمنى. فالقصد من قلع العين وقطع اليد هو رفع خطورة طهارة القلب إلى أقصى
ما يمكن من تصوُّر الإنسان، ليضحِّي بجسده وأعضائه في سبيل طهارة القلب، التي إن
أخفق الإنسان في الاحتفاظ بها يكون قد أهلك نفسه مجَّاناً.

(د)
الطلاق:

+”
وقيل مَنْ طلَّق امرأته فليعطها كتاب طلاق. وأمَّا أنا فأقول لكم: إن مَنْ
طلَّق امرأته إلاَّ لعلة الزنا يجعلها تزني. ومَنْ يتزوَّج مطلَّقة فإنه
يزني”
(مت 5: 31و32)

هذا
هو البند الثالث بعد القتل والزنا، فالطلاق في اليهودية كان يتناسب مع قساوة
قلوبهم من ناحية المرأة، إذ كانت مهانة.
فالرجل يصلِّي كل يوم ويقول: “أشكرك يا رب لأنك لم تخلقني

امرأة”!

والمسيح
أوقف حركة الطلاق التي كانت سارية بأمر الناموس، باعتبار أن موسى صرَّح بها من أجل قساوة قلوبهم. وأوضح المسيح قاعدة الزواج
الأصلية: إن الله خلقهما ذكراً وأنثى، فلا زواج
بثانية ولا طلاق البتة. ويبدو أن علَّة الطلاق وهي الزنا أُضيفت، لأن الله
لم يُدْخِلها في الاعتبار عند
الخلقة.

لذلك
أيضاً نجد المسيح لمَّا عرضوا عليه المرأة التي أُمسكت في ذات الفعل أنه لم
يَدِنْها، بل حضَّها على التوبة: “ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضاً
(ثانية)” (يو 11: 8). فماذا لو كانت هذه المرأة رجلاً؟ فالزنا خطية يمكن
التوبة عنها، وكم من زناةٍ وزانيات تابوا فصاروا قديسين وقديسات. والشيوخ الذين
أقاموا عليها الحدّ، لمَّا كشف الله ضمائرهم، وضح أنهم كلهم خطاة. خاصة وأن الزنا
قد رفعه المسيح بهذه الوصية من ذات الفعل إلى زنا الشهوة بالعين والقلب، حيث ما من
إنسان قادر بعد أن يقيم الحدَّ على رجل أو امرأة.

(ه)
لا تحلف:

كان
أصل الوصية ينص على أن مجرَّد ذكر اسم الله، مجرَّد ذكره، ممنوع منعاً قاطعاً، حتى
أن مَنْ ينطق باسم الله نطقاً موتاً يموت، ولكن عدَّله الربيُّون على مدى التاريخ
ليصبح مَنْ نَطَقَ باسم الله باطلاً موتاً يموت، أمَّا القَسَم أي الحلفان باسم
الله فهو مطلوب في العهد القديم لتذكُّر اسم الله والفخر به ولتمجيده. أمَّا
المسيح فجعل تعامل بني الملكوت: “نعم نعم، لا لا. وما زاد على ذلك فهو من
الشرير” (مت 37: 5)، باعتبار أن المسيحي يقول الحق ولا شيء غير الحق. فهو غير
محتاج إلى إثبات قوله لأنه قول الحق. ففي الملكوت الحق يملك على الجميع، والجميع
يملكون بالحق.

(و)
لا تنتقم:

لقد
أخذت التوراة “الانتقام بالمثل” كقانون الحكم الطبيعي (خر 21: 2325،
لا 24: 1721، تث 21: 19). ولكن بالرغم من هذا التصريح، فالتوراة تجعل
الانتقام من عمل الله وليس من عمل الإنسان: “لي النقمة والجزاء” (تث 35:
32، مز 1: 94). وكان موسى رجلاً حليماً أحلم الناس جميعاً (عد 3: 12). وكل هذه
الاستثناءات ضرب بها اليهود عرض الحائط وتمسَّكوا بحرفية الناموس مع تعارضها مع
الناموس نفسه، لأنه يقول: تحب قريبك كنفسك. ولكن التمسُّك بالانتقام يكشف مستوى
الانحطاط في الأخلاق والسلوك الوحشي. ولكن كان الناموس لازماً لشعب بدائي حتى يضبط
التوحُّش في الانتقام ويحدّه. وليس منظر أبشع من هذا المنظر: إذا خَبَطَ إنسان
(ولو خطأ) ابنة إنسان آخر وحدث أنها ماتت، فإنه بحكم الناموس يكون أبو البنت
المقتولة له الحق أن يقتل بنت ذلك الرجل!! وإذا أخطأ رجل وهو يبني بيتاً وحدث أن
أصاب ابن صاحب البيت فقتله، فصاحب البيت بحكم الناموس له أن يقتل ابن هذا
البنَّاء. هنا دخل الناموس الذي للحياة في صميم الموت. ولهذا أعطى المسيح وصيته
المضيئة: “لا تقاوموا الشر، بل مَنْ لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر
أيضاً. ومَنْ أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً. ومَنْ سخَّرك
ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين. مَنْ سألك فأعطه. ومَنْ أراد أن يقترض منك فلا
تَرُدَّه.” (مت 5: 3842)

هذا
لم يمنع المسيح من أن يترك للحاكم والقاضي تدخُّلهما والحكم بما يقضيان به. ولكن
على أي حال فروح الانتقام تقل وتنعدم إزاء أحكام القضاء العام. فالإنسان يذهب إلى
المحكمة ليؤدِّي واجباً حزيناً وبتغصُّب، ولكن أمر المحكمة يسود. الرب أعطاها كلمة
قاطعة: لا تقاوموا الشر ولا الأشرار، لأن المحبة تحتمل كل شيء وتصبر على كل شيء
(1كو 7: 13). فإذا تحتَّمت المقاومة والردع لخير الناس أو ربما لخير المتعدِّي
نفسه فليكن ذلك بروح المحبة. فإذا انتهت المشكلة بقيت المحبة. هكذا يقول القديس
كبريانوس(
[1]). وكم من شهداء باحتمالهم عن
حبٍّ قسوة المضطهدين جرُّوهم إلى المسيحية. وهكذا فليشرق نورنا في الضيق وفي
الاضطهاد والمذلَّة. نحن نُذل ونُهان، وليرتفع المسيح والإنجيل.

وحينما
قال المسيح: “كل مَنْ سألك فأعطه” فلم يستثن اللص ولا اختص العطية
للفقير نفسه والمسكين، ومَنْ طلب رداءك فاخلع له الثوب أيضاً لتستر عريه، إن لم
يكن جسده فنفسه.

(ز)
أحبُّوا أعداءكم:

الحب
والبغضة في الناموس:

تحب قريبك وتبغض عدوك”
هكذا صرَّح الناموس ليتمشَّى مع بدائية الشعب الجاهل، ولكن ارتفع المسيح رفعة
فائقة إذ قال: “أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا
إلى مبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم
الذي في السموات!” (مت 5: 44و45). أصل النقلة هي من بني آدم إلى بني الله!
فالمدعو أن يكون لله ابناً وللملكوت مواطناً ووريثاً، فهو يحب بلا مقابل؛ بل يحب
حتى في مقابل الظلم والمهانة والطرد والبغضة، لكي يثبت أنه يحب بلا ثمن، يحب من
مصدر عطاء سماوي لا يفرِّق بين صديق وعدو. أخذ المحبة مجاناً ويعطيها بلا مقابل،
أخذناها بغير استحقاق ونعطيها كذلك بلا استحقاق ولا تحقيق. ويلاحظ القارئ اللبيب
أن المسيح يوصي بأن يكافئ الإنسان بعكس ما يكافَأ، إن كانت إساءة فالإنسان يُكافئ بالمحبة حتى ولو كوفىء
بالعداوة، ويُلعن مجاناً فيبارِك، ويُبغَض بلا سبب فيُحسن بلا ثمن، ويُساء إليه
ويُطرد أمَّا هو فيصلِّي
لكي لا تُحسب
لهم خطية. وهكذا يضيء النور في الظلمة! وهكذا يُشرق الله
شمسه على الجميع لا فرق بين بار وقاتل، وبالمثل يأتي
المطر ليرتوي الجاحد والقديس.

فإن
أحببنا الذين يحبوننا فأي أجر لنا، ولكن إن قدَّمنا الحب الصادق للذين لا يحبوننا
فثمنه عند الله مضاعف.

وإن
سلَّمنا على الذين يسلِّمون علينا فأي فضل لنا، ولكن إن سلَّمنا على الخطاة
والمزدرى بهم وغير الموجود فقد تسجَّل لنا ذلك فضلاً. وبنو الملكوت يلزم جداً أن
يكونوا كأبيهم!

(ح)
كونوا كاملين: ختام الكلام:

المسيح جاء ليكمِّل الإنسان بالكمال المسيحي الذي يرضي
الآب، فهو لم يكمِّل الناموس إلاَّ
ليكون الإنسان كاملاً في ملكوت الآب، وهو لم يستقرئ في
الناموس ما لا يُقرأ؛ بل جعل الناموس نفسه يتكلَّم، فلمَّا قال الناموس: “تحب
قريبك كنفسك” شكَّلها المسيح على يديه فأخرج منها بدائع وروائع، والأصل هو
محبة الإنسان للإنسان. وهكذا يصير الناموس كاملاً لدى الكاملين. فالخاطئ عند
الفرِّيسيين مزدرى به وغير موجود، ولمَّا جاء المسيح أحبَّ الخطاة ونزل إليهم
وجالسهم وآكلهم وعزَّاهم وتعزَّى بهم!
وبالنهاية شاركهم حمل خطيتهم وموتهم ولعنتهم، ثم قام بهم مبرَّرين ببرِّه

وقديسين بقداسته!! وحينما وثق أنه تمَّم فداءهم وخلاصهم نكَّس رأسه وقال: “قد
أُكمل” أكمل الناموس فأكمل
الإنسان، فأهَّله ليكون في الملكوت ليتأمَّل في محبة الله ويعيش كماله وحبه إلى ما
لا نهاية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى