علم الانسان

الإنسان الجديد ومفاعيل الروح القدس التي دبَّرها الله لبنيانه وعمله



الإنسان الجديد ومفاعيل الروح القدس التي دبَّرها الله لبنيانه وعمله

الإنسان
الجديد ومفاعيل الروح القدس
التي دبَّرها
الله لبنيانه وعمله

حينما
نتكلَّم عن الإنسان الجديد، فنحن نتكلَّم عن الخليقة الجديدة التي أُعطيت للإنسان
كأعظم نعمة تقبَّلها من الله. فبعد أن كان خليقة آدمية محكوماً عليها بالموت، صار
خليقة روحانية سماوية لها إرث الحياة الأبدية مع المسيح. وهي كلَّفت الله تجسُّد
ابنه الوحيد، أي اتحاده بجسدٍ بشري بميلاده من الروح القدس ومن العذراء القديسة
مريم؛ وبهذا التجسُّد صار المسيح شريكاً معنا بالجسد، مما أهَّله أن يحمل خطايانا
في جسده على الصليب ويبطلها بموته، بعد أن تقبَّل حكم الموت وعقوبته معنا ومن
أجلنا على يد اليهود وبيلاطس البنطي. وهكذا غُفِرت خطايانا ورُفِع حكم الموت عنَّا.
ولَمَّا قام المسيح من الموت، قام بجسده الذي أخذه منَّا أي ونحن فيه
إذ صرنا نحن أيضاً شركاءه في ذات الجسد بعد أن داس الموت، وقبلنا معه
الحياة الأبدية:

+
“لأنه إن كنَّا قد صرنا مُتَّحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بقيامته. عالمين
هذا أن إنساننا العتيق قد صُلِبَ معه ليُبْطَل جسد الخطية، كي لا نعود نُستعبد
أيضاً للخطية.. فإن كنَّا قد متنا مع المسيح، نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه
(بقيامته)” (رو 5: 68)

ولكن
أن نحيا مع المسيح الآن كخليقة جديدة فقد تمَّ هذا بميلادٍ جديد بتدخُّل الروح
القدس الرب المُحيي:

مقالات ذات صلة

1
بالمعمودية التي سمَّاها المسيح أولاً وأصلاً “الميلاد من فوق”،
أي نُحسب أننا وُلدنا ثانية لنصير خليقة جديدة سماوية،
أعضاؤها أفراد صاروا
بالمعمودية أعضاءً روحانية في جسد المسيح القائم من الموت، لأن المعمودية تمَّت
لحساب جسد المسيح القائم من الموت: “لأننا جميعاً بروح واحد أيضاً اعتمدنا
إلى جسدٍ واحدٍ.. وجميعنا سُقينا روحاً واحداً.. وأما أنتم فجسد المسيح،
وأعضاؤه أفراداً”
(1كو 13: 1227)

هذا
معناه أن الإنسان الجديد هو عضو في جسد المسيح، وقد وردت في رسالة كولوسي بمعنى
جميل: “وليَمْلِك في قلوبكم سلام الله الذي إليه دُعيتم في جسدٍ واحد،
وكونوا شاكرين” (كو 15: 3)

ومن هنا جاءت الحقيقة أن الكنيسة هي جسد المسيح وهو رأسها
(أف 22: 1و23). فليس مستغرباً أن المسيح يطلب من الآب أن يُرسِل الروح القدس
للإنسان ليكون معزِّياً آخر، بعد أن يرتفع هو إلى السماء ليقيم الروح مع الإنسان
على الأرض ويؤنس غربته: “وأنا أطلب من الآب فيُعطيكم معزِّياً آخرَ ليمكث
معكم
إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا
يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكثٌ معكم ويكون فيكم” (يو 16: 14و17)

ويُلاحظ
القارئ أن المسيح يذكر أن الروح القدس سيكون ماكثاً معهم، ويكون فيهم. وهنا
ماكثٌ معهم تعني شركة في الحياة يلازم فيها الروحُ القدس الإنسانَ
ويُعلِّمه ويرشده وتكون عينه عليه. وتعتبر شركة الروح القدس تاج الإيمان المسيحي،
تهتف بها الكنيسة على لسان الأسقف قبل بدء كل قدَّاس: “نعمة ربنا يسوع المسيح،
ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم. آمين” (2كو 14: 13). وقد أعادت
الكنيسة صياغتها بحسب منطوق الإيمان هكذا: “محبة الله الآب، ونعمة الابن الوحيد ربنا
وإلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح، وشركة وموهبة الروح القدس، تكون مع جميعكم”. ويرد
الشعب: “ومع روحك أيضاً”.

ثم
يكون فيهم
أيضاً،
وهنا معنى الاتحاد بالروح حيث التقديس به، وهو يسوق الإنسان ليُقدِّمه لله. وفي
هذا يحكي بولس الرسول إلى أهل غلاطية مؤكِّداً: “ثم بما أنكم أبناء، أرسل
الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: يا أَبَا الآب. إذاً لستَ بعد عبداً بل
ابناً” (غل 6: 4و7). هنا يصف بولس الرسول كيف ينطق الروح القدس في قلوبنا
شاهداً لأرواحنا أننا أولاد الله: “الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا
أولاد الله” (رو 16: 8)

وأما
سُكنى الروح القدس في قلوبنا فأصبحت عقيدة ثابتة قائمة في الكنيسة: “أما
تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1كو 16: 3)، ويزيد القديس بولس
تأكيداً: “لأن هيكل الله مقدَّسٌ الذي أنتم هو” (1كو 17: 3). وقد قامت
عقيدة القيامة من بين الأموات لأجسادنا المائتة على هذا الأساس: “وإن كان روح
الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي
أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم” (رو 11: 8). وهذه يشرحها بولس
الرسول أيضاً من ناحية أخرى لأهل رومية قائلاً: “نحن الذين لنا باكورة الروح،
نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا، متوقِّعين التبنِّي فداء أجسادنا” (رو 23: 8).
والكلام هنا ثمين جداً، إذ أن التبنِّي الذي أخذناه بحلول روح المسيح فينا ستظهر
قوته يوم القيامة، إذ سيكون له قوة فداء أجسادنا؛ بمعنى أنه عِوَض أجسادنا
الترابية الميتة، يعطينا أجساداً روحية تحيا إلى الأبد. وهكذا يتم حرفياً قول
المسيح إننا نصير خليقة جديدة مولودة من فوق لتحيا فوق بالنهاية.

2
بدء عملية إعطاء الروح القدس كهبة بصفة دائمة عامة:

هذه
بدأت يوم الخمسين حسب وعد مخلِّصنا لتلاميذه المجتمعين في العلِّية:

+
“إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما
متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من نفسه، بل كل
ما يسمع يتكلَّم به، ويُخبركم بأمور آتية. ذاك يمجِّدني، لأنه يأخذ مِمَّا لي
ويُخبركم. كل ما للآب هو لي. لهذا قلت إنه يأخذ مِمَّا لي ويُخبركم.
بعد قليل
لا تبصرونني، ثم بعد قليل أيضاً ترونني، لأني ذاهب إلى الآب” (يو 12: 1616)

وهنا
نبدأ بالموعد الأول:

+
“وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من
نفسه، بل كل ما يسمع يتكلَّم به ويُخبركم بأمور آتية”

هذه
أول وظائف الروح القدس بعد ارتفاع المسيح. فأخطر ما واجه التلاميذ بعد ارتفاع
المسيح أمامهم علانية هو معرفة ما قد تمَّ، لأن اعتماد التلاميذ قد انتقل من
المسيح إلى الروح القدس الآن، فكان على التلاميذ أن يعطوا جواباً عمَّا حدث،
وبالحق!

وأول
ما أربك الجموع المتزاحمة وكان عيد الخمسين لا يزال قائماً والذين في
الشتات موجودين ورأوا:

أ
حلول الروح القدس، وكانت الساعة الثالثة من النهار، فتساءلوا ما عسى
أن يكون هذا، وكان آخرون يستهزئون قائلين إنهم قد امتلأوا سُلافة، أي شُرب الخمر
الرديئة التي تذهب بالعقل. فكانت صيحة بطرس الرسول أول شهادة بالحق، وكان الروح
القدس أميناً، إذ أخذ من المسيح ما حدث بالحق وأعلنه لهم هكذا:

+
“هؤلاء ليسوا سُكَارَى كما أنتم تظنون، لأنها الساعة الثالثة من النهار. بل
هذا ما قيل بيوئيل النبي، يقول الله: ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي
على كل بشر،
فيتنبَّأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبابكم رُؤى ويحلم شيوخكم أحلاماً. وعلى
عبيدي أيضاً وإمائي أسكب من روحي
في تلك الأيام فيتنبَّأون” (أع 15: 218)

ب
“أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال: يسوع الناصري
رجل قد تبرهن لكم من قِبَل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم، كما
أنتم أيضاً تعلمون. هذا أخذتموه مُسلَّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق،
وبأيدي أَثَمَة صلبتموه وقتلتموه. الذي أقامه الله ناقضاً أوجاع الموت،
إذ لم
يكن مُمْكِناً أن يُمْسَك منه.. فيسوع هذا أقامه الله، ونحن جميعاً شهودٌ
لذلك” (أع 22: 224و32)

ج
“وإذ ارتفع بيمين الله، وأخذ موعد الروح القدس من الآب،
سَكَبَ هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه”
(أع 33: 2)

د
“فلْيَعْلَم يقيناً جميع بيت إسرائيل أنَّ الله جعل يسوعَ
هذا، الذي صلبتموه أنتم، ربًّا ومسيحاً”
(أع 36: 2)

وكان
هذا هو أول دفاع قام به الروح القدس على فم القديس بطرس مُعلناً فيه أربع حقائق
هامة:

أولاً:
إن
حلول الروح القدس يوم الخمسين كما رأوه هو تحقيق نبوَّة يوئيل النبي تماماً.

ثانياً:
شهادة
صادقة عن صلب المسيح وموته حسب مشورة الله السابقة، ثم أقامه الله ناقضاً أوجاع
الموت.

ثالثاً:
وإذ
ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب سَكَبَ الروح القدس الذي رأوه يوم
الخمسين. وهنا يُحقِّق الروح القدس على فم القديس بطرس فعلاً ما سبق أن قاله
المسيح بالضبط: “ومتى جاء المعزِّي الذي سأُرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق،
الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من
الابتداء” (يو 26: 15و27)

رابعاً:
وهنا
أول وأقوى شهادة للروح القدس على فم القديس بطرس عن لاهوت المسيح أن الله جعل يسوع
هذا ربًّا ومسيحاً.

وكان
نُطْق بطرس الرسول بالروح القدس في الدفاع عن الإيمان المسيحي بأركانه الأربعة:

الأول:
تحقيقاً لنبوَّة يوئيل النبي
بانسكاب الروح القدس، وقد تمَّ يوم الخمسين كأول
امتلاء بالروح القدس وأول نموذج للامتلاء في الكنيسة.

الثاني:
تحقيق صلب المسيح وموته على الصليب وقيامته من الموت ناقضاً الموت، أي إلغاء هذا العدو
الذي دوَّخ البشرية.

الثالث:
تحقيق موعد الآب الذي طلبه المسيح من الآب بانسكاب الروح القدس للملء.

الرابع:
لاهوت المسيح.

هذه
كلها مكاسب الإنسان الجديد الموهوبة له من الروح القدس.

والآن
نأخذ هذه الحقائق المسيحية ونرى كيف طُبِّقت في الإيمان المسيحي لكل إنسان بحسب
سفر الأعمال والرسائل. ونكتفي هنا بالأولى والثالثة معاً وهي لتحقيق انسكاب
الروح القدس للملء. وكانت هذه الحقيقة التي أتمَّها الروح القدس بأمر الآب
واستدعاء المسيح أقوى وأشمل عمل للروح القدس في طبيعة الإنسان حيث أنشأ فيها
المفاعيل الآتية:

أ
انفتاح وتجديد الفكر والقلب لمعرفة الإيمان بالمسيح: “لا
بأعمال في برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغُسْل الميلاد الثاني وتجديد
الروح القدس،
الذي سكبه بغِنَى علينا بيسوع المسيح مخلِّصنا. حتى إذا تبرَّرنا
بنعمته، نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية” (تي 5: 37)،
“حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب” (لو 45: 24). وجرت هذه على
التلاميذ كأول نموذج لنا “لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس
المُعْطَى لنا” (رو 5: 5)

ب
“ونحن لم نأخذ (في العماد والمسحة) روح العالم، بل الروح الذي
من الله، لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله، التي نتكلَّم بها أيضاً، لا بأقوال
تعلِّمها حكمة إنسانية، بل بما يُعلِّمه الروح القدس، قارنين الروحيات
بالروحيات” (1كو 12: 2و13)

وقد
وصفها القديس بولس بهذا الوصف: “كما هو مكتوب: ما لم تَرَ عين، ولم تسمع
أُذُن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعدَّه الله للذين يُحبونه. فأعلنه الله لنا
نحن بروحه،
لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله” (1كو 9: 2و10)

بهذا
الوصف أصبحت إمكانيات الإنسان الجديد في المعرفة شيء يفوق العقل والوصف، وقد وصفها
القديس بولس أيضاً في رسالته إلى أهل أفسس بقوله العجيب الذي لا يمكن لإنسان في
العالم أن يُصدِّقه: “بسبب هذا أحني ركبتيَّ لدى أبي ربنا يسوع المسيح.. لكي
يعطيكم بحسب غِنَى مجده، أن تتأيَّدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن (الإنسان
الجديد)، ليحلَّ المسيح بالإيمان في قلوبكم، وأنتم متأصِّلون ومتأسِّسون في المحبة،
حتى تستطيعوا أن تُدركوا مع جميع القديسين.. وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة،
لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله!!!” (أف 14: 319)

مَنْ
يصدِّق هذا! نعم هذه هي عطية الروح القدس للإنسان الجديد حينما يتأيَّد بالقوة في
الداخل. إلى هذا الحدِّ تبلغ معرفة الإنسان الجديد، فلا يعود شيء قط من أسرار الله
ومحبته ونعمته يخفى على الإنسان الجديد. هذا يأتي بالصلاة من القلب!

وقد
سبق وتنبَّأ إشعياء على عمل الروح القدس في الإنسان حينما انسكب أولاً على المسيح
كعربون: “ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة
والقوة،
روح المعرفة ومخافة الرب” (إش 2: 11)

ج
تحقيق قول الرب عن عمل الروح القدس مع الإنسان بأنه “يمكث
معكم
” (يو 16: 14)، الذي يحقِّق وعد الله لموسى بأن يسير معهم (خر
14: 3316)، ولذلك دعا الربُّ الروحَ القدس الباراكليت أي المعزِّي:

+
“الروح والعروس يقولان تعالَ” (رؤ 17: 22)

+
“لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه
الأشياء الواجبة” (أع 28: 15)

يتضح
هنا ملازمة الروح القدس للتلاميذ الأوائل بصورة واضحة فعلية. وهو الذي عبَّرت عنه
الكنيسة بتلقيب الروح القدس ب “روح الشركة”، وتعني روح التلازم الدائم
والسهر الدائم على الإنسان الذي عرفه المزمور 32 بالقول: “أُعلِّمك وأُرشدك
الطريق التي تسلكها. أنصحك، عيني عليك” (مز 8: 32). وهذه قمة الرعاية فهي
تكميل لقول المسيح ووظيفته أنه “الراعي الصالح”، ويزيدها لقب
“الباراكليت”بصفة التعزية والدفاع. وبهذه الصفة “الشركة”يدخل الروح
القدس ضمن الثالوث في عمله للإنسان حسب الآية (2كو 14: 13) التي اتخذتها الكنيسة
تعبيراً تفتتح به قدَّاساتها: “محبة الله الآب، ونعمة الابن الوحيد ربنا وإلهنا
ومخلِّصنا يسوع المسيح، وشركة وموهبة الروح القدس، تكون مع
جميعكم”(القداس الإلهي). وبهذه الصفة يدخل الإنسان مع الروح القدس في شركة
واعية للمحبة الصادقة المتبادلة، والدعاء الدائم للمعونة والتوعية والإلهام وفتح
بصيرة الإنسان، لإدراك ما يُرضي الله الآب ويُفرِّح الابن الوحيد بحياة العبادة
الصادقة بالروح والحق التي يطلبها الله: “الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب
بالروح والحق، لأن الآب طالِبٌ مثل هؤلاء الساجدين له” (يو23: 4). ويدخل فيها
الإرشاد والنُّصح لاختيار الطريق الأفضل والكلمة النافعة والشهادة في وقتها.

د
ويكون فيكم”: وهذا تأكيد لمفهوم روح السُّكنى
الدائمة، حيث تبلغ الشركة أقصاها ونبلغ نحن حالة التبنِّي، حيث الروح القدس
هو” روح التبنِّي”(رو 15: 8)، “وأما كل الذين قبلوه
(المسيح) فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه” (يو 12: 1)،
وتزيدها تأكيداً: “إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي بيسوع المسيح لنفسه، حسب
مسرَّة مشيئته” (أف 5: 1). وهذه الآية تكشف عن سابق قصد الله من تبنِّي
الإنسان لنفسه لمسرَّته الشخصية. وهكذا يكون انسكاب الروح القدس للملء عملية
متوافقة مع مسرَّة الله الآب، وهي كفيلة أن تُدخِل النفس في مسرَّة الله أيضاً،
وهي بآنٍ واحد عملية التحام أيضاً في المسيح: “ثم
بما أنكم أبناءٌ، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: يا أَبَا
الآب” (غل 6: 4). لذلك يُعتبر سُكنى الروح فينا عامل شهادة وجذب نحو الآب،
ويعطي دالة الأُبوَّة التي بها نشعر أننا قد صرنا حقًّا أبناء ومن أهل بيت الله!

ه
إعطاء مسحة الروح القدس:

+
“وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم، ولا حاجة بكم إلى أن
يُعلِّمكم أحدٌ، بل كما تُعلِّمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء، وهي حقٌّ وليست
كذباً” (1يو 27: 2)

+
“وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء” (1يو 20: 2)

المسحة
هنا على مثال مسحة العهد القديم التي كانت تشير إلى عمل الله السرِّي، ولكن هنا
تفيد الروح القدس علانية مثلما جاءت في (أع 26: 4و27): “واجتمع الرؤساء معاً
على الرب وعلى مسيحه، لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع، الذي مسحته..”
هنا المسحة هي التي عبَّر عنها المسيح نفسه بأنَّ “روح الرب عليَّ، لأنه
مسحني” (لو 18: 4)، “يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح
القدس والقوة..” (أع 38: 10). وقد جاءت أيضاً بوضوح: “ولكن الذي
يُثبِّتنا معكم في المسيح، وقد مسحنا، هو الله الذي ختمنا أيضاً، وأعطى عربون
الروح في قلوبنا
” (2كو 21: 1و22). ويتفق العلماء المحدثون أنها تشير إلى
عمل الروح القدس بصورة علنية كما كانت تظهر أعمال الله في القديم في الذي يمسحه
الروح.

والقديس
يوحنا في الآية الأولى (1يو 27: 2) يشجِّع المؤمنين الذين نالوا عطية الروح القدس
أنهم صاروا بدرجة مقدسة مُلهمة كالأنبياء في القديم، يعرفون الحق مباشرة من الروح
القدس ولا شيء يستطيع أن يكذب عليهم لأنه روح الله وروح الحق الذي يُعرِّف بكل
الحق.

ومن الخبرة نعلم أن الذين يحل عليهم الروح القدس يكونون
فعلاً ممسوحين ولهم روح الحق ولا يستطيع أحد أن يكذب عليهم، كما يقول القديس يوحنا:
“وهي حقٌّ وليست كذباً” خصوصاً وأن القديس يوحنا في رسالته الأولى
يُعالج مشكلة الضد للمسيح الكذَّاب وأبي كل كذَّاب. وبالنسبة للإنسان المتجدِّد
(المولود جديداً من الروح)، فبحلول الروح عليه يصير قوة حصينة للحق والشهادة للحق.

+
“ويكون في ذلك اليوم أن حِمْلَهُ يزول عن كَتِفِكَ ونيره عن عنقك ويزول النِّير
بسبب المسحة” (إش 27: 10 حسب السبعينية)

= “نيري هيِّن وحِمْلي خفيف” (مت 30: 11)

والمسحة
هي تكريس المؤمن للخدمة بالروح على مثال مسحة العهد القديم التي كانت تُعطَى
للمختارين ومعها قوة للكرازة أو الخدمة والنطق بالروح بصفة خاصة. والممسوح بالروح
مُرسل من الله ويتكلَّم باسم الله: “الذي.. قد مسحنا هو الله” (2كو
21: 1)

و
روح تقديس:

بحلول الروح القدس على الإنسان المولود من الماء والروح،
يهبه روح تقديس، كما يقول القديس بولس: “الله اختاركم من البدء للخلاص، بتقديس
الروح
وتصديق الحق” (2تس 13: 2)، وهي الصفة المباركة التي ينالها المؤمن
بالمسيح في الكنيسة. فالكنيسة هي مجتمع القديسين، والذي يثبت لنا أننا نلنا هذا هو
قول بولس الرسول: “لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس
الخطية والموت” (رو 2: 8)، وكذلك أيضاً: “الذي فيه أيضاً إذ آمنتم
خُتمتم بروح الموعد القدوس” (أف 13: 1)، “الذي به خُتمتم ليوم
الفداء” (أف 30: 4)

إذن،
فروح التقديس أصبح بالنسبة للإنسان الجديد حقيقة ثابتة كختم وكعربون فداء ينتظره،
كفيل بأن يهب جسده الترابي الميت جسداً روحياً سماوياً لائقاً بسُكنى السماء، كما
يقولها بولس الرسول: “بل نحن الذين لنا باكورة الروح، نحن أنفسنا أيضاً نئن
في أنفسنا، متوقِّعين التبنِّي فداء أجسادنا” (رو 23: 8)، “وهكذا
كان أُناس منكم. لكن اغتسلتم، بل تقدَّستم، بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع
وبروح إلهنا” (1كو 11: 6). وأخيراً يحذِّر الروح، كما يقول بولس الرسول: “اتبعوا
السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب” (عب 14: 12)

ز
روح صلاة والمداومة عليها:

العمل
الأول والأعظم الذي يقوم به الروح القدس للإنسان الذي يتبنَّاه جديداً هو أن
يعلِّمه كيف يُصلِّي:

+
“كذلك الروح أيضاً يُعين ضعفاتنا، لأننا لسنا نعلم ما نُصلِّي لأجله كما
ينبغي. ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنَّاتٍ لا يُنطق بها. ولكن الذي يفحص القلوب
يعلم ما هو اهتمام الروح، لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القدِّيسين” (رو 26: 8و27)

+
“مصلِّين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح، وساهرين لهذا بعينه بكل
مواظبة وطلبة، لأجل جميع القديسين” (أف 18: 6)

والذين
يعرفون الصلاة يعرفون تماماً أنه من الصعب، بل ربما من المستحيل، الصلاة بمداومة
وبلا انقطاع بدون مؤازرة الروح القدس، حيث تكون الصلاة صلاة في الروح!! وهنا
يظهر قيمة كلام المسيح:

+
“الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا. لأن الآب
طالِبٌ مثل هؤلاء الساجدين له” (يو 24: 4و23)

+
“تأتي ساعة، وهي الآن (بعد حلول الروح القدس)، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون
للآب بالروح والحق” (يو 23: 4)

+
“لأننا نحن الختان، الذين نعبد الله بالروح، ونفتخر في المسيح يسوع،
ولا نتكل على الجسد” (في 3: 3)

والعجيب
أن الروح يدفعنا للصلاة، والصلاة تلهب الروح في قلوبنا.

ح
تقديم الشكر متواصلاً:

+
“بل امتلأوا بالروح.. شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسوع
المسيح، لله والآب” (أف 18: 520)

فالشكر
المتواصل نهاراً وليلاً هو علامة فعالية الروح القدس في الإنسان الجديد، لأن كل
شيء يُنظر بالروح أنه هبة الله.

+
اشكروا في كل شيء، لأن هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع من
جهتكم” (1تس 18: 5)

وكأن
موهبة الإنسان الجديد الأكثر فعالية في نظر الله الآب هي الشكر الدائم.

+
“نحن أيضاً نشكر الله بلا انقطاع” (1تس 13: 2)

+
“لأن جميع الأشياء هي من أجلكم، لكي تكون النعمة وهي قد كَثُرَت بالأكثرين، تزيد
الشكر لمجد الله”
(2كو 15: 4)

من
هنا نفهم أن كل شكر بزيادة هو لمجد الله.

+
“لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر، لتُعلم طلباتكم لدى
الله” (في 6: 4)

وكأن
وجود الشكر في الصلاة هو ختم استجابة.

+
“واظبوا على الصلاة، ساهرين فيها بالشكر” (كو 2: 4)

وكأن
الشكر يلهب السهر.

ط
يعطي قوة للخدمة:

لا
تقوم الخدمة إلاَّ على رجال يصلُّون لكي تُحمل الخدمة على الصلوات:

+
“أطلب إليكم أيها الإخوة، بربنا يسوع المسيح، وبمحبة الروح، أن تجاهدوا معي
في الصلوات من أجلي إلى الله” (رو 30: 15)

علماً
بأن الذي يطلب صلوات الآخرين على أساس محبة الروح هو بولس الرسول نفسه!

+
“وبينما هم يخدمون الرب ويصومون. قال الروح القدس: أفرزوا لي برنابا وشاول
للعمل الذي دعوتهما إليه” (أع 2: 13)

+
“احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة،
لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه” (أع 28: 20)

+
“لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً، بل هو برٌّ وسلامٌ وفرحٌ في الروح القدس.
لأن مَنْ خدم المسيح في هذه فهو مرضيٌّ عند الله، ومُزكَّى عند الناس” (رو 17:
14و18)

+
“ليكن كل واحد بحسب ما أخذ موهبة، يخدم بها بعضكم بعضاً، كوكلاء صالحين على
نعمة الله المتنوعة” (1بط 10: 4)

وهكذا
يُحسب كل مَنْ أخذ موهبة الخدمة من الروح القدس وكيلاً على نعمة الله، أي يخدم
لحساب النعمة.

+
“لأن الله ليس بظالمٍ حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه،
إذ قد خدمتم القديسين وتخدمونهم” (عب 10: 6)

+
“ظاهرين أنكم رسالة المسيح، مخدومة منَّا، مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي.
لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية” (2كو 3: 3)

وهكذا
تُسجَّل خدمة الآخرين بروح الله الحي.

+
“الذي جعلنا كُفاة لأن نكون خُدَّام عهد جديد. لا الحرف بل الروح” (2كو
6: 3)

+
“فكيف لا تكون بالأَوْلَى خدمة الروح في مجد؟” (2كو 8: 3)

ي
يشهد للمسيح:

+
“ومتى جاء المُعزِّي الذي سأُرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق، الذي من عند
الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء”
(يو 26: 15و27)

ووضحت
شهادة الروح القدس للمسيح جداً يوم الخمسين، إذ بدأها الروح القدس ببطرس الذي سبق
وأنكر معرفته للمسيح! وأعطاه قوة للشهادة أمام ثلاثة آلاف من يهود الشتات.

+
“وليس أحد يقدر أن يقول: يسوع ربٌّ إلاَّ بالروح القدس” (1كو 3: 12)

وهذا
يعني أن الشهادة بالروح حتمية وعمومية.

+
“ولكنه لكل واحد يُعْطَى إظهار الروح للمنفعة” (1كو 7: 12)

بمعنى
استقطاب كل أنواع الخدمات لتكون بواسطة الروح القدس.

+
“ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسماً لكل واحد بمفرده، كما
يشاء” (1كو 11: 12)

هنا
يتدخل الروح القدس ليختار ما يهبه للأفراد.

والروح
القدس يطرح كلمة الشهادة بقوة في ألسنة القديسين والأنبياء:

+
“تكلَّم أُناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2بط 21: 1)

وهو
أيضاً يشهد للمسيح بأن يُغيِّر كل ما لنا ليصير على مثال المسيح:

+
“نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها، من مجدٍ إلى مجدٍ كما من (بواسطة
¢pÒ)
الرب الروح
kur…ou pneÚmatoj
(2كو 18: 3)

+
“لأني أعلم أن هذا يؤول لي إلى خلاص بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع
المسيح”
(في 19: 1)

+
“مَنْ له أُذُن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس. مَنْ يغلب فسأُعطيه أن
يأكل من شجرة الحياة (المسيح) التي في وسط فردوس الله” (رؤ 7: 2)

+
“ونحن شهودٌ له بهذه الأمور، والروح القدس أيضاً، الذي أعطاه الله للذين
يطيعونه” (أع 32: 5)

+
“أما هو فَشَخَصَ إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس، فرأى مجد الله، ويسوع
قائماً عن يمين الله” (أع 55: 7)

 

أما
مفردات عمل الروح القدس في الإنسان الجديد فلا تقع تحت حصر. فالمسيح وَعَدَ
التلاميذ أنهم بحلول الروح القدس سينالون قوة (أع 8: 1)، فما بالك بالذي وُلِد من
الروح والروح يسكن فيه. والمسيح لَمَّا قال إنه هو النور، والنور يضيء في الظلمة،
هذا بعمل الروح القدس. لذلك قال: “أنتم نور العالم” (مت 14: 5)، وكذلك
قال القديس يوحنا إن الظلمة لا تُدرِك النور (يو 5: 1). فلا الشيطان ولا كل أعماله
يمكن أن يقتحم إنسان الله الجديد لأنه يحيا بقوة الله. ولَمَّا قال المسيح إن
الأعمال التي يعملها هو يعملونها هم أيضاً وأكثر منها (يو 12: 14)، هذا لأن الروح
القدس يُعطي القوة العاملة بالمسيح. كذلك فإن الروح القدس يجعل كلمة المسيح
والإنجيل ذات قوة وفاعلية، ومَنْ ينطقها يكون هو نفسه رسالة حيَّة من الله: “ظاهرين
أنكم رسالة المسيح.. مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحيّ” (2كو 3: 3)

ومن أهم علامات حلول روح المسيح، الفرح الدائم الذي وَعَدَ
به: “اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً” (يو 24: 16). والقديس بطرس يقول
كمجرِّب: “لأن روح الله والمجد يحلُّ عليكم” (1بط 14: 4). وهكذا كما
نشترك في الآلام مع المسيح، نفرح لأننا سنشترك معه أيضاً في المجد (1بط 13: 4).
والإنسان الجديد محسوب أنه ابن روح الموعد القدوس (أف 13: 1). ويؤكِّد بولس الرسول
مصلِّياً: “كي يُعطيكم إله ربنا يسوع المسيح، أبو المجد، روح الحكمة والإعلان
في معرفته، مستنيرة عيون أذهانكم” (أف 17: 1و18)

كل
هذه النِّعم والعطايا هي ميراث الإنسان الجديد في هذا العالم، موهوبة مجاناً،
مُضافاً إليها عمل الروح القدس الذي وضعه الله فينا كالعربون الذي ينتظر المؤمن
كيف يهبه في اليوم الأخير جسداً روحياً سماوياً يحيا به إلى الأبد. ويقول بولس
الرسول إن الله نفسه هو الذي منح الإنسان الجديد هذه المنحة: “ولكن الذي
يُثبِّتنا معكم في المسيح، وقد مسحنا، هو الله الذي ختمنا أيضاً، وأعطى عربون
الروح في قلوبنا”
(2كو 21: 1و22)

(21/12/1998)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى