علم المسيح

أصدقاء وأتباع



أصدقاء وأتباع

أصدقاء وأتباع

. نحن
نرى إذن، في الإنجيل، بإزاء ذاك السيل من الأحقاد المطويه، موكبأ من الصداقات
والأمانات، يرافق سعي المسيح. فالمسيح لم يكن وحيداَ على دروب اليهودية؛ بل نحن
نوجس، من حوله، لفّاً من الأنصار التابعين، ومن أولئك الذين سوف يحتفون بدخوله
الظافر، يوم الشعانين، ومن الذين سوف تهيب بهم البطولة إلى مرافقته على طريق
الجلجلة ويوم يطلع فجر القيامة

 

. في
طليعة هذه الكوكبة الصحابية، برزت امرأتان: مرتا ومريم، أختا لعازر الذي أنهضه
يسوع من القبر. إن الإنجيل الثالث الذي أورد ذكرهما، بما عُهد فيه من تحفّظ رفيق،
قد أغفل اسم الموضع الذي أضافتا فيه المعلّم (لوقا 10: 38-42). بيد أننا نقع أيضاً
على ذكر الشقيقتين المخلصتين في الرواية التي أدرجها البشير يوحنا عن إنهاض لعازر.
وقد جاء فيها أن القرية تدعى بيت عنيا. وكانت بيت عنيا، لذلك العهد، قرية مزدهرة
وسط أشجار الزيتون والتين. وكانت طريق القوافل الصاعدة من أريحا تمر تحت أسوارها.
ومع أنها لم تكن، من أور!شليم، إلاّ على بعد ساعة من المسير، فقد كانت تبدو،
بموقعها وراء جبل الزيتون، وفي محيطها الوادع، نائبةً جدأً عن العاصمة وعن بهارجها
الصاخبة. وأما اليوم فلم يبق منها سوى قرية فقيرة جاثمة بين حقول الشعير، وفي وسط
أقواسها المتداعية وحنيّاثها المبقورة. فإذا قصدتها سائحاً لج في إثرك أدلاّء
يرشدونك إلى خربة هناك، ما بين الخرائب، هي – على ما يزعمون – بيت مرتا ومريم.
ويبدو أن المسيح قد أقام، في ذاك المنزل الصديق، فترة تشرين الأوّل والثاني وكانون
الأوّل من سنة 280 ولا بدّ أن المسيح قد استنسب موقع البيت، بالقرب من أورشليم،
يقصدها أنىّ شاء من غير أن يبيت فيها، وفي شبه عزلة تقيه شرّ الكائدين. ولا بدّ من
الثناء على شجاعة تلك الأسرة التي لم تكن التوعّدات لتصرفها عن إيواء المسيح ضيفاً
وصديقاً

 

.
فالمشهد الإنجيليّ الفتّان الذي رسمه فرمير دي دلفت، في لوحة شهيرة، وأفرغ على
أشخاصه الثلاثة مسحة من الجلال والبساطة الوضّاءة، يمكن أن يحتلّ محله، في خلال
تلك الأسابيع القاسية التي تدهم اليهودية، في أذيال الصيف. فالأمطار تهطل فيها
بعنف، لقد قيل: ” رعد تشرين أشبه بصوت البوق “. فالسكّان الذين ألفوا
حرّ الهواجر في المشارف، يبادرون إلى مضارمهم لقد أصابهم القر باكراً.وتنحدر
المواشي صوب ” غور ” الأردن؛ وأمّا في الصحوات، فيصبح الفضاء من الروعة
والشفوف، بحيث تنجلي الآفاق الزرق في أصغر دقائقها؛ فإلى الجنوب جبال موآب؛ وإلى
الشمال الشرقي، من خلال ثلمة التلال، جبال الجيرازيين

 

. في
ذاك البيت الأليف كان يسوع يوماً، وقد علقت كلّ من ألشقيقتين تبذل له من أصلح ما
عندها. فمرتا –وهي الكبرى- هبّت تتم لتجهيز الغرفة، وإحضار الحليب والعسل والتمر،
وطهي السمك. وأمّا الصغرى، مريم، – وما أدق ماوفّق إليه البشير لوقا من إبراز وجه
التباين بين المزاجين! – فقد جلست عند أقدام المعلّم تصغي إليه، من مجامع قلبها.
فساء ربةَّ البيت – وهي في غمرة بذلها- ما بدا لها، من أختها، كسلاً وتهاوناً.
فقالت ليسوع: ” يا سيدي، أما تبالي أن أختي قد تركتني أخدم وحدي! فقل لها إذن
لتساعدني! “. كم من الناس ينهمكون هكذا في شؤون الأرض، ويذَرون الله
يتكلّم!.. فأجاب يسوع: ” مرثا، مرثا! إنك مهتمة ومضطربة في أمور كثيرة. وإنما
الحاجة إلى قليل، بل إلى واحد! فمريم قد اختارت النصيب الأصلح، ولن ينزع منها!
” (لوقا 10: 38-42). أفيكون هذا الكلام –كما قيل من بعد- تنويهاً بحياة
التأمل وما فيها من تعارض وحياة العمل؟ وإن ” الحاجة الضرورية الوحيدة
“، إنما هي ملكوت اللهً والخلاص؛ ولا نصادفهما إلاّ عند المساء. وكل ما في
العالم من اضطراب، مهما كان ضرورياً، بل مقدّساً، لا يعادل عبادة صامتة!.

 

.
هناك حادثة أخرى تروي لنا نشوء إحدى تلك الصداقات التي كان المسيح يملك سرّ
اجتذابها، بنظرة واحدة، وبكلمة واحدة. وقد جرى ذلك في أريحا أيضاً، في أواخر اذار
سنة 30، بضعة أيام، ولا ريب، قبل مطلع أسبوع الآلام. وكان يسوع قد جاء المدينة، مع
تلاميذه. منحدراً من بلاد ” بيرية “، حيث كان قد بشّر الشعوب التي لم
تكن بعد قد وقفت على أمره. وكان عائداً إلى أورشليم، حيث كان قد أنهض لعازر منذ
أمد غير بعيد. وكان شاخصاً إليها ما بين تلك الجموع المختلطة التي جاءت تقصد
المدينة المقدّسة للفصح. وذاع الخبر أنه بين الحجّاج، فاندفع الناس لمشاهدته
ومداناته. وكان هناك إنسان قد أجمع على ذلك أكثر من سواه. فهل تسرّب إلى أعماق
نفسه، مِن أقوال يسوع، ذاك القدرُ الزهيد الذي كان قد نمى إليه؟.. ولكنّ قصر قامته
حال دون مرامه، فذهب به الجمع.. واذا بفكرة حَضَرتهْ: ففي الساحات، وعلى حفافي
الطرق، ينبت الجمّيز، وهو شجر ضخم جميل، تطفو جذوره فوق سطح الأرض، في شكل أقواس
تستند إلى الجذع، وتسهّل أمرَ التسلق عليه. وثبة، وإذا به بين الأغصان! فرآه يسوع،
واكتنه معنى ذاك الجهد الذي بذله الرجل، لا لشيء إلاّ لينظر إليه. وقال له: ”
إنزل سريعاً، يا زكّا، فاليوم لا بدّ لي من أن أقيم في بيتك! “. شرف نادر
مدهش! لقد كان زكّا عشاراً، أي واحداً، ولا ريب، من أولئك الجباة الذين كانوا
يضربون الإتاوة على العطور والأطياب؛ بل كان أحد زعماء أولئك المكّاسين الذين
اعتادوا ولوج الثروة من باب الوظيفة. وليس من يجهل ما كان رأي اليهود في
العشّارين!.. ومع هذا فقد نزل المسيح في بيت أحدهم، وأكل على مائدته، ولم يرعوِ بل
راح يطيل المكوث عنده، ضارباً لمن حواليه مثلاً غاية في الطرافة، وهو مثل الوزنات
أو الأمناء؛ وقد أثنى فيه على حسن استعمال الخيرات التي يعهد بها الله إلينا، والتي
لا بدّ، يومأ، من أن نؤدّي عنها حساباً. ولفت انتباه السامعين، مرة أخرى، إلى أن
ملكوت الله لن يأثي بالصورة التي يتوقعون..

 

.
مشهد حافل بالحياة والأنس والود! ولقد وُفّق يسوع، بما تعهّد به ذاك العشّارَ من
دلائل الاحترام، أن يكتسب قلبه ويقوده إلى الله. فقال له زكا: ” يا سيدي!
هاءنذا أعطي المساكين نصف أموالي. وإن كنت قد ظلمت أحدآ في شيء، فإفي أرد أربعة
أضعاف! “. يا للاتضاع! إنه يحكم على نفسه بما يقضي به الشرع على السارق! فقال
يسوع: ” اليوم قد حصل الخلاص لهذا البيت! “. ثم خلص إلى نفس النتيجة
التي انتهى إليها في شأن متى، ذاك العشّار الآخر: ” أن ابن البشر لم يأت
ليدعو الصديقين بل الخطأة، وأنه إنما جاء ليطلب ما قد هلك، ويخلّصه ” (لوقا
19: 1- 28؛ متى 25: 14-30)

 

.
هكذا كان لغير الحقد، في تلك الحقبة مجال. وأما لفظة ” اليهود ” التي
شاع استعمالها للإشارة إلى أعداء المسيح، فلا بدّ من تمحيصها. والحق أن البشير
يوحنا هو الذي عمّم استعمالها لتأدية ذاك المعنى. ولكننا نعلم اليوم أن الانجيل
الرابع دُوّن في حقبة أيقن الميسحيوّن فيها أنهم قد انفصلوا نهائياً عن الجماعة
اليهودية، وفي زمن اصطدمت فيه البشارة المسيحيةّ مراراً بالمجمع اليهودي. وأما إذا
اعتمدنا الأناجيل المؤتلفة، فنحن لا نشعر بأن المسيح قد صادف في اليهودية عداوة
شاملة، كليةّ. فلقد أحبوّا يسوع حباً صادقاً، أولئك الرجال والنساء الذين كانوا
يواكبونه على دروب اليهودية، وأولثك الأمهات اللواتي كن يهم يأتينه بأطفالهن ليضع
يديه عليهم، وتلك المرأة المجهولة التي رفعت يومأ من الجموع صوتا، وقالت: ”
طوبى للبطن الذي حملك!”. فأن يكون هؤلاء قد تخلّفوا عن نصرته، وجزعوا من
مساندته، فذلك في جبلّة الإنسان، ولا يدعو إلى الاستغراب. بيد أنهم هم النواة التي
نبتت منها كنيسة أورشليم، تلك الجماعة المقدامة التي عرفت كيف تحفظ للمصلوب؛ في
قلب العاصمة اليهودية، ذكراً خالداً، والتي وهبت الكنيسة شهيدها الأوّل: اسطفانوس

 

.
ولقد كانوا كُثرْاَ، أولثك الأصدقاء والأنصار- وقد بلغ عددهم، من بعد قيامة
المسيح، دفعة واحدة، خمس مئة تلميذ- وقد اختار يسوع من بينهم، ومنذ مطلع مَقامه في
اليهودية، أشباه رسل من الدرجة الثانية، وأوفدهم يحملون الكلمة إلى عدد كبير من
المناطق، كما كان قد أوفد من قبلُ، تلاميذه الاثني عشر. ونعرف، من الانجيل الثالث
خصوصا (لوقا 9: 57-62؛ متى 13: 19-22)، كيف كان ينتخب معاونيه، وما كان يفرضه
عليهم. فقد جاءه يوماً أحد الكتبة- وفي ذلك ما يدلّ على تسرّب نفوذه حتى إلى
الأوساط المتوفّرة على درس الشريعة- وسأله قائلاً: ” أتبعك حيث تمضي! “.
القصد طيّب! ولكن أيدري هذا الرجل لأي أمر يتصدّ ى؟ ” إن للثعالب أوجرة، ولطيور
السماء أوكاراَ، وأما ابن البشر، فليس له موضع يسند إليه رأسه! “. ولا يذكر
الانجيليون هل كان ذاك التعريض سبباً في نكوص ذاك المتطوّع.. وطلب إليه واحد من
تلاميذه مهلة، قبل أن يهمّ بالرسالة، ليذهب ويدفن أباه. فقال له يسوع: ” دع
الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فامض وبشّر بملكوت الله ” ا. إنه لا يمكن أن
تكون العواطف البشرية شيئاَ في نظر من عقد العزم على اتّباع المسيح. ” إن
رسول المسيح لا يمكنه – على حد ما جاء في حديث طريف سوف يتذكره أوغسطينوس يوماً –
أن يهجر الحيّ لكي يحكي عن الأموات خرافات! “.. وقال له آخر: ” أتبعك،
يا سيدي، لكن ائذن لي أن أودعّ أهل بيتي! “؛ فقال له يسوع: ” من وضع يده
على المحراث ونظر إلى الوراء، فليس بأهل لملكوت الله ”

 

شريعة
قاسية، واختيار حازم! وقد قال يسوع يوما: ” إن كان أحد يأتي إليّ، ولا يبغض
أباه وأمّه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته، بل نفسه أيضاً، فلا يستطيع أن يكون لي
تلميذا “. (لوقا 14: 26-27). فلا بدّ إذن من التخليّ عن كل شئ، حتى عن المودّ
ات المشروعة! إن شريعة الحب التي جهر بها المسيح، فيها وجه رهيب؛ وليس شيء أبعد عن
الحقيقة، من أن نفرغ عليها لا أدري أي صبغة من أصباغ التفاهة.. فالمرسل الشارد في
مطاوي الأدغال الموحشة، باذلاً من ذاته في سبيل بعض المئات من السود، يعرف ما هو
الثمن الذي يقتضيه حبّ الله؟ كما يعرف ذلك أيضاً كل راهب وراهبة، وكلّهم قد
استؤصلوا من تربة المودّ ات البشرية، وراحوا يواصلون في خلوة الدير، ما يفوق
الطبيعة من أعمال الفداء.. أجل، لقد عمد المسيح. إلى التشدّ د في انتقاء أعوانه
والقيّمين على رسالته.

 

.
هكذا تمّ انتخاب طائفةٍ من التلاميذ، أوسع نطاقاً من نواة الاثني عشر رسولاً:
وبدأت تنتظم بهم هيئة الإدارة الكنسية العتيدة. وقد اختلُف في عددهم: فاعتمد البعض
رقم السبعين؛ وهو العدد المتداول في العرف اليهودي، عدد الشيوخ الذين انتخبهم موسى
له أعواناً (سفر العدد 11)، وعدد أعضاء السنهدرين. وذهب البعض الآخر – ومنهم
لاجرانج – إلى أنهم اثنان وسبعون، وذلك بالاستناد إلى أقدم المخطوطات. وقد أرسلهم
يسوع لأن الحصاد بات كثيراً، وكان لا بدّ من مضاعفة عدد العاملين. وتقدم إليهم
بمثل التعليمات التي كان قد وجهها إلى الرسل من قبل. بيد أنه لم يفوض إليهم السلطة
على إنهاض الموتى، ولم يحرم عليهم الذهاب إلى ” الأمم ” والسامريين
(لوقا 10: 1 – 12)

 

. من
هم أولئك الاثنان والسبعون؟ لم ترد أسماؤهم في الإنجيل. ولا شك أن البشير لوقا:
الذي أقام في قيصرية مع بولس مدة طويلة، قد عرف بعضاً منهم؛ بيد أنه لم يدوّن
أسماءهم. وأما اكليمنضسى الإسكندري فقد بلغه أن الذي قال له السيّد: ” دع
الموتى يدفنون موتاهم.. ” إنما هو الشماس فيلبس. وهو الذي سوف يقوم بتبشير
السامرة والشارون؛ وكان له، في أوائل الكنيسة، أربع بنات يتبّأن. وقد ذكر
يوسابيوس، من بين السبعين، برنابا معاون بولس، وسوسثينس الذي اشترك مع بولس في
مكاتبة الكورنثيين، ومتياّ الذي انتُخب خلفاَ ليهوذا. وربما كان منهم أيضاً
كليوبا، أحد تلميذي عمواس.. ولا بدّ أنهم أصابوا نجاحاً في رسالتهم بدليل أنهم
عادوا فرحين – على ما جاء في انجيل لوقا- وهم يقولون: ” إن الشياطين أنفسها
تخضع لنا! “؛ فأجابهم يسوع، ليغضّ من خيلائهم: ” لا تفرحوا بأن الأرواح
تخضع، لكم، بل افرحوا بأن أسماءكم مكتوبة في السماوات ” (لوقا 10: 17 – 20)

 

.
لقدكانت إذن هذه الفترة ” اليهودية “، مرحلة تقدّ م جديد من مراحل بذر
العالم ببذار الكلمة الإلهية، وبناء كنيسة المستقبل

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى