اللاهوت الدفاعي

آيات عسرة الفهم



آيات عسرة الفهم

آيات
عسرة الفهم

فى
رسالته الثانية يشير القديس بطرس إلى رسائل بولس الرسول ويقول إن: ” فيها
أشياء عسرة الفهم، يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقى الكتب أيضاً لهلاك
أنفسهم “. وبعدها يحذر المؤمنين من الهراطقة الذين يسيئون فهم وتفسير
الكتابات المقدسة فيقول: ” أيها الأحباء إذ قد سبقتم فعرفتم احترسوا من أن
تنقادوا بضلال الأردياء فتسقطوا من ثباتكم ” (2 بط 3: 16، 17). إذن فهناك
آيات عسرة الفهم فى الكتاب المقدس لا سيما فى العهد الجديد.. وإذا كان بطرس وهو
معاصر لبولس الرسول قال عن رسائله، فكم وكم يكون الأمر بالنسبة لإنسان أواخر القرن
العشرين. على أنه من المفيد قبل أن نعرض لبعض الآيات التى تتعرض للاهوت السيد
المسيح، أن نسجل مبدأين أساسيين ركز عليهما البابا أثناسيوس الرسولى واعتمد عليهما
آباء الكنيسة ممن أتوا بعده..

 

المبدأ
الأول:

التمييز
بين لاهوت السيد المسيح وناسوته. وهو تمييز يعنى بشكل أساسى أن وجود الناسوت
متحداً باللاهوت فى ابن الله الكلمة، يتطلب دون شك أن تصف الأسفار المقدسة هذا
الناسوت، وان تبرز عمله. والخطأ الذى وقع فيه الاريوسيون ومنكرو لاهوت المسيح من
الهراطقة أنهم لم يميزوا بين لاهوت الابن ووجوده الأزلى ثم مجيئه إلى العالم
متجسداً. الأمر الذى يتطلب أن تتغير الأفعال والأوصاف كى تتناسب مع التجسد.

 

المبدأ
الثانى:

كان
اتحاد اللاهوت بالناسوت فى شخص السيد المسيح نوعاً من تحديد صفات بشرية إلهية
للمسيح الواحد. وكان من المحتم أن تظهر هذه الصفات فى مناسبات وتختفى فى مناسبات
أخرى حسب طبيعة الموقف. ففى التجلى ظهر كل شئ من مجد اللاهوت دون أن يختفى
الناسوت. لكن فى جثسمانى ظهرت حقيقة المسيح الإنسانية دون أن يختفى اللاهوت
تماماً. وطبعاً هذه المناسبات هى مناسبات خلاص الإنسان واعلان رحمة الله ومحبته.
وخطأ منكرى لاهوت المسيح أنهم لم يفهموا مقاصد التجسد وأنه لخلاص الإنسان واعادته
إلى الشركة مع الله. والآن نعرض لبعض الآيات العسرة الفهم..

 

اولاً:
يقول لوقا الإنجيلى:


وأما يسوع فكان يتقدم (ينمو) فى الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس ”
(لو 2: 52 – انظر لو 2: 40).

 

السيد
المسيح من حيث هو الاقنوم الثانى فى الثالوث القدوس، وكلمة الله الأزلى وحكمته..
لم يكن يكتسب شيئاً من الحكمة بالتعليم من مصدر خارج عن ذاته، لأنه لم يكن بحاجة
إلى ذلك، فهو ” الذى صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء ً ” (1
كو1: 30).. والمسيح كما يقول بولس الرسول هو ” قوة الله وحكمة الله ” (1
كو1: 24).لكن فى هذا النص ينحصر الكلام عن مخلصنا على صفاته الناسوتية دون
اللاهوتية.. فما دام سيدنا قد اتخذ لاهوته ناسوتاً كاملاً، واتحد به اتحاداً
كاملاً بغير افتراق، فهذا الناسوت ما دام حقيقياً – وليس خيالاً كما نادى بعض الهراطقة
– فلابد أن ينمو ويكبر، ويصير لإلى قامة ملء الإنسان.. هذا من جهة – ومن جهة أخرى
فما دام سيدنا قد اتخذ لاهوته ناسوتاً كاملاً من جسد ونفس ناطقة، فالنفس الناطقة
بصفتها نفساً إنسانية تنمو هى أيضاً فى المعرفة الطبيعية كما تنمو نفس كل إنسان،
وتزداد فى المعرفة وفى الحكمة الإنسانية بنمو القوى العاقلة وبازدياد الخبرات
والمدركات الحسية التى تنتقل إلى داخل النفس عن طريق الحواس. ويجب الإشارة هنا إلى
نقطة فى غاية فى غاية الأهمية وهى أن السيد المسيح من حيث خصائص طبيعته الناسوتية
ومقومتها وتكوينها وقابليتها لسائر الاحساسات من جوع وعطش وتعب وألم.. إلخ، ولجميع
العواطف والمشاعر والانفعالات من حب وعطف وفرح وحزن وغضب.. إلخ، فإنه له المجد
اشترك فى هذا كله معنا بناسوته كاملا ً.. وإذا كنا نقول هذا من جهة الاحساسات
والعواطف، فالأمر كذلك من حيث العلم الطبيعى. فالسيد المسيح – من حيث ناسوته
الكامل – خضع لكل ما يسرى على الطبيعة الإنسانية الكاملة خضوعاً تدبيراً.. وحينما
يذكر الإنجيل المقدس أن السيد المسيح كان يتقدم فى الحكمة والقامة والنعمة
، فما ذلك
إلا لكى يبين أن نفساً بشرية تتصف بالحكمة وتقتبل النعمة مع تقدم السن والقامة
وتطور النمو الجسمانى.. أكا من جهة النعمة فإن كانت هى فضل الله مفاضاً على طبعنا
البشرى، فهى ليست كذلك فى المسيح. وأنما النعمة فى المسيح هى مجد الله ظاهراً فيه،
وفضل الله على الجنس البشرى معلناً فى شخص المسيح وما قام به لأجلنا. ويقول القديس
أثناسيوس الرسولى – أكبر من ناضل ضد الأريوسيين الذين أنكروا لاهوت المسيح – ان
هذا النص أنما يؤكد بشرية ابن الله الكلمة وناسوته.. وقد وضع أثناسيوس هذا النص مع
مثيله من نصوص أخرى تؤكد إنسانية المسيح الكاملة، مثل سؤال المسيح عن مكان دفن
لعازر ” أين وضعتموه ” (يو 11: 34) ومثل سؤاله لتلاميذه فى معجزة إشباع
الخمسة الآف من خمسة أرغفة وسمكتين ” كم رغيفاً عندكم ” (مر6: 38).. فأن
هذه الأسئلة مثل سؤال الله لآدم ” أين أنت ” (تك 3: 9)، فأنها لا تدل
على جهل الله، بل تعنى ما حدث لآدم. إن معنى هذه الآية يجب أن يبنى على أساس ما
جاء فى (يو 1: 14) ” الكلمة صار جسداً وحل بيننا ” ولأ، الكلمة تجسد،
أصبح من الضرورى ألا نظن أن الكلمة الذى هو حكمة الله (1 كو 1: 30)، يتقدم فى
الحكمة أو أن المسيح الذى أخذنا نحن جميعاً من ملئه نعمة فوق نعمة (يو 1: 16)،
يحتاج إلى النعمة..

 

إذن
الذى يتقدم وينمو هو الجسد حسب قوانين الجسد، لأن التجسد لم يقض على قوانين الحياة
الإنسانية، وأنما تركها كما هى..

 

يؤكد
القديس أثناسيوس الرسولى أن تقدم القامة فى المسيح كان يعنى تقدم اعلان الوهية
الابن. اى تناسب النمو الجسدى مع نمو الاعلان نفسه.

 

ثانياً:
يقول رب المجد يسوع المسيح:


سمعتم أنى قلت لكم أنا أذهب ثم آتى إليكم لو كنتم تحبوننى تفرحون لأنى قلت أمضى
إلى الآب لأن قلت أمضى إلى الآب. لأن أبى أعظم منى ” (يو 14: 28)

 


أبى أعظم منى “.فى زعم آريوس – الذى أنكر الوهية ابن الله – أن هذا نص صريح
على أن المسيح له المجد، أقل من الآب، وبالتالى فهو مخلوق.. والسبب فى هذه الضلالة
الشنيعة التى وقع فيها آريوس، أنه على طريقة الهراطقة – عزل جزءاً من نص الآية عن
السياق العام. وبهذا أتلف المعنى تماماً.. سيدنا المسيح له المجد كان فى هذا
الحديث يعزى تلاميذه عن مفارقته لهم بالجسد ويطيب خواطرهم ويطمئنهم بعبارات مهدئة
معزية.. فهو يقول لهم: ” سمعتم انى قلت لكم أنا اذهب ثم أتى اليكم. لو كنتم
تحبوننى لكنتم تفرحون، لأنى قلت امضى إلى الآب ” وفى مجال التعزية يطلب منهم
أن يفرحوا ولا يحزنوا إذا ما فكروا فى الفارق بين ما هو عليه على الأرض من الذل
والإهانة والألم لا سيما أحداث الصليب وما تبعها ولازمها ولحقها من آلام واحزان
واوجاع كثيرة يكشف عنها قوله: ” نفسى حزينة جداً حتى الموت ” وبين ما
سيكون عليه سيدنا بعد أن يصعد إلى السماء من مجد وكرامة.. هذا الفارق الضخم بين ما
كان عليه سيدنا من هوان وما سيصل إليه بالفعل من مجد بعد صعوده، هو نقطة العزاء،
التى ركز عليها سيدنا حديثه حتى يهدئ من روع تلاميذه الذين فزعوا لسماعهم عن خبر
مفارقته لهم وذهابه عنهم، حتى أنه قال لهم: ” لأنى قلت لكم هذا قد ملاْ الحزن
قلوبكم ” (يو 16: 6). وعلى هذا فأن قول السيد المسيح: ” ابى أعظم منى
” إنما يشير إلى الفرق فى عظمة الحال. فالابن اتخذ صورة عبد وصار فى شبه
الناس (فى 2: 7). ففيما هو ” صورة الله ” الغير منظور قد أخلى نفسه من
” صورة الرب “،

 

“صورة
الرب “، واتخذ ” صورة العبد ” ولا شك أن صورة الرب أعظم من صورة
العبد. فالآب ليس أعظم من الابن فى الجوهر، لأن الآب والابن جوهر واحد، أو فى جوهر
واحد، وواحد فى الجوهر. لكن الابن وهو على الارض لابساً صورة العبد فى شبه الناس،
كان فى حال من الكرامة والبهاء والمجد. فإذا عاد الابن إلأى السماء استرد البهاء
والمجد الذى كانا له ” قبل كون العالم “(يو17: 5

 

ثالثا:
قال السيد المسيح لتلاميذه فى حديثه عن انقضاء العالم:


أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين فى السماء، ولا
الابن الا الآب ” (مر 13: 32). يستعين منكرو لاهوت المسيح وعلى رأسهم آريوس
بهذا النص للتدليل على أن الابن ناقص فى معرفته عن الآب وبالتالى فهو مخلوق لعدم
مساواته للآب.. ونحن نجيب على ذلك بقولنا إن السيد المسيح يعلم ولا يعلم.. بحسب
لاهوته يعلم لكن بحسب ناسوته لا يعلم.. وقد سبق أن تكلمنا عن السيد المسيح وانه
اخذ طبيعة ناسوتية كاملة وجعلها واحداً مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.
فمن جهة اللاهوت فإن المسيح يعلم بكل شئ حاضراً ومستقبلاً. فلقد كشف للمرأه
السامرية ما خفى على الناس. وكان يعرف أفكار تلاميذه وما يفكر فيه الكتبة
والفريسيون. وقد أخبر بطرس تلميذه بما كان عتيداً أن يلحقه فى ضعف وانكار.. وعرف
حديث الذين يأخذون ضريبة الدرهمين مع بطرس وأمره أن يذهب إلى البحر ويلقى صنارته
والسمكة التى يصطادها اولاً سيجد فيها استاراً يدفع بها الضريبة المطلوبة.. وبعد
قيامته علم بإنكار تلميذه توما لهذه القيامة ما لم يضع اصبعه فى أثر المسامير ويضع
يده فى جنبه مكان الحربة. فكيف بعد هذا يقال أنه لا يعرف.. إنه يعلم ويعرف المعرفة
التى تقال لحكمة.. فالمدرس الذى يضع امتحان نهاية العام حينما يسأله تلاميذه عن
جزء من المقرر الدراسى وهل سيأتى عنه سؤال، يجيب ” لا أعرف ” بينما هو
يعرف لأنه واضع الأمتحان، ولكنها المعرفة التى لا تقال لحكمة. وكذلك الأمر بالنسبة
للسياسيين الذين حينما يسألون عن أمر ينفون عن أنفسهم معرفته، وما ذلك إلا لحكمة
لأنهم لا يريدون أن يبوحوا بسر معين. ثم كيف يقال إن المسيح ابن الله لا يعرف وقد
اخبر تلاميذه قبل هذه الآية مباشرة بعلامات نهاية العالم (حروب وأخبار حروب، وقيام
الأمم والممالك ضد بعضها
، حدوث الزلازل والمجاعات والاضطرابات، وما سيحل
بالمؤمنين من اضطهادات).. إنه كمن يصف طريقاً بكل دقة لآخر وهذا لا يتأتى إلا إذا
كان المتكلم يعرف الطريق جيداً.. ثم كيف لا يعرف وهو ” المذخر فيه جميع كنوز
الحكمة والعلم ” (كو2: 3) وكيف لا يعلم والأمر يتعلق بالكون الذى خلقه. فلو
كان الابن هو الخالق، فكيف لا يعلم متى ينتهى ما خلق؟! ثم كيف أن الآب وحده يعلم
ذلك اليوم وتلك الساعة، ولا يعلمها الابن وهو القائل: ” كل ما هو للآب هو لى
” (يو 16: 15)، ” كل ما هو لى فهو لك. وما هو لك فهو لى ” (يو 17:
10).. ” الآب يعرفنى وأنا أعرف الآب ” (يو10: 15) أيهما أيسر أ، يعرف
الابن الآب تلك المعرفة العيانية التى تكلمنا عنها قبلاً
، أم أن يعرف
اليوم والساعة وهو موضوع أقل من معرفة الآب المعرفة العيانية بكثير.. قال السيد
المسيح: ” لا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن اراد الابن أن يعلن له ”
(مت11: 27). ثم كيف لا يعلم المسيح الابن ذلك اليوم وتلك الساعة وهو اللوغوس العقل
الإلهى المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم (كو 2: 3). ثم كيف لا يعلم الابن اليوم
والساعة وهو الديان الذى سيدين العالم ” لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى
كل الدينونة للإبن ” (يو 5: 22) [ أنظر مت 16: 27، 25: 31- 46، مر 13: 26- 27
].. وإذا كان هو الديان الذى سيدين العالم فكيف لا يعرف ساعته؟!

 

لكن
إن كان السيد المسيح لم يرد أن يفصح عن موعد اليوم والساعة
، فذلك لكى
ما يجعل الناس مستعدين على نحو ما اخفى الله عن الإنسان موعد انتقاله من هذا
العالم.. وثمة أمر هام وهو أن المسيح بقوله: ” إلا الآب “
، فكأنه ينفى
المعرفة عن الروح القدس. وكيف لا يعرف الروح القدس اليوم والساعة وهو الذى يفحص كل
شئ حتى أعماق الله (1 كو 2: 10)!! إذن لا يمكن أن يجهل الروح القدس اليوم والساعة
وفى هذه الحالة يكون أعظم من الابن، بينما الابن يقول عن الروح القدس إنه ”
يأخذ مما لى ويخبركم ” (يو 16: 14)

 

رابعاً:
السيد المسيح له المجد فى ليلة آلامه وفى بستان جثسيمانى


خر على وجهه وكان يصلى قائلاً يا ابتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس. ولكن ليس
كما أريد أنا بل كما تريد أنت ” (مت 26: 39). فى هذه الآية تساؤلان: التساؤل
الأول، لمن كان المسيح يصلى إذا كان هو الله. والتساؤل الثانى، هل كان للسيد
المسيح إرادة أو مشيئة مغايرة لمشيئة الآب حتى انه يقول: لكن ليس كما أريد أنا بل
كما تريد أنت؟‍‍‍ واجابة عن التساؤل الأول نقول إن السيد المسيح حينما كان يصلى،
كان كإنسان، لأنه أخذ إنسانية كاملة. وللإنسانية روح وجسد، وكما يصلى الإنسان
بروحه (1 كو 14: 14)، كان السيد المسيح يصلى بروحه الإنسانية.. ولم تكن هذه هى
المرة الوحيد التى ذكر الإنجيل المقدس أن المسيح صلى، لكن ذلك ورد فى مواضع كثيرة
(لو 3: 21، 5: 16، 6: 12 –13، 9: 18 –28، 11: 1-2، مت 14: 23، مر 1: 35).. ولم يرد
فى جميع النصوص المشار إليها هنا منطوق الصلوات التى صلاها السيد المسيح، ولا نعرف
من أى نوع كانت تلك الصلوات. هل كانت صلوات تأمل أ, تمجيد أو تسبيح أ, شكر.. لكنها
على أى حال كانت تلك الصلوات ” مناجاة “.. لكن الصلاة التى صلاها المسيح
فى جثسيمانى كانت صلاة طلب. أن السيد المسيح فى جثسيمانى صلى صلاة الطلب لأنه كان
فى تدبير الفداء بديلاً عنا، أى أنه صلى كنائب عن البشرية وشفيع فيها، وفاد لها..
فيما يختص بصلواته جميعاً التى ذكرت فى الإنجيل – فيما عدا صلاته فى جثسيمانى –
فإنها كانت من قبيل المناجاة بين اقنوم الابن واقنوم الآب داخل الوحدة الثالوثية
وذلك بالنظر إلى لاهوته الكائن مع الآب فى جوهر الذات الإلهية. وذلك على مثال
الناجاة التى تدور داخل الإنسان بينه وبين نفسه فيقول مثلاً: ” أنا قلت لنفسى
أو قلت فيما بينى وبين نفسى “.. لآن الابن من حيث لاهوته ليس أقل من الآب فى
الجوهر حتى يطلب منه كما يطلب العبد من الرب.. وكدليل على الوحدة الجوهرية بين
اقنوم الابن واقنوم الآب قول المسيح لتلاميذه: ” أنا لست وحدى لأن الآب معى
” (يو 16: 32).. ” الذى رآنى فقد رأى الآب.. إنى أنا فى الآب والآب فى..
صدقونى إنى فى الآب والآب فى.. ومهما سألتم باسمى فذلك أفعله ليتمجد الآب بالابن.
إن سألتم شيئاً باسمى فإنى أفعله ” (يو14: 9-14). وقال أيضاً: ” أنا
والآب واحد ” (يو 10: 30) أى أن الابن والآب قائمان معاً فى جوهر واحد وذات إلهية
واحدة. وللتدليل على أن صلوات المسيح كانت من قبيل المناجاة بين اقنوم الابن
واقنوم الآب داخل الوحدة الثالوثية، نذكر ما قاله المسيح وهو ينادى الآب على مسمع
من تلاميذه ومن الجماهير المحيطة به ” أيها الآب قد أتت الساعة، مجد ابنك
ليمجدك ابنك ايضاً ” (يو 17: 1) ” أيها الآب مجد اسمك. فجاء صوت من
السماء، مجدت وأمجد أيضاً. فالجمع الذى كان واقفاً وسمع قال قد حدث رعد، وآخرون
قالوا قد كلمه ملاك. أجاب يسوع وقال ليس من أجلى صار هذا الصوت بل من أجلكم ”
(يو12: 28- 30) وثمة نقطة أخرى تتصل بموضوع صلاة المسيح.. لقد آتى المسيح كآدم ثان
ليصبح رأساً للخليقة الجديدة.. يقول بولس الرسول: ” صار آدم الإنسان الأول
نفساً حية، وآدم الأخير روحاً محيياً.. الآنسان الأول من الأرض ترابى، الإنسان
الثانى الرب من السماء ”

 

(1
كو 15: 45- 47).. وإذا كان آدم الأول بزلته دخلت الخطية إلى العالم وحملت معها
الموت
، فإن آدم
الثانى ربنا يسوع المسيح أتى لخلاص الإنسان وليرده إلأى رتبته الأولى. وعلى ذلك
فإن السيد المسيح بالإضافة إلى ذلك قدم للبشرية مثلاً للإنسان الكامل، وهو الذى
دعانا لحياة الكمال الإنسانى، وهكذا يقول القديس بطرس: ” فإن المسيح أيضاً
تألم لأجلنا تاركاً لنا مثالاً لكى تتبعوا خطواته ” (1 بط 2: 21).. فالسيد
المسيح علم بشخصه وليس بكلامه كما فعل كل المعلمين الذين سبقوه.. ومن ضمن ما أراد
السيد المسيح أن يعلمه للبشرية، الصلاة. لذا فكثيراً ما نقرأ عنه انه كان يصلى..
نأتى إلى التساؤل الثانى فى هذه الآية: هل كان للسيد المسيح إرادة أو مشيئة مغايرة
لإرادة أو مشيئة الآب.. ورداً على ذلك نقول: إن كان يبدو من هذه الآية أن هناك
مشيئتين، مشيئة للمسيح له المجد ومشيئة للآب، لكن الحق أن للمسيح مشيئة واحدة، وهى
عينها مشيئة الآب.. لكن كان لابد أن يظهر فى عمل الفداءكمال ناسوت المسيح، وإنه لم
يأخذ جسداً خيالياً كما زعم بعض الهراطقة، لكن كلمة الله اتخذ له جسداً حقيقياً ذا
نفس عاقلة ناطقة. كان من الطبيعى للناسوت الحقيقى فى المسيح أمام هول الآلام، أن
يرفض هذه الآلام.. إن صلاة المسيح فى بستان جثسيمانى تعبر عن شدة آلامه الحقيقية،
وكأنه يتمنى أن تعبر عنه كأس الألم أ, كأس الصليب. لكنه فى نفس الوقت هو يشاء أن
يصلب من أجل خلاص البشر ويموت بديلاً عنهم، الآب نجنى من هذه الساعة. ولكن لأجل
هذا اتيت إلى هذه الساعة ” (يو 12: 27). وقال عن موته: ” ليس أحد يأخذها
منى بل اضعها أنا من ذاتى. لى سلطان أن يضعها ولى سلطان أن يأخذها أيضاً ”
(يو 10: 18) ويتكلم بولس الرسول عن سروره بالصليب فيقول: ” الذى من أجل
السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزى ” (عب 12: 2) فليس هناك
فى الواقع مشيئة للمسيح تتعارض مع مشيئة الآب، لكنه تعبير عن الآلام وانها حقيقة
لدرجة أن الناسوت لو كان خلواً من اللاهوت لكان يتمنى أن تعبر عنه كأس الصليب.
ولكن ومع ذلك فالناسوت أيضاً يحتمل الألم برغبته فى سبيل الرغبة الأسمى وهى خلاص
البشر. وهى فى نفس الوقت رغبة اللاهوت والناسوت معاً، وليس بين الأثنين فى الواقع
أى تعارض لأن الناسوت ناسوت الكلمة متحداً به بغير افتراق أو انفصال.

 

خامساً:
قال السيد المسيح:


وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك، ويسوع المسيح الذى
أرسلته ” (يو 17: 3) الإله الحقيقى هنا هو الإله الذى يعرفه اليهود لأنه أصل
الوجود وأب البشر، وأما يسوع المسيح فهو الاقنوم الثانى متجسداً والابن والآب هما
جوهر واحد ولاهوت واحد، وهما مع الروح القدس ذات إلهية واحدة. ولا فارق بين
الأقانيم إلا من حيث الاختصاص. والابن هو الذى تجسد، وإن كان الآب والروح القدس قد
اشتركا معه فى عمل التجسد لأنهما معه فى الذات الإلهية الواحدة
، وإن كان
عمل التجسد مختصاً بالابن الكلمة. ولا يظهر مطلقاً من نص هذه الآية أن الآب وحده
هو الإله الحقيقى، لأن نفس التسمية استخدمت فى موضع آخر للابن.يقول يوحنا الرسول:
” ونعلم أن ابن الله قد جاء واعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن فى الحق فى ابنه
يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية ” (1 يو 5: 20). ويقول
الرسول بولس عن المسيح الابن: ” منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله
العظيم ومخلصنا يسوع المسيح ” (تى 2: 13).. وواضح أن الله العظيم هنا هو
المسيح له المجد، لأنه هو الذى سيأتى فى مجده وليس الآب. إن مساواة المسيح لله
تعنى انه الله.. يقول بولس الرسول عن المسيح إنه لم يحسب مساواته لله اختلاساً
” لم يحسب خلسة أ، يكون معادلاً لله ” (فى 2: 6).. وإذا كان الابن
مساوياً للآب فكيف نصف الآب بأنه الإله الحقيقى، ولا نعطى نفس التسمية للابن
أيضاً؟‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍يقول أثناسيوس الرسولى: [ إذا دعى الآب الإله الحقيقى فهذا لا
يعنى إنكار الابن الذى قال ” أنا الحق “. وأنما عبارة الإله الحقيقى هى
ضد الآلهة الكاذبة التى لا شبه بينها وبين الآب والكلمة. ولذلك السبب اضاف الرب
نفسه على الفور ” ويسوع المسيح الذى أرسلته “. ولو كان الابن مخلوقاً ما
كان قد أضاف هذه العبارة، لأنه أى شركة بين الحقيقى (الله) وغير الحقيقى
(المخلوق). ولكن لأنه بعد الآب مباشرة فقد أعلن بذلك أنه من ذات طبيعة الآب ](مقال
3: 9) نأتى الى عبارة ” ويسوع المسيح الذى أرسلته “.. الإرسال هنا ليس
معناه الإنفصال، أو أن الابن رسول شأن بقية الرسل، وإنما الإرسال هنا باطنى داخل
الوحدة الثالوثية. والإشارة إلى فعل التجسد الذى تم بتدبير الثالوث القدوس..
ونظراً لأن الكلمة أصبح له كيان جسدى ظاهر أمام الناس فى ذلك الزمان
، ولابد أن
تفسر العلاقة بين الآب الذى يعرفه اليهود وبين الكلمة المتجسد
، فكان لابد
من استخدام هذا التعبير.. هذا فضلاً عن أن المسيح دعى رسولاً لأنه صاحب رسالة أتى
من السماء ليبلغها ويتممها.

 

سادساً:
” لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً ” (يو 5: 19)..

طبعاً
هذه العبارة مجردة عما سبقها وما لحقها تصدم الإنسان. وتلفقها الهراطقة الذين
يقتطعون جزءاً من الآية لكى يدعموا به مكرهم الفاسد.. لكن لو عدنا إلى النص كاملاً
لوجدناه كالآتى: بعد أن أبرأ السيد المسيح مريض بيت حسدا حنق اليهود عليه لأنه فعل
تلك المعجزة فى يوم سبت. فقال لهم يسوع ” أبى يعمل حتى الأن وأ،ا أعمل. فمن
أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه، لأنه لم ينقض السبت فقط بل قال أيضاً
إن الله أبوه معادلاً نفسه بالله. فأجاب يسوع وقال لهم الحق الحق أقول لكم لا يقدر
الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل. لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله
الابن كذلك.. لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيى، كذلك الابن أيضاً يحيى من يشاء
” (يو 5: 17- 21).. يتصور الهراطقة تصوراً عقيماً بخصوص هذه العبارة، لكنها
على العكس تذل على المساواة التامة بين الابن والآب
، وانهما
جوهر واحد ” لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك ” وطبعاً هذا
الكلام موجهاً لليهود الذين ظنوا الابن (المسيح) إلهاً آخر غير الآب الذى عرفوه فى
العهد القديم باسم يهوه.

 

سابعاً:
قال الرب يسوع:


كما أرسلنى الآب وأنا حى بالآب فمن يأكلنى فهو يحيا بى ” (يو 6: 57).. فهم
الهراطقة الذين أنكروا الوهية المسيح من قوله ” وأنا حى بالآب ” أن
الابن يحيا معتمداً على غيره، وهذا يعنى بشكل أساسى أن الابن أقل من الآب؟ هذا
الفهم الخاطئ يتجاهل عقيدة الثالوث.. لقد أكد الآباء أن الابن هو الحياة ”
أ،ا هو القيامة والحياة ” (يو 11: 25)، وانه ” يحيى من يشاء ” (يو 5:
21).. ولذلك لا يمكن فهم هذه العبارة على أنها خاصة باقنوم الابن وهو فى الأزل،
وانما باقنوم الابن وهو فى الجسد بمعنى انه حى ومتجسد حسب ارادة الآب، وإنه سوف
يعطى حياته فى الافخارستيا.. خصوصاً وأن هذه العبارة تأتى فى خاتمة كلام الرب يسوع
عن الافخارستيا، ولذا قال كتكملة: ” فمن يأكلنى فهو يحيا بى “.. فالكلام
هنا عن الافخارستيا، لكى يحيا الذين يأكلون جسده، وهؤلاء سوف يصبحون احياء بالآب
كأبناء الله. هذا وقوله: ” أنا حى بالآب ” إنما يشير الى الوحدة القائمة
فى الثالوث القدوس بين الآب والابن والروح القدس.

 

ثامناً:
قال السيد المسيح:


أنا الكرمة الحقيقية وأبى الكرام ” (يو 15: 1). الكرمة تعبير هام من العهد
القديم يشير الى شعب الله
، وفى العهد الجديد يشير الى الكنيسة..
وهذا واضح من عبارة ” أنا الكرمة وأنتم الأغصان ” (يو 15: 5). لكن منكرى
لاهوت المسيح وعلى رأسهم الاريوسيون فهموا هذا النص على أنه مقارنة بين الكرمة
(الابن) والكرام (الآب).. والمقارنة تؤدى فى النهاية إلى اعتبار الكرمة نبات
والكرام إنسان أى أنهما من جوهر مختلف.. ويقول القديسان باسيليوس الكبير وكيرلس
الاسكندرى أن الابن هو الكرمة ونحن الاغصان. ليس لأننا فروع اللاهوت، بل نحن كذلك
بسبب التجسد كما قال الرسول: ” أنتم جسد المسيح واعضاؤه أفراداً ” (1 كو
12: 27). فالكلام هنا عن الوحدة التى بين المسيح والكنيسة. يقول الرسول بولس:
” رأس كل رجل هو المسيح.. ورأس المسيح هو الله ” (1 كو 11: 3) ويقول
باسيليوس الكبير ان الإنسان ليس من ذات جوهر الابن (المسيح) أى ليس إلهاً ولكن
المسيح من ذات جوهر الآب ولذا قيل إن الله رأس المسيح، ليس بنفس المعنى الذى قيل
إن المسيح هو رأس كل رجل.. وطالما يوجد فرق بين المسيح والإنسان فهذا لا يعنى حتما
انه يوجد فرق بين الابن والآب، ولذلك فإن استخدام كلمة كرمة للابن وكرام للآب لا
يعنى مطلقاً مقارنة فى الجوهر.. الله رأس المسيح كآب، والمسيح رأس الرجل كخالق.

 

تاسعاً:
قال السيد المسيح:


لكن إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله
” (مت 12: 28) يبدو أن منكرى لاهوت المسيح فهموا أن السيد المسيح لا قدرة له
بدون الروح القدس على أخراج الشياطين. لكن هذا خطأ فى الفهم. والمعنى الذى قصد
اليه السيد المسيح له المجد انه يؤكد سلطانه على اخراج الأرواح الشريرة. وفى نفس
الوقت أراد أن يؤكد لليهود أنه على الرغم من ذلك ليس هو الها آخراً غير الإله الذى
هم يعرفونه ويعبدونه.. لذا كان لابد أن السيد المسيح يبين تضامن الاقانيم الثلاثة
معاً، لأنها قائمة معاً
، وكائنة معاً فى جوهر واحد.. ونلاحظ أن
هذا النص المقدس يشير إشارة واضحة إلى الاقانيم الثلاثة. فالابن هو المتكلم
، والروح
القدس هو المشار اليه بروح الله
، والآب هو المشار اليه بالله. إن هذا
التعبير يدل على أن عمل اخراج الشياطين
، وان كانت بسلطان
المسيح – وهو الابن الظاهر فى الجسد – لكنه بغير انفصال عن الآب والروح القدس.

 

عاشراً:


وإذا واحد تقدم وقال له أيها المعلم الصالح أى صلاح اعمل لتكون لى الحياة الأبدية
فقال له لماذا تدعونى صالحاً. ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله ” (مت 19:
16-17، لو 18: 19). السيد المسيح عندما نطق بهذا القول أراد أن يستشير إيمان ذلك
الشاب الغنى فى شخصه المبارك باعتباره الإله المتجسد. حيث أن الله فى حقيقته
وجوهره غير منظور، ولكنه أصبح منظوراً منذ التجسد الإلهى.. إن الشاب الغنى بدأ
حديثه مع السيد المسيح بقوله ” أيها المعلم الصالح “. وهو يريد أن
يستدرج الشاب إلى الايمان الحقيقى بشخصه المبارك. فقال له: ” لماذا تدعونى
صالحاً. ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله “.. وكأنه يقول له: هل كان تلقيبك
لى بانى معلم صالح نوع من المديح. ام كان قولك يعبر عن عقيدة كامنة فى نفسك.. فإذا
كان قولك نوعاً من المديح فهو قول خاطئ لأن الصلاح الكامل صفة ينفرد بها الله
وحده. وإذا كان قولك عن عقيدة بأننى صالح فهو اقرار منك بأننى هو هذا الواحد
الصالح، أو بعبارة أخرى اننى هو الله يتصف وحده بالصلاح وعلى أية الحالات فالقول
كله فى تعبير سيدنا يسوع المسيح إنما هو إشارة من كثير من إشارته المقدسة التى
أشار بها إلى لاهوته.

 

حادى
عشر: قال السيد المسيح فى مناجاته الوداعية مع الآب:


والآن مجدنى انت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذى كان لى عندك قبل كون العالم
” (يو 17: 5). يقول منكرو لاهوت المسيح إن الابن طلب من الآب أن يمجده. ومعنى
ذلك أنه طلب ما ليس له وجود عنده.. لكن هؤلاء نسوا قول يوحنا فى إنجيله ”
والكلمة صار (اتخذ) جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوء
نعمة وحقاً ” (يو 1: 14).. فكيف يكون هذا الكلام حقيقياً إذا كان بلا مجد؟!..
ويقول بولس الرسول: ” لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد ” (1 كو 2: 8)..
وهكذا نرى أن الابن لا يطلب مجداً لم يكن له
، أو إضافة
مجد له. بل المقصود من كلمات المخلص هو الإعلان عن مجد تدبير الخلاص. ولقد طلب
الابن المجد الذى كان له قبل كون العالم.. وهذا لا يعنى أنه فقد المجد بالتجسد لأن
هذا يعنى أنه فقد لاهوته وهذا مستحيل. فالمجد لا ينفصل عن اللاهوت. وإنما ما طلبه
الابن هو أن يمجده الآب لكى ترى البشرية أن الذى تجسد هو هو الذى له ذات مجد
الآب..

 

ثانى
عشر: ” ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إيلى إيلى لما شبقتنى
أى إلهى إلأهى لماذا تركتنى (تخليت عنى) ”

 

(مت
27: 46). عبارة: ” الهى الهى لماذا تركتنى ” هى مطلع المزمور الثانى
والعشرين لداود
، وفيه يصف
بروح النبوة بالتفصيل أحداث الصليب: ثقب يديه ورجليه
، اقتراعهم
على ثيابه وغير ذلك من الأمور التى تجعل الإنسان يحس وكأن النبى كان حاضراً بنفسه
أحداث الصليب.. إن هذه العبارة تثير صعوبتين: الصعوبة الأولى، كيف يكلم المسيح
الله ويناديه بقوله الهى الهى.. والصعوبة الثانية هى صعوبة الترك. فهل ترك اللاهوت
الناسوت؟!! وهذا التعبير يستند إليه القائلين بطبيعتين فى المسيح. أما عن الصعوبة
الأولى فلها إجابتان: أولاً: إن المسيح بهذه العبارة يذكر اليهود بالمزمور الثانى
والعشرين وفيه كل أحداث الصليب.و كأنه يقول لهم ارجعوا إلى هذا المزمور فتجدوا كل
شئ عن صلبى لأنه من الواضح أن داود لم تثقب يداه ورجلاه وغير ذلك مما جاء فى
المزمور. ثانياً: إن المسيح له المجد وإن كان هو الله ظاهراً فى الجسد. لكنه يمكنه
أن يخاطب لاهوت الآب أو اللاهوت المتحد به بقوله إلهى. وهو نفسه قال لمريم
المجدلية بعد قيامته ” لا تلمسينى لأنى لم أصعد بعد إلى أبى. ولكن إذهبى الى
اخوتى وقولى لهم انى أصعد إلى أبى وابيكم وإلهى وإلهكم ” (يو 20: 17). ولو
كان المسيح مجرد إنسان لقال لها: ” أصعد إلى أبينا وإلهنا “. ولكن قوله
أبى وأبيكم وإلهى وإلهكم يظهر بوضوح أن صلته بأبيه غير بقية البشر وكذلك إلهى
وإلهكم!! لا مانع من القول إن اللاهوت هو إله الناسوت
، وإن كان
متحداً به.. فالمسيح من حيث هو إنسان يمكنه أن يخاطب اللاهوت – سواء لاهوت الآب
الذى هو لاهوت الابن الذى هو لاهوت الروح القدس – وهو اللاهوت الحال به والمتحد به
بقوله إلهى.. لان سيدنا المسيح اتخذ له ناسوتاً كاملاً من جسد ونفس ناطقة وناسوت
المسيح ناسوت مخلوق وخالقه هو اللاهوت المتحد به الذى يملاْ السماء والأرض.. فإذا
خاطب الناسوت اللاهوت يخاطبه إلهى. ولا صعوبة فى ذلك لأن الناسوت كامل وله كل
الصفات الناسوتية. والاتحاد بين اللاهوت والناسوت لم يبطل صفات الناسوت أو يعطلها.
أما الصعوبة الثانية فنقول فيها إن الترك المشار إليه فى النص ليس تركاً جوهرياً
وإنما هو ترك أدبى. والآم الصليب وقعت على الناسوت طبيعياً
، وفى نفس
الوقت وقعت على اللاهوت أدبياً.. ومعنى العبارة: لماذا تركتنى للألم بينما هو لم
يتركه تماماً مثلما يقول طفل يحمله أبوه أ/ام طبيب يجرى له جراحة بسيطة. فيصرخ
الطفل ويقول: يا بابا ليه سايبنى؟ إن الأب لم يتركه بل هو ممسك به ويحتضنه، لكن
المعنى أنه تركه للألم.. وعلى أية الحالات فإن هذه العبارة تعنى أ، الآلام التى
احتملها المسيح على الصليب كاتنت آلاماً حقيقية وشديدة، وليس كما ادعى بعض
الهراطقة أن ناسوته كان خيالياً. وان هذا الناسوت بعد اتحاده باللاهوت لازال
ناسوتاً كاملاً محتفظاً بكل صفاته. ولو كان اللاهوت ترك الناسوت فى تلك اللحظة أو
فارقه مفارقة جوهرية لكان معنى ذلك أن الفداء لم يتم
، وأن الصلب
كان صلباً واقعاً على الناسوت وحده. ومن ثم يكون للصليب قيمة ” كفارية ”
أبدية كالتى صارت له بالفعل. ولو ترك اللاهوت الناسوت لكان معنى ذلك الذى صلب من
أجل البشر إنسان. وكيف يقول الكتاب المقدس عن دم المسيح انه أزلى (عب 9: 14)
، وانه دم
الله كما يقول بولس الرسول لقسوس أفسس أن يهتموا برعاية كنيسة الله التى اقتناها
بدمه (أع 30: 28) فإذا كان الدم الذى سال على الصليب يوصف بأنه دم الله فكيف يجوز
قول ذلك ما لم يكن اللاهوت متحداً بالناسوت وقت الصلب أيضاً!!

 

ثالث
عشر: ” ثم ان الرب بعدما كلمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله ”
(مر 16: 19)..

ليس
لله جسم
، كم أنه غير
محدود حتى تكون له يمين أو شمال. وقد وردت فى الكتب المقدسة أمثال لهذه التشبيهات
المجازية. ونذكر على سبيل المثال نصاً واحداً وارد فى(إش 59: 1) ” ها ان يدى
الرب لم تقصر عن أن تخلص. ولم تثقل أذنه عن أن يسمع، بل آثامكم سترت وجهه “..
هنا نقرأ ذكر يد الله واذنه ووجهه فى نص واحد. وقول الكتاب المقدس عن السيد المسيح
انه جلس عن يمين الآب لا يفهم على معناه الظاهر طالما أن الله روح وغير محدود
،بل انه يشير
إلى موضع الكرامة والمجد. ومن الأمثلة على ذلك ما قاله المسيح عن نفسه شخصياً فى
مجيئه الثانى للدينونة: ” متى جاء ابن الإنسان فى مجده وجميع الملائكة
القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسى مجده ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميز بعضهم من
بعض كما يميز الراعى الخراف من الجداء. فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن
اليسار..” (مت 25: 31- 33).. وأما جلوس الابن الاقنوم الثانى عن يمين الآب
الاقنوم الأول فإنما يشير إلى المساواة فى الربوبية والسلطان والمجد وسائر
الكمالات الإلهية..

 

رابع
عشر: يقول سليمان الحكيم بروح النبوة عن المسيح:


الرب قنانى (اقتنانى) أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم. منذ الأزل مسحت
، منذ البدء
منذ اوائل الأرض. إذ لم يكن غمر ابدئت. إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البرارى
ولا أول اعفار المسكونة. لما ثبت السموات كنت هناك أنا. لما رسم دائرة على وجه
الغمر. لما أثبت السحب من فوق لما تشددت ينابيع الغمر. لما وضع للبحر حده فلا
تتعدى المياه تخمه لما رسم أسس الأرض
، كنت عنده صانعاً
” (أم 8: 22- 30). استعان آريوس بهذا النص الذى رأى فيه إشارة إلى ربنا يسوع
المسيح
، ورأى فيه
ما يدل على خلقة الابن.. لكن الكلام السابق فى هذا الاصحاح يدحض زعم آريوس.
الاصحاح يتكلم عن الحكمة والمقصود الحكمة الازلية.. الرب اقتنى الحكمة الأزلية لا
بمعنى انه خلقها
، ولكن بمعنى أنها كانت منذ الازل ولا تزال قائمة
وكائنة عنده.. وهذا التعبير لا يختلف كثيراً عن تعبير يوحنا فى فاتحة انجيله:
” فى البدء كان الكلمة
، والكلمة كانت عند الله “.. والبدء
الذى يشير إليه سفر الامثال هو بعينه البدء الذى يشير إليه انجيل يوحنا والمقصود
هو الأزل. وليس أدل على ذلك من انه بعد ذلك مباشرة يقول الحكيم: ” منذ الأزل
مسحت ” قبل أن كانت الأرض. والأول المذكر هنا هو الأزل. والأزل ما لا بداية
له فى الزمان. ولا يتصف بالأزلية إلا الله فهو وحده الأزلى. فإذا كانت الحكمة التى
يتكلم سفر الأمثال عنها يشار إليها على أنها كائنة عند الله منذ الأزل. فمعنى ذلك
أن الابن قائم وكائن مع الآب منذ الأزل وإلى الأبد. يقول منكرو لاهوت المسيح إنه
ما دام الرب يقول: الرب اقتنانى أول طريقه فمعنى ذلك أن المسيح لم يكن أزلياً لأنه
قال ” اقتنانى “.. لكن كلمة اقتنانى لا تعنى بالضرورة أن هذا الاقتناء
كان حديثاً
، أو كان
هناك فارق زمنى بين الله وحكمته.. إن كلمة ” اقتنانى ” لا تعنى ”
اوجدنى “. لكن اقتنى بمعنى حاز. حتى انها فى الترجمة الكاثوليكية ” الرب
حازنى “. فكلمة اقتنى إذن تعنى حاز أو ملك أو احرز
، وهى
الترجمة الحرفية للكلمة بالغة العبرية. هذا اللفظ استخدمته حواء عندما ولدت قايين
فقالت: ” قد اقتنيت رجلاً من عند الرب ” (تك 4: 1) وطبعاً واضح أن هذه
العبارة لا تعنى أن حواء خلقت قايين
، ولكن بمعنى أنه صار
إبنها أى أحرزته وصار ولدها وليس غريباً عنها. وعندما يقول الرب اقتنتنى أول طريقه
، فالمعنى أن
الحكمة تقول إن الرب احرزنى من الأول، منذ الوقت الذى كان فيه الله نفسه إلهاً
اقتنانى من الأول منذ البدء بدون فارق زمنى. وهذا حق لأننا لا نستطيع أن نتصور
الله الكلى الحكمة كان فى لحظة من الزمان خالياً من الحكمة!! إن هذه العبارة لا
تزعجنا ولا تشككنا فى أزلية المسيح الإبن لأن القرينة تدل على أ،ه منذ الأزل
والمعنى أن الله حكيم منذ الأزل.. ولتوكيد هذا المعنى يقول: ” قبل أعماله منذ
القدم “
، أى قبل
الخليقة لأن الخليقة خلقت بالحكمة، أى أ، الحكمة قائمة مع الله قبل الخليقة.
” منذ الأزل مسحت “.. والمسحة تعنى التعيين. والمسيح معناه (المعين
لمهمة معينة). وحينما كان الملك أو النبى أو الكاهن يمسح أى أنه عين من الله لكى
يؤدى وظيفته.. والحكمة هنا تقول: ” مسحت أى مسحت من الله أى عينت، لا بمعنى
أن أحداً عينها ولكن بمعنى أن عمل الفداء، عمل الخلاص وعمل الخلق هو من اختصاص
الاقنوم الثانى. وليس هناك غرابة فى اختلاف الاختصاصات فى الأقانيم. فالإنسان
مثلاً يفكر ويتأمل بالعقل، لكنه يعطف ويحب ويتحنن أو يكره بالقلب. والإنسان هو هو
بعينه لا ينقسم. لكن للعقل تخصص التفكير والمعرفة والعلم والقلب له تخصص التفكير
والمعرفة والعلم والقلب له تخصص العاطفة والحب والحنو وارحمة والكراهية.. الخ. لكن
اقنوم تخصص من دون انقسام فى الذات الإلهية.

 

خامس
عشر: قال بطرس الرسول فى عظته يوم الخمسين:

فليعلم
يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذى صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً
” (أع 2: 36). الضلاله التى وقع فيها منكرو لاهوت المسيح وعلى رأسهم آريوس
، أنهم فهموا
من هذا النص أن يسوع المسيح مخلصنا لم يكن رباً ومسيحاً من قبل، وأن الله هو الذى
جعله رباً ومسيحاً.. خطب بطرس فى آلاف اليهود الذين تجمعوا حول علية صهيون فى يوم
الخمسين عقب ما صاحب حلول الروح القدس على التلاميذ من ظواهر كصوت هبوب ريح عاصفة.
وكان قصد بطرس من بعض فقرات خطابه أن يخجل اليهود مبيناً لهم مدى الجريمة التى
ارتكبوها فى انكارهم للمسيح المخلص وثورتهم عليه ثم صلبه وقتله.. فيسوع هذا الذى
يعرفونه أنه صلب ومات وقبر هو الذى يكرز به بطرس وبقية الرسل. لقد قام من بين
الاموات وصعد إلى السموات وأرسل الروح القدس المعزى كما وعد. وعلى هذا فإن يسوع
هذا لم تنته قصته بما فعله به اليهود، وإنما المصلوب هو عينه المبشر به انه قام من
بين الاموات وأنه هو الذى أرسل الروح القدس على أعضاء الكنيسة الأولى من الرسل
والتلاميذ، وجعلهم قادرين على أن يتكلموا بلغات متنوعة بصورة معجزية اذهلت
الجماهير. فيسوع المسيح الذى عرفوه ليس ضعيفاً وإنما قوى وعظيم. إنه كذلك من حيث
لاهوته، وإن كان قد ظهر فى صورة الضعف من حيث ناسوته، لكنه ينبغى أن لا يبقى فى
اذهانهم فى صورة الضعف التى يعرفونها عنه، وإنما فى الصورة المجيدة التى ظهرت
بقيامته وصعوده إلى السموات وأرساله الروح القدس المعزى
، وصنعه
الآيات والعجائب على أيدى الرسل.. وعبارة ” الله جعل يسوع هذا ” لا تفيد
أن يسوع المسيح له المجد قد تغير فى ذاته، وإنما هو شرح لليهود حتى ما تتغير الصورة
فى أذهانهم.. وكالنت نتيجة هذا الكلام أنهم آمنوا..

 

سادس
عشر: قال بطرس الرسول عن السيد المسيح:

“الذى
هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة ” (كو 1: 15).. استعان منكرو لاهوت
المسيح بالجزء الأخير من هذه الآية ” بكر كل خليقة ” لتأييد رأيهم
الخاطئ أن الابن مخلوق.. لكن واضح من النص أن القصد هو التأكيد على علاقة الابن
بالآب، أو بين الله غير المنظور وبين الله وقد صار منظوراً.. وهذا ما يؤكده إنجيل
يوحنا ” الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذى حضن الآب هو خبر “. أما
أن الابن هو بكر كل خليقة
، فالمعنى ان الابن هو رأس الخليقة وسيدها
ومبدئها
، لأن الابن
خالق كل الأشياء لأن به كان كل شئ وبغيره لم يكن شئ مما كان. ولأن به عمل
العالمين. وكلمة البكر تفيد الأول.. وقد استخدم هذا التعبير أكثر من مرة بمعنى
الأول على الاطلاق وقد استخدم للمسيح فى شرح قيامته هو بكر الراقدين أو باكورة
الراقدين (1 كو 15: 20) والبكر من اتلاموات (رؤ 1: 5). كما وصف بأنه البكر بين
اخوة كثيريين (رو 8: 29).. وواضح أن البكر هنا تفيد الأول.. والأولية هنا هى أولية
كرامة لا أولية زمنية.. فالمسيح بكر كل خليقة بمعنى أول كل خليقة
، أى الأول
الذى انشأ الخلق.. اضف إلى هذا أن القديس أثناسيوس الرسولى يستخدم كلمة ” بكر
كل خليقة ” بمعنى أن الابن هو رأس أو بداية الخليقة الجديدة ” إن كان
أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة.. لنصير نحن بر الله فيه ” (2 كو 5: 17- 21).

 

سابع
عشر: يتكلم بولس الرسول فى العبرانيين عن السيد المسيح انه:


بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس فى يمين العظمة فى الأعالى
، صائراً
أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث إسماً افضل منهم ” (عب 1: 3- 4). هذا النص
مرتبط بفقرة طويلة سبقته يتكلم فيها الرسول بولس عن مقام السيد المسيح اللاهوتى
ومكانته وصفاته التى لا يمكن أن يتصف بها غير الله وحده.. ” الله بعدما كلم
الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة
، كلمنا فى
هذه الأيام الأخيرة فى ابنه الذى جعله وارثاً لكل شئ
، الذى به
أيضاً عمل العالمين. ” الذى وهو بهاء مجده ورسم جوهره
، وحامل كل
الأشياء بكلمة قدرته “. ومع ذلك فقط اقتطع الهراطقة من منكرى لاهوت المسيح
عبارة ” صائراً أعظم من الملائكة ” وفصلوها عما قبلها وما بعدها
، وقصدهم من
ذلك الوصول إلى غرضهم واثبات أن المسيح ليس هو الله. لكن ما سبق هذه الفقرة يدحض
ادعاءهم.. ” الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بانواع وطرق كثيرة
، كلمنا فى
الأيام الأخيرة فى ابنه “.. عندما تكلم المسيح فى الجسد كان الأيام الأخيرة
فى ابنه “.. عندما تكلم المسيح فى الجسد كان الله هو الذى يكلمنا فيه
، لأنه هو
ذاته صورة الله غير المنظور، وهو ابن الله لأننا رأينا فيه صفات الله غير المنظور
وكمالاته. وليست هناك فى لغة البشر كلمة أكثر دلالة على المطابقة التامة مع الآب
من كلمة ابن. فالمسيح ابن الله لأن الصفات التى رأيناها فيه أيام جسده هى بعينها
صفات الله غير المنظور.. وبين الصفات والكمالات التى يتصف بها الله غير المنظور،
يوصف المسيح أيضاً بأنه الخالق الذى تمم الخلق والعالمين.. ومن صفات لاهوت الابن
أيضاً المطابقة التامة الجوهرية بين اقنوم الابن الكلمة والجوهر الإلهى. وبذلك وصف
الرسول اقنوم الابن بالنسبة إلى اللاهوت بأنه

 


بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته “.. هذه العبارة تدل على
تمام المطابقة بين اقنوم الابن وجوهر الثالوث القدوس، لأنه جوهر واحد. وما يتصف به
الثالوث يصدق على اقنوم الابن من حيث الصفات والكمالات الإلهية. ومن حيث هو الكلمة
المتجسد فقد صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، لأنه من أجل هذا الغرض قد أتى من السماء.
وبعد أن أتم عمل الخلاص وأكمله على الصليب صعد إلى السماء وجلس فى أسمى مكان فى
الأعالى وهو ما يعبر عنه الرسول ” فى يمين العظمة فى الأعالى “.. وطبيعى
أنه فى الجسد الذى صعد به صار فى مقام أعظم من مقام الملائكة لأن له إسماً أعظم من
إسمهم. فإسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام ونكررهنا ما سبق
أن قلناه مراراً أنه يجب التفريق دائماً بين ما ينسب إلى اللاهوت وما ينسب إلى
الناسوت من صفات، لأن المسيح يملك فى طبيعته صفات اللاهوت والناسوت معاً
، من حيث أنه
يجمع بين اللاهوت والناسوت فى طبيعة واحدة بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير رغم
أن صفات الناسوت يمكن أ، ينسب إلى اللاهوت باعتبار أ، الاتحاد بين اللاهوت
والناسوت اتحاد تام.

 

ثامن
عشر: قال بولس الرسول عن السيد المسيح:


الذى إذ كان فى صورة الله
، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه
أخلى نفسه آخذاً صورة عبد
، صائراً فى شبه الناس. وإذ وجد فى الهيئة
كإنسان وضع نفسه واطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه إسماً
فوق كل إسم
، لكى تجثو
باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن
يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب ” (فى 2: 6- 11). هذه الآيات فى جملتها
تبين لنا مقام المسيح الإلهى
، فهو معادل لله الآب، مساو له فى
الربوبية والمجد والأزلية والأبدية وكل الكمالات الإلهية. وهو التعبير الذى استند
إليه آباء مجمع نيقية حينما صاغوا قانون الإيمان أى واحد مع الآب فى الجوهر
domooUcioc ووضعوا ربنا يسوع المسيح أنه نور من نور إله حق من إله حق، مولود غير
مخلوق

 

فعلى
الرغم من أن الاقانيم الثلاثة متميزة إلا أن كل اقنوم مساو للاقنومين الآخرين فى
جميع الكمالات الإلهية. والاقانيم الثلاثة جوهر واحد.. وقول الرسول بولس عن المسيح
إنه: ” لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله “
، معنى ذلك
أن مساواة المسيح وهو اقنوم الابن واقنوم الآب ليست مغتصبة أى أن المسيح لم يختلس
مساواته لله، وإنما هو مساواة طبيعية بين اقنومين فى جوهر واحد وذات إلهية واحدة
ومعنى أن المسيح ” كان فى صورة الله غير المنظور
، لأنه كما
يقول الإنجيل المقدس: ” الله لم يره أحد قط
، الابن
الوحيد الذى هو فى حضن الآب هو خبر ” (يو 1: 18).. وقول الرسول إنه كان:
” فى شبه الناس ” لا تعنى أنه اتخذ جسداً خيالياً
، بل لقد
اتخذ جسداً حقيقياً، وإنما فى شبه الناس من حيث انه وهو فى الجسد لم يكن فى حقيقته
مجرد إنسان
، وإنما كان
فى جوهره الله الكلمة المتجسد. إن كلمة

 


شبه ” هنا لا تعارض حقيقة الناسوت الذى اتخذه ابن الله. وقد تصرف فى الجسد
تصرف إنسان وهو الإله فخضع ناسوته لكل ما يخضع له ناسوت البشر من أحوال ما عدا
الخطيئة. أما قول الرسول: ” لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه إسماً فوق كل إسم
” فليس معناه أن السيد المسيح كان وضيعاً ثم تطور وصعد إلى المجد كما قال
منكرو اللاهوت. لكن هذا التطور لا وجود له من حيث لاهوته
، لأن
اللاهوت لا يقبل التغيير أو التطور أو الارتقاء ” ليس عنده تغيير ولا ظل
دوران ” (يع 1: 17).. وإنما ما حدث هو أن المسيح ابن الله اتخذ جسداً بشرياً
وصار فى شبه الناس
، وصار بديلاً عن الإنسان لإيفاء العدل الإلهى، ومات
ذبيحاً على الصليب ذبيحة كفارية عن البشر جميعاً. وقد قبلت هذه الذبيحة
، وكان فيها
الترضية الكافية لعدالة الله وللحكم الذى اصدره الله على الإنسان. ثم قام المسيح
من بين الامواتو صعد إلى السموات وجلس فى الأعالى فى أسمى مكان. وهكذا انتقل
المسيح له اتلمجد من الأرض التى فيها اهين وصلب ومات إلى السماء فالرفعة التى يشير
إليها الرسول: ” لذلك رفعه الله ” ليست رفعة فى اللاهوت
، وإنما
الرفعة هنا بمعنى ارتقاء المسيح من الأرض إلى السماء. كما يشير هذا الرفع إلى أن
ذبيحة المسيح الكفارية الفدائية لخلاص البشر كما قبلت. والسيد المسيح بحق الخلاص
الذى قدمه للبشر صار رأس الخليقة الجديدة وتاجها ومخلصها وفاديها وملكاً لملكوت
السموات
، فصار إسمه
هو الإسم الذى يطلق على المسيحيين لذلك أعطاه الله إسماإ فوق كل إسم وهو ما يعبر
عنه بطرس الرسول ” ليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس إسم آخر تحت السماء قد اعطى
بين الناس به ينبغى أن نخلص ” (أع 4: 12).. نعود ونقول إنه يجب أن نحترس فى
تفسير نصوص الكتب المقدسة بالنسبة للمسيح له المجد
، فنميز بين
النصوص التى تتناول الناسوت والنصوص التى تتناول اللاهوت ومن بين النصوص التى
تتناول الناسوت ما أورده بولس الرسول هنا إلى أهل فيلبى.

 

تاسع
عشر: قال القديس بولس الرسول


لا أزال شاكراً لأجلكم
، ذاكراً إياكم فى صلواتى، كى يعطيكم
إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والاعلان فى معرفته ” (أف 1: 16-
17). إن الرسول بولس يتكلم هنا عن ” ربنا يسوع المسيح “
، أى أنه لا
يتكلم عن الابن أو الاقنوم الثانى مجرداً عن الناسوت
، بل عن
” يسوع المسيح ” الإله المتأنس. فهو إله من حيث لاهوته
، وإنسان من
حيث ناسوته. وإذا كان ربنا يسوع المسيح ذا ناسوتيسه كاملة
، فبصفته الناسوتية
يعد الله الآب إلهاً له، وإن كان بصفته اللاهوتية يعد الابن واحداً مع الآب والروح
القدس فى الجوهر الإلهى أو الذات الإلهية. وليست هذه هى المرة الوحيدة التى يتكلم
فيها العهد الجديد عن المسيح بهذه الصفة. لقد قال السيد المسيح لمريم المجدلية عقب
قيامته المجيدة: ” إذهبى إلى إخوتى وقولى لهم إنى أصعد إلى أبى وأبيكم وإلهى
وإلهكم ”

 

(يو
20: 17).. ونلاحظ أن السيد المسيح هنا قد فرق تفرقة واضحة بين علاقته بالآب،
وعلاقة التلاميذ بالآب، وإلا لكان يقول: ” ابينا وإلهنا “!! ورب سائل
يقول: لكن الرسول لا يقول ” إله ناسوت ربنا يسوع المسيح “
، بل ”
إله ربنا يسوع المسيح “.. ونحن نقول إن الكتاب المقدس ينسب ما هو للناسوت
ليسوع المسيح أو للرب يسوع
، لأن اللاهوت متحد فيه للناسوت اتحاداً
تاماً بغير إنفصال لحظة واحدة أو طرفة عين. وهكذا يجوز أن يقال عن الآب إنه ”
إله ربنا يسوع المسيح “
، إذ أنه إلهه من حيث الناسوت فقط.. وبنفس
الطريقة نفهم لماذا دعيت العذراء مريم ” والدة الإله ” مع إنها ليست
أصلاً للاهوت
، لكن
اللاهوت حل فى احشائها
، واتخذ منها ناسوتاً، ومع ذلك
فهى تدعى والدة الاله باعتبار الاتحاد القائم بين اللاهوت والناسوت
، لأن الذى
خرج من احشائها عند الولادة إله متأنس وليس مجرد إنسان فقط. وجدير بالذكر أنه يمكن
أن تكون للكائن صفتان دون تعارض. فالجمر محرق ومحترق فى نفس الوقت. هو محرق من حيث
إنه نار تحرق
، ومحترق من
حيث المادة كالفحم والخشب.. هكذا ربنا يسوع المسيح الإله المتأنس.. إنه إله من حيث
لاهوته لكن من حيث ناسوته له إله
، وهذا الإله هو المتحد بالناسوت، وفى نفس
الوقت هو الكائن فى السماء..

 

عشرون:
يقول القديس بولس الرسول

فى
الاصحاح الخامس عشر من رسالته إلى أهل كورنثوس الذى يعالج فيه موضوع قيامة الاجساد
” ولكن الآن قد قام المسيح من الاموات وصار باكورة الراقدين. فإنه إذ الموت
بإنسان. بإنسان أيضاً قيامة الأموات. لأنه كما فىآدم يموت الجميع هكذا فى المسيح
سيحيا الجميع. ولكن كل واحد فى رتبته. المسيح باكورة
، ثم الذين
للمسيح فى مجيئه. وبعد ذلك النهاية
، متى سلم الملك لله الآب، متى ابطل
(بعد أن يكون قد أبطل) كل رياسة وكل سلطان وكل قوة لأنه يجب أن يملك حتى يضع
(الله) جميع الأعداء تحت قدميه (لأن الله قد اخضع كل شئ تحت قدميه) “. ولكن
حينما يقول إن كل شئ قد أخضع (له)
، فواضح أنه غير الذى أخضع له الكل (فواضح
إن هذا لا يتضمن الله نفسه الذى أخضع كل شئ للمسيح). ومتى أخضع له الكل
، فحينئذ
الإبن نفسه أيضاً سيخضع للذى أخضع له الكل كى يكون الله الكل فى الكل ” (1 كو
15: 20- 28). وفى هذا الاصحاح الخامس عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس يركز
الرسول بولس حديثه على حقيقة طبيعة السيد المسيح الناسوتية. ثم هو يتكلم عن جسده
الممجد القائم من بين الأموات الذى ستكون أجسادنا على مثاله بعد القيامة العامة
(فى 3: 21). والجزء العسر الفهم فى هذا النص هو قول الرسول: ” ومتى أخضع له
(للمسيح) الكل
، فحينئذ
الابن نفسه أيضاً سيخضع للذى أخضع له الكل كى يكون الله الكل فى الكل “..
ووجه الصعوبة هو فى خضوع الابن لله الآب!! فى نفس هذه الرسالة الأولى إلى كورونثوس
، وفى موضع
سابق يقول القديس بولس للكورنثيين المسيحيين: ” لنا إله واحد الآب الذى منه
جميع الأشياء ونحن له
، ورب واحد يسوع المسيح الذى به جميع الاشياء
ونحن به ” (1 كو 8: 6).. ويقول لتلميذه الأسقف تيموثاوس: ” لأنه يوجد
إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح
، الذى بذل
نفسه فدية لأجل الجميع ” (1 تى 2: 5- 6).. فالكلام ينحصر على حقيقة ناسوتية
المسيح
، وعلى
شفاعته الكفارية التى اتمها على الصليب من أجل خلاص العالم ” متبررين مجاناً
بنعمته بالفداء الذى بيسوع المسيح
، الذى قدمه الله كفارة بالايمان بدمه
” (رو 3: 24- 25).. ” يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا. ليس
لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً ” (1 يو 2: 1, 2، 4: 10 هذا من ناحية
، ومن ناحية
أخرى فإن النص يتحدث عن خضوع سوف يتم فى المستقبل ” فحينئذ الابن نفسه أيضاً
سيخضع للذى أخضع له الكل “. ومعنى ذلك أن كلام الرسول هو عن عمل المسيح من
أجل خلاص الإنسان وفدائه على الصليب. لقد أثبتنا فى كل ما قلناه سابقاً مساواة
المسيح من أجل خلاص الإنسان لله الآب فى كل الصفات ومنها الأزلية. وهكذا فإن
المسيح ابن الله لم يكن خاضعاً للآب منذ الأزل
، بل هو واحد
معه فى الجوهر. ولكنه فى التجسد حينما اخلى ذاته آخذاً صورة عبد صائراً فى شبه
الناس ووضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب هنا فقط فى التجسد خضع الابن للآب من
أجل عمل الفداء. والمسيح بتجسده صار هو رأس الإنسانية الجديد أو رأس الخليقة
الجديدة صار آدم الثانى ” كما فى آدم يموت الجميع
، هكذا فى
المسيح سيحيا الجميع.. صار آدم الإنسان الأول نفساً حية
، وآدم
الأخير (المسيح) روحاً محيياً.. الإنسان الأول من الأرض ترابى. الإنسان الثانى
الرب من السماء. كما هو الترابى هكذا الترابيون أيضاً. وكما هو السماوى هكذا
السماويون أيضاً. وكما لبسنا صورة الترابى سنلبس أيضاً صورة السماوى ” (1كو
15: 22، 45، 47- 49). إن رأس الإنسانية سوف يقدم الإنسانية الجديدة للآب فى آخر
الدهور عندما ينتهى كل شئ “متى سلم الملك لله الآب”.. ولأن الآب اخضع
للابن آدم الثانى كل شئ لكى يقوم باصلاح كل الامور.. لذلك بعد أن أتم الابن ذلك
بموته الفدائى على الصليب من قبل تجسده فإنه أى الابن يعيد للآب كل شئ
، وذلك بعد
أن انتهى دوره تماماً بعد الدينونة.. فى ذلك الوقت يصبح الله الكل فى الكل. بمعنى
أنه لا يصبح للابن مميز كما كان فى التجسد.

 

واحد
وعشرون: قال القديس بولس الرسول

فى
رسالته إلى العبرانيين عن ربنا يسوع المسيح: ” الذى فى أيام جسده إذ قدم
بصراخ شديد ودموع
، طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسمع
له من أجل تقواه. مع كونه إبناً تعلم الطاعة مما تألم به. وإذ كمل صار لجميع الذين
يطيعونه سبب خلاص أبدى” (عب 5: 7-9). الإشارة فى هذا النص المقدس إلى ما حدث
فى بستان جثسمانى حيث جثا مخلصنا على ركبتيه وصار يصلى
، وكان عرقه
يتصبب مثل قطرات الدم
، مما يدل على عظم الآلام وشدة الحزن وقسوة
الآلام النفسية وعنفها.. فى هذا الموقف قدم المسيح صلاة إلى الآب لكى يجنبه قسوة
الآلام وشدتها. وكان هذا ممكناً لأن ناسوته متحد بكمال اللاهوت القادر أن يجنبه
الألم.. لكنه فى ذلك يتعارض مع إرادته ومشيئته فى قبول موت الصليب لهذا الغرض. على
أن هذه الصلاة لم تكن محصورة فى تجنب الآلام
، لكنها كانت
أيضاً من أجل طلب قوة الاحتمال. لأن الآلام كانت شديدة جداً وكان يمكن أن تجهز على
ناسوت المسيح قبل أن يصلب ويموت على الصليب لما تم عمل الفداء وخلاص البشرية.
وبذلك تكون خطة الله وتدبيره فى خلاص الإنسان قد فشل.. كان لابد أن يحتمل المسيح
الآم الصليب حتى النهاية.. والمسيح احتمل ألاماً شديدة جسدية ونفسية وروحية
، إلى أن تم
صلبه
، ونكس رأسه
وقال: ” قد اكمل ” فى هذا النص الإشارة إلى السيد المسيح هو بديل عن
الإنسان وفادى البشر. وقد أخذ صورة الإنسان. فالإشارة إلى المسيح من حيث ناسوته.
وقد أخذ ناسوتاً حقيقياً كاملاً. ولا يعيب سيدنا أن يصلى طالما أنه فى الجسد
، بل هو دليل
ناسوته الكامل. وليس صراخه ودموعه معناه أن لاهوته قد فارق ناسوته
، وانما
معناه أنه لم يدع للاهوته أن يوقف عمل الناسوت وخصائصه. وحينما يقول ” فسمع
له من أجل تقواه “
، فإنه يجوز للرسول أن يصف المسيح بالتقوى
وهى من صفات الناسوت. كما جاز له أن يصف المسيح بالطاعة وهى من صفات الناسوت
أيضاً. وهو فى هذه الحالة يطيع لاهوته هو
، ذلك
اللاهوت الذى يملاْ السموات والأرض. وقول الرسول أنه سمع له. معناه انه استجيب إلى
طلبه لئلا تجهز الآلام عليه قبل أن يتم عمل الفداء. وبالفعل طالت حياته الجسدية
إلى أن أتم عمل الصليب. وهذا هو معنى قول الرسول: ” وإذ كمل صار لجميع الذين
يطيعونه سبب خلاص أبدى “.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى