اللاهوت الادبي

اللاهوت الأدبى



اللاهوت الأدبى

اللاهوت الأدبى

الأعمال
الإنسانية بين الحرية والواجب

أولا-
الأعمال الإنسانية وحدود الحرية

الإنسان
يحقق ذاته بأعماله. فالأعمال الإنسانية هي إذن موضوع اللاهوت الأدبيّ، فيها يُصدر
حكمه الأخلاقي. وتلك الأعمال الإنسانية لا تكون موضوع اللاهوت الأخلاقي إلا إذا
كانت حرّة, أي صادرة عن إرادة الإنسان العاقلة. فهناك أعمال يقوم بها الإنسان،
كهضمه الطعام الذي يأكله, دون أي تدخل من قبل إرادته وحريته, وأمثال هذه الأعمال
ليست موضوع اللاهوت الأدبيّ ولا موضوع علم الأخلاق العام. وهناك أعمال يقوم بها
تحت الضغط والإكراه، وهذه الأعمال لا يكون الإنسان مسؤولا عنها إلا بقدر ما يمكنه
التخلص من الضغط والإكراه. وهناك أعمال يقوم بها عن سهو ودون انتباه, أو عن جهل
لما يمكن أن ينتج منها من عواقب وخيمة, وهذه الأعمال, وإن لم تكن حرّة, فالإنسات
يتحمّل مسؤوليتها بقدر ما يكون السهو أو الجهل ناجمين عن إهمال وعدم مبالاة. وعلى
الصعيد القانوني يلتزم الإنسان التعويض عن الخسائر التي تلحق بالغير من جرّائها.

مقالات ذات صلة

الأعمال
الإنسانية موضوع اللاهوت الأدبيّ هي إذن تلك التي يقوم بها الإنسان بملء حريته، أي
بكامل معرفته وإرادته الحرة من أي ضغط خارجي. والمعرفة والإرادة ممكنتان وضروريتان.
المعرفة ممكنة، لأن الإنسان كائن عاقل, ومن ميزة العقل إلا تأسره الأشياء المباشرة
التي تقع أمام ناظريه، بل يستطيع أن يتخطّاها ويربط بين الأشياء المختلفة ويدرك
العلاقة بين الأعمال والهدف الذي توصل إليه. والإرادة أيضا ممكنة, لأن الإنسان بإرادته
يتجه نحو ما يُشبع رغبته في السعادة. والمعرفة والإرادة ضروريتان، إذ من دونهما لا
يعود العمل حرا.

ولكن
السؤال الذي لابد من طرحه هو التالي: هل يستطيع الإنسان القيام بأعمال تكون فيها
حريته غير خاضعة لأي حدود وقيود في المعرفة والإرادة بحيث يمكن اعتبارها حرية
مطلقة كاملة؟

جوابا
على هذا السؤال، نقول مع معظم اللاهوتيين والفلاسفة أن الله وحده يملك حرية مطلقة
وإرادة مطلقة. أمّا الإنسان فكائن محدود في حريته، لأنه محدود في معرفته وإرادته.
وتظهر تلك الحدود في كونه لا يعمل إلا انطلاقا من معطيات يدركها في ذاته, وتلك
المعطيات، كما تعنيه اللفظة عينها، لا يخلقها الإنسان بحرية مطلقة من اللاشيء, بل
تُعطى له. وحريته تقوم إذّاك في تبنّيها والتزامها وتوجيهها وتطويرها. فالإنسان
مثلا يشعر في ذاته بميل نحو هذا العمل أو ذاك, وقد يصل هذا الميل إلى شغف يجذبه
بقوة بحيث لا يستطيع مقاومته. في هذا يقول هيجل: “لا يمكن القيام بعمل عظيم
دون شغف”. وكذلك يشعر الإنسان في ذاته بقوة إبداع في مختلف الفنون. فلا أحد
يستطيع أن يكون شاعرا إن لم تكن له موهبة الشعر, ولا أحد يكون موسيقيا إن لم تكن
له موهبة الموسيقى. والحب البشري عينه، الذي هو أسمى تعبير عن حرية الإنسان، لا
ينطلق من لا شيء, بل يخضع لعفوية تقود الإنسان إلى التعلق بشخص آخر يميل إليه قلبه
دون أن يستطيع تحديد أسباب هذا الميل. ففي هذه الأمثلة الثلاثة نرى أن الإنسان لا
يؤكد حريته وإرادته إلا بقبوله معطيات، أي مواهب تُعطى له دون أن يختلقها هو نفسه.

ومن
جهة أخرى يمكن القول أن المعطيات البشرية لا تتخذ معناها إلا بقدر ما تتبنّاها
إرادة الإنسان الحرة. فالإنسان الذي يشعر بخوف إزاء تهديد من أي نوع كان, يجد نفسه
في حالة نفسية لم يخترها ولم يُرِدها. ولكن الموقف الذي يتخذه إزاء هذا الشعور
يتسم بعمل الإرادة الحرة. فإما يستسلم للخوف وتُشل حركته، وأما يجهد نفسه فيسيطر
على هذا الشعور ويتابع عمله باندفاع أكبر. وكذلك الحب الذي يشعر به إنسان تجاه شخص
آخر يبدأ بميل غريزي، ولكن الإنسان يستطيع أن يوجهه بإرادته ليصير عطاءً واعيا.

فالأعمال
الإنسانية هي دوما مشدودة إلى قطبين، فمن جهة حدود الكائن البشري، ومن جهة أخرى
إرادة الإنسان وحريته. فلا ينبغي النظر إلى قطب دون الآخر. والإنسان يقوم بأعماله
كلها في إطار تفاعل وتكامل بين هذين القطبين، وفي هذا الإطار يجب أن يندرج الحكم
الأخلاقي عليها. وهذا ما يظهر في المراحل الثلاث التي يقوم بها كل عمل إنساني: الاختيار،
والجهد، والقبول. فالاختيار يستند إلى دوافع، والجهد يقوم حسب إمكانات الإنسان,
والقبول ترافقه الضرورة.

لنتوسع
بعض الشيء في هذه الثنائيات الثلاث لتوضيح مدى حرية الإنسان وإرادته في القيام
بأعماله.

 

1)
الاختيار والدوافع

تظهر
إرادة الإنسان الحرة في مرحلة أولى في ما يختاره من أعمال يرى فيها تحقيق سعيه
وراء الخير والسعادة. ولكن اختيار هذه الأعمال ليس اختيارا حرا من أي دافع.
فالإنسان يختار هذا العمل أو ذلك بتأثيرمن دوافع متنوعة، أوّلها رغبة البقاء على
قيد الحياة وما يرتبط بتلك الرغبة من غرائز متصلة بجسد الإنسان كضرورة توفير
الغذاء واجتناب ما يسبب المرض والألم، والميل إلى الجنس الآخر للتكامل والتناسل.
غير أن هذه الدوافع لا تحرم الإنسان من حريته وإرادته, كما هي الحال عند الحيوانات.
والبرهان على ذلك أن الإنسان يستطيع لدوافع أخرى الامتناع عن الطعام أو الامتناع
عن الزواج. وهكذا يظهر جليّا أن المعطيات البشرية التي يجد الإنسان ذاته محدودا في
أطرها ودوافعها تحد دون شك حريته، لكنها لا تزيلها. ففي الاختيار، كما في
المرحلتين اللاحقتين اللتين سنتحدث عنهما, لا وجود لحرية مطلقة. إن الحرية التي
يتمم بها الإنسان أعماله هي، حسب قول بول ريكور، “حرية إنسانية وحسب”،
أي حرية يتفاعل فيها المطلق والنسبي، أي مطلق الاختيار لأن الإنسان هو الذي يختار
ويقدّر ما يجب فعله، ونسبي الدوافع لأنه إنما يختار انطلاقا من دوافع يجدها في
ذاته.

 

2)
الجهد والقدرات

المرحلة
الأولى للعمل الإنساني هي اختيار العمل وتقريره. المرحلة الثانية هي تحقيق العمل،
وهذا يتطلّب جهدا من قبل الإنسان لتحريك إرادته وتوجيه طاقاته نحو العمل. ولكن هذا
الجهد لا ينطلق من لا شيء كما أنه لا يمكنه أن يخلق أي شيء. بل ينطلق من واقع
قدرات الإنسان, ولا يمكنه أن يحقق ما يريده إلا ضمن حدود هذه القدرات. وهذا ما
ندركه اليوم أكثر مما يدركه الفلاسفة في زمن ديكارت الذي قال: “بمجرّد ما
أردنا التنزّه, تتحرّك ساقانا ونمشي” فعلم النفس المعاصر أظهر أن الإنسان,
على صعيد قدرات جسده, أبطأ من كل الحيوانات. ففيما معظم الحيوانات تتحرّك وتسير
حالما تبصر النور, لا يحقق الإنسان قدرته على الحركة والسير إلا تدريجيا وببطء.
لربما هذا دليل على أن عظمة الإنسان تكمن في ما يتخطّى قدرات الجسد. ومهما يكن من
أمر, فلابد من الإشارة إلى أن هناك قدرات, وإن محدودة, يجدها الإنسان في ذاته
وإليها يستند ليحقق ما يريد تحقيقه من أعمال. وهذه القدرات تظهر على ثلاث مستويات:
المهارات الفطرية, والأحاسيس, والعوائد.

 

أ‌)
المهارات الفطرية

منذ
أن يتكوّن الإنسان وقبل أي تربية وعلم, يملك مهارات فطرية في جسده. فنراه, وهو في
حشا أمّه, يضع يده أمام عينيه ليحميهما من نور باهر, كما نراه لدى عملية إجهاض
يهرب إلى زاوية رحم أمّه الأكثر بعدا من سفّاطة الطبيب الذي يعمل على قتله. ومنذ
نعومة أظافره يعرف أن يخفّف وطأة سقطة فيحمي وجهه بيديه. هذه الأمثلة البسيطة تدل
على أن هناك مهارات فطرية تُعطى للإنسان قبل أن يتعلّم أي شيء. إن الفلسفة
الوجودية قد بالغت في تأكيدها حرية الإنسان المطلقة وإمكاناته غير المحدودة في أن
يخلق ذاته من لا شيء. هناك بالحري مواهب ومهارات تعطى للإنسان بالوراثة قبل أي عمل
من قِبله, وهي قابلة لأن يطوّرها الإنسان ويستخدمها للبلوغ إلى أهدافه.

ب‌)
الأحاسيس والمشاعر

إن
الإنسان, إلى جانب إرادته, يدرك في ذاته وجود أحاسيس ومشاعر تمنح الإرادة زخما
خاصا وتدفعها إلى التحرّك والعمل. لا شك أن الإنسان لا يمكنه الاستسلام لأحاسيسه
ومشاعره, بل يجب عليه ضبطها لئلا تقود الإرادة إلى الهَوَس والتهوّر. ولكن ضبط
الأحاسيس لا يعني إزالتها. والأخلاقية السامية ليست تعمل على إزالة كل المشاعر في
الإنسان كما عند الرواقيين اليونانيين. وقد رُوي أن أحدهم, لدى إنبائه بموت ابنه,
لم يتأثّر, بل اكتفى بالقول: “كنت عالما أنه مائت”. والفيلسوف العبد
إبيكتيت (50-130 ب.م), لدى مشاهدته سيّده وقد انبرى بساديّة يلوي له ساقه, وقال له
منبّها: “إذا تابعت, كسرتها” وإذ تابع سيّده عمله وكسر له ساقه أجابه
إبيكتيت بهدوء ودون أي تأثر: “ألم أقل لك إنك ستكسرها” لا شك أن
المشاعر, إذا تُركت على هواها, قد تقودنا إلى حيث لا نريد. ولكن دور الإرادة لا
يقوم في خنقها بل في تنظيمها وتوجيهها في خدمة الأعمال التي ننوي القيام بها.

 

ج)
العادات

العادة
هي قدرة لا إرادية تسهّل جهد الإنسان, ولكن لا يمكن أن تكون سببا لتبرير قراراته.
والاستناد إليها لتبرير ما يتّخذه الإنسان من اختيارات وقرارات هو شأن الفكر
التقليدي الذي يرفض أي تجديد وتطور. ما يميّز العادة هو أنها في بدء الأمر, وعلى
نحو كبير, عمل الإرادة, إذ إن الإنسان يكتسبها بتكرار أعمال يقوم بها طوعا, فتُمسي
فيه العادة طبيعة ثانية. فمن تعوّد مثلا النهوض الباكر من النوم, تصير فيه تلك
العادة أمرا طبيعيا, فيستيقظ من تلقاء نفسه دون أن يشعر بأي حاجة إلى من يوقظه.
وهكذا أيضا, من تربّى منذ صغره على الفضائل تصير فيه عادة ويكتسب في ممارستها
سهولة كبيرة, في حين أن من لم يتعوّدها يحتاج إلى جهد كبير للقيام بأدنى عمل
يُمتدح عليه. ومن جهة أخرى تحوي العادة في ذاتها تهديدا للحرية, عندما تصل إلى حد أنها
تمنع الإنسان من أن يحيد ولو بعض الشيء عن نمط حياة معروف ومنسّق. خطر المشاعر
الفوضى, وخطر العادة الجمود. لذلك لابدّ من العادة والنظام لحمل المشاعر على
الاعتدال, ولابد من المشاعر لمنع العادة من الجمود.

 

3)
القبول بحدود الإنسان

الإرادة
البشرية لا تنطلق من حرية مطلقة غير مشروطة. فالإنسان لا يستطيع أن يقرّر ويحقق كل
ما يريد. فهناك حدود يجدها في ذاته ويدرك ضرورة الخضوع لها. وهذه الحدود تعبّر
عمّا في العمل الإنساني من بعد لا إرادي وغير اختياري. غير أن الإنسان, ليتمكّن من
القيام بأعماله, لابد له من يقبل تلك الحدود بملء رضاه ويضطلع بها لتصير جزءا من
إرادته. هناك ثلاثة أشكال من هذه الحدود: الطبع والجسد واللاوعي.

أ‌)
حدود الطبع

طبع
الإنسان هو, بحسب تعريف علم النفس, مجموعة مؤتلفة من الأجوبة بها يردّ الإنسان على
ما يأتيه من تأثيرات من الخارج, وفيها تنعكس صفات سجيّته أي طبيعته التي خُلق
عليها. الطبع هو النافذة أو الزاوية التي بها يطلّ الإنسان على ذاته وعلى العالم.
وتلك النافذة أو الزاوية تكون ضيّقة أو واسعة, ويمكن أن تتّخذ أشكالا متنوعة, ولا
يستطيع الإنسان أن يطل على ذاته وعلى العالم إلا من خلالها. لذلك كل إنسان إنما يقرر
ما يريد عمله ويحققه بحسب طبعه: بشغف وإحساس عميق إذا كان ذا طبع عاطفي, وبهدوء
وبرودة أعصاب إذا كان ذا طبع بارد وقليل التأثر.

طبع
الإنسان لا يزيل حريته, ولكنه يسِمُها بطابع خاص. وهذا ما يجب التنبّه له في الحكم
على الأعمال الإنسانية. حرية الإنسان ليست مطلقة, بل هي محدودة بطبع كل إنسان.
ولكن هذه الحدود ليست بدورها مطلقة بحيث يمكن نفي الحرية, والاستسلام لقدَر الطبع.
لا يمكننا تغيير طبعنا, ولكن معرفتنا له تعطينا واقعية لنتعامل من خلاله مع
الحياة, ونحقق في حدوده القيم التي نصبو إليها. نجد أشخاصا يعيشون في نقمة دائمة
على الله أو على القدَر لكونهم إنوا إلى الوجود في هذا البلد أو ذاك, في تلك
البيئة الاجتماعية أو تلك, وهم يحملون هذا الطبع أو ذاك. لا ريب في أن حدود
الإنسان هي من الأمور السلبية التي قد تثير غضبنا وسخطنا. ولكن بدل أن نثور ونغضب
ونستسلم لحتميّتها, يجدر بنا أن نقبلها كما هي ونرى فيها سمة خاصة تكوّن شخصيتنا
التي بها ننفرد عن غيرنا, ودعوة إلى أن نحقق فيها ذواتنا. يقول جورج برنانوس في
“يوميات خوري في الريف”: “إنه لأسهل مما نعتقد أن يبغض الإنسان
نفسه. النعمة هي في نسيان الذات. ولكن, إن ماتت فينا كل كبرياء, نعمة النعم تقوم
في أن نحب ذواتنا بتواضع, كأي من أعضاء يسوع المسيح المتألّمة”.

 

ب‌)
حدود الجسد

كل
إنسان إنما يولد في جسد له حدوده على صعيد الوراثة, وعلى صعيد الضعف إزاء المرض,
وأخيرا على صعيد حتمية الموت. فالإنسان لا يتّخذ القرارات عينها في هذا الوضع الوراثي
أو ذاك, في هذه المرحلة من العمر أو تلك, في هذه الحالة الصحية أو تلك. ورغم كل
تلك الحدود, يجب القول إن جسدي هو أنا. وما ورثته يحدّ من حريتي ولكنه لا يزيلها.
حالة جسدي الصحية تحدّ أيضا حريتي ولكنها لا تزيلها. المهم أن يعي الإنسان تمام
الوعي ويدرك تمام الإدراك حدود جسده وحدود حياته البيولوجية, ويقوم بكل أعماله دون
إغفال هذا البعد الواقعي من حياته, أي بحريّة واعية, وإن محدودة.

ج)
حدود اللاوعي

لقد
أحدث الفيلسوف الألماني فرويد ثورة في عالم الفلسفة عندما كشف وجود عالم اللاوعي
في داخل الإنسان, وأظهر أن الإنسان لا يعمل فقط بدافع من أفكاره الواعية الحالية,
بل بقدر أكبر وأوسع, بدافع من صدمات نفسية مكبوتة في لاوعيه منذ طفولته. وتلك
الصدمات النفسية هي نتيجة أحداث أليمة مرّ بها الإنسان في طفولته ولم يستطع أن
يسيطر عليها ولا أن ينسجم معها, فكبتها في لاوعيه. والكبت لا يزيل تأثير الصدمات
النفسية بل على العكس يضاعفه. إزاء هذا الواقع يهدف التحليل النفسي إلى مساعدة
الإنسان على نقل صدماته النفسية من ميدان اللاوعي إلى ميدان وعيه ليُتاح له
اكتشافها والتحرر منها. التحليل النفسي هو في النهاية رهان على حرية الإنسان.
فالمحلّل النفسي هو على يقين من أن الإنسان يستطيع أن يعمل بوعي وحرية. وانطلأنا
من هذا اليقين يساعد الإنسان على اكتساب وعيه وحريته. التحليل النفسي هو, إلى حد
ما, طريق إنساني إلى ولادة جديدة للشخص البشري في كامل وعيه وحريته.

خلاصة
القول إن حريتنا هي حرية محدودة بأمور ثلاثة: أولا بدوافع تحملنا على الاختيار في
هذا الاتجاه أو ذاك: “نحن أحرار, أجل! ولكن لأجل بعض الأهداف, في سبيل بعض
الدوافع, في خدمة بعض القيم. كل هذه التعابير تنمّ عن نسبية اختياراتنا وبالتالي
عن محدوديّتها”, ثانيا بقدرات نكتشفها في جسدنا: “نحن أحرار, دون شك, ولكن
في جسد, بل بفضل جسد, يجب ألا نعتبره, كما كان يعتقد الأفلاطونيون, مجرّد سجن
للنفس علينا احتماله طوال مدّة نفينا على هذه الأرض, بل بالحري الموضع الذي فيه
تتحقق حريتنا الإنسانية”, وحريتنا محدودة أخيرا بمعطيات طبعنا وجسدنا
ولاوعينا. لذلك فالحرية الإنسانية هي مزيج من تأكيد الذات ومن الانفتاح على الغير.
هذا معنى قول ريكور: حريتنا هي “حرية إنسانية وحسب”, ويشير إلى أن هذا
الوضع يجعل الإنسان يعيش في فرح ممتزج بالحزن: “فرح النعم في حزن
المحدود”. محدودية الإنسان هي واقع قد يجلب عليه بعض الحزن, ولكنها أيضا دعوة
إلى تحقيق الذات بحريّة: “هذا الفرق بين حريتنا, المحدودة في وضع معين وشروط
معينة, والحرية الإلهية التي هي فعل محض ليس فيه أي صيرورة, ولا أي فراغ يجب ملؤه,
هذا الفرق هو ما نعبّر عنه مرارا بقولنا إن الحرية الإنسانية ليست حرية بقدر ما هي
تحرّر. أي أنها حرية في طور التحقيق أكثر مما هي حرية مكتسبة وحالة ننعم بها كما
ننعم بأمر نملكه ملكا مضمونا. تلك هي ميزة الحرية الإنسانية. ليس على الله أن يصير
حرا, فهو حر منذ الأزل في كمال كيانه اللامحدود, وحسب الإيمان المسيحي, في تبادل
الحياة الثالوثية الكاملة. أمّا عندنا نحن, فالحرية دعوة متطلّبة أكثر مما هي واقع
يمكن التحقق منه. لا يتأكد لنا أننا أحرار كما يتأكد لنا أن شعرنا كستنائي اللون.
الحرية الإنسانية هي دعوة لا يمكن أن تتحقق تحقيقا تاما. إنها تحريض للروح فينا,
وليست من معطيات طبيعتنا المباشرة. “الطبيعة” هي, بحسب تعبير اللفظة
عينها, ما يُطبع عليه الإنسان منذ ولادته. لا يولد الإنسان حرا مثلما يولد صلب
العود أو هزيلا, فرنسيا أو بلجيكيا, إلخ. لا أحد يولد حرا إلا بالقوة والإمكانية.
وحتى عندما يبلغ المرء أشدّه, تبقى الحرية الإنسانية أمرا مستقبليا وصيرورة..

حريتنا
هي موضوع التزام ورهان. إنها لا تنمو إلا إذا اختبرناها بحريّة. ومتى التزمت
الحرية ذاتها, فهي إذّاك على حد ما حرة”.

 

ثانيا-القيم
الأخلاقية في الأعمال الإنسانية

1)
الاختيار عمل أخلاقي

بما
ان حرية الإنسان لا وجود لها إلا ضمن حدود وشروط, لابدّ للإنسان من أن ينطلق منها
ليعمل على تحقيق الأهداف التي يسعى إليها: هناك خطر من أن يستسلم الإنسان لحتميّة
حدود الحرية وشروطها ويتخلّى عما تطلبه الحرية من التزام. إذ ذاك, بدل أن تكون
إمكانية الحرية فيه عمل تحرر دائم, تصير استعبادا لبعض ما يشعر به الإنسان في
داخله من غرائز غير منتظمة. وفي كلتا الحالتين اختيار يقوم به الإنسان: إمّا
اختيار تنظيم حريته وتوجيهها إلى ما يريد الوصول إليه, وإما اختيار الاستسلام
لحتمية حدود الحرية. كلنا ملزمون بالاختيار. والذي يدّعي عدم الاختيار يختار في
الواقع الاستسلام لحتمية ما يحدّ حريته. وهذا يصح على الصعيد الفردي وعلى الصعيد
الجماعي. فالذي يدّعي الحياد في الشؤون الاجتماعية والسياسية يختار في الواقع
المحافظة على الوضع الراهن. وهذا اختيار اجتماعي وسياسي.

من
إلزامية الاختيار تنشأ المسألة الأخلاقية. فبما أننا مهما فعلنا نقوم باختيار: إمّا
الالتزام وإمّا الاستسلام, يحمل اختيارنا هذا في ذاته قيمة أخلاقية. فإنه يقوم
إمّا لبناء الإنسان ونشر الحق والعدالة في المجتمع, وإمّا لهدم الإنسان وإفساح
المجال أمام الباطل والظلم والاستبداد.

لذلك
يمكننا أن نعبّر عن المسألة الأخلاقية بالأسئلة التالية: في سبيل أي شيء أعمل؟ إلى
أي شيء أوجّه حريتي؟ ما هي القيم التي تستحق مني الجهد والالتزام؟

الحرية
الإنسانية, إن هي انغلقت على ذاتها, تلاشت. إن لم يكن للحرية مضمون يتخطّى حدودها,
صارت أسيرة تلك الحدود وذابت فيها. تحقيق الحرية رهن بانفتاحها على القيم
الأخلاقية التي توجّه طاقاتها الدفينة وتحدد مسيرتها وتبرزها إلى الوجود في وجه
إنساني. ففي تحقيقها يتحقق الإنسان.

2)
ميزات القيم الأخلاقية

لذلك
تتسم القيم الأخلاقية بميزتين أساسيتين: الأولى تكمن في أن القيمة الأخلاقية جديرة
بأن يسعى إليها الإنسان سعيا مطلقا، وهذا ما يميزها عن سواها من القيم الاقتصادية
أو الاجتماعية أو الفنية. وسبب ذلك أن سائر القيم تعني الإنسان في ظروف حياته
المختلفة, أمّا القيم الأخلاقية فتعنيه في كيانه بالذات، في مصيره كإنسان, أي في
حرّيته. لذلك نمتدح الناس أو نذمّهم لأجل أعمال الخير أو الشر التي تصدر عن
حريتهم, وليس لأجل ما أنعمت به عليهم الطبيعة من مواهب, أو بسبب ما قست به عليهم
يد الدهر من مصائب. نمتدحهم لأجل خُلقهم وليس لأجل جمال طلعتهم. نعجب من مهارتهم
في جمع الأموال, ونمتدحهم أو نذمهم بحسب كيفية استعمال ما جمعوه من أموال. نعجب من
مهارة لص محترف ونذمّ عمله غير الأخلاقي. هكذا ندرك كلنا أن القيمة الأخلاقية لا
يمكن أن تكون فقط موضوع رغبة وسعي, بل يجب أن تفضّل على سائر القيم، بحيث إنه، في
صراع قيم، يجب التضحية بسائر القيم في سبيل المحافظة على القيم الأخلاقية، فيضحّي
الإنسان مثلا بالمال لإنقاذ حياة بشرية.

الميزة
الثانية للقيم الأخلاقية تكمن في أن الإنسان يشعر في ذاته بواجب اتباعها. تلك
الميزة قد تبدو لأول وهلة مناقضة للحرية. هذا التناقض الظاهر ناتج من أن الحرية في
الإنسان اكتساب للذات وتحرر، فهي إذن أمر مستقبلي وصيرورة. وبقدر ما يصل الإنسان
إلى كمال التحرر، لا تعود الأخلاق تظهر له كواجب يُفرض عليه من الخارج، بل تصير
فيه عملا طبيعيا ينبع من داخل نفسه. هذا الانتقال من منطق الشريعة إلى منطق الروح
يختبره القديسون الذين يغدو لديهم عمل الخير تحقيقا لأسمى ما في ذاتهم من تطلّعات
ورغبات.

 

ثالثا-
جوهر القيم الأخلاقية وقاعدة الأخلاق

هذه
القيم الأخلاقية التي لابد للإنسان من أن يلتزمها ليصل إلى اكتمال حريته كيف يتم
اكتشافها؟ بم يقوم جوهرها؟ وما هي القاعدة التي يمكن الاستناد إليها للحكم على
أخلاقية أعمال الإنسان؟

هناك
اتجاهات ثلاثة سار فيها الفلاسفة للجواب عن تلك الأسئلة، وتلك الاتجاهات تناسب
الأبعاد الثلاثة التي يتضمنها اختيار الإرادة الحر. الإتجاه الأوّل يستند إلى
طبيعة الإنسان ويطلب إشباع رغبته في السعادة. الإتجاه الثاني يؤكد استقلال الإنسان
وإبداعه في العمل الخلقي انطلاقا من حريته ذاتها أو من عقله. الإتجاه الثالث ينظر
إلى مضمون العمل الإنساني وإلى الغاية التي يهدف الإنسان الوصول إليها من خلال
عمله.

فبحسب
الإتجاه الأوّل يكون العمل أخلاقيا إذا كان سبب لذّة أو سعادة للإنسان, وبحسب
الإتجاه الثاني يكون أخلاقيا إذا قام به الإنسان بملء حريته أو كان منسجما مع
تطلّبات عقله، أمّا بحسب الإتجاه الثالث فيكون أخلأنيا بقدر ما يكون مضمونه
الموضوعي- إلى جانب ما يسببه للإنسان من سعادة وبالإضافة إلى كونه منسجما مع حرية
الإنسان وعقله- خيرا في ذاته، وبقدر ما يسعى الإنسان من خلاله إلى تحقيق هذا الخير.

سنتوسّع
في هذه الإتجاهات الثلاثة للوصول إلى جواب يتيح لنا إثبات قاعدة أخلاقية يستند
إليها الإنسان في حكمه الأخلاقيّ على أعماله.

 

1)
اللذة والسعادة والمنفعة

الإتجاه
الأوّل يرى أن القيم الأخلاقة تقوم على كل ما يجلب للإنسان الفرد اللذة والسعادة
أو على ما يسهم في توازنه النفسي، وعلى كل ما تنتفع به الجماعة البشرية ويُسهم في
نموها وسعادتها.

لا شك
في أن الإنسان وُجد على هذه الأرض ليعيش في السعادة. واللذة جزء من هذه السعادة.
كما أن التوازن النفسي لا بد منه ليصل الإنسان إلى اكتمال كيانه. وكذلك يجب أن
تُسهم الأعمال الإنسانية في نمو الجماعة البشرية وسعادتها. ففي هذه الأمور كلها
يرى اللاهوت الأدبيّ نواحي هامة من تكوين الإنسان والمجتمع لا بد من النظر إليها
والسعي إلى تحقيقها. ولكن هذه الأمور لا يمكن أن تكون هي وحدها قياس العمل الخُلقي،
لأنها ليست مطلقة، وبالتالي لا يمكن اتخاذها قاعدة كل المشكلات التي تعترض الإنسان
في اختياراته الأخلاقية. إنها ملتبسة، أي إن الإنسان يمكنه أن يستند إليها ليقوم
بأعمال متناقضة. فما أراه سبب لذة لي قد يسيء إلى الغير، وما هو مدعاة سعادة أو
منفعة لجماعة معيّنة قد يكون سبب إساءة لجماعة أخرى من الناس أو للبشرية عامة. وما
يجلب اللذة الآن قد ينتج عنه في المستقبل ضرر. فحلّ مشكلة الإجهاض مثلا، استنادا
إلى سعادة كائن بشري هو المرأة، ينتج منه قتل كائن بشري آخر هو الجنين. لا شك أن
سعادة المرأة وتوازنها النفسي هما قيمتان يجب المحافظة عليهما، ولكن حياة الجنين
هي أيضا قيمة أخلاقية يجب المحافظة عليها. في هذه الحالة نحن أمام صراع قيمتين: سعادة
المرأة وحياة الجنين، ومبدأ اللذة أو السعادة أو المنفعة يعجز وحده عن حل تلك
المشكلة.

 

2)
استقلال الإنسان في خلق القيم الأخلاقية

الإتجاه
الثاني ينطلق من الإنسان ويؤكد استقلاله في خلق الأخلاقية. فالذات الإنسانية هي
وحدها المسؤولة عن القيم، وهي التي تخلقها، وهذا الخلق يتم على طريقتين: إمّا عن
طريق الحرية المبدعة، وإمّا عن طريق العقل. والفرق بين الطريقتين يكمن في أن
الحرية المبدعة هي حرية الشخص الفرد، أمّا العقل فهو موضع تلاقي إبداعية الشخص
الفرد مع خير الجماعة البشرية كلها. الطريق الأولى سلكها سارتر، والثانية سلكها
كنط.

أ)
الحرية المبدعة القيم

حسب
جان بول سارتر، لا وجود لقيم أخلاقية موضوعية خارج الإنسان الفرد الذي يوجد هو
نفسه القيم الأخلاقية في الوقت عينه الذي يكوّن فيه طبيعته البشرية. ففي هذه
النظرة لا وجود لطبيعة بشرية مسبقة تعطى للإنسان، بل الإنسان هو الذي بحريته
المبدعة يكوّن طبيعته ويكوّن القيم التي يرى فيها تحقيق طبيعته. ولا يمكن، حسب تلك
النظرة, أن تصير طبيعة الإنسان أمرا ثابتا ولا القيم أن تتكون تكوينا لا يتغير.
فطبيعة الإنسان تقوم على حرية في حركة تجدد دائم، والقيم الأخلاقية لا وجود لها إلا
ضمن تلك الحرية التي هي خلق دائم وإبداع مستمر. في هذا المفهوم للحرية, لا وجود
لمضمون موضوعي للعلم الإنساني، ولا وجود لقيم أخلاقية ثابتة. القيمة الوحيدة في
عالم الأخلاق هي إلا يتخلى الإنسان عن حريته وأن يكون أمينا لذاته في عمله. كل شيء
مباح، شرط أن يقوم به الإنسان بملء إرادته وكامل حريته ومسؤوليته.

لا شك
أن سارتر يضيف أن الإنسان الذي يلتزم أعماله بكامل وعيه وحريته لا يمكنه أن يقوم
بأعمال مسيئة لذاته ولغيره. ولكن المبدأ الذي يستند إليه يقود إلى الالتباس وإلى
إباحة كل شيء. الحرية الفردية هي دون ريب عنصر أساسي في العمل الإنساني، لكن
الإنسان ليس مجرّد فرد, إنه شخص في جماعة, والجماعة ليست أمرا غريبا عنه، إنها
أيضا عنصر هام من بين العناصر التي تكوّن شخصيته الإنسانية، كما رأينا في الفصل
الأول. إنه شخص بقدر ما يشخَصُ إلى الآخرين. لذلك فالقيم الإنسانية التي عليه أن
يلتزمها لاكتمال ذاته تتخطى وجوده الفردي وتتخطى حريته الفردية. تأكيد الحرية
الفردية لا يكفي لإيجاد حل للمشكلات الأخلاقية التي تعترض الإنسان في حياته في
المجتمع. ففي أسئلة حول الإجهاض أو القتل الهنيء أو الزنى أو اللواط, لا يكفي أن
يُقال: “ليعمل كل إنسان حسب حرية ضميره, وليتحمّل كل إنسان مسؤوليته!”
علم الأخلاق واللاهوت الأدبيّ يشعران بضرورة إيجاد مبادئ موضوعية يستنير بها ضمير
الإنسان ويستند إليها لإبداء حكمه الشخصي واختيار ما يراه مناسبا من الحلول.

 

ب)
الانسجام مع العقل قياس القيم الأخلاقية

لقد
أحدث كنط ثورة في نظرية المعرفة تضاهي ثورة كوبرنيك: أثبت كوبرنيك أن الأرض هي
التي تدور حول الشمس، وليس العكس. كذلك أراد كنط ان يثبت أن موضوعية العلم لا
ترتكز على صفات الأشياء التي هي موضوع معرفتنا, بل على الإنسان الذي يعرف الأشياء.
فالموضوع هو الذي يدور حول الإنسان, وليس العكس, إذ إننا لا نعرف الأشياء في
ذاتها, بل من خلال عقلنا والنواميس التي تكوّنه. ولكن العقل لا يمكنه أن يكون
نظريا، فمعرفته للأشياء وجوهرها لا يمكن أن تتم إلا من خلال ارتباطه بالخبرة
الحسية. لذلك لا معرفة حقيقية إلا بالارتباط مع عالم الاختبار.

في
موضوع الأخلاق يرى كنط عكس هذا المبدأ. فالقيم الأخلاقية، في نظره، يجب أن تكون
مجرّدة من عالم الحواس، لأن القيم الأخلاقية لا تصف ما هو موجود بل تحدّد ما يجب
أن يكون. والإنسان من طبيعته يميل إلى الأنانية، لذلك لا يمكن أن يُترك لمقتضيات
حواسه وتطلّبات ذاته الفردية، بل يجب أن يرتفع إلى شمولية العقل. فالحواس في
الإنسان تميل به إلى الأنانية، أمّا العقل فهو فيه عنصر الشمول وعنصر المطلق. لذلك
يجب إيجاد مبدأ يرتكز على العقل وليس على الحواس. وقد وجد كنط هذا المبدأ في
الإرادة الصالحة. فمهما اختلف البشر على ما في بعض الأعمال من خير أو شر، إلا أنهم
كلهم يتفقون على أن الإنسان الذي يعمل بإرادة صالحة يعمل خيرا. والإرادة الصالحة
هي إرادة العمل من أجل الواجب وليس فقط طبقا للواجب. فالمهم ليس موضوع العمل
ومضمونه بل النية التي تسيّره. فالتاجر الذي يعدل في تجارته رغبة في كسب عدد أكبر
من الزبائن يعمل طبقا للواجب، ولكن عمله لا يصير أخلاقيا إلا إذا كانت نيته العدل
من أجل العدل، أي الواجب. هذا الواجب، في نظر كنط، مطابق للعقل، وهو مطلق وشامل.

لقد
أفلح كنط في أن يبين أن هذا المبدأ الأخلاقي، أي اتباع صوت العقل، يعبّر في الوقت
عينه عن الواجب الذي يسمو به الإنسان وعن الذات الإنسانية. فالواجب الذي يلتزمه
الإنسان هو أسمى وأشمل من تطلّبات حواسه الفردية. ولكن العقل الذي يلتزم الإنسان
اتباعه هو عقل الإنسان نفسه، وليس عقل مشترع غريب عنه. لذلك يمكن العقل أن يأمر
أمرا مطلقا وجازما دون أن يشعر الإنسان ذاته غريبا عن هذا الأمر.

من
هنا يستنتج كنط ثلاثة مبادىء أساسية في الأخلاق: 1- إعمل الواجب على الدوام من أجل
الواجب، 2- إعمل بحيث يكون عملك قاعدة شاملة يسير بموجبها جميع الناس، 3- إعمل
بحيث تعتبر البشرية غاية وليس مجرّد وسيلة.

في
هذه المبادئ الثلاثة يظهر سمو القاعدة الأخلاقية عند كنط، المرتكزة على حسن النية،
وصلاح الإرادة. ولكن تلك المبادئ تفتقر إلى صلاح المضمون. فالعمل لا يكتسب
أخلاقيته فقط من نية الشخص الذي يقوم به بل أيضا من مضمونه بالذات. وفي هذا
الموضوع, وعلى سبيل المثال، يذكر كنط تأكيدا للمبدأ الثاني أنه لا يجوز لأي إنسان
أن يحتفظ لنفسه بوديعة ائتمنه عليها إنسان آخر. ويسند هذا المنع إلى أنه, لو أردنا
تعميم هذا العمل, لفقدت الملكية الخاصة كل معناها ومبرّر وجودها. على هذا التحليل
يردّ هيجل- وقد حاول ماركس تطبيق هذا الرد في نظريته الاشتراكية- أنه لا مانع من
أن تفقد الملكية الخاصة مبرّر وجودها، وأنه يمكن تصور نظام اجتماعي لا وجود فيه
للملكية الخاصة. ويخلص هيجل إلى القول إن ما يجعل كنط يرفض أن يصير هذا العمل
قاعدة شاملة هو اعتقاده المسبق بضرورة المحافظة على الملكية الخاصة كقيمة أخلاقية.
وهكذا في الواقع، وإن بشكل خفي، لا يقتصر كنط على النية الصالحة, بل يُدخل أيضا في
تحليله ضرورة النظر إلى مضمون العلم.

إنطلاقا
من هذا الانتقاد نؤكد أنه لا يكفي النظر إلى حرية الإنسان، ولا إلى إرادته الصالحة،
بل يجب النظر إلى مضمون العمل وإلى الغاية التي يقود إليها. وهكذا ننتقل إلى الإتجاه
الثالث.

 

3)
مضمون الأعمال وغايتها قياس القيم الأخلاقية

يعترف
اللاهوت الأدبيّ المسيحي بكل ما هو إيجابي في الإتجاهين السابقين, ويطلب أن تكون
أعمال الإنسان منسجمة مع تطلّبات طبيعته ورغبتها في السعادة، ومع تطلّبات العقل
الإنساني الذي فيه يجتمع عنصرا الحرية الشخصية والواجب الشامل. فبالعقل ينفتح
الإنسان على ذاته وعلى العالم. وكل قاعدة أخلاقية تُفرض على الإنسان من الخارج دون
أن تنسجم مع تطلّبات عقله لا يمكن القبول بها, إذ إن قاعدة الأخلاق يجب أن تكون
شخصية يلتزمها الإنسان بملء قناعته وحريته وإرادته، فالعمل هو عمله الشخصي. ولكن
من جهة أخرى, كل قاعدة أخلاقية ينعزل بها الإنسان عن العالم ليستغل غيره من الناس
أو يستعبدهم لا يمكن القبول بها، لذلك يجب أن تكون قاعدة الأخلاق أيضا شاملة
يلتزمها جميع الناس.

هذا
الانفتاح على العالم وعلى الآخرين. أي على الواجب الشامل, يفترض وجود بُنى موضوعية
يجدها الإنسان في طبيعته وفي الواقع الخارجي لا بد له من أن يأخذها بعين الاعتبار
في بحثه عن قياس أعماله وقاعدتها الأخلاقية. هناك قيم أخلاقية يكتشفها الإنسان في
ذاته وفي الآخرين، ويُدرك أنه لا يمكنه التخلي عنها دون التخلي عن إنسانيته, كاحترام
الحياة مثلا، واحترام حرية الغير على جميع الأصعدة، واحترام حقوق الغير بالمحافظة
على العدالة. كل هذه القيم الأخلاقية هي قيم موضوعية, لا يخلقها الإنسان- لأنه
كائن مخلوق- بل يجدها فيه ويدرك واجب احترامها. فكما أن الإنسان لا يستطيع أن يخلق
أي شيء من العدم, كذلك لا يستطيع أن يخلق أي قيمة أخلأنية. فكما أن الحياة ليست
صنيعه كذلك قيمة الحياة ليست صنيعه. هذا هو الواجب الأخلاقي الذي يفرض ذاته على
الإنسان.

ولكن
الإنسان خُلق حرا. لذلك يعود له وضع قواعد لاحترام الحياة واحترام حرية الغير
واحترام حقوقه واحترام العدالة. الحياة والحرية والعدالة قيم أخلاقية لم يخلقها
الإنسان، إنها معطيات تسبق حريته واختياره، ولكنه يعود له تحديد الأنظمة والقوانين
التي تكفل تحقيقها لجميع الناس, وفي هذا التحديد يقوم عمل حريته وقدرته على
الإبداع والتجديد المستمر. كل يوم, يُطلب منه استنباط وسائل جديدة لتأمين الحياة
والحرية والعدالة وسائر القيم الأخلاقية لجميع الناس وجميع الشعوب.

لذلك
عندما يضع الإنسان لنفسه وتضع الدول للمجتمعات قوانين وقواعد وأنظمة للعمل, لابد
من ن تكون دوما نُصب أعين الإنسان والمشترع تلك القيم الأخلاقية الموضوعية. وتكون
الأعمال أخلاقية والشرائع أخلاقية بقدر ما تحترم تلك القيم كالحياة والحرية
والعدالة. بقولنا هذا لا ندّعي أننا وجدنا حلا لكل المشكلات، إذ إن النقاش سيبقى
مفتوحا حول أفضل القواعد لاحترام قيم الحياة والحرية والعدالة وسائر القيم. ولكننا
في هذا القول نضع مبدأ أساسيا عليه يرتكز كل تفكير حول أخلاقية الأعمال الإنسانية.

استنادا
إلى هذا المبدأ يرى الإتجاه الثالث أن قاعدة الأخلاق تقوم على الغاية التي تسعى
إليها. فإذا كانت غاية تلك الأعمال احترام القيم الموضوعية كالحياة والحرية
والعدالة، تكون تلك الأعمال أخلاقية، أي خيرا. وإذا كانت غايتها تدمير تلك القيم،
تكون لا أخلاقية, أي شرا. سنعالج في فقرة لاحقة موضوع العلاقة بين الغاية والوسيلة
التي تنتج منها مشكلات كثيرة للحكم على أخلاقية الأعمال الإنسانية. إن وجود
الإنسان على الأرض وفي المجتمع ليس على هذا القدر من البساطة بحيث يمكنه، إزاء
معضلة ما, تقديم جواب واضح ومقنع لجميع الناس. فالإنسان، بسبب وجوده في عالم
متشعّب ومحدود وفي مجتمع تتشابك فيه حقوق الناس وواجباتهم, كثيرا ما يجد نفسه حيال
قيم متعدّدة يُدرك واجب احترامها كلّها، ولا يعرف بوضوح السلوك الذي يجب اتباعه.
هذا ما يدعو اللاهوت الأدبيّ “صراع القيم”. إذ ذلك لا بد له من أن يختار
بملء حريته. وسنرى أن اختياره لا يمكن أن يكون اعتباطيا, بل عليه أن يختار العمل
الذي ينتج منه الخير الأكبر, وقد يضطر في بعض الظروف إلى اختيار “أهون
الشرّين”، إذا لم يكن الاختيار ممكنا إلا بين شرّين. ولكن يبقى أن الإنسان،
في كل أعماله وفي كل حالات صراع القيم التي يتعرّض لها، يجب عليه أن يستند إلى
مبدأ أساسي هو النظر إلى القيمة التي يسعى إليها في عمله وإلى الخير الذي ينتج منه
لنفسه وللآخرين.

 

4)
خلاصة: المحبة هي القاعدة العظمى للقيم الأخلاقية

عندما
ينظر الإنسان إلى ذاته نظرة منفتحة على الغير، يدرك أنه ليس هو مبدأ كيانه ومصدر
وجوده, بل يتلقّى كيانه ووجوده من الغير، وفي الوقت عينه يدرك أن اكتمال كيانه لا
يمكن أن يتم إلا بالتكامل مع الغير.

الخبرة
الأولى التي يختبرها الطفل هي ارتباطه بأمّه التي منها يتلقّى الغذاء والأمان
والدفء والحنان لجسده ولروحه. فإذا جاع يلجأ إلى ثدييها ليرضع منهما الغذاء، وإذا
خاف يرتمي بين ذراعيها يطلب فيهما الأمان. ويسمعها تدعوه باسمه وتكلّمه، فيبادلها
النداء والكلام. خبرة الإنسان الأولى هي خبرة علاقة حياة ومحبة مع أمّه وأبيه.
هكذا يصير الإنسان, منذ ولادته، ماهو عليه بفضل الغير. الإنسان يتلقّى كيانه هبة
من الغير, تلك خبرته الأولى في الوجود. وتلك الخبرة يقوم بها أيضا في ميدان اللغة
التي يتعلّم أن يحكيها وفي مختلف العلوم التي يتلقنها وأساليب العيش التي يتربّى
عليها. هذه الخبرة هي خبرة عطاء له وسخاء من الغير. لاريب في أنه، إلى جانب هذه
الخبرة، خبرة العطاء يُغدق عليه، يختبر أيضا أنانية الآخرين ورغبتهم في التسلّط
عليه وحرمانه من الحياة. هذا الصراع ناجم عن تصادم حريات تريد كل منها الوصول إلى
اكتمالها، وتخاف من أن تعرقل مسيرة اكتمالها حرية أخرى. والأخلاق المسيحية
المرتكزة على تعاليم السيد المسيح مدعوّة، كما سنرى لاحقا، إلى معالجة هذا الصراع.
ولكن، بالرغم من هذا الصراع، لا بدّ من الاعتراف بأن أساس الكون وأساس الإنسان
وأساس حريته عطاء وهبة وسخاء. وهذا ما يدعوه الإيمان الله، الذي هو العطاء الأكمل
والسخاء الأعظم. هكذا يصل المؤمن، من خلال الأمور المعطاة للإنسان، بما في ذلك
العقل والحب والحرية، إلى العطاء عينه الذي يدعوه الله، كما أنه من خلال الكائنات
يصل إلى الكيان نفسه الذي هو أيضا في نظره الله.

من
هنا ندرك ان أساس القيم الأخلاقية وقاعدة الأعمال الإنسانية لا يمكن أن يكونا
الإنسان المتقوقع على ذاته، المنعزل في حرية أنانيته، بل هو الحياة الشاملة
والعطاء الأكمل والسخاء الأعظم, وهذا ما ندعوه نحن المؤمنين الله. وفي هذا الإطار
من التفكير، لا يمكن أن يكون الله منافسا لحرية الإنسان يقيدها بقوانين خارجية
يفرضها عليها، بل هو نفسه أساس تلك الحرية والينبوع المتدفّق الذي منه يخرج نهر
الحرية, فيتشعّب سواقي تُروي وتُنبت وتُحيي. والقيم الأخلاقية هي عينها تلك
السواقي التي تخرج من ينبوع الله, ينبوع الحياة، فتُنبت الكائنات وتُروي الحريات
وتُحيي الناس.

قياس
الأخلاق وقاعدة الأعمال هما في النهاية الحياة والعطاء والسخاء. كل ما لدينا من
معطيات تلقّيناه هبة من الله. وتلك المعطيات هي, بين أيدينا، وديعة نحن مؤتمنون
عليها. إنها وزنات لا بدّ لنا من استثمارها في سبيل الحياة الشاملة، حياتنا
الشخصية وحياة جميع الناس, إنها ممكنات تطلب أن تصير فينا ومن خلالنا وقائع تتجلّى
فيها الحياة. الأخلاق هي خلق مستمر فينا وعلى أيدينا للحياة. هكذا نفهم قول بولس
الرسول: “وبعد, أيها الإخوة, فكل ما هو حق وكرامة, وعدل ونقاوة، ولطف وشرف,
كل ما هو فضيلة وكل ما يمتدح, كل هذا فليكن محطّ أفكاركم.. وعندئذ إله السلام يكون
معكم” (في 8: 4-9).

إنطلاقا
من هذا المبدأ العام، يمكن اللاهوت الأدبيّ أن يتوسع ليبحث في مختلف ميادين الحياة
الشخصية والعيلية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية, من الأعمال الأخلاقية, أي
أعمال الفضيلة, أي عن أفضل الأعمال التي منها تنبت الحياة، حياة الله, للإنسان
كلّه ولجميع الناس.

رابعا-
الغاية والوسيلة في الأعمال الإنسانية

إذا
كانت قاعدة الأخلاق والقياس الذي يجب الرجوع إليه للحكم على أخلاقية الأعمال
الإنسانية يكمنان في الغاية التي يقصدها الإنسان من خلال أعماله وفي المضمون
الموضوعي لتلك الأعمال، فالسؤال الذي لا بدّ من طرحه هو التالي: ما هي العلاقة بين
غاية الأعمال والوسيلة التي يستخدمها الإنسان لتحقيق تلك الغاية؟ هل يصحّ، حسب ما
يقول البعض, أن “الغاية تبرر الوسيلة”؟, أي هل يجوز اللجوء إلى وسائل
سيئة للوصول إلى غاية صالحة؟

هذا
السؤال هو من الأسئلة الأساسية في الأخلاق وفي اللاهوت الأدبيّ, إذ عليه يرتكز
الحكم في حالات كثيرة يجد الإنسان فيها ذاته مضطرا, لتحقيق غاية صالحة، إلى
استخدام وسائل تبدو سيئة في ذاتها. فقد لا يجد إنسان وسيلة للدفاع عن نفسه إلا أن
يقتل الشخص الهاجم عليه لقتله. وقد لا يجد شعب سبيلا للتخلّص من حاكم ظالم مستبد
إلا القيام عليه بثورة يعلم مسبقا أنها ستسبّب قتل كثيرين من الناس. وقد لا يجد
بلد وسيلة لتحرير أرضه إلا أن يخوض ضد المحتل حرب تحرير يعلم مسبقا أنها ستكون سبب
قتل وتدمير. وفي هذا الموضوع عينه, قد لا يجد طبيب سبيلا لإنقاذ امرأة من الموت إلا
أن يقتل الجنين الذي تحمله في أحشائها.

في كل
هذه الحالات الغاية صالحة, وهي المحافظة على الحياة البشرية أو نصرة العدالة أو
استرداد الحقوق المسلوبة. أمّا الوسيلة فهي سيئة، لأن فيها قتلا ودمارا. فهل يجوز
اللجوء إلى وسيلة كهذه؟ وما هي المبادئ الأساسية التي يستند إليها علم الأخلاق
واللاهوت الأدبيّ لتقديم حل يحافظ على القيم الأخلاقية؟

 

1)
الإنسان الصالح والاختيار الأساسي

قبل
البحث في العلاقة بين الغاية والوسيلة في أعمال الإنسان، لا بدّ من تأكيد أمر هو
على غاية من الأهمية: إن أعمال الإنسان ليست منعزلة بعضها عن بعض وعن مجمل حياته,
بحيث يقوم بها بطريقة اعتباطية وآنية, وفق تقلّب الظروف وتبدّل الأحوال، فيصنع
الخير أحيانا والشر أحيانا أخرى. لا شك أن الإنسان ضعيف ومتقلّب ومعرّض في كل حين
لصنع الشر. ولكن هناك اختيارا أساسيا يسير بموجبه الإنسان في مختلف أعماله، فيوجّه
حياته توجيها جذريّا, إمّا نحو الخير وإمّا نحو الشر. وهذا الاختيار الأساسي يظهر
في الأعمال الفردية التي يقوم بها, حسب قول السيد المسيح: “من ثمارهم
تعرفونهم: أيُجتنى عن الشوك عنب أو عن العوسج تين؟ هكذا كل شجرة جيدة تثمر ثمرا
جيدا, وكل شجرة رديئة تثمر ثمرا رديئا” (متّى 16: 7- 17), “إجعلوا
الشجرة جيدة، فتكون ثمرتها جيدة، أو اجعلوا الشجرة رديئة, فتكون ثمرتها رديئة.
لأنها من الثمرة تُعرف الشجرة. يا نسل الأفاعي, كيف تستطيعون أن تنطقوا بالصالحات
وأنتم أشرار؟ فإن الفم يتكلّم من فيضان ما في القلب. الإنسان الصالح من كنزه
الصالح يخرج الصالحات، والإنسان الشرير من كنزه الشرير يخرج الشرور” (متّى 12:
33- 36).

الإنسان
الصالح هو الذي اختار اختيارا أساسيا- أي في عمق كيانه الذي يدعوه السيد المسيح
“القلب”- أن يفعل الخير ويتّبعه ويمتنع عن الشر ويتجنّبه. الرغبة
الأساسية في الإنسان الصالح لا تقوم فقط على فعل الخير بل على اتباعه، أي على
السعي الدائم إليه، وذلك عن قناعة ومحبة. المحبة العميقة للخير تظهر في السعي
لتحقيقه في مختلف نواحي الحياة في ما يدعوه اللاهوت “الفضائل”.

فمحبة
الخير تظهر في فضيلة العدالة في علاقات الناس بعضهم مع بعض في المجتمع، كما تظهر
في فضيلة إكرام الوالدين في علاقة الإنسان بوالديه, وفي فضيلة الأمانة الزوجية في
العلاقة بين الرجل والمرأة. كل هذه الفضائل هي ثمار الشجرة الجيدة أي القلب الصالح.
ودعوة السيّد المسيح إلى التوبة هي دعوة إلى ارتداد القلب إلى الخير في مختلف نواحي
محبة الله ومحبة القريب، “هاتين الوصيتين اللتين بهما يتعلق الناموس كله
والأنبياء” (متّى 22: 40).

بين
الاختيار الأساسي الذي يقوم به الإنسان والأعمال المتنوعة التي يصنعها علاقة عضوية
تتضح لنا من خلال النقاط الأربع التالية:

أ) لا
وجود لأعمال صالحة إلا مرتبطة بإنسان صالح، ولا وجود لأعمال سيئة إلا مرتبطة
بإنسان شرير: فالصلاح والخطيئة مرتبطان دوما بالإنسان وبما يقوم به من أعمال. ومن
جهة أخرى لا يمكن التحدث عن إنسان صالح إن لم يعمل أعمالا صالحة. فإرادة الخير, إن
لم تظهر في السعي إلى عمل الخير, تبقى وهما, ولا يمكن اعتبارها إرادة حقيقية. لذلك
يقول القديس يعقوب في رسالته: “كذلك الإيمان, فإنه، إن خلا من الأعمال, ميت
في ذاته” (17: 2)، “إن الديانة الطاهرة الزكية في نظر الله الآب, هي
افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقهم، وصيانة النفس من دنس العالم” (1: 27).
والأعمال تُظهر صدق الإيمان وصلاح الإنسان.

 

ب)
هناك تفاعل بين الاختيار الأساسي والفضائل التي يظهر فيها هذا الاختيار من جهة
والأعمال من جهة أخرى: فالقيام بأعمال صالحة يثبت الإنسان في اختياره الأساسي
وينمي ما فيه من فضائل. ومن ناحية ثانية إهمال الأعمال الصالحة يقود الإنسان إلى
الفتور واللامبالاة, وقد يؤدي به إلى تغيير اختياره الأساسي: فسرقة من هنا وكذبة
من هناك, افتراء من هنا ونميمة من هناك, إهمال الصلاة من جهة وإهمال أعمال المحبة
من جهة أخرى, كل ذلك قد يؤدّي بالإنسان إلى اختيار الشر بدل الخير اختيارا أساسيا
جذريا.

ج) إن
اكتساب الفضائل يمنح الإنسان ألفة خاصة مع عمل الخير بحيث إنه, في المسائل التي
يجب الاختيار فيها بين مواقف مختلفة, يسهل عليه التمييز بين الموقف الصالح والموقف
السيء, ويسهل عليه اختيار الموقف الصالح والسير بموجبه. هكذا يجب فهم قول القديس
أوغسطينوس: “أحبّ وافعل ما تشاء”, أي إذا كانت فيك المحبة الحقيقية, فلن
تقودك المحبة إلا إلى عمل الخير.

د) لا
يمكن لأي عمل منفرد أن يجسّد الاختيار الأساسي أو الفضيلة تجسيدا كاملا: فكل عمل
يجسّد هذا الاختيار الأساسي, أخيرا كان أم شرا, في درجة ما. من هنا تنتج إمكانية
التقدم في الفضيلة، كما ينتج التمييز في اللاهوت بين الخطيئة المميتة والخطيئة
العرضيّة. فالخطيئة المميتة هي التي يميل بها الإنسان عن الاختيار الأساسي للخير
إلى الاختيار الأساسي للشر.

 

2)العلاقة
بين الغاية والوسيلة في الأعمال الإنسانية

العمل
الإنساني يتضمن عنصرين: الغاية التي من أجلها يقوم الإنسان بعمله, والوسيلة التي
يستخدمها للوصول إلى تلك الغاية. فعندما يتناول إنسان دواء, فإن غاية عمله الشفاء
من مرض انتابه، والوسيلة تناول الدواء. وفي حال الدفاع عن النفس، غاية الإنسان
المحافظة على حياته, والوسيلة قتل المعتدي. ما هي العلاقة في الأعمال الإنسانية
بين الغاية والوسيلة؟

 

أ)
الغاية والوسيلة عنصران متميّزان ومتكاملان من عمل واحد

عندما
يتناول مريض علاجا، ليست الغاية أي الشفاء من مرضه، والوسيلة أي تناول العلاج,
عملين مختلفين بل هما عنصران متميزان ومتكاملان من عمل واحد. لأن الوسيلة لا يستخدمها
الإنسان لأجل ذاتها, بل في سبيل الغاية. لا أحد يتناول دواء لأجل الدواء بل ليشفى
من مرضه. كذلك القول عن الدفاع عن النفس. فالذي يلجأ إلى القتل كوسيلة للدفاع عن
نفسه لا يريد القتل لأجل القتل ولا انتقاما من عدو له, بل يريد القتل كمجرّد وسيلة
لإنقاذ حياته. وإذا كانت لديه وسيلة أخرى أقل ضررا, كشلّ حركة المعتدي عليه، مثلا،
وجب عليه استعمالها. لأن غايته ليست قتل المعتدي عليه بل الدفاع عن نفسه وإنقاذ
حياته.

لذاك
لا بدّ لنا من التمييز بين الغاية والوسيلة، إذ إن الإنسان يمكنه الوصول إلى
الغاية عينها بوسائل متنوعة، وعليه أن يستخدم الوسيلة الأقل ضررا للوصول إلى غايته.
ومع التمييز بين الغاية والوسيلة، نعود ونؤكد وحدة العمل. فمتى اختار الإنسان
الوسيلة التي يراها ملائمة لتحقيق غايته ومناسبة لتلك الغاية- والوسيلة المناسبة
للغاية هي التي تحقق الغاية بأقل ما يمكن من الضرر- وجب اعتبار الوسيلة والغاية
عنصرين متكاملين لعمل واحد.

 

ب) إن
الذي يريد الغاية يريد بالفعل عينه الوسيلة المناسبة للغاية

فالإرادة
الصادقة تتجه بفعل واحد نحو الغاية المتوخّاة ونحو الوسائل المناسبة لبلوغ الغاية.
الاكتفاء بالإرادة دون اللجوء إلى الوسائل المناسبة ممكن, ولكنه دليل إرادة واهمة
أو نيّة غير صادقة. يستطيع الإنسان أن يريد الغاية دون أن يريد الوسائل, ولكنه لا
يستطيع أن يريد الوسائل دون أن يريد الغاية التي توصل إليها الوسائل. في هذا يقول
القديس توما الأكويني في خلاصته اللاهوتية التي يمكن اعتبار مبادئها الأساسية في
الأخلاق مرجعا ثابتا حتى لعصرنا الحاضر: “الإنسان بإرادته يتوجّه نحو الغاية
معتبرا الغاية سببا لإرادة الوسائل، ويتوجّه بالفعل الواحد عينه نحو الوسائل التي
توصل إلى الغاية.. هكذا كلما أراد مريد الوسائل التي توصل إلى الغاية أراد الغاية
أيضا بفعل واحد. وهذا لا يُعكس”، أي إن الإنسان يمكنه أن يريد الغاية دون أن
يريد الوسائل, فتكون إذّاك إرادته واهمة. ثم يضيف الأكويني: “إن حركة الإرادة
إلى الغاية وإلى الوسائل المرتبطة بالغاية هي حركة واحدة. فإني عندما أقول: أريد
أن أتناول علاجا لأجل صحتي, لا أعني بقولي هذا إلا حركة واحدة من إرادتي. فالغاية
هي السبب الذي لأجله أريد الوسائل. فالموضوع وسببه هما فعل واحد, كما ن اللون
والضوء يُريات برؤية واحدة”.

 

ج)
وحدة العمل تنتج منها وحدة الحكم الأخلاقيّ

بما
أن العمل واحد في عنصريه: الغاية والوسيلة, ينتج من ذلك أن الحكم الأخلاقي الذي
يُصدره العقل ليعرف هل العمل موافق للأخلاق أم مناقض لها، يجب أن يكون حكما واحدا.
فلا نحكم على الوسيلة حكما أخلاقيا يختلف عن حكمنا على الغاية. فلا يمكننا القول
إن فلانا عمِل عملا صالحا بدفاعه عن نفسه وعملا شريرا, أي خطيئة, بقتله المعتدي
عليه. فالعنصران عمل واحد قام به الإنسان بحركة واحدة من إرادته. وعلى هذا العمل
الواحد نُصدر حكمنا الأخلاقي. فنقول إن هذا العمل, من الناحية الأخلاقية, هو في
مجمله خير أو شر.

على
أي شيء نستند لإصدار هذا الحكم الأخلاقي؟

 

د)
الشر الكياني أو النقص في العالم الذي نعيش فيه

لإصدار
حكمنا الأخلاقي على أعمال الإنسان, لا بد لنا من التنبّه أولا إلى أن العالم الذي
نعيش فيه عالم ناقص, ولم يبلغ بعد اكتماله لا من ناحية الإنسان الفرد في تكوينه
البيولوجي وفي نفسيته, ولا من ناحية العلاقة بين الأشخاص، ولا من ناحية العالم
الخارجي والبيئة المحيطة بالإنسان. من هذا الواقع ينتج صراع بين قيم مختلفة يُدرك
الإنسان صلاحها منفردة, ولكنه يعجز عن التوفيق بينها وتحقيقها معا. وفي معظم
الأحيان لا بد له من الاختيار بينها, وباختياره إحدى تلك القيم يرى نفسه مرغما على
التضحية بقيمة أخرى

النقص
في العالم هو دون ريب شر، ولكنه ليس في ذاته خطيئة. عنه يقول اللاهوت الأدبي اليوم
إنه شر كياني، أي مرتبط بكيان الأشياء، أو شر طبيعي. أي مرتبط بطبيعة الأشياء.
ولكنه ليس في ذاته شرا أخلاقيا أو شرا أدبيا. لذلك لا يُعتبر الإقدام عليه أو
السماح به خطيئة في كل الأحوال, كما سنرى في الفقرة اللاحقة. من هذه الشرور
الكيانية قطع ساق مريض لإنقاذ حياته, أو اللجوء إلى “إجهاض علاجي”
لإنقاذ حياة الأمّ. في الطب كما في أمور أخرى من العالم الذي نعيش فيه, لم يتوصّل
الإنسان بعد إلى حلّ كل المشكلات الناجمة عن ضعف الطبيعة البشرية المعرّضة على
الدوام للمرض والموت. كذلك في العلاقات الاجتماعية والدولية, لم يتوصّل المجتمع
إلى حلّ المشكلات الناجمة عن أطماع الناس وفساد إرادتهم. فيجد الإنسان ذاته أحيانا
إزاء شخص مجرم يهمّ بقتله, فيضطر إلى الدفاع عن نفسه. يدرك أن حياة الشخص الآخر
قيمة يجب عليه احترامها, ولكنه يدرك أيضا أن حياته الخاصة قيمة يجب الحفاظ عليها,
وعليه أن يختار بين القيمتين: وكذلك الدولة التي تجد نفسها مضطرة إلى إعلان حرب
تحرير على دولة غاصبة احتلّت أراضيها تدرك أن حياة الآخرين قيمة يجب احترامها,
ولكنها تدرك أيضا أن الحرية وكرامة الوطن هما من القيم التي يجب الحفاظ عليها
والدفاع عنها حتى الموت. وتسأل نفسها كيف يمكنها التوفيق بين تلك القيم.

 

ه)
متى يجوز الإقدام على الشر الكياني: مبدأ العمل الواحد الذي تصدر عنه نتيجتان،
إحداهما صالحة والأخرى سيئة

للمساعدة
على الاختيار بين قيم مختلفة لا يستطيع الإنسان المحافظة عليها معا، يستند
الللاهوت التقليدي إلى مبدأ جواز القيام بعمل تصدر عنه في آن واحد نتيجتان: إحداهما
صالحة والأخرى سيئة، على أن تتوفّر في هذا العمل الشروط الأربعة التالية:

1)
ألا تكون الوسيلة المستعملة عملا سيئا في ذاته. فقد يحدث مثلا أن امرأة تصاب. وهي
حامل بسرطان في الرحم، وهي بحاجة إلى عملية جراحية. فالعملية الجراحية ليست وسيلة
سيئة في ذاتها.

2) من
هذا العمل تصدر نتيجتان: نتيجة صالحة, إنقاذ المرأة من الورم السرطاني الذي يوشك
أن يمتد إلى كل جسمها ويميتها هي وجنينها, ونتيجة سيئة, إزالة الجنين الملتف حوله
الورم السرطاني. فالشرط الثاني يقضي بأن يقصد الإنسان من عمله النتيجة الصالحة
التي هي غاية عمله، ولا يسمح إلا مرغما بالشر الناتج، أي بقتل الجنين.

3)
الشرط الثالث ينص على ألا يكون الشر (وهنا قتل الجنين) نتيجة العمل المباشر التي
منها يصدر الخير (وهنا إنقاذ حياة الأمّ), إذ لا يجوز أن يصنع الإنسان الشر ليصدر
منه الخير. بل يجب أن ينتج الشر بطريقة غير مباشرة, أو ينتج الشر والخير كلاهما
معا.

4) أن
يكون هناك سبب كاف للإقدام على العمل.

تطبيقا
للشرط الثالث يُجيز اللاهوت التقليدي الإجهاض العلاجي الذي يتم فيه قتل الجنين
بطريقة غير مباشرة, ولكنه يحظّره في الحالات التي يتم فيها قتل الجنين بطريقة
مباشرة. غير أن اللاهوت المعاصر، نظرا إلى تطور الطب, قد أدرك أنه يصعب في بعض
الأحوال البتّ في هل كان الشر ناتجا عن العمل بطريقة مباشرة أم غير مباشرة. في هذا
يقول أساقفة بلجيكا في تصريح لهم حول الإجهاض العلاجي, في 6 نيسان 1973: “علميا،
يصعب البتّ أحيانا هل كان الموت نتيجة مباشرة أم غير مباشرة للمبادرة الطبية. فهذه،
من الناحية المسلكية, تُعتبر وحدة لا تتجزّأ. والمبدأ الذي يجب تسير بموجبه يمكن
نصّه كما يلي: عندما تكون حياتان في خطر، على الطبيب أن يسعى بكل الوسائل الممكنة
إلى الاحتفاظ بسلامة الاثنتين، والأحرى أن يحاول إنقاذ واحدة خوفا من خسارة
الاثنتين معا”.

 

و)
النسبة اللازمة بين الغاية والوسيلة

لذلك
لا ينظر اللاهوت المعاصر إلى الشرط الثالث بقدر ما ينظر إلى وحدة العمل وإلى
النسبة اللازمة بين الغاية المتوخّاة والوسيلة المستعملة لتحقيق الغاية. فليس كل
شر طبيعي شرا أدبيا. ولكن الشر الطبيعي يصير شرا أدبيا إذا لم تتوفر النسبة
اللازمة بين الغاية والوسيلة. لتفسير هذه النسبة اللازمة نعود إلى مثل قطع ساق
المريض فنقول: إن قطع ساق إنسان هو في ذاته شر طبيعي، ولكنه ليس شرا أدبيا, أي إنه
ليس خطيئة, إذا أصيبت تلك الساق بجرثومة خبيثة تهدد الجسم كله. ولم يكن لدى الطبيب
وسيلة أخرى لإنقاذ حياته سوى أن يقطع له ساقه المصابة. فالنسبة اللازمة بين الغاية
(إنقاذ حياة الإنسان) والوسيلة (قطع ساقه) متوفرة في هذا العمل، إذ إن حياة
الإنسان أهم بكثير من ساقه.

في
هذا الموضوع يُصدر العقل حكمين متكاملين: الحكم الأول على الغاية، فيسأل هل الغاية
صالحة؟ والحكم الثاني على الوسيلة، فيسأل هل الوسيلة المستعملة هي الفضلى لبلوغ
الغاية؟

تكون
الغاية صالحة إذا أدّت إلى اكتمال الإنسان في شخصه وفي علاقته بالله وبالآخرين
وبالمصلحة العامة. الإنسان هو مشروع لم يتم بعد اكتماله, والمجتمع البشري أيضا
مشروع لم يتم بعد ائتلاف أجزائه. ودليل ذلك ما نشهده كل يوم من خصومات بين الناس
وحروب بين الشعوب. فالأعمال الإنسانية تكون غايتها صالحة بقدر ما تهدف إلى إنماء
الإنسان في شخصه والتآلف بين الناس والعدل والصدق والأمانة والتعاون والمشاركة
وسائر وجوه المحبة على أنواعها المتعددة.

أمّا
الوسائل المستعملة لبلوغ الغاية فتكون صالحة إذا كانت مناسبة وملائمة للغاية
المتوخّاة. فلا يستخدم منها الإنسان إلا القدر الكافي لبلوغ الغاية. فكما أنه لا
يجوز قطع ساقين إذا كان قطع ساق واحدة كافيا لإنقاذ حياة المريض, كذلك لا يجوز هدم
مدينة بكاملها بمن فيها من مدنيين أبرياء, ولا يجوز إطلاق القذائف والصواريخ في
قصف عشوائي على الأحياء السكنية, إذا كان تدمير قوة العدو العسكرية كافيا لإنهاء
الحرب. كذلك أيضا لا يجوز, دفاعا عن النفس, قتل المعتدي إذا كان بالإمكان نزع
سلاحه وشلّ حركته. في مثل هذه الظروف تظهر أخلاقية الأشخاص وأخلاقية الشعوب, إذ
يتبين هل كانت غاية القتل الدفاع عن النفس وإنقاذ الوطن أم الانتقام والإبادة.

لتقدير
النسبة اللازمة بين الغاية والوسيلة, يجب الاستناد إلى ثلاثة مبادئ. يجب أولا ألا
يكون تناقض بين الوسيلة المستعملة والغاية التي تهدف الوسيلة إلى تحقيقها.
فالإنسان الذي يسرق ممتلكات غيره للحصول على ممتلكات خاصة يستخدم, للوصول إلى غاية
صالحة (الحصول على ممتلكات خاصة), وسيلة تناقض الغاية عينها, إذ يسرق ممتلكات غيره.

المبدأ
الثاني يقضي بألا ننظر إلى العمل منفردا وفي المطلق, بل بحسب الغاية التي يريدها
الإنسان الذي يقوم بالعمل وبحسب النتائج العملية التي يتوقّعها من عمله. فالعمل
يُحكم عليه في علاقته مع مجمل حياة الإنسان الخاصّة (في مختلف أبعادها: الروحية
والعقلية والجسدية)، والاجتماعية (في علاقته مع غيره, وعلاقة الدول بعضها ببعض).
استنادا إلى هذا المبدأ, يختلف الحكم على الإجهاض بحسب اختلاف الأحوال. فالإجهاض
العلاجي في حال مرض يشكّل خطرا على حياة الأمّ يختلف عن الإجهاض الاعتيادي الذي
تقوم به المرأة لمجرّد التخلص من جنين لا تريده، رافضة تحمّل مسؤولية عمل قامت به
بملء رضاها، كما يختلف عن الإجهاض الذي تطلبه امرأة في حال اغتصابها. كذلك يختلف
الحكم على اتّخاذ “وسائل منع الحمل” بحسب اختلاف الأحوال (وضع العائلة
الاقتصادي, عدد الأولاد، اتّزان الزوجين العاطفي, صحة الزوجة, وأيضا حال الاغتصاب).
هذا النظر الضروري إلى مجمل الأحوال والظروف التي يتم فيها العمل, للحكم عليه,
يؤكده بنوع خاص نهج أخلاقي معاصر يدعى “أخلاقية الغاية”, يرى أن خُلُقية
العمل تتحدّد بحسب غاية العمل, ولكن ليس في المطلق كما تأمر به الوصية (مثلا: لا
تقتل), بل في النتائج العملية كما يتوقعها الفاعل ويريدها في لحظة إقدامه على
العمل.

المبدأ
الثالث يقوم على أن يسعى الإنسان قدر استطاعته إلى تقليص الشر الطبيعي في العالم
والنقص الكياني في الأشياء والأعمال. وهكذا تتقلص فرص الشر وتخفّ أعمال الشر.
العالم الذي نعيش فيه ليس كاملا, ولكن مسؤولية الإنسان تكمن في الإسهام في تطويره
نحو الكمال.

على
الإنسان وعلى الجماعات البشرية العمل معا في سبيل تكوين عالم يعيش فيه جميع الناس
في العدل والكرامة. وبقدر ما يتطور العلم وتتطور الأخلاق يخفّ الشر الطبيعي في
العالم. وهذا ما يحدث الآن مثلا في الطب, حيث يستطيع الطبيب, في معظم الأحيان
بواسطة عملية جراحية، إنقاذ حياة الجنين وحياة الأمّ معا. ولكن إذا أُلجئ إلى قتل
الجنين, عليه أن يعتبر عمله شرا كيانيا يتحمّل مسؤوليته بأسف وشجاعة في آن واحد.
يأسف لعدم تمكنه من إنقاذ الحياتين معا، ولكنه يتحمل مسؤوليته بتبصّر وشجاعة. فهو
المسؤول عن تطبيق الخير وعن التمييز بين القيم التي لا بد له من الاختيار بينها،
إن لم يستطع تحقيقها كلها.

 

ز)
تطبيق هذه المبادئ على موضوع العنف

في
الختام سنحاول تطبيق هذه المبادئ الأساسية في علم الأخلاق وفي اللاهوت الأدبيّ على
موضوع العنف في الدفاع عن النفس, أو القيام بثورة على حاكم ظالم مستبد، أو في
الدفاع عن الوطن في حرب تحرير تشنّها دولة على عدو محتل.

فالذي
يقوم بأعمال عنف وقتل في حالات كهذه يقوم بها بأسف وحزن معتبرا عمله “حلا
يائسا لحالة يائسة”.

فالوصية
“لا تقتل” تبقى وصية مهما كانت الظروف والأحوال. والقتل يبقى شرا، حتى
إذا شعر الإنسان بواجب اللجوء إلى القتل. غير أن الإنسان لا يستطيع دوما أن يبتعد
عن العنف, فيستسلم لحتميات القدر (في الطب)، أو لتسلّط الحكم القائم (في السياسة)،
بحجة أن القدر يمثّّل إرادة الله، والحكم القائم يمثّل سلطة الله، فإرادة الله
ليست أن يستسلم الإنسان للقدر بل يمارس المحبة، والله لا يؤيد الحكم القائم إلا
متى كان هذا الحكم عادلا. فالله محبة, والله عدل.

لذلك
يرى “مولتمن” أن المسألة لا تقتصر على الاختيار بين العنف واللاعنف، لأن
كل سلطة هي في الواقع عنف. فإذا كانت السلطة عادلة تضمن حقوق كل إنسان، كان عنفها
مبررا. أمّا إذا لم تعدل، فالعنف الذي يعمل على إزالتها يصبح هو مبررا.
“فالمسألة الأخيرة هي تبرير السلطة لئلا تغدو محض عنف”، واللجوء إلى
وسائل مناسبة لتسلّم السلطة وضمان حقوق جميع الناس.

فالمهم،
في رأيه، ليس التحاشي عن العنف للمحافظة على البراءة ونقاوة الضمير, بل تحمّل
المسؤولية وممارسة المحبة، حتى إذا ألجأتنا المحبة إلى العنف. ثم يستشهد بمقطع من
“بونهوفر”، يصف فيه العمل المسؤول بقوله: “بما أن المسيح يسوع قد
حمل خطايا جميع البشر، فلا يستطيع أحد أن يعمل بطريقة مسؤولة دون أن يصبح مذنبا.
ومن أراد التملص من تحمّل الذنب, انفصل بالفعل عينه عن الحقيقة الأخيرة للوجود
الإنساني, وانفصل عن سر التحرير الذي به أخذ المسيح الذنب على عاتقه, ولم يشترك في
التبرير الإلهي المرتكز على هذا الحدث. إن هذا الإنسان يفضّل نقاوته الشخصية على
المسؤولية تجاه إخوته، وقد عمي عن الذنب الأسوأ الذي يقترفه, ولم ير أن البراءة
الحقيقية تتجلّى في الدخول في شركة الذنب, محبّة بالآخر”.

تعليقا
على هذا النص يرى مولتمن أن “ما هو مطابق للإنجيل ليس مبدأ اللاعنف ذلك المبدأ
المثالي, بل عمل المحبة المسؤول. فالمحبة هي تلك القوة الإلهية التي, كما يقول
بولس الرسول, يبدو كمالها في الوهن (2 كو 12: 9). فالمحبة التي تشعر بمسؤوليتها في
العمل السياسي تتجرّد عن ذاتها إلى حد أنها تضحّي ببراءتها وتقترف الذنب.

ويخلص
مولتمن إلى نتائج ثلاث:

 

1)
اللاعنف، بمعنى اللامقاومة, مسؤولية يستحيل القبول بها في حالات الطغيان والظلم,
لأنها تحبّذ العنف القائم. ولا تحفظ للإنسان براءته الشخصية, بل تقود إلى
“ذنب أسوأ”.

2)
عمل عنف يُتمّم عن محبة وبهدف القضاء على الشر, لا نستطيع أن نبرره بمعنى أننا
نعتبره عملا مقدسا. ولكن يستطيع الإنسان أن يقبل بمسؤوليته. فالعنف لا يمكنه
الابتهاج إزاء ضحاياه. هذا من شأن الثأر فحسب, لا من شأن المحبة. والذنب يبقى ذنبا.
غير أن الإيمان يعطينا أن نحيا في هذا الشعور بالذنب دون أن نلجأ إلى الانتحار.
والالتزام بالعنف والمقاومة بيقى “التزاما مرا”. ولكن لا بدّ من التذكير
بأن الذنب الناتج عن المحبة المسؤولة لا ينتج فقط في حال العنف, بل في كل عمل
سياسي يقوم به الحكّام أو يُسهم فيه المواطنون.

3)
ليس سواء أن يعمل الإنسان أو لا يعمل، بحجة أن الذنب يلحق به في كلتا الحالتين.
فالذنب الأسوأ يكمن في إهمال العمل والتخلي عن المسؤولية.

هكذا
يظهر لنا مرة أخرى أن الأخلاق المسيحية لا تهدف إلى تطبيق الوصايا تطبيقا حرفيا،
بل تستنير بتلك الوصايا لتتخذ على ضوئها موقفا تعمل فيه على إحلال المحبة في
العالم. ومهما تنوعت الوسائل، فيجب أن تكون على قدر الغاية، والغاية الأخيرة لكل
أعمال الإنسان هي تمجيد الله من خلال إنماء الإنسان وإحلال المحبة في كل علاقات
الناس بعضهم ببعض.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى