علم الانسان

الجسد والروح في الإيمان المسيحي



الجسد والروح في الإيمان المسيحي

الجسد
والروح في الإيمان المسيحي

nvVvn

أول
مَنْ وضع هذه الثنائية في الإيمان المسيحي هو المسيح نفسه، حينما كان يتكلَّم عن
ملكوت الله مع نيقوديموس أحد رؤساء السنهدريم اليهودي، إذ قال له فيما يختص بملكوت
الله:

1 “الحق الحق أقول لك: إن كان أحد
لا يولَد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله” (يو 3: 3)

مقالات ذات صلة

ولكي
يشرح كيفية الولادة من فوق قال:

+
“الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولَد من الماء والروح لا يقدر أن
يدخل ملكوت الله” (يو 5: 3)

بمعنى،
لكي يدخل الإنسان ملكوت الله (فوق) يلزم أن يولد من فوق، مشيراً إلى عمل السرِّ الإلهي
الفائق.

2
ثم لكي يفرِّق المسيح بين إنسان يولد من الجسد وإنسان يولد من الروح،
قال:

+
“المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح” (يو 6: 3)

وهكذا أدخل المسيح على الإنسان العادي (الخاطئ) إمكانية
ولادة أخرى ثانية من الروح، فصار الإنسان نفسه المولود من الجسد مولوداً أيضاً من
الروح. ولكن المسيح فرَّق بوضوح بين الميلاد من الجسد والميلاد من الروح حين قال
إن الميلاد من الجسد أعطى الإنسان طبيعة جسدية، إذ قال: ” جسدٌ هو”؛ ثم
عاد وأعطى الإنسان نفسه حينما يولد ثانية من الروح طبيعة الروح، إذ قال: ” هو
روح”.

لماذا
أعطى المسيح هذا الميلاد الثاني من الروح؟

واضح
أن الإنسان مخلوق من تراب، إذ نفخ فيه الله من روحه، فصار حيًّا. فهو تراب أو
مادة حيَّة،
ولكنه كان مخلوقاً على صورة الله في المعرفة وفي المشيئة الحرَّة.
فحدث أن استخدمهما في عصيان الله وعمل الممنوع عن معرفةٍ وإرادةٍ حرَّة. فتشوَّهت
معرفته وسقط من السيادة على إرادته، ونزل إلى الأرض ليعمل فيها. وهكذا صار الإنسان
نهباً للشيطان الذي أوحى إليه وهو في النعيم أن يعصى الله بدافع شرير بعد حوار غير
حذر؛ إذ في عملية استدراج، بادر الشيطان حواء الأضعف في الإنسان: “أحقاً قال
الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة” (تك 1: 3)؟ فتسرَّعت حواء دون العودة إلى
رجلها بنوع من حرية الذات، مع أنهما كانا واحداً، وتكلَّمت عن نفسها وعن
آدم ظلماً: “فقالت المرأة للحية: مِنْ ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة
التي في وسط الجنة، فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمسَّاه لئلا تموتا”
(تك 2: 3و3). فألقى الشيطان فخه المسموم أمام عقلها وذكَّرها بحرية إرادتها وقال: “فقالت
الحية للمرأة: لن تموتا (هكذا)، بل الله عالمٌ أنه يوم تأكلان منها تنفتح
أعينكما وتكونان كالله عارفَين الخير والشر” (تك 5: 3). هذا الكلام صحيح
تماماً، ولكنه مطعوم بالسم، أين هو؟

صحيح أن الله أعطى الإنسان حرية إرادة ومعرفة، ولكن كانت
الحرية مربوطة بالله، والمعرفة مستمدة منه، طالما كانا طائعَيْن خاضعَيْن. ولكن إن
هما عصيا أمر الله، فالمعرفة تنقطع صلتها بالله، والحرية الشخصية تفقد تأمينها،
ويصيران تحت سلطة الشيطان. لم تنتبه حواء للفخ ولا للسم الموضوع في الكلام الصحيح:
“فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون (الحواس بدون حراسة
العقل المتَّصل بالله، والحرية بلا مدبِّر أو موجِّه)، وأن الشجرة شهية للنظر.
فأخذتْ من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل. فانفتحت أعينهما وعلما أنهما
عريانان..” (تك 6: 3و7)

هذا
كان مدخل خطية آدم، إذ بعصيان الله تعرَّى من نعمة الحفظ في حرية الله وتدبيره.
وهكذا صار الإنسان بجسده الترابي فاقداً حريته المحفوظة في الله، ومعرفته المستمدة
من الحق. صحيح أن له إرادة حرَّة، وصحيح أن له معرفة، ولكنه أصبح غير قادر على حفظ
حرِّيته من سيطرة الشيطان، ولا أصبح قادراً على معرفة الحق الذي يحفظه بلا
خطية.

فماذا يعمل الله للإنسان الذي انحاز بجسده لشهوات التراب،
وانقطعت عنه معرفة كل ما فوق؟ وأصبحت حياته تنتهي نهاية واحدة أسماها آباء العهد
القديم: “طريق الأرض كلها” (1مل 2: 2)، أي الموت. هكذا تحتَّم للإنسان
أن يُخلق خلقة ثانية جديدة، إنما هذه المرَّة من فوق من الروح وليس من التراب.

خلقة
الإنسان الجديد الروحاني من فوق:

والقصد
من الخلقة الأولى للإنسان من تراب الأرض، هو أن الله أراد أن توجد أمامه خليقة من
الأرض تسبِّحه وتحيا معه وترتقي إليه. فلما أخفقت الخليقة الأولى في ذاتها الترابي،
صمَّم الله هذه المرَّة أن يخلقها من طبيعة ابنه القائم من بين الأموات، الروحانية
غير القابلة للموت أو الفساد! فأرسل “كلمته”الذاتي حاملاً فكر الله، وبنوَّته،
ومشيئته، وفعله.

+
واضح هنا أن الله عزم أن يمنح الإنسان هنا كلمته، أي معرفته، ليفتح معرفة الإنسان
على معرفة الله:

“عرَّفتهم
اسمك (شخصك) وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم”
(يو 26: 17)

+
وعِوَض بنوَّتهم لآدم التي كانت سبب الخطيئة ومصدرها، عزم أن يعطيهم حقَّ التبنِّي
لله، أي أن يكون الله أباهم:

“الروح
نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله” (رو 16: 8)

+
وعِوَض حرية آدم التي استولى عليها الشيطان، أعطاهم “حرية مجد أولاد الله”(رو
21: 8):

“فإنْ
حرَّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً” (يو 36: 8)

وهكذا وُلِدَ “الكلمة”ابن الله بالجسد، وأخذ
“شِبه”جسد الخطية
(رو 3: 8)، ولكن بدون الخطية، مما يُثبت أن
الجسد (اللحم والدم) ليس فيه خطية بحدِّ ذاته. فالخطية كامنة في الإرادة المحرومة
من تدبير الله، والمعرفة المنقوصة البعيدة عن معرفة الله؛ اللتين تداخل فيهما
الشيطان وأفسدهما.

ثم حمل الكلمة ابن الله المتجسِّد (المسيح) خطايانا في جسده
على الخشبة، فأصبح قابلاً للموت وتحت العقوبة كإنسان، وهو أصلاً بلا خطية كإله.
ومات بالجسد، فأكمل العقوبة في الجسد، وداس الموت وقام بالجسد، ذات الجسد
جسدنا الذي صُلب به لأجلنا، قام بلا خطية وغير قابل للموت في وضعه
الروحي السماوي. وهكذا سلَّمنا جسده القائم من بين الأموات ليكون جسدنا الجديد
الروحي، فأصبح المسيح بذلك أبانا الجديد، آدم الثاني، الروح من السماء، عِوَض آدم
الأول الترابي الذي من الأرض:

+
“صار آدم، الإنسان الأول، نفساً حيَّة، وآدم الأخير روحاً مُحيياً..

الإنسان
الأول من الأرض ترابي. الإنسان الثاني الرب من السماء..

وكما
لَبِسنا صورة الترابي، هكذا لنلبس(
[1]) صورة السماوي” (1كو 45: 15و47و49)

وسلَّمنا
المسيح جسده الروحي هذا في سر المعمودية الذي فيه نولَد جديداً بالروح له
وعلى شكله في البر وقداسة الحق، معتبرين أننا مولودون من الله:

+ “وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد
الله،
أي المؤمنون باسمه. الذين وُلِدوا ليس من دمٍ، ولا من مشيئة جسد، ولا من
مشيئة رجل، بل من الله!” (يو 12: 1و13)

+
“لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد
الثاني
وتجديد الروح القدس” (تي 5: 3)

+
“كل مَنْ يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد وُلِد من الله” (1يو 1: 5)

+ “مولودين ثانية، لا من زرع يفنى، بل ممَّا لا
يفنى، بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد” (1بط 23: 1)

+
“لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلَّكم الذين
اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل 26: 3و27)

+
“إن كنتم قد سمعتموه وعُلِّمتُم فيه كما هو حقٌّ في يسوع، أنْ تخلعوا من جهة
التصرُّف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور، وتتجدَّدوا بروح ذهنكم،
وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق” (أف 21: 424)

+
“لا تكذبوا بعضكم على بعض، إذْ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم
الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه” (كو 9: 3و10)

وهكذا منحنا الله أعظم عمل بعد خلقتنا الأولى الترابية، وهو
خلقتنا الثانية الروحية من فوق، من الماء والروح بالميلاد الثاني، في الإنسان
الجديد المخلوق في المسيح، ومن طبيعة المسيح القائم من بين الأموات، الذي من
طبيعته أن يتجدَّد فينا بالروح القدس: “من مجد إلى مجد كما من الرب
الروح” (2كو 18: 3)

وهكذا
صار الإنسان مكوَّناً من عنصرين: الإنسان القديم الخاطئ الترابي المحكوم عليه
بالموت والقابل للخطية؛ والإنسان الجديد الثاني الروحي من السماء على صورة المسيح
ومن طبيعته القائمة من بين الأموات، والذي لا يسود عليه الموت، وهو ليس تحت
ناموس الخطية بل تحت ناموس روح الحياة في المسيح، لا تسود عليه الخطية لأنه ليس
تحت نيرها، بل هو تحت النعمة وقيادة الروح القدس. بل ويؤكِّد القديس يوحنا أنَّ
مَنْ يؤمن بالمسيح ويعتمد له، يولَد من الله ميلاداً جديداً، لا يخطئ، ولا
يستطيع أن يخطئ، فهو من طبيعة المسيح وتحت قيادة الروح القدس:

+
“كل مَنْ هو مولود من الله لا يفعل خطية، لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع
أن يُخطئ لأنه مولود من الله” (1يو 9: 3)

+
“نعلم أن كل مَنْ وُلِدَ من الله لا يخطئ، بل المولود من الله يحفظ نفسه
(بالنعمة)، والشرير لا يمسُّه” (1يو 18: 5)

وهنا
نشأ التصارع فينا لحساب المسيح والله الآب:

+
“لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يُقاوِم أحدهما الآخر، حتى
تفعلون ما لا تريدون” (غل 17: 5)

+
“وإنما أقول: اسلكوا بالروح فلا تكمِّلوا شهوة الجسد” (غل 16: 5)

+
“ولكن إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس” (غل 18: 5)

+
“لأن مَنْ يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً، ومَنْ يزرع للروح فمن الروح
يحصد حياة أبدية” (غل 8: 6)

+
“إن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد
فستحيون. لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله” (رو 13: 8و14)

ولكن
يعطينا بولس الرسول تأكيداً أن كفة الإنسان هي الأقوى، لأن الإنسان الجديد محكوم
بالنعمة ومقيَّد بالروح، ولا يعمل الجسد العتيق في حضرته إلاَّ خلسة:

+
“فإن الخطية لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة” (رو 14: 6)

وهنا
يتضح أن الجسد العتيق لا يزال له الفرص أن يعمل حسب شهوات التراب، ولكن يؤكِّد لنا
بولس الرسول أن “الجسد ميت”، أي في حكم الموت مع الخطية التي تعمل:

+
“وإن كان المسيح فيكم (وهذا بالإيمان وبسر العماد والتناول)، فالجسد ميِّت
بسبب الخطية، وأما الروح (الإنسان الجديد) فحياةٌ بسبب البر (الذي ناله بقيامة
المسيح من بين الأموات)” (رو 10: 8)

بل
ويؤكِّد لنا القديس بولس أيضاً، أن دم المسيح قد طهَّرنا حقاً وبالفعل من أعمال
الجسد التي اعتبرها أعمالاً ميتة، وأنهى عليها في الضمير:

+ “فكم بالحري يكون دم المسيح، الذي بروح أزلي قدَّم
نفسه لله بلا عيب، يُطهِّر ضمائركم من أعمال ميِّتة لتخدموا الله الحي!” (عب
14: 9)

ويفوق الكل القديس يوحنا، عندما يُنادي ببوق النعمة لكي
نحصل على حقِّنا في استعلان الحياة الأبدية التي صارت لنا، ونتمسَّك بالشركة التي
وُهبت لنا باستعلان الحياة الأبدية في الآب وفي المسيح:

+ “الذي رأيناه وسمعناه نُخبركم به، لكي يكون لكم
أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم
هذا لكي يكون فرحكم كاملاً” (1يو 3: 1و4)

وهذا
لا ينفي أن تكون لنا خطايا بالجسد، ولكن يؤكِّد لنا القديس يوحنا أن هذه الخطايا
تحت شفاعة المسيح وهي مُلغاة بالكفَّارة:

+
“.. ودم يسوع المسيح ابنه يُطهِّرنا من كل خطية. إن قلنا إنه ليس لنا خطية
نُضِلُّ أنفسنا وليس الحقُّ فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر
لنا خطايانا ويُطهِّرنا من كل إثم” (1يو 7: 1و8و9)

+
“إن أخطأ أحدٌ فلنا شفيعٌ عند الآب، يسوع المسيح البار، وهو كفَّارة
لخطايانا” (1يو 2: 2)

ومن
روح القديس يوحنا ومن مضمون تعبيره وكلامه، نفهم أنه من حقِّنا الأول أن نشعر أننا
نحيا في الحياة الأبدية التي أُظهِرَت من أجلنا في المسيح يسوع، وأنه بمقتضاها نحن
شركاء حتماً مع الآب والمسيح. وهذا هو نصيب الإنسان الجديد الروحاني المخلوق على
صورة خالقه في البر وقداسة الحق، هذا حقُّه، هذا عمله، هذا فرحه وإكليله. ولكن هذا
لا ينفي أننا نخطئ، ولكن خطيتنا تحت محاصرة النعمة وغفران الدم. على أنه يستحيل أن
تقوى خطايا الجسد الميت، التي هي أعماله الميتة، وتنال من نصيبنا في شركتنا مع
الآب ومع ابنه يسوع المسيح، أو تُنقص من فرحنا الكامل قيد أُنملة، أو تستطيع أن
تعيد رُعبة الموت لضمائرنا التي طهَّرها دم المسيح بروح أزلي.

مصدر
الصراع بين الجسد والروح:

سبق
أن قلنا إن الجسد لا يُحسب بحد ذاته كلحم وعظام أنه
مصدر الخطية أو الشر فهو خليقة الله، والله منزَّه عن أن يخلق الشر. ولكن طبيعة
الخطية التي ورثناها من آدم هي “الحرية الساقطة”من مصدرها الإلهي الذي كان
يحفظها ويدبِّرها، وما يتبعها من إرادة ومشيئة مسيبة لا ضابط لها، ثم معرفة
مفصولة عن الله منحطَّة. هذه كلها صارت لعبة في يد الشيطان.

وبناءً
على ذلك أصبح لا نفع للجسد ولا منفعة فيه طالما هو مسيَّر تحت هذه القوى المسيبة.

ومن هنا كان كما سبق وقلنا تصميم
الله أن يخلقنا من جديد خلقة روحانية بالميلاد من فوق، مفصولة نهائياً عن مصدر
الخطية ومفاعيلها وآثارها. لأنه ميلاد من الله من طبيعة جسد القيامة الذي للمسيح
الذي أبطل الخطية وألغى الموت عن الإنسان الجديد الذي قام به. لذلك كان قول القديس
يوحنا صادقاً ويتحتَّم الالتفات إليه، أنَّ: ” المولود من الله لا يخطئ
ولا يستطيع أن يخطئ”.
هذا هو الإنسان الجديد الذي ورثناه من المسيح كآدم
الثاني؛ الذي وإن صحَّ أن يُقال إنه أبونا الجديد عِوَض آدم، إلاَّ أنه أعطانا
التبنِّي معه وفيه لله الآب، لذلك دُعِيَ أخانا البكر (رو 29: 8)، بكر القائمين من
بين الأموات (كو 18: 1)، مع أننا محسوبون أننا مخلوقون فيه وعلى صورته.

والذي ينبغي أن نقف عنده ونتمسَّك به هنا، أن جسدنا الروحي
الجديد لا يخطئ ولا يموت، إذ هو قائم في المسيح يسوع ومتَّحد به: “فأحيا
لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ” (غل 20: 2)، “وأما مَنْ التصق بالرب فهو
روح واحد” (1كو 17: 6)، “أنتم فيَّ وأنا فيكم” (يو 20: 14)،
“مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أُقيمه في اليوم
الأخير” (يو 54: 6)، “مَنْ آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل مَنْ كان حيًّا
وآمن بي فلن يموت إلى الأبد” (يو 25: 11و26)

وواضح
أن الصراع بين الجسد العتيق والجسد الجديد الروحاني(
[2]) ليس في طبيعة كل منهما،
ولكن في الإرادة والمعرفة. فالجسد العتيق تتحكَّم فيه شهوات التراب (العالم) التي
خضع لها آدم أبوه، ودائرة معرفة الجسد العتيق مربوطة في الماديات وحدودها العقل.
فكل ما هو غير معقول أو فائق مثل الروحيات، جهالة عنده. وعند العامة يقولون إن
الله عُرف بالعقل. هذا غش وكذب، فالله لا يُعرف إلاَّ بالإيمان، والإيمان يكون
بالوعي الروحي في الإنسان.
فالصراع، في الواقع، على أشدّه بين العقل
في الجسد العتيق، والوعي الروحي المفتوح في الإنسان الجديد المتَّصل بالله، ولا
يمكن أن يتقابلا أو يتوافقا إلاَّ تحت سلطان الخضوع لله والتسليم له. لذلك يتحاشى
أهل الفطرة والبسطاء الدخول في المعارف الإلهية العالية التي لا يستوعبها إلاَّ
الوعي المفتوح على الله، ويكتفون بالخضوع والتسليم بالمسلَّمات دون مناقشة.

ونجد
هذه الحقيقة واضحة عند التلاميذ، إذ ظلُّوا غير قادرين على استيعاب حقيقة المسيح
والتعرُّف على شخصه إلاَّ بعد أن فتح المسيح ذهنهم (لو 45: 24) بنوع من الامتياز
الروحي، وذلك بواسطة الروح القدس تمهيداً لقيام الجسد الروحي الجديد بالميلاد
الثاني الذي تمَّ جهاراً يوم الخمسين. وهكذا انحصر الصراع بين الجسد العتيق
والإنسان الجديد الروحاني، بين الوعي بالحق الإلهي والغش والتزييف الذي يصنعه
الجسد العتيق، إذ يصوِّر الشهوات والرذائل على أنها حق وهي كذب وخداع. فأصبحت
الحرب الحقيقية بين الروح والحق، وبين الكذب والخداع المادي. فالجسد يصوِّر المجد
الدنيوي والعظمة والرئاسات والملذَّات والشهوات والغِنَى والجنس، وكل المناقص من
غش وتزوير واختلاس وسرقة وقتل، على أنها في لحظتها أمور ضرورية وهامة ولابد منها؛
وينبري الإنسان الجديد المتَّسم بالبر وقداسة الحق، بإدراكه للحق وباستنارة النعمة،
بالحكم عليها جميعاً بالكذب والغش والتفاهة، وينأى عنها ويقاومها ويدفع الثمن.

وأخيراً،
يصير للإنسان الذي خضع للجسد العتيق الندامة والحزن، ويرتمي في التراب بانتظار
حساب الدينونة؛ في حين أن الإنسان الذي انتصر فيه إنسانه الروحي، وتجلَّى في البر
وقداسة الحق المخلوق عليها، يكون له الغلبة والانتصار والفرح الكامل وانتظار المجد
العتيد:

+ “لأن كل الذي ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء
الله.. فإنْ كنَّا أولاداً فإننا ورثة أيضاً، ورثة الله ووارثون مع المسيح”
(رو 14: 8و17)

طبيعة
الإنسان الجديد الروحاني:

طبيعة
الإنسان الجديد هي من طبيعة المسيح القائم من بين الأموات، روحانية مبرَّرة
مؤهَّلة لشركة الحياة الجديدة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح؛ وإذا تنشَّطت
بالإنجيل والصلاة، فإنها تؤهَّل للانفتاح لإدراك أسرار الكلمة والإحساس بالحق
ومعرفة أسرار الله ومقاصده.

وهي
المؤهَّلة بالنعمة التي فيها أن تكون هيكلاً حقيقياً للروح القدس، يسكن فيها
ويقودها ويرتاح فيها ويعلِّمها ويكشف لها حقائق المسيح حسب وعد المسيح. وهي
مؤهَّلة للرؤى والمناظر والإعلانات عن غير استعداد منها ولا إعداد، بل هي
مواهب ممنوحة بلا كيل. وهي التي رآها القديس بولس أنها المؤهَّلة لتكون أعضاءً في
جسد المسيح، وهي بالفعل التي تتزيَّن بها الكنيسة في أشخاص أبرارها وقديسيها على
ممر الدهور.

وعن
طريق طبيعة الإنسان الجديد التي هي من طبيعة المسيح، يؤكِّد بولس الرسول أنها
منفتحة على محبة المسيح الكاملة، وبالتالي فهي مستحقة أن تمتلئ بكل ملء الله:

+
“وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله”
(أف 19: 3)

وهي معدَّة من الله والمسيح لكي تكون إنساناً واحداً في
المسيح يتفاوت في التغيير في
الصورة من
مجد إلى مجد، ولكن الطبيعة واحدة، فيصبح الجميع واحداً متكاملاً:

+ “لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى
وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل. إلى قياس قامة ملء المسيح”
(أف 12: 4و13)

فإن
كان هذا هو أمرنا الذي ننتهي إليه: اتحاد إلى إنسان كامل له ملء قامة المسيح؛
فانظر، أيها القارئ العزيز، كيف أن محبة بعضنا البعض واجبة، بل هي ضرورة بدونها لا
تكمل الصورة!

+
“بل صادقين في المحبة، ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس (لنا جميعاً): المسيح!”
(أف 15: 4)

ولكن محبة الله أو محبة الآخرين بالجسد العتيق غش وادِّعاء
كاذب، لأن المحبة الحقيقية هي وحدها التي تكون من طبيعة الله الذي هو المحبة
الحقيقية، والجسد الجديد الروحاني وحده وليس العتيق هو
الذي له طبيعة المحبة الحقيقية. والمحبة الحقيقية لا تنبع من العاطفة ولا الواجب
ولا الشجاعة. فقد يموت حبيب بدافع حبِّه لحبيبته، وقد يموت خادم بدافع من أمانته،
وقد يموت جندي بدافع من شجاعته؛ أما الإنسان الروحي الذي يحب، فهو يحب بدافع حبِّه
لله ومن أجل الله، مستعدٌ أن ينكر ذاته ويموت، لأن محبة الإنسان الروحي هي من ذات
طبيعة محبة الله، وهي امتداد لها وفعلها.

أما
الجسد العتيق فهو من دافع عواطفه الخاصة أو بدافع واجبات أو مُثُل إنسانية، يحب
ويبذل ويموت من أجل الآخرين، ولا يكون لحبِّه عائد سماوي. أما محبة الإنسان
الروحاني فمن طبيعته الروحانية، يستمد حبَّه من الله للآخرين دون أي عائد أو نفع
له وخارجاً عن أي دافع غرائزي أو إنساني. لذلك فميزانه الحسَّاس الذي يكشف طبيعته
هو الوصية “أحبوا أعداءكم”

+
“ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا” (رو 8: 5)

+
“ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه” (رو 10: 5)

+
“الذي أحبَّني وأسلم نفسه لأجلي” (غل 20: 2)

هذه
عينات من المحبة بحسب طبيعة المسيح التي ورثناها منه بالإيمان به والمعمودية باسمه.
فإذا سألتني: ما هي علامة الإنسان المسيحي الروحي الحقيقي؟ أقول لك: إنه يحب
أعداءه!!

ونوع المحبة الحقيقية التي من عمق طبيعة الإنسان الجديد، هي
كما يقولها القديس بطرس:

+
“طهِّروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء، فأحبوا
بعضكم بعضاً من قلب (الذي هو الإنسان الجديد) طاهر بشدَّة. مولودين ثانية، لا
من زرع يفنى، بل ممَّا لا يفنى، بكلمة الله الحيَّة الباقية إلى الأبد” (1بط
22: 1و23)

أما
ذِكره: “عديمة الرياء” فهو لكي يستبعد عواطف وميول الجسد العتيق.

الإنسان
الجديد هو الذي يُعطي الإنسان المسيحي

الذات
التي يرث بها الملكوت:

الإنسان
الجديد الروحي الذي نلناه بالإيمان بالمسيح وبالمعمودية باسم المسيح، هو الذي
يمنحنا لقب أبناء الله المولودين من الله، وبالتالي هو الذي به نرث الملكوت مع
المسيح:

+
“الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولاداً فإننا
ورثة أيضاً، ورثة الله ووارثون مع المسيح” (رو 16: 8و17)

ويقول
أحد العلماء اللاهوتيين البارزين لدى الكاثوليك والبروتستانت، وهو العالِم الفرنسي
أوجست ساباتييه (1839 1901م):

[إن
خلاصنا سيكتمل حينما تتخلَّص الروح (الإنسان الجديد) من قيود الجسد المادي.](
[3])

وهذا
الكلام هو صدى لما يقوله بولس الرسول:

+ “إن نُقِض بيت خيمتنا الأرضي، فلنا في السموات بناءٌ
من الله، بيتٌ غير مصنوع بيدٍ، أبديٌّ. فإننا في هذه أيضاً نئن مُشتاقين إلى أن
نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء (الإنسان الجديد المخلوق على صورة الله في البر
وقداسة الحق).. ولكن الذي صنعنا لهذا عينه هو الله، الذي أعطانا أيضاً عربون الروح
(الجسد الجديد). فإذاً نحن واثقون كل حين وعالمون أننا ونحن مُستوطنون في الجسد
(العتيق)، فنحن متغرِّبون عن الرب.. فنثق ونُسَرُّ بالأَوْلَى أن نتغرَّب عن الجسد
ونستوطن عند الرب” (2كو 1: 58)

وهذا
تسجيل بديع لبولس الرسول الذي يُشبِّه حياتنا الآن بالجسد، أننا عائشون في خيمة
أرضية عندما نخلعها نلبس مسكننا الذي من السماء، الذي هو الإنسان الجديد (الروح)،
الذي مثَّله وكأنه فينا كعربون للحياة الأبدية مع الله.

الجسد
الجديد لا يدخل الدينونة:

واضح
كما قلنا إن الجسد الجديد مولود من الله. وبحسب القديس يوحنا، المولود من الله
لا يخطئ ولا يستطيع أن يخطئ، لأن له طبيعة من الله، وروح الله (زرْعه) كائن
فيه. وهذا يجعله منفصلاً كلِّية عن مفهوم الخطية وناموسها الذي يعمل في الجسد
المادي فقط، بل وبمنأى تماماً عن عقوبة الموت بالجسد التي أخذها آدم وورَّثها
لبنيه. لذلك يتعيَّن، بكل ثقة، أنه يستحيل أن يدخل الدينونة كما قال بولس الرسول: “لا
شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع” (رو 1: 8). ونحن في
المسيح يسوع حقًّا بالإيمان والمعمودية والتناول من جسده ودمه من واقع الكفَّارة
والخلاص. وحتى ولو أضفنا الجزء الذي أسقطته الأبحاث اللاهوتية لعدم وجوده في
المخطوطات القديمة، القائل مكمِّلاً الآية السابقة: “السالكين ليس حسب الجسد
بل حسب الروح” فهو يشرح معنى “الذين هم في المسيح يسوع” وليس
مُضافاً إليها.

إذن،
أصبح الإنسان المسيحي الذي يحيا بإيمانه وبحسب مواهب الإنسان الجديد في التعلُّق
بالله والعبادة والصلاة ومحبة الآخرين بالقلب وبالروح؛ لن يدخل الدينونة، وهو من
الآن محسوب أنه في المسيح يسوع، يعيش شركة الحياة الأبدية معه كالعربون، وله
الرجاء أنه سيحيا معه إلى الأبد، وله ميراث الملكوت كابن لله في المسيح.

بل
ويزيد القديس يوحنا هذا اليقين حينما يقول لشعب كنيسته: “أيها الأحباء، الآن
نحن أولاد الله،
ولم يُظهَر بعد ماذا سنكون (هناك). ولكن نعلم أنه إذا أُظهِرَ
(المسيح) “نكون مثله”، لأننا سنراه كما هو” (1يو 2: 3). هنا يؤكِّد
القديس يوحنا أننا سنقف بإنساننا الجديد الذي أخذناه في المعمودية بلِبْس المسيح،
حينما نخلع العتيق بالموت الجسدي لنتقابل مع المسيح فوق، وأنه حينما يظهر المسيح
أي يُستعلن لنا هناك، “سنكون مثله”من واقع ما أخذناه هنا، لأننا
مخلوقون على صورة الله في البر وقداسة الحق. أما أنه تعقيباً على قوله: “سنكون
مثله”، فقد أعطى السبب قائلاً: “لأننا سنراه كما هو” فهذا يعني
أننا حينما نراه أمامنا فسيكون هو هو كما هو فينا.

هذا
إبداع رؤيوي إيماني فائق القوة والعزاء.

(نوفمبر
1996)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى