علم الانسان

الفصل الأخير التسليم



الفصل الأخير التسليم

الفصل
الأخير
التسليم

الآن بعد أن علمت، أيها القارئ العزيز، حقيقة الخليقة
الجديدة للإنسان في الإيمان المسيحي، وتأكَّدت أن كل ما قيل هو الذي قاله المسيح
في الإنجيل والرسائل في موضعها المذكور، وهو ما قاله بولس الرسول عن فم المسيح
الذي استُعلِن له وأعطاه الدراية الكاملة بسرٍّ المسيح، ونقله إلينا في
موضعه كقوله:

+
“بسبب هذا أنا بولس، أسير المسيح يسوع لأجلكم أيها الأُمم (والأُمم هم نحن
بالتالي وبالضرورة)، إنْ كنتم قد سمعتم بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم
(نعم، سمعنا وقرأنا وتأكَّدنا). أنه بإعلان عرَّفني بالسرِّ. كما سبقتُ فكتبتُ
بالإيجاز. الذي بحسبه حينما تقرأونه، تقدرون أن تفهموا درايتي بسر المسيح
(نعم، فهمنا وتأكَّدنا بدرايتك الفائقة بسر المسيح، يا بولس الرسول).. أن الأمم
(أي نحن) شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنجيل” (أف 1: 36)

والآن عليك، أيها القارئ، أن تدرك إدراكاً واعياً أن فهمك
لكل هذا وكل ما جاء في كتاب: “الخلقة الجديدة للإنسان في الإيمان
المسيحي”(بجزئيه)، هو عديم القيمة إلاَّ إذا استلمته استلاماً من فم
الرب يسوع، كما استلم بولس الرسول: “لأنني تسلَّمتُ من الرب ما سلَّمتكم..”
(1كو 23: 11)، وكما استلمه القديس لوقا: “كما سلَّمها إلينا الذين
كانوا منذ البدء مُعاينين وخدَّاماً للكلمة..” (لو 2: 1)، وأيضاً هذه الآية
التي تمعن في التفريق بين التعليم والتسليم: “وما تعلَّمتموه، وتسلَّمتموه،
وسمعتموه، ورأيتموه فيَّ، فهذا افعلوا، وإله السلام يكون معكم” (في 9: 4)

مقالات ذات صلة

ويلزم أن تفرِّق، أيها القارئ، بين يسلِّم أو سلَّم parad…dwmi وبين يعلِّم، فتسليم الحقيقة أو
الإيمان أو الوصية هي إيداعها في الوعي أو في القلب المفتوح كاختبارٍ حيٍّ أو فعل
وعمل يرقى إلى مستوى الاختبار الشخصي، وهذا غير الفهم أو المعرفة. فالفهم
أو المعرفة يكون بالفكر وأقصاه يكون تصديقاً، ولكن التسليم هو أخذ الحقيقة
والاشتراك فيها والحصول عليها كما حدثت كفعل إلهي فائق.

فبولس
الرسول كان يسلِّم الحقائق الإلهية، وأهمها موت الرب وقيامته، بمعنى أنه
يجعل الأمم في أي مدينة يكرز فيها بالإنجيل أن يقبلوا بالروح هذه الحقيقة الإلهية،
بمعنى أن يحصلوا عليها، أي يكونوا شركاء فيها بالروح، ثم كان يعود ويُرسل لهم
الرسائل الخاصة ويشرح لهم معنى الموت والقيامة روحياً ليُدركوا بالفهم ما أدركوه
بالفعل.

ولكن
بالنسبة لنا أصبح الفهم يأتي أولاً بالوعظ والتعليم، وللحزن والمرارة يكتفي
المؤمنون بالفهم والتعليم ويعتبرونه أنه الإيمان.

ولكن فرق بين أن نفهم الإيمان، وأن نحصل على فعله أو نشترك
في عمله. فأنت تؤمن بالموت والقيامة بالفهم ويمكنك أن تشرح ما هو الموت والقيامة،
بل ويمكنك أن تعلِّم بها وتُفهِّمها للآخرين دون أن تنال فعل الإيمان، أي
تقبُّل فعل موت المسيح وقيامته أي تشترك فيهما؛ الأمر الذي على أساسه قيلت الآية: “لأنكم
قد مُتُّم (مع المسيح) وحياتكم مُستترة مع المسيح في الله” (كو 3: 3). بمعنى
أن المؤمن الحقيقي بالمسيح قد أصبح “ميِّتاً”، ولكن حياته الجديدة مخفية
عنه، أي “مستترة مع المسيح”، كما أن المسيح الحي مستتر عنَّا أي غير منظور.

ولكن
المسيح حينما كسر الخبز أعطى بيده كلاًّ من الرسل كسرة خبز قائلاً: “خذوا
كلوا هذا هو جسدي” (مت 26: 26)، ولَمَّا ذاق أعطى الكأس أيضاً لكل واحدٍ
قائلاً: “اشربوا منها كُلُّكم، لأن هذا هو دمي” (مت 27: 26و28). بمعنى
أنهم صاروا شركاء في جسده ودمه الذي مات والذي قام، فصاروا شركاء في موته وقيامته،
أي أنهم ماتوا معه وقاموا معه.

وكنيستنا
القبطية المرتشدة بالروح القدس تعلِّم وتسلِّم أن المسيح نفسه هو الذي يقسِّم
“قربانة الحَمَل”، وهو الذي يناول كل واحد بيده ويسقيه من الكأس بيده. أي أن
المسيح يسلِّمنا موته وقيامته، لنكون شركاء موته وقيامته. وهذا يُطابق ما
قاله بولس الرسول إننا متنا معه وقمنا معه.

ولكن
في هذا القول الشق الأول منه فهم، وهذا ما ظلَّ يشرحه بولس الرسول على مدى
كل رسائله. أما الشق الثاني فهو تسليم فعلي لجسده المكسور ودمه المسكوب أي
موته الذي صنعه المسيح يوم الجمعة وأكمله فجر الأحد.

فكلمة
“خذوا”سواء كانت في الجسد أو في الدم
l£bete تعني بكل دقة التسليم بالعطاء، يقابلها قول المسيح عند ظهوره بعد
القيامة في العليَّة قوله: “اقبلوا”عطية الروح القدس، وهي باليونانية
نفس كلمة: “خذوا”
l£bete،
والاثنتان تعطيان صيغة “التسليم”باليد وبالفم والنفخ، حيث التسليم بالنفخ هو
أقصى حالات التسليم، وأوله وأعظمه كما كان في خلقة الله لآدم الأول حينما
“نَفَخَ”في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حيَّة. يقابلها في العهد الجديد
نَفْخ المسيح في تلاميذه “الروح القدس”لقبول الحياة الأبدية، وما يقابلها في
المعمَّدين بنفخة الكاهن في أنف المولود من الماء والروح ثانية، ميلاداً جديداً
لقبول حياة للإنسان الجديد المولود بالسر الإلهي بفعل قيامة المسيح من بين الأموات
حسب الآية: “ولدنا ثانية لرجاء حيّ، بقيامة يسوع المسيح من الأموات”
(1بط 3: 1). فالكاهن في المعمودية يُجري الموت والقيامة، أي سر الميلاد الجديد،
الذي تمَّ بقيامة المسيح من بين الأموات، من لحمه ومن عظامه.

وهناك
التسليم بالسمع وهو أول حالات التسليم التي جاءت في العهد القديم: “اسمع يا إسرائيل”(شمَّاع)،
والكلمة لها دويها في المفهوم الإسرائيلي حيث كانت أول عملية تسليم من الله لشعب: “اسمع
¥koue
يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد..” (تث 4: 6). حيث تأتي اسمع بصورة الأمر،
وحيث أمر الله هو بمثابة خلق للوعي والانفتاح والاستجابة. لذلك يقدِّس شعب إسرائيل
جداً قول “اسمع”، لأن فيه بدء حياتهم أمام الله. وهكذا يدخل أمر الله
“اسمع”كأول محاولة تسليم للشعب لأمر الله ليكون دستور حياتهم.

وهكذا دخلت قوة السمع عند الإنسان أمام الله كوعاء مطيع
ومُصْغٍ لأمر الله. لهذا نسمع عالي الكاهن يلقِّن صموئيل الصغير أن يقولها بمجرد
سماع الله حتى يتكلَّم معه الله بما يريد: “تكلَّم يا رب لأن عبدك سامع
(1صم 9: 3). والمعنى: “إني على أتمّ الاستعداد “لتسلُّم”أمرك”. وبهذا
يدخل السمع كوعي روحي صادق كواسطة “تسليم”. وهذا يردِّده المسيح صريحاً وواضحاً: “الحق
الحق أقول لكم: إن مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا
يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة
” (يو 24: 5). وهذه في
المقابل الأكبر والأعظم ل “اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد”
فهنا “السمع”للمسيح له الحياة الأبدية والانتقال المباشر من الموت إلى الحياة
الحقيقية الدائمة.

فماذا يمكن أن يعمل المسيح كمعلِّم ليسلِّم
الحياة الجديدة للإنسان الجديد، فهو أعطانا جسده ودمه وقال: “مَنْ يأكل جسدي
ويشرب دمي فله حياة أبدية” (يو 54: 6)، وعاد وكرَّر أن: “مَنْ يأكل جسدي
ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه” (يو 56: 6)، ويحيا به: “فمَنْ يأكلني فهو
يحيا بي” (يو 57: 6). وقد حدَّد نوع المادة التي نكسرها باسمه ونأكلها
مجتمعين بالخبز العادي الذي يُحيي الجسد الآدمي، وقد حوَّله بقوة الحياة الأبدية
التي فيه إلى خبز للحياة الأبدية، ليتحوَّل الخبز اليومي لنا إلى خبز سمائي، لأنه
هو الخبز الحي الأبدي النازل من السماء ليأكل منه الإنسان ولا يموت (يو 60: 6)!


وها نحن قد أكلنا الخبز الحي السمائي لنأخذ الحياة التي له ونصير فيه، والتسليم
هنا تسليم شخصي. فإذن، نحن نحيا فيه وهو يحيا فينا. وهذا هو الإنسان الجديد الذي
خلقه بقيامته من بين الأموات. وهذا هو الإنسان الجديد، الخليقة الجديدة، التي
وُلدنا منها بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات بلحمه وعظامه، فصرنا لحماً من لحمه
وعظماً من عظامه مخفياً فيه، ولكن متَّحداً بأبيه!


“ولدنا ثانية لرجاء حيّ بقيامة يسوع المسيح من الأموات” (1بط 3: 1).
وهكذا فالمولود من الروح يكون، كما قال المسيح، كالهواء لا تعرف من أين يأتي ولا
إلى أين يذهب (يو 8: 3)؟‍‍!

وكما قال بولس الرسول: “لأنكم قد مُتُّم
(بجسده الذي مات على الصليب) وحياتكم مُستترة مع المسيح في الله” (كو
3: 3). فأنت تحيا في الإنسان الجديد بلحم المسيح وعظامه الذي قام من بين الأموات،
المستتر عن عيوننا وهو قائم في الله!!

وهنا
يبرز عامل “الرجاء”الذي اكتسبناه من الإيمان بالمسيح: “الذي حسب رحمته
الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حيّ، بقيامة يسوع المسيح من الأموات” (1بط 3: 1). أي أننا نعيش رجاءً حيًّا في كل لحظة،
أننا وُلِدنا كخليقة جديدة في
المسيح لحظة أن قام من بين الأموات وظهر في
العليَّة وكشف عن لحمه وعظامه، مبرهناً أنه قام بجسد جديد، بلحمٍ جديد وعظامٍ
جديدة لا يقوى عليها الموت بعد، مخفية أي مستترة عن العيون ظاهرة أمام الله وكل
الخلائق السماوية.

وإذ
لنا هذه الخليقة الجديدة للإنسان الجديد يتحتَّم علينا أن نفهم أنها أعلى من
الملائكة ورؤساء الملائكة والسلاطين والقوات التي للدهر الآخر كقول بولس الرسول
بتأكيد:

+
“يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح، أبو المجد، روح الحكمة والإعلان في معرفته،
مستنيرة عيون أذهانكم، لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غِنَى مجد ميراثه في
القديسين، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين، حسب عمل
شِدَّة قوته الذي عمله في المسيح،
إذ أقامه من الأموات، وأجلسه عن يمينه في
السماويَّات (وأجلسنا معه)، فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة، وكل اسم يُسمَّى
ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه،
وإيَّاه جعل رأساً فوق كل شيء (لِمَنْ؟؟؟) (لِمَنْ اكتسب هذه المعاني والتفوُّق
الفائق فوق كل الخلائق السماوية؟؟؟): للكنيسة، التي هي جسده (التي هي نحن)، ملء
الذي يملأ الكل في الكل” (أف 17: 123)

انظر
الآن، أيها القارئ، إن إنساننا الجديد المخلوق بقيامة المسيح من بين الأموات
المعبَّر عنه بالكنيسة هو أعلى من كل الخلائق السماوية لأنه جسد المسيح.

ثم عُدْ معي وتأمل ما قد صار للكنيسة التي هي جسده الجديد،
التي هي الإنسان الجديد، كيف يقول بولس الرسول إنها تبشِّر السمائيين بهذه الخليقة
الجديدة:

+
“أُعطيت هذه النعمة، أن أُبشِّر بين الأمم (شركاء الميراث والجسد الجديد)
بغِنَى المسيح الذي لا يُستقصَى، وأُنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ
الدهور (أن الأمم شركاء في الميراث والجسد) في الله خالق الجميع (للإنسان الجديد)
بيسوع المسيح. لكي يُعرَّف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويَّات، بواسطة
الكنيسة
(أي نحن الخليقة الجديدة للإنسان الجديد)، بحكمة الله المتنوعة،
حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا (فينا). الذي به (أصبح) لنا
جراءة وقدوم بإيمانه عن ثقة (إذ قد صار لنا كل غِنَى المسيح وميراثه في
الآب)” (أف 8: 312)

الآن،
انظر أيها الإنسان المسيحي، كيف صرت خليقة جديدة بقيامة المسيح من بين الأموات، من
لحمه ومن عظامه، لتكون أنت آية القيامة التي قامها المسيح، وقد ملكت كل ميراث
المسيح في الآب: “الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنَّا
أولاداً فإننا ورثة أيضاً، ورثة الله ووارثون مع المسيح” (رو 16: 8و17). فليس
ميراث أسرة ولا ميراث عالم ولا ميراث أرضيات بعد، بل ميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا
يضمحل محفوظ لنا في السموات (1بط 4: 1).

غاية
القصد في الخليقة الجديدة وبلوغها قمة المنتهى

لقد
قصد الله أن يهب للإنسان خلقة جديدة يخلع فيها آدميته ويلبس المسيح: “لأن
كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل 27: 3)، هذا
هو الإنسان الجديد الذي يتجدَّد: “إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم
الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه” (كو 9: 3و10). هذا هو الإنسان
الجديد الذي أُعْطِيَ لنا أن نلبسه: “وتتجدَّدوا بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان
الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق” (أف 23: 4و24)

لم
تكن هذه الخلقة الجديدة للإنسان في الإيمان المسيحي هبة طارئة عليه أو زيادة
تكريماً له، بل كانت من أولى أساسيات خلقة الإنسان التي كانت في قصد الله منذ قبل
إنشاء العالم والزمن، اسمع:

+
“مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في
السماويَّات في المسيح. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين
وبلا لوم قدَّامه في المحبة، إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي بيسوع المسيح لنفسه،
حسب مسرَّة مشيئته، لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب” (أف 3: 16)

يتبيَّن من هذا أن خلقتنا أساساً قامت لتكون في المسيح، أي
خارجاً عنه لا يكون لنا وجود، وأن الله عيَّننا قبل الزمن لنكون أولاده بالتبنِّي
بيسوع أي باتحادنا في الابن، وذلك كان لمسرَّة نفسه ومشيئته.

هذا
يعني أن خلقتنا الجديدة التي صارت لنا في النهاية بواسطة يسوع المسيح، هي أصلاً
منتهى قصد الله منذ الأزل، وقبل إنشاء العالم والزمن، وقبل خلقة آدم والإنسان
الترابي. فقد كان في صميم قصد الله النهائي من خلقة الإنسان أن يلبس صورة السماوي:

+
“وكما لبسنا صورة الترابي، سنلبس أيضاً صورة السماوي (الذي أخذنا عربونه في
الإنسان الجديد)” (1كو 49: 15)

وقد
جاءت خلقة الترابي آدم وبنيه أولاً، وكان سقوطه وحرمانه من الوجود مع الله وطرده
من أمامه ليس خطأ في حسابات الله، ولكن ثمناً للحرية التي أعطاها خلقته الآدمية
الأولى، لأن آدم استخدم حريته التي أعطاها له الله في أن يأكل من الشجرة المحرَّمة
أو لا يأكل، ولكن اشترط عليه أن لا يأكل منها، ويوم أن يدوس على شرط الله ويستخدم
حريته ويأكل منها موتاً يموت، فأكل واكتسب اللعنة وعقاب الموت. وهكذا كشف الله،
كخالق حكيم، عوار الطبيعة الترابية التي انحازت بحرية إرادتها وسمعت لمشورة
الشيطان. وكان عقاب الموت حكمة، لأنه لو عاش الإنسان بدون عقاب الموت بعد أن داس
أمر الله واستمع لمشورة الشيطان، لبَقِيَ كل حياته عاصياً متمرداً مخالفاً لله،
وصديقاً خادماً لمشورة الشيطان. فعقوبة الموت للطبيعة الترابية أعطت فرصة للإنسان
ولله أن يخلِّصه من عقوبة الموت بأن يهبه طبيعة جديدة من لدنه منزَّهة عن الخطية
والخطأ والعصيان وسلطان الشيطان، بميلاد جديد للإنسان، ميلاداً روحياً سماوياً
لخليقة جديدة ثانية روحية للإنسان.

هذا
تمَّ بعد أن هذَّب الله الإنسان بالوصايا والتأديبات الكثيرة بواسطة ملوك وأنبياء
كثيرين لمدد من آلاف السنين، ليتهيَّأ لقبول هذه الطبيعة الجديدة السماوية.

وأخيراً،
وبسبب محبة الله الكثيرة لبني الإنسان الذي خلقه أصلاً حسب مسرَّة نفسه
ليقف بالنهاية أمامه لمدح مجده في حالة قداسة وبر وبلا لوم أرسل الله
كلمته، أي فعله الخالق، وتجسَّد في جسد إنسان أخذه من عذراء قديسة وبلا أب،
واتَّحد لاهوته بهذا الجسد الطاهر، فأصبح جسده لانهائياً بلاهوته، إذ اتحد الزمني
باللازمني والمحدود باللامحدود، فكان بدء الإنسان الجديد. واحتوى كل البشرية
جميعاً: “لأنه فيه سُرَّ أن يحل كل الملء (لاهوتياً)، وأن يُصالح به الكل
لنفسه، عاملاً الصلح بدم صليبه” (كو 19: 1و20)، فوُلِد الكلمة، وكان اسمه
يسوع، له كل مجد الآب ولكن مخفياً عن أعين الناس. وحَمَل هذا الإنسان
“يسوع”كل خطايا الإنسان وهو القدوس الطاهر عن رضا
وقبول لَمَّا اتهمه رؤساء الكهنة جميعاً بكل أنواع الخطايا أمام المحكمة الرومانية،
ولم يُدافع عن نفسه ولا عارَض المشتكين عليه، ولا عارَض حكم القاضي الروماني، بل
قَبِلَ الحكم بالصلب.

وهكذا حَمَل خطايا الإنسان في جسده على الخشبة
خشبة الصليب وقَبِلَ “حكم الموت”كخاطئ وهو بريء من كل
خطية وله طبيعة سماوية إلهية قدوسة وبلا لوم. لذلك بعد أن أكمل عقوبة الموت لثلاثة
أيام، قام من بين الأموات. وكما احتوى جسده كل البشرية، احتوى كل خطاياها بموته
فأكمل عقوبة الموت عن كل البشرية. وكما احتوى كل البشرية في موته، احتوى كل
البشرية في قيامته، ولكن بشرية بلا عقوبة ولا حكم موت بعد؛ إذ صالح البشرية
الخاطئة المحكوم عليها بالموت بالله الآب بواسطة الصليب.
هذه البشرية الجديدة التي قامت في جسد المسيح القائم من بين الأموات هي الإنسان
الجديد المخلوق جديداً.

وقد
حدث أن المسيح لَمَّا قام من بين الأموات، دخل في العلِّيَّة التي كان مجتمعاً
فيها التلاميذ الذين أغلقوا على أنفسهم الأبواب خوفاً من رؤساء الكهنة واليهود بعد
أن مات معلِّمهم ودُفن، فلمَّا ظهر أمامهم يسوع المسيح حسبوه روحاً، فتقدَّم المسيح:

+
“وفيما هم يتكلَّمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم، وقال لهم: سلامٌ لكم.
فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحاً. فقال لهم: ما بالكم مضطربين، ولماذا تخطر
أفكار في قلوبكم. انظروا يديَّ ورجليَّ: إني أنا هو. جُسُّوني وانظروا، فإن
الروح ليس له لحم وعِظام كما تَرَوْنَ لي. وحين قال هذا أراهم يديه
ورجليه” (لو 36: 2440)

هذا
يعني أن المسيح قام من بين الأموات، وبالرغم من أنه كان غير منظور لكثيرين، ظهر
لتلاميذه في العليَّة وهي مُغلَّقة الأبواب وأراهم يديه ورجليه وطبعاً آثار
المسامير، وأضاف أنه “أنا هو”أي نفس المسيح قبل الموت، وأراهم بصورة خاصة أنه
بلحمه وعظامه؛ أي أنه قام من بين الأموات ليس بالروح فحسب ولكن بلحم وعظام
كإنسان جديد له صفات جديدة يُرى ويُحس إذا شاء، ولا يُرى ولا يُحس إذا أراد. هذا
هو الإنسان الجديد الذي قام من بين الأموات إنساناً جديداً يحمل في جسده المُقام
كل البشرية التي ماتت بموته وقامت جديداً بقيامته. لذلك يُقال عن حق وحقيقة: “مباركٌ
الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي،
بقيامة يسوع المسيح من الأموات،
لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ في
السماوات لأجلكم” (1بط 3: 1و4). هذا يعني أننا أخذنا خليقتنا الجديدة في
المسيح عندما مات وقام. فعند قيامتنا معه اعتُبِرَ هذا أنه بمثابة ميلاد ثانٍ جديد
لنا ندخل به الحياة الأبدية في المسيح. وقد تأكَّد لنا من قول المسيح بعد القيامة
أنه بلحمه وعظامه، أننا وُلدنا جديداً من لحمه ومن عظامه كما يقول بولس الرسول: ”
لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه.”(أف 30: 5)

معنى
هذا أن الجسد الجديد للخليقة الجديدة للإنسان المولود بقيامة المسيح من بين
الأموات هو جسد حقيقي، لحمه من لحم المسيح المُقام، وعظمه من عظام المسيح المُقام،
تماماً كما قال آدم في الخلقة الترابية الأولى عن امرأته التي خلقها الله من أحد
أضلاعه: “فأوقع الرب الإله سُباتاً على آدم فنام (ومقابله أن المسيح وقع في
سبات الموت). فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحماً. وبنى الرب الإله الضلع التي
أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم. فقال آدم: هذه الآن عظم من عظامي، ولحم من
لحمي” (تك 21: 223)

وكوننا
لحماً من لحم المسيح وعظماً من عظامه بالقيامة من بين الأموات؛ فقد حقَّقه لنا
المسيح بإعطائنا جسده ودمه في سر التناول لنأكله ونشربه فنصير لحماً من لحمه
وعظماً ودماً من عظمه ومن دمه. وهذا هو القول أن مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت
فيَّ وأنا فيه، بمعنى الاتحاد غير المنفصم: “أنتم فيَّ وأنا فيكم” (يو
20: 14)، و”مَنْ يأكلني فهو يحيا بي” (يو 57: 6)

فبسر
الإفخارستيا يعطينا الرب أن نأكله ونثبت فيه ونحيا فيه، وهو يحيا فينا، وهذا هو
بعينه الإنسان الجديد، المولود بقيامة الرب من بين الأموات والمخلوق حسب صورة
خالقه. ومعروف أن المسيح هو الإله الحق القدوس، لذلك يقول بولس الرسول: “وتلبسوا
الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق” (أف 24: 4). وإلى هنا
نكون قد وفَّينا قصد الله في خلقتنا قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا
لوم قدامه في المحبة.

قمة
المنتهى

التي
للخليقة الجديدة التي قصدها الله للإنسان

ليس
جزافاً أن تنتهي خلقتنا الجديدة في الإنسان الجديد على صورة واحدة هي صورة
خالقنا: “إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الجديد الذي يتجدَّد
للمعرفة حسب صورة خالقه، حيث ليس يوناني ويهودي، ختان وغُرْلة، بربري
سِكِّيثي، عبد حُر، بل المسيح الكل وفي الكل” (كو 9: 311).
ولقد أُعطِيَ للإنسان بالروح أن يمتد حتى يبلغ نفس هذه الصورة عينها: “ونحن
جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغيَّر إلى تلك الصورة
عينها،
من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح” (2كو 18: 3)

فالإنسان الجديد ولو أنه مخلوق على صورة المسيح لأنه منه،
من لحمه ومن عظامه، ولكن قد أُعطِيَ للخليقة الجديدة أن تمتد لتطابق صورة خالقها
في المجد لأنها مخلوقة لتكون على صورته تماماً؛ لذلك أُعطِيَ لها أن تمتد لتبلغ
غاية المسيح منها. ففي الآية السالفة جُعِلَ مجرد النظر الروحي المثبَّت في المسيح
بكل قوة وإخلاص قادراً أن يرتفع بنا من مجد إلى مجد، شريطة أن يكون بدون برقُع،
الذي هو الناموس والوصايا والقوانين والتقاليد الميتة والتراث البشري عديم الروح؛
وذلك بعمل الروح وهو رب المجد.

وفي
موضع آخر يجعل النمو نحو رأس الخليقة الجديدة وصورتها هو عمل المحبة الصادقة: ”
بل صادقين في المحبة، ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح.”(أف
15: 4)

ويعوزني
هنا جداً أن أشرح ماهية المحبة، وكيف تعمل وتربط وتمتد؛ لأن الأصل في الإنسان الجديد،
كخليقة روحانية جديدة للإنسان، هو أنه على صورة خالقه. فإن كان لكل منَّا صورة
المسيح، فمن أين تأتي البغضة؟ ومن أين يأتي الخصام والانقسام، وهي أسلحة الشيطان
الموروثة في الإنسان العتيق المتآخي مع الشيطان؟ فإن كانت صورة المسيح هي “مجد
الله”حقًّا، فكل صورة له لابد أن تشع بالمحبة أو بالحب الجاذب، كل واحد منَّا
يرى أخاه المثل الأعلى الذي يتمنى أن يكون. وهكذا نتسامى في رؤيتنا بعضنا لبعض،
ومن هذا الامتداد والتسامي في مجد الرب نزداد قُرْبَى ونزداد أُلفة وحباً واتحاداً.
هذا هو عمل الإنسان الجديد المخلوق على صورة واحدة هي صورة مجد الله في وجه يسوع
المسيح.

فغاية
الإنسان الجديد حسب خلقته على صورة واحدة وحيدة هي صورة مجد خالقه، مآلها حتماً
إلى اتحاد بالضرورة بحسب جاذبية الحب والجمال في وجه المسيح الذي نشابهه في كل شيء
حسب قول القديس يوحنا في رسالته:

+
“والآن أيها الأولاد، اثبتوا فيه، حتى إذا أُظْهِرَ يكون لنا ثقة، ولا نخجل
منه في مجيئه. إنْ علمتم أنه بارٌّ هو، فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه.
انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله.. أيها الأحباء، الآن نحن
أولاد الله،
ولم يُظْهَر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون
مثله،
لأننا سنراه كما هو!” (1يو 28: 2و29؛ 1: 3و2)

وإلى
هنا يحط القلم على قمة المنتهى للإنسان الجديد وغاية الله منه التي أفصح عنها
القديس بولس في قوله:

+
“لأن كلَّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح. ليس يهودي ولا يوناني.
ليس عبدٌ ولا حُرٌّ. ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع” (غل
27: 3و28)

+
“إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسان
كامل
(خليقة جديدة)، إلى قياس قامة ملء المسيح!” (أف 13: 4)

حيث
يكون المسيح قد أعاد للبشرية وحدتها الكاملة في الإنسان الجديد الكامل وصورتها
الكاملة لله بعد أن تفتَّتت صورة الله التي كانت في آدم بسبب العصيان والخطية.

وهنا
الثقل منتهى الثقل على حب الله المعادِل الذي بذل الابن من أجل أن ينجمع الإنسان
أخيراً بالحب الأبوي في بنوَّة على قياس المسيح في المسيح: “وسأُعرِّفهم ليكون
فيهم الحب
الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم” (يو 26: 17)

هذا
هو دعاء الابن للآب لحظة ما قبل الصليب!

(فجر
28 يولية 1998)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى