علم المسيح

34- المعجزات وعلاقتها بالتعليم



34- المعجزات وعلاقتها بالتعليم

34- المعجزات وعلاقتها بالتعليم

إذ قد
سبق وأوضحنا أن المعجزات التي كان يجريها المسيح كانت أساساً تهدف إلى استعلان
نفسه، لذلك والأمر كذلك تُعتبر داخلة ضمن وسائل تعليمه، فيما يختص بطبيعة المسيح
كابن الله وابن الإنسان. كما أنها كانت واسطة لترفع ذهنية الشعب من الأمور المادية
الصمَّاء إلى الروحانية الفائقة للعقل كوسيلة حتمية للدخول في حقائق الله والروح.
كما أنها كانت قديرة فعلاً بفك عقل الإنسان من المظاهر الجامدة إلى ما يمهِّد
لإدراك جواهر الأمور. فأن يقوم ميت أمام عين الإنسان كفيل بأن يجعله يستهين بالموت
ويخشع أمام الله خالق الحياة، وأن يبصر إنسانٌ مولودٌ أعمى كمعجزة، فهي قادرة أن تجعل الإنسان يهزأ من الحتميات
والقدريات المادية ليسأل أين هذه القوة
الخالقة وكيف أتعرَّف عليها؟ فالمعجزة طريق مفتوح للقلب وليس للذهن للانطلاق
لتصوُّر الله والخشوع أمامه.

 

35- العنصر
الإيجابي في المعجزة والغاية منها

المعجزة
في مفهومها الفائق عن الطبيعة تنتمي مباشرة إلى مجال الله الفائق كُلِّي المعرفة
وكُلِّي القوة. فالمعجزة في مفهومها الأوَّلي من جهة غايتها يمكن أن نعتبرها
مبادرة من الله يتدخَّل فيها بإظهار وجوده على مستوى غير مشروح وغير مفهوم عقلياً،
ولكن كحادث منظور وواضح أمام أعيننا كأعمى يصير بصيراً. فبهذا الحادث المنظور
والملموس والمحسوس، ننطلق مباشرة إلى السر غير المنظور ولا ملموس ولا محسوس الذي
أتى بهذه المعجزة. هنا استعلان واضح مبرهن عليه لقوة الله الصانعة للمعجزة، لسبب
واضح وهو الارتفاع بفكر الإنسان ووجدانه للإحساس بوجود الله.

فلو
نحن عُدنا للطبيعة وتأملنا كيف خُلقت الشمس والأرض والبحر والجبال والأنهار لا
نعثر على الله فيها، مع أنه ترك بصمته واضحة عليها في خلقتها، شأنها شأن إنسان
بصير نراه فلا نقول إن الله أعطاه معجزة النظر. ولكن إذا حدث أن أعمى مولوداً هكذا
من بطن أُمه صار بصيراً نقول إن هذه معجزة حتماً، وأن يد الله وبصمته على الحادث
وعلى الرجل.

إذن،
لأننا لم نَرَ العالم ولا الشمس والأرض والبحر والجبال قبل أن تُخلق
نقول في جهالة بعد أن خُلقت إنها كانت موجودة وليست
معجزة، مع أننا لو تصوَّرنا هذه المخلوقات كيف أتت إلى الوجود من العدم نستطيع أن
نقول حقا إنها معجزة كما أتت عينا الأعمى من العدم فصارت معجزة مؤكَّدة عندنا.

والسؤال:
لماذا لا نحس بالله في العالم والخليقة، وأنها صنعة يديه؟ السر في ذلك أننا فقدنا
النظرة الفائقة للطبيعة التي خُلقنا بها بتأثير الخطية والبعد عن الله. وهذه
النظرة الفائقة للطبيعة هي الوسيط النشيط الذي كان يستعلن لنا الله في العالم
والخليقة المخلوقة، فكنَّا نرى كل شيء في الله، أو نرى الله كأساس لرؤية كل شيء،
ولم يكن أي شيء يُرى عندنا بذاته بدون الله. والدليل على ذلك أنه حينما استعاد
الإنسان موهبة الرؤية الفائقة للطبيعة، عاد في الحال يعترف ويؤكِّد بأن العالم وكل
ما فيه هو في الله قائم، مخلوق به وبدونه لا يقف أي شيء في مكانه. فالله لم
يتغيَّر بالنسبة للعالم المخلوق، ولكن الإنسان هو الذي تغيَّر وفَقَدَ الصِّلة بين
رؤية العالم وحقيقة الخليقة من عدم، فقال: إن العالم مخلوق بذاته وكأنه إله ثانٍ.

هنا
المعجزة جاءت عند المسيح ضرورة لرفع رؤية الإنسان من المنظور المادي الجامد الذي
كان يعتبره منفصلاً عن الله ومخلوقاً بذاته، إلى رؤية الفائق للطبيعة في المعجزة،
فيرى الله في خلقه عيناً جديدة للأعمى. فمع أن العين الجديدة مادية، ولكن المعجزة
الفائقة على الطبيعة جعلته يرى الله فيها. وهكذا ربطت المعجزة مرَّة أخرى بين
الخليقة وخالقها بصورة مؤكَّدة محسوسة، لأنها أعطته رؤية “جديدة” لما هو
فوق الطبيعة!

لهذا
يُقال إن الخليقة الجديدة بالميلاد من الماء والروح هي خليقة فوق الطبيعة أو ميلاد
جديد سماوي. لأنها أخذت أصولها من فوق الطبيعة. لذلك أيضاً يتحتَّم أن يرتفع
الإنسان في معرفته إلى ما فوق الطبيعة حتى يُدرك خلقته الجديدة ويحقِّقها.

والمعجزات
بهذا الوضع تقدِّمنا بالاستعلان الذي فيها من نحو الله الخالق والقادر على كل شيء
كدرجة هامة جداً لتعيد علاقتنا ثم شركتنا مع الله بالإيمان. كما أنها تعطي
الانطباع إلى الإنسان الذي يتوقَّف مفكِّراً عند معجزة الإقامة من الموت أن
الإنسان يستمد حياته من الله وليس من أي مصدر آخر. وبهذا القدر من التداخل في محيط
الفائق للطبيعة يقترب الإنسان من الله بحسّه الداخلي الذي يُزكِّي الإيمان.

ولكن
القصد من المعجزة لا يزال مخفياً في طيَّات المظهر الخلاَّب للعقل، ولكن بشيء من
المنطق نرى أن إقامة المسيح لإنسان من الموت بكلمة هو استعلان مصدر الحياة لهذا
الميت الذي قام، وأيضاً للإنسان الحي القائم على رجليه. وهذا الكشف أو الاستعلان
عن حقيقة مصدر الحياة الطبيعية وهو محور المعجزة، يهدف إلى ما هو أعظم من إعلان
مصدر الحياة الطبيعية، بل استعلان مصدر الحياة الفائق للطبيعة التي جاء المسيح لكي
يهبها للإنسان مجَّاناً. والأمر يحتاج إلى الفهم الأكثر عمقاً في موضوع إقامة
الميت إلى الحياة بكلمة، إذ أن هذه المعجزة تكشف عن أن القوة التي أقامت الميت هي
قوة فائقة للطبيعة، فبالرغم من أنها أعطت بالقيامة من الموت حياة طبيعية إلاَّ
أنها هي بحد ذاتها قوة فائقة للطبيعة. إذن، فالقصد من المعجزة لا ينتهي عند الإيمان
بالمسيح أنه هو صاحب هذه القوة الفائقة للطبيعة أي أنه المسيَّا ابن الله، إله في
جسد إنسان، بل وإلى أنه قادر أن يُعطي حياة فائقة للطبيعة ذات صلة بالله. إذن،
فالمعجزة تمهِّد لمفهوم الفداء أي إلى نقل الإنسان من الموت إلى الحياة الأبدية.
كما أنها تكشف بكل وضوح أن المسيح نفسه هو أعظم معجزة ظهرت على الأرض، كونه وهو
إنسان صاحب القوة الفائقة للطبيعة التي تعبِّر عن شخص الله.

ولكن
لا تزال المعجزة تحمل في طيَّاتها حقيقة وعملاً فائقاً جداً للطبيعة يحصل عليه
المؤمن بالمسيح الذي يُعطي هذه الحياة الأبدية اهتمامه الأول،
وهي كما يقول
المسيح في إنجيل ق. يوحنا: “الحق الحق أقول لكم: مَنْ يؤمن بي فالأعمال التي
أنا أعملها يعملها هو أيضاً ويعمل أعظم منها، لأني ماضٍ إلى أبي ومهما سألتم باسمي
فذلك أفعله ليتمجَّد الآب بالابن. إن سألتم شيئاً باسمي فإني أفعله.” (يو 14:
1214)

هذا
يعني أن بالإيمان بالمسيح ينفتح الإنسان على المسيح، وهذا يعني أنه حينما يبلغ
الإنسان إلى منطقة الفائق للطبيعة بالإيمان بالمسيح
“صاحب القوة الفائقة للطبيعة” فإنه يصبح على صلة اتحادية بالمسيح إلى
الدرجة أن المسيح فيه يعمل بواسطته أيَّ عملٍ فائق للطبيعة، سواء معجزة أو غيرها
من الأمور الفائقة للطبيعة عندما يسأل أو يطلب عن إيمان وضرورة بثقة: “وكل ما
تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه” (مت 22: 21). هنا المعجزة كواسطة للدخول
في ما هو فائق للطبيعة، فبالإيمان بالمسيح يتأهَّل الإنسان أن يعمل أعمالاً فائقة
للطبيعة، حيث لا تعود تُحسب الأعمال الفائقة للطبيعة أنها معجزات، لأن الحكم على
العمل الفائق للطبيعة أنه معجزة هو لأن الإنسان واقع ومحكوم تحت سلطان الطبيعة،
فإذا ارتفع الإنسان إلى ما هو فوق الطبيعة بالإيمان بالمسيح تصبح الأعمال الفائقة
على الطبيعة هي مجرَّد أعمال وليست معجزات. بمعنى أن المعجزات تظهر الآن كذلك لنا
لأننا نحيا ونعيش بعقول محكومة بقوانين الطبيعة كما قلنا، فأي عمل يخترق الطبيعة
ويخترق قوانينها يُحسب معجزة. ولكن حينما نرتفع بالإيمان بالمسيح الآن وندخل في
حيِّز الفائق للطبيعة لا تعود الأعمال الفائقة الطبيعة معجزات، بل تكون مجرَّد
أعمال ملكوت الله غير المحكومة بقوانين الطبيعة والتي لها سلطان على الطبيعة
وقوانينها. وأظهر عمل من هذا النوع عمله المسيح لمَّا انتهر الرياح العاصفة والبحر
الهائج، فسكتت الريح في الحال وهدأ البحر: “ثم قام وانتهر الرياح والبحر، فصار
هدوء عظيم. فتعجَّب الناس قائلين: أي إنسان هذا فإن الرياح والبحر جميعاً
تطيعه” (مت 8: 26و27). هذه معجزة في نظر التلاميذ لأنهم محكومون بقوانين
الطبيعة، ولكن هذا العمل نفسه عند المسيح ليس معجزة لأنه غير محكوم بقوانين
الطبيعة، لذلك له سلطان عليها.

وبهذا
المعنى والفهم، عندما نرتفع إلى السماء بالقيامة ونعيش الحياة الأبدية ستكون جميع
أعمالنا وأفكارنا فائقة للطبيعة
أي غير محكومة بقوانين
الطبيعة. وبهذا تكون المعجزة الآن هي بمثابة سَبْق مَشْهد وسَبْق إحساس وتذوُّق
لما ستكون عليه الحياة فوق!!

ومعروف
أن الإنسان لمَّا فقد الحياة مع الله بسبب الخطية، وهبط إلى مستوى الأرض محكوماً
بقوانين الطبيعة، أصبح بين الطبيعة وقوانينها وخطية الإنسان علاقة
وثيقة (رو 8: 2022). ولأن النزول إلى الطبيعة بقوانينها كان عقوبة من
الله بسبب الخطية، دخلت الخطية مع الطبيعة بالضرورة في دائرة العقاب. فأصبحت كل
الأمراض التي يُصاب بها الإنسان هي من إفرازات الطبيعة والخطية معاً. فلمَّا جاء
المسيح ليرفع الإنسان من تحت ثقل الطبيعة والخطية، ابتدأ يعطي نموذجاً لعمله
العظيم هذا المزمع أن يعمَّ البشرية. فابتدأ يشفي أمراض الناس مهما كانت بكلمة:
“مغفورة لك خطاياك” وهذا يعني أنه يرفع العقوبة عن الإنسان بأن يحلّه من
نير قوانين الطبيعة وآثارها. فكان المسيح إمَّا يختار أن يحل الإنسان من تحت نير
الطبيعة بالشفاء المباشر، أو من تحت نير الخطية بغفرانها، سيَّان. فإما أن ينتهر
المرض نفسه، أو ينتهر الخطية. وهذا ظهر بوضوح في المريض بالفالج الذي قدَّموه إليه
مدلَّى من السقف، فلما رأى إيمانهم قال للمريض: “مغفورة لك خطاياك”
فلمَّا تذمَّر الفرِّيسيون راجعهم قائلاً: “أيهما أيسر أن أقول: مغفورة لك
خطاياك، فيُشفى؛ أو: قُمْ واحمل سريرك”. وهو بذلك يشرح لهم أن الخطية هي أساس
المرض أكثر من أن تكون الطبيعة، ولكن ليؤكِّد سلطانه على الطبيعة وعلى المرض معاً
قال له: “قم واحمل سريرك وامش” فقام وسار حاملاً سريره. هذه المعجزة
هامة جداً لأنها كشفت أن المسيح له سلطان على الطبيعة وعلى المرض وعلى الخطية
جميعاً. كما أن هذه المعجزة كشفت لنا مسلسل المصائب التي وقع فيها الإنسان لسقوطه
من حياة ما فوق الطبيعة كعقاب بسبب مخالفته لله ولقوانين الحياة لِمَا فوق
الطبيعة، بمخالفة أوامر الله التي هي نفسها قانون ما فوق الطبيعة. فهكذا سقط
الإنسان تحت قوانين الطبيعة التي لا ترحم متضافرة مع الخطية التي تُمرض، والمرض يؤدِّي
إلى الألم والموت، وهذا عقاب الخطية. والآن واضح أمام القارئ أيّما وضوح أن المسيح
جاء ليرفعنا من تحت قوانين الطبيعة وسلطان الخطية والموت إلى حياة ما فوق الطبيعة
التي هي حياة الله. وهو بالمعجزة يذيقنا عربون عمله العظيم الذي سيكمِّله بالفداء.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى