علم المسيح

23- المسيح يستشهد بالعهد القديم



23- المسيح يستشهد بالعهد القديم

23- المسيح يستشهد بالعهد القديم

التجاء
المسيح للعهد القديم كان بأن يستقرئ منه ما يُعلِّم به أو يعمله، وليس كما كان
يقتبس منه الإنجيليون. فالإنجيلي يُوصِل الحقيقتين معاً القديم بالجديد ليزداد
يقين الجديد بشهادة القديم. أمَّا المسيح فكان يستقرئ من القديم الحق والحقيقة
المخفية ويعلنها هو، لكي يُثبت أن الحق والنور اللَّذين كانا محجوبين في القديم
صارا مُعلنين في الجديد. والقصد الأساسي هو تأكيد بلوغ الحق منتهاه على يديه
وتكميل فكر القديم بكمال فكره. فهو بذلك يشهد للحق وحده والكمال والنور. وعندما
قال: “ما جئت لأنقض بل لأكمِّل” كان صادقاً منتهى الصدق.

فلمَّا
قال: “قيل لكم في القديم، أمَّا أنا فأقول لكم”، لم يكن ليعطي الضد أو
المضاد للقديم، بل ليعطي الحق في القديم كماله ويزيد جماله. فاعتراف الرجل الحكيم
بجهالة صباه لا ترده إلى جاهل ولا تعيب صبوته، بل تُلبس هذا وذاك كمال الترقِّي
وجمال التغيير إلى الأفضل.

24- اختيار
الرسل وتدريبهم

كان
اختيار المسيح لتلاميذه كانتخاب مادة الأساس لملكوت الله الذي سيبني فوقه ملكوته.
فالقصد من اختيارهم، لا أن يصيروا معلِّمين عِوَضاً عنه، ولا لتستمر الرسالة
مع أن هذا وارد ولكن كان بالأساس لينقلوا المسيح نفسه
إلى الآخرين. فأساس الملكوت وبابه وأسلوبه هو المسيح بالدرجة الأُولى. ولكن كان
عمل هؤلاء هو نقل صورة المسيح ونشرها ليعمل المسيح ويظل يعمل عمله: “مبنيِّين
على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية” (أف 20: 2).
هؤلاء لا يعملون بأنفسهم بل المسيح يعمل بهم وفيهم. فالرسول لا يعمل متشبِّهاً
بالمسيح، بل يعمل بالمسيح لأنه
خريستوفورُس (أي حامل
المسيح)
“فأحيا لا أنا بل
المسيح يحيا فيَّ” (غل 20: 2). فقد كشف المسيح سرَّها: “فمَنْ يأكلني
فهو يحيا بي” (يو 57: 6)، “أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن
أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله
من أجل حياة العالم” (يو 51: 6). المسيح هنا يصف سر وجوده فينا والعمل بنا،
فالذي يتم في سر التناول هو توضيح عملي كيف يدخل المسيح حياتنا ويعمل فينا؟!

بمعنى
أن المسيح لمَّا كان يُعلِّم الرسل ويدرِّبهم كان بالنهاية يجعل وجوده فيهم
فعَّالاً في كل مكان وزمان. فالتلمذة الحقيقية للمسيح ليست هي التي تعمل بالمسيح،
ولكن هي التي يعمل بها المسيح من أجل انتشار الحق والروح والحياة في كل العالم.

مقالات ذات صلة

25- لماذا
الاثنا عشر بالذات؟

كان الشعب اليهودي قد بدأ في الانحلال، وبعد السبي ضاعت
معالم الأسباط، ولم يَعُدْ من السبي إلى استيطان الأرض البهيَّة إلاَّ سبطان: بنيامين
ويهوذا، وباقي الأسباط ذابت في الأُمم. هنا المسيح يعيد شعباً لله كاملاً كما كان.
وهكذا عيَّن لهذا الشعب التلاميذ الاثني عشر ليكونوا بمثابة رؤساء الأسباط (مت 28:
19). وأمَّا اختيارهم بالاسم والشخصية بحسب رؤيته فتمَّ بناءً على عوامل خاصة
فرضها فيهم: “لست أقول عن جميعكم، أنا أعلم الذين اخترتهم. لكن ليتم الكتاب
الذي يأكل معي الخبز رفع عليَّ عقبه” (يو 18: 13). واختيار يهوذا الإسخريوطي لم
يأتِ ذكره بالمرَّة، كيف اختاره ولماذا اختاره؟ ولكن المسيح ألمح إلى هذا بقوله: “أليس
أني أنا اخترتكم الاثني عشر وواحد منكم شيطان” (يو 70: 6). ولكن كون المسيح
عَلِمَ مبكِّراً جداً بأن يهوذا خائن ويسرق الصندوق ويثير المشاكل بين التلاميذ
واحتمله إلى آخر لحظة، ففي هذا يكمن سر اختياره أنه أراده بوضعه هذا حتى إلى
اللحظة الأخيرة: “ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة” (يو 27: 13)، مع أنه
ذهب ليُعِدَّ له الصليب. من هذا نفهم أن يهوذا ضريبة قُبلت ليتم به ما تمَّ.
والمسيح ينفي أن التلاميذ اختاروه، بل هو الذي اختارهم (انظر: يو 16: 15). وفي
إرسالية المسيح الأخيرة للتلاميذ بحسب إنجيل ق. متى يظهر بالنهاية أن المسيح
اختارهم ودرَّبهم ليكرزوا كشهود عيان لشخصه في العالم كله (انظر: مت 19: 28)،
“وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء” (يو 27: 15). وهذه القيمة
والميزة الرسولية حاول الرسل تغطيتها عندما فُقد واحد من الاثني عشر (يهوذا)، إذ
اجتمعوا وتشاوروا: “فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه
دخل إلينا الرب يسوع وخرج منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنَّا، يصير
واحد منهم شاهداً معنا بقيامته.. ثم ألقوا قرعتهم (آخر قرعة في الكتاب المقدَّس
لأن الروح القدس حلَّ بدل عمل القرعة)، فوقعت القرعة على متياس، فحُسب مع الأحد
عشر رسولاً” (أع 1: 1526). أمَّا القديس بولس فهو الوحيد الذي
دعاه الرب من السماء مباشرة بعد الصعود بمدة زمنية ليكون له رسولاً خاصاً للأُمم.

غير
أن بعض الرسل مثل بطرس ويوحنا كانوا رجالاً ذوي هِمَّة ومقدرة وصفات ممتازة، الذين
أثبتوا بمُثلهم الحيَّة أن البشرية فيها عينات غنية بطباعها وأصولها. هؤلاء لمَّا
قبلوا المسيحية ارتفعوا بها إلى مستواها الحقيقي، وكشفوا مدى حكمة المسيح في
اختيارهم. أمَّا الآخرون فأثبتوا بمحبتهم وترك كل شيء واتِّباع المسيح حتى النهاية
أنهم كانوا عيِّنات مختارة من واقع البشرية والعالم، الذين نجحوا في الشهادة
للمسيح وحمل صورته واسمه في نقاوة وطهارة فريدة.

26- أُميَّة
التلاميذ

إنه
أمر ملفت للنظر أن المسيح يختار تلاميذه من رجال أُميين لم يتعلَّموا، مع أنه كان
قادراً أن ينتخبهم من نخبة المتعلِّمين الذين أحبُّوه وصادقوه، على مثال نيقوديموس وغيره كثيرين من الكتبة والفرِّيسيين
الذين تعاطفوا معه في
الخفاء.

ولكن
الذي يبدو لنا أنه كان يرى فيهم روح الطفولة والبساطة التي أحبَّها الآب أيضاً
فيهم وسكب عليهم من معرفته وإعلاناته كما أعطى لبطرس، الأمر الذي صرَّح به المسيح
لمَّا قال: “وفي تلك الساعة تهلَّل يسوع
بالروح وقال: أحمدُك أيها الآب، رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء
والفهماء وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب، لأن هكذا صارت المسرَّة أمامك.”
(لو 21: 10)

وروح
الطفولة البسيطة مهما كانت عديمة العلم، فهي كنز بالنسبة للمسيح، لأن التلاميذ
أطاعوه من أول نداء وأحبُّوه بإخلاص وتركوا كل شيء وتبعوه، لا بنوع التضحية في
نظرهم، بل لسبب الحب والثقة والكفاية التي وجدوها في المسيح. فكل ما كانوا
يحتاجونه في الحياة وجدوه معه: المشاعر الأُسريَّة، المحبة الأبوية، الرعاية
الصحية، والكفاية المادية؛ فماذا بقي في العالم ليغريهم بأن لا يلتصقوا به؟ ولمَّا
حدث أن تبعه بعض التلاميذ الذين كانوا متعلِّمين نوعاً ما، عندما سمعوه يتكلَّم عن
جسده النازل من السماء الذي يؤكل كما أُكل المن، وأن الذي يأكله لا يموت بل يحيا
إلى الأبد؛ حكموا بحسب معرفتهم وعلمهم أن هذا الكلام صعب مَنْ يحتمله، ولم يعودوا
يسيرون وراءه من تلك الساعة: “من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء،
ولم يعودوا يمشون معه. فقال يسوع للاثني عشر: ألعلَّكم
أنتم أيضاً تريدون أن تمضوا؟ فأجابه سمعان بطرس: يا رب، إلى مَنْ
نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك، ونحن قد آمنا
وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي.” (يو 6: 6669)

هذه
الحادثة تكشف مدى تعلُّق التلاميذ الأُميين بالمسيح، وكيف قبلوا الكلام الصعب على
أنه سهل ومقبول وهو كلام الحياة الأبدية، ولا يوجد أحد غير المسيح يستطيع أن يُشبع
قلوبهم وإيمانهم: “إلى مَنْ نذهب”! إذن، فقد نجح المسيح في اختيار
تلاميذه من أدوات خاصة بسيطة أُميَّة أمكن أن يصبَّ فيها كلام الحياة الأبدية
فتقبل وتُثمر أيضاً!! والواقع والإنجيل يقول لنا: إن ما سمعوه أودعوه في قلوب
قدِّيسة واعية، واستطاعوا لمَّا حان الوقت وقبلوا الروح القدس، أن يستعلنوه أكثر
ويذيعوه ويعلِّموه للناس. وهكذا
وكما سبق وأن شرحنا أن المسيح كان يستخدم التكيُّف في
التعليم ليليق لمثل هؤلاء، ثم يرتفع بهم وبالتعليم لينمو ملكوت الله فيهم يوماً
فيوماً. وهكذا ثبت بكل تأكيد أن الطاعة للمعلِّم كفيلة أن تجعل من الأطفال عمالقة
جديرين أن يبشِّروا بملكوت الله! وواضح أن شخصية المسيح الوديعة والمتواضعة أيضاً
استطاعت أن تطبع صورتها الإلهية بكل يقين ووضوح في قلوبهم: “ونحن قد آمنا
وعرفنا
أنك أنت المسيح ابن الله الحي” وهكذا دخلت شخصية المسيح الإلهية
أعماقهم لتهذِّب من أفكارهم وكلامهم وآمالهم وحبهم وسلوكهم! وترفع من روحهم لتلتحم
بهدوء في تقوى بروح المسيح، فتنتقل وداعة المسيح الإلهية وتواضعه الربَّاني إلى
نفوسهم، ليصبحوا أغصاناً مثمرة في الكرمة الحقيقية تستقي من عصارتها، وتقدِّم أفخر
ثمارها كما شبَّه المسيح نفسه وتلاميذه في إنجيل ق. يوحنا (يو 15: 17).

ولكن
لكي يكمِّل المسيح تلاميذه بالكمال المسيحي بحسب قانون تكميل التوراة والناموس، أضاف إلى جماعة التلاميذ الأُميين
بعد أن
قدَّمهم في الكنيسة للعالم كأئمة ورُسل للتبشير بالإنجيل
إنساناً آخر كان قد تهذَّب بكل تهذيب
التوراة إلى أقصى ما بلغ الربيُّون العظام، دعاه لكي يُظهر قوَّته فيه، أعاده
أُميًّا فألغى علمه وتعليمه وفخاره وافتخاره بتهذيب التوراة والربيِّين وحمَّله
الصليب، صليب الجهالة عند اليونان والعثرة عند اليهود، وأرسله يكرز بما كان يكرز
به الرسل الأُميُّون: “لكن ما كان لي ربحاً فهذا قد حسبته من أجل المسيح
خسارة، بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربِّي، الذي
من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح وأُوجد فيه.” (في
3: 79)

فانظر
عزيزي القارئ، كيف انخفضت هامة ذلك الفرِّيسي الجبَّار لتنحني تحت الصليب، وبتواضع
شديد تأهَّلت أن تحمله فوق كتفيها، ليبشِّر العالم كله بضعفه وقوة المسيح. وإن كان
الاثنا عشر قد بشَّروا فلسطين وما حولها، فقد حمل ق. بولس جميع الأُمم على كتفيه.

27- من عبيد
إلى أحبَّاء

حينما
بدأ التلاميذ علاقتهم مع المسيح كانت قائمة على الطاعة وواجبات المحبة كما تمليها
عليهم الظروف من الخارج. ولكن بعد مدة دخلت العلاقة إلى وضع أعمق من مفهوم الطاعة
والمحبة المفروضة بحسب الواجب والظروف، إذ بدأ القلب والفكر معاً يتحرَّكان
ليتقبَّلا من قلب المسيح وفكره علاقة أخرى تقوم على صلة أخرى عميقة وذات إحساسات
فائقة عن مستوى الطبيعة. وكانت استجابتهم في البداية لوصاياه ومطالبه تقوم على
الثقة وإيمانهم بالحق الذي في المسيح وفي إرادته من نحوهم. ولكن شيئاً فشيئاً
أصبحت عشرتهم به كافية للدخول أكثر فأكثر في إدراك نفس شخصه وإرادته وأفكاره
وأعماله. ومنها بدأت تتأثَّر أشخاصهم بشخصه، وإدراكهم بإدراكه، وإرادتهم بإرادته،
وأفكارهم بأفكاره، كانسياب الحرارة من جسم ساخن إلى جسم بارد بالالتصاق، حتى بعد فترة أصبحنا نحس
بالتلاميذ يتكلَّمون ويتصرَّفون كصورة

وإن كانت ضعيفة
لصورة كلام المسيح
وتصرُّفاته. ولكن بالأكثر، فالمحبة الصادقة والطيبة التي سكبها المسيح في قلوبهم،
استجابت لها قلوبهم واستوعبتها ثم عكستها عليه شخصياً. فأصبحوا يحبُّونه بشدَّة
بحب يقارب حبه لهم، حتى أخيراً نسمع المسيح يتكلَّم عن سر أعماق هذه المحبة قائلاً:
“أمَّا يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم
إلى الآب، إذ كان قد أحبَّ خاصته الذين في العالم. أحبهم إلى المنتهى
(يو 1: 13). بمعنى أحبَّهم أقصى غاية المحبة!!

ولكن
الذي يدهشنا أن محبة المسيح لهم كان دورها الإيجابي في نقلهم من حالة العبيد إلى
حالة الأحباء، ليس مجرَّد حب عاطفي أو خلق مناسبات لكي يُظهر لهم فيها حبَّه
وعطفه؛ ولكن كانت تغذية قلوبهم وأفكارهم ونفوسهم في الأعماق بكشف علاقة الآب به
وبهم، ووصف حب الآب من نحوهم لا كسرد وقائع ولكن كتسليم واقع. وقد صرَّح هو بذلك
واصفاً هذه الحقيقة العجيبة والفريدة في تعليم وتسليم المحبة ورفع الإنسان من حالة
عبد إلى حالة محبوب! “هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم، ليس
لأحد حبٌّ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه. أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به. لا أعود أسميكم عبيداً، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده. لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من
أبي.
” (يو 15: 1215)

بمعنى
أن ارتفاع معرفة التلاميذ إلى معرفة الآب وكل ما عرَّفهم المسيح به من علائق الآب
من نحوهم ونحو المسيح الابن كان كفيلاً أن يرفعهم من حالة بشر عبيد إلى حالة أبناء
أحباء، وهو الأمر الذي حوَّله المسيح إلى فعل وإلى تضحية وبذل وموت بحسب مشيئة
الآب، وقيامته وذهابه إلى الآب وهو حامل البشرية في صميم كيانه. وباختصار فإن منهج
المسيح التعليمي كإنجيل كان كافياً بحد ذاته أن يرفع التلاميذ من حالة عبيد إلى
حالة أحبَّاء: ” لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي”. ثم أضاف إلى
العلم والمعرفة العمل أيضاً، ليبلغ الحب حالة واقع واتحاد: ” أنتم
أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به”.
ثم في موضع آخر أضاف للتلاميذ عاملاً
ثالثاً أساسياً لبلوغ ملكوت الله: “أمَّا مَنْ عمل وعلَّم فهذا يُدعى عظيماً
في ملكوت السموات” (مت 19: 5). وهنا أضاف التعليم أيضاً، فأصبح قانون ملكوت
الله يُقدَّم على ثلاثة: “علم، وعمل، وتعليم”. وهذا ما انتهى
إليه مستوى الرسل. فمن عبيد إلى أحبَّاء إلى معلمين عظماء لحساب الملكوت.

ولكن
لا نستطيع أن نعبر على حالة المحبة التي بلغها التلاميذ دون أن نشير أنها بلغت مع
المسيح إلى مستوى تآلف نفساني وروحي شديد العمق، الذي بلمسة الروح القدس صار بعد
ذلك حالة شركة واتحاد محسوبة أنها لحساب الآب، بلغت حالة التصالح والبنوَّة.

28- المستوى
الخاص الذي كان يُدرِّب به المسيح تلاميذه

كان
من المُتَّبع سواء في مدارس الفرِّيسيين أو غيرهم من المعلِّمين
مثل المعمدان أن يدرِّب المعلِّم تلاميذه بوضع تداريب
خاصة بالصوم والصلاة والخلوة والصمت وأمور أخرى كثيرة، لكي بحسب ظنهم يرتقوا إلى
المستويات الروحية. أمَّا المسيح فلم يسلك هذا الطريق، وهذا واضح لمَّا جاء تلاميذ
يوحنا يستفسرون من المسيح بنوع من النقد والمراجعة: لماذا لا يصوم تلاميذك: “لماذا
نصوم نحن والفرِّيسيون كثيراً، وأمَّا تلاميذك فلا يصومون” (مت 14: 9)؟ هنا
يتضح أن المسيح لم يستخدم طرق النسك وطرائق العبادة المختلفة لتدريب تلاميذه
كالمعمدان والفرِّيسيين.

ولكن
قبل أن نخوض في الأسباب يلزم أن نعلم أن المعمدان ظهر إلى العالم وهو على أعلى
درجة من النسك، فلا طعام ولا شراب ولا بيت ولا أولاد ولا راحة ولا متعة، بل ولا
علاقة مع أحد. وعكس ذلك تماماً جاء المسيح يأكل ويشرب وله بيت وعلاقات شديدة
بالآخرين لحساب رسالته. فهو على منوال حياته بدأ يعلِّم ويدرِّب تلاميذه، وعنوان
مدرسته ومنهجه أن لا تؤخذ رقعة من ثوب جديد ويُرقَّع بها ثوب عتيق، ولا يضعون
خمراً جديدة في زقٍ عتيق، فالتلف يتربَّص بهذا
وذاك. إذ اعتبر المسيح أن وصايا النسك لا تستقيم مع
إعداد تلاميذه ليحملوا ملكوت السموات باتساعه
وعلوه ومسرَّاته وأفراحه الأبدية.

فلم
يسنَّ لهم قوانين صوم ولا تقشُّف ولا انعزال للتمرين، ولا فرض عليهم الصمت
والتأمُّل؛ بل دفعهم دفعاً للاختلاط مع الجموع للتعليم مباشرة بعد أن زوَّدهم
بالروح والمبادئ الأساسية.

وكان المسيح يعتبر أن مجيئه ووجوده في وسط التلاميذ كعريس
بين أصدقاء العريس، كما عبَّر

عنها المعمدان نفسه: “فقال لهم يسوع (ردًّا على سؤالهم: لماذا لا يصوم
تلاميذه؟): هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم؟” (مت 15: 9).
بمعنى عندما تنتهي أفراح وجود المسيح، فعندما
يُرفع العريس حينئذ يصومون ويشتهون يوماً من أيام ابن الإنسان، أي يشتهون هذا
الفرح
عينه.

هنا لو أخذنا بالشرح التقليدي أنه حينما يرتفع المسيح من
الأرض
أي بالقيامة والصعود حينئذ يبدأ الصوم حيث يليق الحزن. هذا في الحال يقف
معارضاً للمَثَل الذي فرضه المسيح أن لا تؤخذ
رقعة من ثوب جديد
وهو ثوب الخلاص بالمسيح وحياة الفرح في
العهد الجديد
ويُرقَّع بها ثوب عتيق وهو
تعاليم الفرِّيسيين والمعلمين القدامى بالأصوام والنسك. ولا الخمر الجديدة أيضاً
التي هي فرح الروح القدس تصلح أن توضع في زقٍ عتيق، أي في قوانين الصوم والنوح
وقرع الصدر. فالمسيحية بروحها الجديدة لا يمكن أن تُمَارَسْ بروح وتقاليد العهد
القديم. يبقى أمامنا شرح وحيد لمعنى يُرفع العريس عنهم، فهو غياب المسيح بالمفهوم
الروحي وليس الجسدي، بمعنى توقُّف الإحساس بالخلاص والرجاء والفرح، هذا هو معنى أن
يفقد الإنسان الإحساس بوجود المسيح. هنا يمكن للإنسان أن يصوم ويحزن ويبكي ويعتكف
إلى أن يعود الفرح وبهجة الخلاص في القلب، هذا يعني أن يكون عمل الإنسان في غياب
المسيح عن القلب هو الندم والتوبة ومراجعة النفس وضبط واستعباد الجسد بأصوام
وصلوات وتضرُّعات: بهذا فقط يكون منهج المسيحية سليماً: “افرحوا كل حين، صلوا
بلا انقطاع، اشكروا في كل شيء” (1تس 5: 16 18)، “افرحوا في
الرب كل حينٍ وأقول أيضاً افرحوا” (في 4: 4). أمَّا الأصوام الكنسية فهي
لتمجيد تذكارات خاصة.

ولكن
بالعودة إلى تعليم التلاميذ وتدريبهم بمفهوم وجود المسيح كعريس بينهم، نفهم أن
المسيح لم يستخدم تداريب الصوم وأنواع الصلوات والعزلة عن الناس والضوابط الخلقية،
وهي التي تعبِّر عن الطريقة السلبية في التعليم؛ بل تركهم على سجيتهم الطبيعية،
وبدأ يغرس فيهم المبادئ الروحية الإيجابية، ويدرِّب حواسهم الروحية ليقظة النفس
حتى تتقبَّل نفوسهم وأرواحهم مفاعيل النعمة. هنا يحدث الانضباط الجسدي والسلوكي،
ليس بالقهر ولكن بالاستعلاء، أي بأن يحس الإنسان أنه ليس على مستوى الكذب والسرقة
والغضب والشتيمة والانتقام؛ بل صار في عمق إحساسه القلبي على مستوى الأمانة والصدق
لله والناس، ولا يشعر أنه محتاج لشيء ولا يشتهي شيئاً، ويحس بروح المحبة والسماحة
فلا يُغْلب من روح الغضب. وعِوَض النقمة يكون روح الاحتمال والوداعة. وهكذا يصبح
هيكل ومواد وأدوات التعليم والتدريب وبناء النفس عند المسيح هي على مستوى الروح
والبناء الإيجابي. وهذا ينسجم تماماً مع بنود العظة على الجبل التي كان القصد منها
عرض منهج الحياة الروحية للملكوت كوسيلة تعليم أساسية تركها المسيح للكنيسة
الخالدة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى