علم التاريخ

2- الخروج



2- الخروج

2- الخروج

(القرن
الثالث عشر قبل الميلاد)

أمَّا
ميلاد شعب إسرائيل كأُمة، فقد تمَّ بصورة واضحة عند بدء الرحيل من مصر: “ومن
مصر دعوت ابني
” (هو 1: 11)، إذ كان عددهم وقتئذ- حسب تقرير التوراة
(بالنسبة للشباب المنخرط للحرب فقط فوق العشرين سنة والذي يبلغ 603550) لا يقل عن
مليوني نسمة، إذا أخذنا بالنسبة المعروفة اجتماعياً:

+
“فكان جميع المعدودين من بني إسرائيل حسب بيوت آبائهم من ابن عشرين سنة
فصاعداً، كلُّ خارج للحرب في إسرائيل، كان جميع المعدودين ستَّ مائة ألف وثلاثة
آلاف وخمس مائة وخمسين. أمَّا اللاويون حسب سبط آبائهم فلم يُعَدُّوا بينهم”
(عد 1: 4547)

وكذلك
اقترن التكوين الفكري والسياسي والديني لشعب إسرائيل باسم موسى، الذي يعتبر
المشرِّع الديني والمؤسِّس والقائد الذي حرَّر الشعب وقاده من العبودية والسخرة في
أرض مصر.

موسى
يهرب من مصر ويلتجئ إلى سيناء ويصاهر المديانيين العرب:

لقد
تربَّى موسى في قصر فرعون: “فتهذَّب موسى بكل حكمة المصريين، وكان مقتدراً في
الأقوال والأعمال” (أع 22: 7). كما أنه اختلط بالعرب (مديان) وأخذ عنهم
وصاهرهم، فتزوَّج بنت كاهن مديان، واسمه رعوئيل أو يثرون (خر 16: 2) وهو النبي
شعيب عند المسلمين. أمَّا ابن يثرون أو رعوئيل الكاهن (قبيلة عربية، مديانية) فإن
اسمه في التوراة “حوباب
” “وقال موسى لحوباب بن رعوئيل المدياني حمى موسى: إننا
راحلون إلى المكان الذي قال الرب أعطيكم إياه، اذهب معنا فنحسن إليك، لأن الرب قد
تكلَّم عن إسرائيل بالإحسان. فقال له لا أذهب بل إلى أرضي وعشيرتي أمضي. فقال: لا
تتركنا لأن بما أنك تعرف منازلنا في البرية تكون لنا كعيونٍ، وإن ذهبت معنا بنفس
الإحسان الذي يحسن الرب إلينا نحسن نحن إليك
” (عد 10: 2932). وعائلة حوباب عرفت بعد ذلك “بعائلة
القيني”
وهي الصفة المختصة بها، لأن القيني والقينيين تعني “الحدَّاد” أو الذي
يعمل في صناعة المعادن. وهي أصلاً وفي غالب الأمر العائلة التي كانت تعمل في مناجم
سيناء للنحاس المعروفة الآن بسرابيت الخادم، والتي كان يثرون كاهناً لها، والتي صاهرها موسى. وقد جاء عنها في التوراة:

+
“ودعا باراق زبولون ونفتالي إلى قادش، وصعد ومعه عشرة آلاف رجل، وصعدت دبورة
(النبية) معه. وحابر القيني انفرد من قاين من بني حوباب حمى موسى وخيَّم
حتى إلى بلوطة في صعنايم التي عند قادش” (قض 4: 1011)

ويُلاحَظ أن عائلة القيني (حوباب العربي المدياني) اندمجت
في إسرائيل وأخذت سمات البركة مثلهم:

+
“ثم رأى القيني فنطق بِمَثَلِهِ وقال: ليكن مسكنك متيناً، وعشك موضوعاً في
صخرة” (عد 21: 24)

+ “وبنو القيني حمي موسى صعدوا من مدينة النخل مع بني
يهوذا إلى برية يهوذا التي في جنوبي عراد، وذهبوا وسكنوا مع الشعب” (قض 16:
1)

والعجيب
أن إحدى نساء القيني صنعت معروفاً لإسرائيل سجله لها التاريخ إلى الأبد. فقد قتلت
سيسرا رئيس جيش ملك الكنعانيين المدعو يابين، وقد كان سيسرا هارباً من وجه باراق
قائد إسرائيل، إذ أدخلته خيمتها كأنها تخبئه وأسقته لبناً خامراً فسكر ثم قتلته
تدعيماً لإسرائيل:

+
“فأخذت ياعيل امرأة حابر (القيني) وتد الخيمة وجعلت الميتدة في يدها، وقارت
إليه وضربت الوتد في صدغه فنفذ إلى الأرض وهو مثقَّل في النوم ومتعب فمات. وإذا
بباراق يطارد سيسرا، فخرجت ياعيل لاستقباله وقالت له تعال فأريك الرجل الذي أنت
طالبه، فجاء إليها وإذا سيسرا ساقط ميتاً والوتد في صدغه” (قض 4: 1122)

وقد
كرَّمت دبورة نبية إسرائيل اسم ياعيل امرأة حابر القيني في نشيدها الملهم الرائع:

+
“استيقظي استيقظي يا دبورة (تقول لنفسها)، استيقظي استيقظي وتكلَّمي بنشيد..
تُبَارَكُ على النساء ياعيل امرأة حابر القيني. على النساء في الخيام تُبَارَكُ،
طلب ماء فأعطته لبناً (خامراً) مدت يدها إلى الوتد.. وضربت سيسرا وسحقت رأسه.. بين
رجليها انطرح.. سقط مقتولاً” (قض 5: 1227)

وقد
ردَّ إسرائيل الجميل لعائلة القينيين بيد شاول:

+
“ثم جاء شاول إلى مدينة عماليق وكمن في الوادي. وقال شاول للقينيين: اذهبوا
حيدوا انزلوا من وسط العمالقة لئلاَّ أهلككم معهم، وأنتم قد فعلتم معروفاً مع جميع
بني إسرائيل عند صعودكم من مصر. فحاد القيني من وسط عماليق” (1صم 15: 5و6)

ومعروف
من التوراة أن عائلة القينيين انتسبت لكالب بن يفنه أحد اثنين سمح لهم الله بدخول
أرض كنعان من جميع أفراد الجيل الذي صعد من مصر، ومن عائلة القينيين خرج
الركابيون:

+
“هؤلاء هم بنو كالب بن حور بكر أفراته: شوبال أبو قرية يعاريم، وسلما أبو بيت
لحم.. وعشائر الكتبة سكان يعبيص.. هم القينيون الخارجون من حمَّة أبي بيت ركاب” (1أي
2: 50
55)

وظل
الركابيون محتفظين بعاداتهم المديانية (العربية) كل أيام حياتهم. فنسمع عنهم في
سفر إرميا النبي أنهم لا يشربون الخمر، ولا يسكنون إلاَّ في الخيام كل أيام
حياتهم، ولا يزرعون ولا يحصدون:

+
“فقالوا لا نشرب خمراً لأن يوناداب بن ركاب أبانا أوصانا قائلاً لا تشربوا
خمراً أنتم ولا بنوكم إلى الأبد، ولا تبنوا بيتاً ولا تزرعوا زرعاً ولا تغرسوا
كرماً ولا تكن لكم، بل اسكنوا في الخيام كل أيامكم” (إر 35: 6و7)

وقد
استحسن الله سلوك الركابيين وأخلاقهم مقارناً بينهم وبين إسرائيل الذي لم يسمع
وصايا الله، وأعطاهم الله وعداً أن لا ينقطع من نسلهم من يعبد الله:

+ “هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل.. لأن بني يوناداب
بن ركاب قد أقاموا وصية أبيهم التي أوصاهم بها. أمَّا هذا الشعب فلم يسمع لي..
وقال إرميا لبيت الركابيين: هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل، من أجل أنكم سمعتم
لوصية يوناداب أبيكم، وحفظتم كل وصاياه، وعملتم حسب كل ما أوصاكم به، لذلك- هكذا
قال رب الجنود إله إسرائيل- لا ينقطع ليوناداب بن ركاب إنسان يقف أمامي كل
الأيام” (إر 35: 1219)

اللغة
العربية بحروفها الألف باء:

والعجيب
حقا أن الأبحاث الحديثة دلت على أن المديانيين العرب سكان سيناء (الذين منهم القينيون
وعائلة حوباب وكاهن مديان يثرون حمو موسى) والذين كانت صناعتهم الحدادة، كانوا
يستعملون الحروف الأبجدية العربية حوالي سنة 1500 ق.م، وهي أقدم الحروف الهجائية
للألف باء، والتي استعارها الإسرائيليون لتكوين حروف لغتهم. ولكن الذي استنبطها
وطوَّرها أصلاً هم الكنعانيون سكان سوريا وأخذها منهم وطوَّرها اليونانيون أيضاً.

وهكذا
يتحقَّق لنا أن المديانيين سكان سيناء كانوا شعباً متحضِّراً ذا ثقافة مزدهرة، وله
صلات تجارية وصناعية مع كل من مصر وفلسطين([1]).

أمَّا
موسى فقد فرَّ هارباً من وجه فرعون وهو ابن 40 سنة إلى برية سيناء، التي فيها أعلن
الله له عن اسمه “يهوه” (الكائن الذي يكون)،
وتلقى منه إعلاناً إلهياً لقيادة شعب إسرائيل والخروج به من مصر.

ومن نتائج الأبحاث في الوثائق التاريخية ومدونات الآثار
الفرعونية([2])
تحقَّق لدى العلماء صحة ما جاء في سفر الخروج: “فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي
يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس


(خر 11: 1). على أن فرعون الظلم والسخرة هذا كان رمسيس الثاني، أمَّا فرعون الخروج
فأقرب الصحيح أنه مرنبتاح
Merneptah وهو ابن رمسيس الثاني. ولكن يعتقد كثيرٌ من العلماء أن فرعون
السخرة هو فرعون الخروج أي رمسيس الثاني نفسه. ولكن المعروف في تاريخ الفراعنة أن
أواخر حكم رمسيس الثاني كان مليئاً بمفاخر عصر نشاط البناء والتشييد. ومن الوثائق
المسجلة أنه بنى مدينة رعمسيس المذكورة في التوراة، والمسمَّاه “أفاريس” في عصر
الهكسوس (بالقرب من صان الحجر الآن بالشرقية)، التي بدأها سيتي الأول وأكملها
رمسيس الثاني (12901224 ق.م)، وشيد فيها مسلة وأسماها مدينة رعمسيس:

+
“ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف.. فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي
يذلوهم بأثقالهم فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس” (خر 1: 8و11)

وقد
اكتشف علماء الآثار وثائق هذه الحقبة ووجدوا مدوناً فيها مرَّات عديدة اسم
Hapiru أبيرو أو عبيرو- أي العبرانيين كشعب عبيد للدولة يعملون في مشاريع
المملكة. كذلك بالبحث تيقن دخول مئات من الكلمات والمصطلحات السامية العبرية في
اللغة المصرية القديمة([3]).
ومعروف أن حكم رمسيس الثاني دام مدة طويلة جداً، وأنهى حكمه بغزوه فلسطين، كما قام
ابنه مرنبتاح
Merneptah بغزو فلسطين مرَّة أخرى، وترك نُقُوشاً تشير إلى انتصاره على
الإسرائيليين، أي شعب إسرائيل. وتعتبر هذه الإشارة أول مرجع أثري في العالم لوجود
شعب اسمه شعب إسرائيل، وهي تعتبر أهم وأخطر وثيقة بالنسبة لإثبات وجود شعب بهذا
الاسم في التاريخ يستوطن فلسطين، غير أنها لا تفيد إطلاقاً وجودهم كدولة ولكن مجرد
شعب مقيم([4]).

وهذا
يعني أنه بحلول سنة 1244 ق.م كان شعب إسرائيل قد استقر في فلسطين.

وبمعجزات
كثيرة خرج شعب إسرائيل من مصر، وبمعجزة أيضاً عبروا البحر الأحمر بقيادة موسى
وهارون. وانطلقوا إلى سيناء حيث ظهر لهم الله (يهوه) وأعطى موسى الوصايا العشرة
على جبل سيناء (أو حوريب) لتكون هي الدستور الروحي والأخلاقي للشعب. كما سلَّمه كل
دقائق العبادة ونظام الحياة والسلوك للفرد والجماعة.

وقصة
الخروج بكل الحوادث التي اكتنفتها انطبعت على صفحات قلوب الشعب، وتوارثتها
الأجيال، باعتبارها العناصر الأساسية في تكوين وعي الشعب، والتي تحمل له أقوى
عناصر الإيمان برعاية الله الخاصة والمتميزة دون كافة شعوب الأرض. ولكن ليس لأجيال
شعب إسرائيل فحسب، لأن حادثة خروج شعب إسرائيل من العبودية والسخرة، بكل ما لازمها
من وصايا وتوصيات الله، وطقس ذبح خروف الفصح، ومعجزة العبور في وسط مياه البحر
الأحمر، كل هذه انتقلت إلى المسيحية ودخلت في صميم العبادة كرموز وأسرار استعلنت
حقائقها بواسطة المسيح. والعبودية والسخرة لفرعون مصر هي بالمفهوم المسيحي
العبودية للشيطان، والسخرة تحت ثقل الخطية، وذبح خروف الفصح هو صلب المسيح، وعبور
البحر الأحمر وفرعون يتبعهم والله (يهوه) فاصل بين الاثنين بواسطة ملاك هو عبور
الموت بالصليب (وبالمعمودية)، وبلوغ شاطئ سيناء هو القيامة من الأموات، ودخول أرض كنعان هو الدخول إلى الحياة
الأبدية؛ بل ويضيف سفر الرؤيا أن في السماء ستأخذ تسبحة موسى قمة تجليها حيث يكون
قد تمَّ العبور الفعلي (رؤ 3: 15).

لذلك
يلزم أن نوضح أن حادثة ذبح خروف الفصح وعبور البحر الأحمر بقدر ما أخذا الأهمية القصوى في تكوين العنصر الإيماني في عبادة شعب
إسرائيل، خريطة الخروج من مصر
فهما
بقدر أعظم وبما لا يقاس أخذا موضع الأساس في اللاهوت المسيحي.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى