علم الانسان

مخاض الإنسان الجديد



مخاض الإنسان الجديد

مخاض
الإنسان الجديد

«يا
أولادي الذين أتمخَّض بكم أيضاً
إلى أن يتصوَّر المسيح
فيكم”
(غل 19: 4)

واضح
من كلام بولس الرسول أن “تصوُّر المسيح فينا”إنما يُقصد به ميلاد الإنسان
الجديد الذي هو على صورة خالقه يسوع المسيح. وهذا المبدأ اللاهوتي في التجديد يقوم
على آيتين: الأولى: “لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع
لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها” (أف 10: 2)؛ والآية
الثانية
التي تكشف انطباق صورة الإنسان الجديد على صورة المسيح: “ولبستم
الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه” (كو 10: 3). أما تحديد
الصورة فهي محدَّدة بالبر وقداسة الحق حسب الآية: “وتتجدَّدوا بروح ذهنكم،
وتَلْبَسُوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق” (أف
23: 4و24)

وأيضاً
واضح من الآيتين الأخيرتين أن الصورة التي للإنسان الجديد إنما تأخذ تحديدها في
البر وقداسة الحق عن طريق “التجديد للمعرفة”، وذلك بتجديد روح الذهن أو تجديد
الذهن روحياً “وتتجدَّدوا بروح ذهنكم”

مقالات ذات صلة

وكما
رأينا أن الإنسان في المعمودية يلبس المسيح باعتباره الإنسان الجديد: “لأن
كلَّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل 27: 3)، كذلك هنا
أيضاً نجد أن عملية تجديد الذهن إنما تؤدِّي إلى لِبْس المسيح كالذي تمّ في
المعمودية، إنما هنا عن إرادة وفهم ومعرفة روحية: ” وتتجدَّدوا بروح ذهنكم،
وتلبسوا الإنسان الجديد”،
بمعنى أن المسيح الذي لبسناه بالسر في سر
المعمودية نستعلنه بالمعرفة بتجديد روح ذهننا.

وهذه
قضية بولس الرسول معنا، أي أنه يتمخَّض بنا مخاض الألم ووجع الولادة حتى يتصوَّر
المسيح فينا، وذلك بإعطاء كل ما يخص تجديد الذهن بالروح للتعرُّف على شخص المسيح
الذي سكن فينا بالمعمودية، باعتباره الإنسان الجديد أو الخلقة الجديدة بالروح التي
منحها لنا الله بواسطة ابنه الوحيد.

والسؤال
الآن:
ما
هي هذه الآلام التي تشبه آلام المخاض عند الولادة حتى يتصوَّر المسيح فينا؟ يلزمنا
هنا أولاً أن نعود إلى التساؤل: مِمَّا يولد الإنسان بالجسد؟ نجد أنه من التصاق
رجل بامرأة ليكونا بالزيجة جسداً واحداً. فإذا عُدنا إلى الروح نجد أنها تبدأ بالالتصاق
بالرب يسوع حسب الآية: “وأما مَن التصق بالرب فهو روح واحد” (1كو 17: 6).
ثم نأتي إلى كيفية الالتصاق بالرب يسوع لنصبح معه روحاً واحداً، لأن هذا كفيل
بالدرجة الأولى أن يعطينا شكل أو صورة المسيح في البر وقداسة الحق. على أننا لا
ننسى أن أساس الموضوع كله في أن المخاض الذي يتم به تصوُّر المسيح فينا، هو عملية
تخليق، كتخليق الجنين في البطن. فكما أن التصاق الرجل بامرأة يُنشئ جسداً واحداً
ينتهي إلى خلقة جسد على صورة الرجل والمرأة؛ هكذا الالتصاق روحياً
للإنسان الذي اعتمد بالمسيح يُنشئ مع المسيح روحاً واحداً هو روحنا
الجديدة أو إنساننا الجديد الذي على صورة خالقه. إذا فهمنا ذلك جيداً نعود إلى
كيفية الالتصاق بالرب يسوع لنكون معه روحاً واحداً، لأنه سيكون فيها كل أمل ورجاء
أن نأخذ صورة المسيح في البر وقداسة الحق.

ولا يمكن شرح الالتصاق بالرب لنكون معه روحاً واحداً، الذي
يهبنا صورة المسيح خالقنا في البر وقداسة الحق، إلاَّ بالصورة التي قدَّمها بولس
الرسول، وهي خطبة العذراء لرجل أي المسيح: “فإني أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم
لرجل واحد، لأُقدِّم عذراء عفيفة للمسيح”
(2كو 2: 11)

إذن،
الالتصاق بالرب هو في حقيقته الروحية زيجة مقدسة حيث يتَّحد المسيح بنا اتِّحاداً
روحياً صادقاً، فنصير بالتالي معه روحاً واحداً.

والآن،
على أي أساس يقدِّمنا بولس الرسول إلى المسيح كعذراء عفيفة، بمعنى يُدخلنا إليه في
زيجة مقدسة؟ لقد سبق وأفصح بولس الرسول عن ذلك في رسالته إلى أهل أفسس قائلاً: “من
أجل هذا يترك الرجل أباه وأُمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسداً واحداً.
هذا السر عظيم، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة” (أف 31: 5و32).
والكنيسة نحن، ونحن جسده: “وبيته نحن” (عب 6: 3)

هنا القديس بولس يستمد لاهوته الحيّ من العهد القديم في
تجلِّيات ورؤى إشعياء النبي فيما يخص شعب إسرائيل في مستقبله السعيد كإسرائيل
الجديد الذي هو بعينه الكنيسة، حينما رفع رؤياه إلى ما بعد رذل إسرائيل التي خانته
مُخاطباً إيَّاها: “أين كتاب طلاق أُمكم” (إش 1: 50)! ليرى الصليب وما
بعده:

+
“لا تخافي لأنكِ لا تَخْزَيْن، ولا تخجلي لأنكِ لا تسْتَحِين. فإنك تنسين
خِزْي صباكِ، وعار ترمُّلِكِ لا تذكُرينه بعد. لأن بعلك (زوجكِ) هو صانعك ربُّ
الجنود اسمه، وولِيُّكِ قدوس إسرائيل إله كل الأرض يُدْعَى” (إش 4: 54و5)

وأيضاً:

+
“كفرح العريس بالعروس يفرح بكِ إلهُكِ” (إش 5: 62)

النبوَّة
هنا منصبَّة على إسرائيل الجديد في فكر إشعياء الذي سبق وأنبأ بهذا العريس عينه
حينما قال: “ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل (الذي تفسيره
الله معنا)” (إش 14: 7)، أو حينما قال: “لأنه يولَد لنا ولد ونُعطَى
ابناً، وتكون الرياسة على كَتِفِه، ويُدعى اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً، قديراً،
أباً أبدياً، رئيس السلام” (إش 6: 9)

وهكذا
تنبَّأ إشعياء بزيجة يهوه لإسرائيل فوقعت النبوَّة عند القديس بولس ليستعلن سرها
في المسيح العريس والكنيسة العروس، التي صارت جسده وجسده نحن، الذين يُخاطبنا
القديس عن جسارة: “فإني أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجل واحد
لأُقدِّم عذراء عفيفة للمسيح”

أما
من أين جاءته هذه الغيرة الإلهية؟ فهي لأن المسيح نفسه قد فدانا بدمه الذي سقانا
إيَّاه فصار من جهته “عريس دم”لنا. فكيف لا يَغِير علينا القديس بولس غيرة
الله نفسه، فالزيجة تمَّت باتحاد الجسد والدم.

إذن،
فليس من فراغ يخطبنا القديس بولس للمسيح، فقد سبق المسيح ومسحنا بدمه بل وسقانا
إيَّاه فدخلنا في عهد وسر الاتحاد. فأصبحت مشقة القديس بولس وعناؤه وصبره في كيف
يفتح أعيننا لندرك سر دم المسيح فينا، الغاسل والمقدِّس والقائم فينا بمثابة عقد
زواج؛ فكان أجمل تعبير عبَّر عنه القديس بولس في استعلان ما عمله المسيح بدمه من
أجلنا أنْ قال: “يا أولادي، الذين أتمخَّض بكم أيضاً إلى أن يتصوَّر المسيح
فيكم” لأن اضطلاع القديس بولس باستعلان المسيح فينا هكذا “بدم صليبه”، هو
بعينه مخاض الميلاد لإنساننا الجديد حاملاً صورة المسيح
الذي تمَّ بالفعل على
يدي القديس بولس على مدى الأربع عشرة رسالة.

“إلى
أن يتصوَّر المسيح فيكم”:

لاحِظ
أن مخاض القديس بولس سيستمر حتى يتصوَّر المسيح فينا. أما هذا المخاض فهو حمْل
همِّ استعلان سرِّ الدم، دم ابن الله على الصليب لنُمسح به ونتطهَّر ونصير عذراء
عفيفة للمسيح. نُمسح به لتضمحل قوة الخطية منَّا إلى الأبد، فيُنحَّى الإنسان
العتيق ويُترك للإنسان الجديد مجال التخليق بسقي الدم. ودم صليب المسيح دم
فدية،
فدية من حبوس وقيود موت الخطية للإنسان العتيق إلى سعة الحياة في المسيح
للإنسان الجديد لقبول حياة المسيح فيه، فيتجدَّد على صورته في القداسة والبر، لأن
هذا هو قانون العهد الجديد: “وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها
كُلُّكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين
لمغفرة الخطايا” (مت 27: 26و28)

أما
كيف يتشكَّل أو يتصوَّر المسيح فينا، فواضح أنه كما يتشكَّل ويتصوَّر الجنين في
بطن أمه بواسطة الدم الذي يمتصه من أمه بواسطة الحبل السُّرِّي حتى يكتمل شكله
ونموه إلى التمام ليولد؛ هكذا حينما نستقي بالروح ونحن مجرد
أجنَّة بالإيمان دم المسيح، الذي حياته فيه، فنستمد منه بالروح
القدس حياة المسيح وكل ما للمسيح
حتى يتصوَّر المسيح فينا حيًّا. وهذه هي
وظيفة بولس الرسول الذي أمدَّنا بالروح والإنجيل كل ما للمسيح بالاستعلان
حتى اكتملت مداركنا وأخذنا الشكل فينا كسرٍّ.

أما
ما هو اكتمال الشكل الذي للمسيح فينا فهو “البر وقداسة الحق”حسب الآية: “وتتجدَّدوا
بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق”
(أف 23: 4و24). وهذا كل امتياز عمل بولس الرسول الذي لم يُدانيه فيه إنسان آخر
باعترافه، لا عن فخر بل عن حق وتحقيق: “بسبب هذا أنا بولس، أسير المسيح يسوع
لأجلكم أيها الأمم، إن كنتم قد سمعتم بتدبير
نعمة الله المُعطاة لي لأجلكم.
أنه بإعلان عرَّفني بالسرِّ.. الذي
بحسبه
حينما تقرأونه، تقدرون أن تفهموا درايتي بسر المسيح.. أُعطيت هذه النعمة.. وأُنير
الجميع في ما هو شركة السر
المكتوم منذ الدهور في
الله
خالق الجميع بيسوع المسيح” (أف 1: 34و8و9)

واضح أن القديس بولس قد أُعطي نعمة خاصة من الله هي استعلان
سر المسيح وقوته وإعلانه لإنارة عقولنا وتمكين قلوبنا لاستيعاب شركة السر في
الله كمخلوقين جديداً في المسيح يسوع!
فهنا خلقة جديدة لنا بدم المسيح
صيَّرتنا شركاء في المسيح والله كمخلوقين في المسيح وهو سر استلمه
بولس الرسول وسلَّمه لنا بحسب الله في البر وقداسة الحق كعطية فائقة
موهوبة تتم بواسطة الاستعلان الذي يستقر على مستوى الحقيقة والفعل في أعماق كياننا
الروحي الجديد، فيعمل عمله بتجديد روح ذهننا، أي ذهن الإنسان الجديد الروحي الذي
إذا اكتمل بالإنجيل كفيل بأن يلبسنا المسيح نفسه الذي هو الإنسان الجديد المخلوق
بحسب تدبير الله بمنح برِّه الشخصي وقداسة الحق الذي فيه: “وتتجدَّدوا بروح
ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة
الحق”

الدعوة
هنا لذوي الإيمان والثقة في ما يقوله الروح على فم القديس بولس بالاستعلان.
والسرُّ هنا سر اجتراء على الله بالحب في قداسة الحق بالإيمان بحسب ما وعد الله
ودعا وضَمِنَ ما وعد به بالمسيح. هنا يتحتَّم أن ينبري الإيمان وجراءة الضمير، لأن
بعد ما كشف القديس بولس السر المكتوم الذي هو “الشركة في الله بالمسيح”قالها
صريحة صارخة: “الذي به لنا جراءة وقدوم بإيمانه عن ثقة” (أف 12: 3)،
أي أنها أصبحت من نصيب الإيمان والجراءة. والأمر هنا لا يحتاج إلى تفسير أكثر من
هذا، فالذي له جراءة وقدوم بإيمانه عن ثقة هو هو الذي سيدخل في سر التجديد بروح
ذهنه ويلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق، ليؤهَّل إلى
الشركة العُليا في الله خالق الجميع بيسوع المسيح.

والقديس بولس لا يتركنا إلى إيماننا دون إلهاب وتأييد
معتمداً على غِنَى مجد الله، إذ يُصلِّي ويسجد: “لكي يُعطيكم بحسب غِنَى
مجده، أن تتأيَّدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن
(الجديد)، ليحلَّ المسيح
بالإيمان في قلوبكم” (أف 16: 3و17). والقصد هو أن” تمتلئوا إلى كل
ملء الله”
(أف 19: 3). لأن هذه هي الشركة في الله بالخلقة الجديدة
في المسيح يسوع. إنها أمر يزلزل الفكر؛ أما الواثقون بوعد الله والماسكون بسر
المسيح الذين استقوا الدم والذين لهم جرأة نحو الله
بدالة صليب ابنه ودمه، فيتخطون العقل ويلقون رجاءهم على الله فيدخلون. وهنا نكون
قد بلغنا: “ادخل إلى فرح سيِّدك”.

(أبريل
1998)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى