علم

ضدّ الغنى



ضدّ الغنى

ضدّ
الغنى

(لوقا
12: 16)

العظة
رقم 6

القدّيس
باسيليوس الكبير

مقالات ذات صلة

التجارب
نوعان: إمّا تُمحِّص المِحَنُ القلوب كالنار في البوتقة ويبيّن الصبرُ طبيعتها
الحقيقية ويُصبح النعيمُ نفسه محكاً يوضع عليه عديدٌ من الناس، وذلك لأن الحفاظ
على الطمأنينة وسط الضيق وعدم الإنبهار بالسموّ إلى المعالي يمثَّلان الصعوبة
نفسها.

 

عندنا
مثلاً عن النوع الأول من المحن في قضية أيوب، ذلك المجاهد العظيم الذي لا يُقهر،
الذي صدَّ هجومات الشيطان كلَّها حتى الأشد عتوّاً، بقلب لا يتزعزع وعين قريرة
هادئة. وبقدر ما بدت حملات العدوّ ضاريةً وشعواء بقدر ما خرج هو من مِحَنِه
عظيماً.

 

 قصّةُ
الغني الذي قرأناها منذ قليل تُصوِّر تجاربَ النعيم، بين أمثلة عديدة،. هذا الغنيّ
حاز على أموال كبيرة وارتجى أخرى فوقها. والله في صلاحه لم يعاقب جحوده على الفور
بل راح يزيد على الأموال أموالاً جديدة، عسى أن يؤول امتلاء الغني من الخيرات به
إلى الكرم والإنسانية. يقول الإنجيل: “إنسان غنيّ أخصبت كورته ففكّر في نفسه
قائلاً ماذا أعمل؟ [ … ] أهدم مخازني وأبني أعظم (لوقا 12: 16 – 18).

 

 لماذا
تَرى درَّت أراضي ذاك الرّجل كلَّ تلك الأرباح عليه إن كان سوف يسيء استعمال غناه؟
ذلك لنرى بأجلى وضوح عظمةَ صلاح الله، وهو إله يبسط نِعَمه حتى على مثل هؤلاء
الناس: يمطر على الأبرار والظالمين ويشرق شمسه على الأشرار والصالحين (متى 5: 45).
لكن مثل هذا الليّن والحِلْم إنما يستدعي على المذنبين عاقبة وهي العقاب. فقد
أهطَل المطر على حقولٍ زرعتها يدان مقبوضتان عن الخير. أشرقَ الشمس لتدفئة الزرع
وتكثير ثمار تلك الأرض الخصبة. هذه إحسانات الله: أرض معطاء، ومناخ معتدل، وزروع
وافرة، وثيران للفلاحة، وكلّ ما يمكّن الفلاّح من الازدهار.

 

أما
هو فما إحساناته؟ مزاج عَكِر وبغض للنّاس وأنانيّة. هكذا اعترف بجميل خالقه. نسي
أنّنا ننتمي كلّنا إلى الطبيعة نفسها ولم يفكّر بأن يترك ما فاضَ عنه للفقراء، بل
ازدرى بالناموس القائل: لا ترفض إحساناً لطالب ولا يفارقنّك الإفضال والوفاء وشارك
خبزك والجائع (أمثال 3: 27 و3 ك 3 وأش 58: 7). صرخ إليه الأنبياء والمعلّمون كافةً
بهذه الأقوال الحكيمة إلاّ أنه نام عنها نومَة الأمَة. كادت مخازنُه تتشقق وضاقت
بالقمح يُكدَّس فيها، أمّا قلبه فقلبُ بخيل، ولم يكن ليكتفي. وما فتَِِئَتْ محاصيل
جديدة تُضاف إلى القديمة، وأرباح كلّ سنة تضاعف بحبوحته. فغرق الرجل في حيرة ما
بعدها حيرة: لم يشأ التنازل عن القمح العتيق من فرط جشعه، ولم يستطع تكديسَ
المؤونة الجديدة الهائلة في حجمها فصارت مشكلته تعذّبه وتجلب عليه الهموم تلو
الهموم.

 

 تساءَل:
ماذا أعمل؟ من لا يرثي لإنسان يعاني هذه المضايقات؟ يا لمأساة البحبوحة، يا لبؤس
الأموال المكتسبة وأفظع منه شقاء الأموال المنتظرة! إنَّ الأرض لم تجلب له أرباحاً
بل جلبت عليه التنهدات، وما أتَتْه بغلاّت وافرة بل بهموم ومتاعب وارتباكات رهيبة.
فكاد ييأس من حالته، شأنه شأن الفقير. أفليست هذه شكاوى الفقير بعينها: ماذا أعمل؟
أين أجد لقمة العيش وكساء الجسد؟ تلك أيضاً تساؤلات الغنيّ. تلك أيضاً مأساته
والهموم التي تقضّ مضجعه! فإن ما يُسعد الآخرين يكسِفُ خاطر البخيل. ذلك أنّ
الخيرات التي تعجّ بها مخازنه لا تعزّي قلبه لكثرة هَوَسه بتلك الثروات التي
تتدفّق عليه من كلّ جانب وتطفح بها أهراؤه. فمن يضمن ألاّ يسقط شيء منها في الخارج
فيجلب بعض التعزية للمساكين؟ ويبدو لي أنّ هذه الآفة التي أصيب بها ليست غيرَ
مرتبطة بشراهة الذين من الناس يؤثرون الاختناق من التخمة على أن يتركوا فضلات
موائدهم للفقراء.

 

 فانظر
أنت أيّها الغنيّ إلى من جاد عليك بالثروة وتذكر نفسك من أنت وأيَّ خيرات تُدير،
ومن الذي ائتمنك عليها، والأسباب التي جعلتك مفضّلاً على كثيرين سواك. إنّك خادم
لله القدّوس وقيّم على هباته تجاه رفاقك في العبوديّة. لا تظنّ أنّ أرباحك كلّها
معدّةٌ لإشباع بطنك. احسب الأموال التي بين يديك كأنها ملك الآخرين: فهي تفتنك
لبعض الوقت، ثمّ تتبخّر وتزول ويطالبونك عنها بحساب دقيق. أغلَقتَ على كلّ ما لديك
خلف أبواب وأقفال. ختمت على كنوزك بالأختام إلاّ أنّ القلق سلب منك النوم فَغُرْتَ
في عمق أفكارك، تصغي بانتباه إلى مشيرك ذي الرّأي الطائش الذي هو قلبك وتتساءل:
ماذا أعمل؟ لكنّ الجواب بديهيّ بسيط: أُشبع الفقير الجائع، أفتح أهرائي وأنادي
جميع المحتاجين. سوف أتشبّه بيوسف وأجاهر بإحساني وأتفوّه بتلك الكلمات المملؤة
سماحة: تعالوا إليّ يا جميع الذي يفتقرون إلى الرّغيف. فالآلاء التي أسبَغَها علي
الله تعالى مُلْك الجميع، تعالوا اغرفوا منها كما من عيون المياه.”

 

 لكنك
لستَ بهذا الصّلاح. وَلِمَ؟ لأنّك لا تريد أن يستفيد الناس من ثروتك بل تعقُدُ في
قلبك مشورة الأردياء وتهتمّ، لا بأن تعرف كيف توزّع لكلٍّ حاجته، بل كيف تتوصّل
إلى استقطاب الغنى كلِّه، حارماً الآخرين من كلّ فائدة كانوا سينالوها.

 

 ها
قد حضر الذين يطالبونه بنفسه، وهو لم يزَل مفكِّراً في أطعمته. وفي تلك اللحظة
عينها التي اختفى فيها عن وجه الأرض، كان في باله ذكر السنوات الرَّغدة المنتظرة!
أعطيَ الوقت الكافي ليشاور نفسه ويُظهر ما يختلج في صدره من عواطف حتى يُدان على
ما شهد به ضميره ضدّه.

 

وأنت
أيضاً، حذارِ! إنّما تُليت هذه الحكاية على مسامعنا كي نتجنّب ارتكاب الخطأ عينه.
فهلاّ تُماثل الأرض يا انسان وتحمل ثماراً مثلها. لا تُبْدِ صلابة قلبٍ أقسى من
الجوامد. إنّ الأرض لا تُنضِحُ ثمارها لتتمتع هي بها، بل لتستفيد أنت منها. وأنت،
فالثمار التي تنشُرها سماحتُكَ على الملأ، سوف تجنيها بنفسك لأن مكافأة الإحسانات
تعود على أصحاب الإحسان. لقد أطعمت الجياع، وها صنيعتك ترجع إليك مضاعفة بالربّا.
فكما أنّ حبّة الزّرع التي يرميها الزّارع تأتيه بالرّبح، كذلك الخبز الذي تمدّه
للجائع يُكسِبُكَ ربحاً وفيراً فيما بعد. فلا تحصُدْ هنا أسفل إلاّ كيما تزرع فوق،
” ازرعوا لأنفسكم بالبّر” (هوشع 10 – 11).

 

 ولماذا
هذا الارتباك؟ لِمَ هذه الهموم والإسراع إلى الإقفال على كنزك في الطين والخزف؟
” إن الصيت الحسن يفوق على غنى وفير” (أمثال 22: 1). فإن أُخذتَ بالمال
لأجل ما يجلبه لك من الجاه، فقُل لنفسك إنّه لشرف أعظم بالأحرى أن تُدعى أباً
لآلاف من الأولاد من أن تَعِدَّ آلاف النقود في جعبتك. فهذا المال لا بُدّ يأتي
يوم وتفارقه، أمّا المجد الذي تأتيك به تلك الأعمال فسوف تأخذه معك إلى الله
والشعب كلّه المجتمع حول عرش قاضي الجميع سوف يدعوك أباه ومنقذه يكلِّلُُك بكلّ ما
يوصف به ذوو الإحسان. ألا ترى في المسارح أناساً يرمون المال للاّعبين والممثّلين
ومصارعي الوحوش، (وبئسَ المشاهد)، من أجل دقيقة واحدة يتمجّدون فيها عندَ تصفيق
الجمهور تهليلاً لهم؟ وأنت تفتر في الدفع عندما يتعلّق الأمر بمجد باهر كهذا؟ سوف
يستقبلك الله بالأحضان والملائكة سيمتدحونك والأجيال كلّها ستشيد بصنائعك. المجد
الأبدي وإكليل البرّ وملكوت السماوات، هذا ما يجزى به حسن تدبير هذه الأموال
الفانية. ولكنّك لا تبالي، وشغفك بالحاضرات يجعلك تستهتر بكلّ المرجوّات.

 

 هيّا
وزّع بسخاء ولتَفِضْ يَدُكَ بالجود حتى تباري السَّحاب بِغَيْثِه. وليقولوا فيك
أيضاً ” بدَّد اعطى المساكين فبرّه يدوم إلى الأبد”. لا تستغلَّ الشقاء
برفع الأسعار ولا تنتظر الفاقة لفتح مخازنك. ” إنّ الشعب يلعن الذي يبيع قمحه
بوزن الذهب” (أمثال 11: 26). لا تتمنَّ وقوع المجاعة لتغتني، ولا حلول البؤس
العامّ لمصالحكَ الخاصّة. لا تُمْسِ متاجراً بنَكبات البشَر ولا تنتهزْ غضبَ الله
فرصة لمضاعفة ثروتك. لا تُسَمِّم جِرَاحَ المساكين الذين أثخنتهم السّياط.

 

 ها
إنّك تطيل النظر بالذهب ولا ترمق أخاك بنظرة! تعرف أصناف النقود كلّها وتتقن
التمييز بين المزيفة والأصيلة، أمّا أخوك الذي يعضّه العوز فتجهله كل الجهل. يبهرك
بريق الذهب، أمّا أنين البائسين الذي يُرفع إليك من خلفك فتوليه أذناً صمّاء. فكيف
عساني أصوِّر لك معاناة الفقير؟

 

 الفقير
المسكين يقلب منزله رأساً على عقب ولا يرى فيه ذهباً، ويعلم أنه لن يراه فيه
أبداً. لا تعود عليه أثاثاتُ بيته وثيابُه، وهي رثّة كحال كلّ فقير، إلاّ ببضعة
قروش. فما العمل؟ حينئذ يرمي أولاده ببصره. إن استاقهم إلى السوق استطاع أن يُرجئَ
موته. تفكّروا هنا بالصّراع العنيف ما بين الجوع والمحبّة الأبويّة. الواحد يهدّده
بميتة شنيعة، والآخر يجرّه إلى غير مكان ويتوسّل إليه أن يتركه يموت مع أبنائه.
فيتردّد ويتردّد، وهو في عشواءٍ من أمره بسبب هذه المشاعر المتضاربة. لكنّه في
النهاية ينهزم أمام الفاقة الشَّرسة التي لا سبيل للرحمة إليها. فيا لها حينذاك من
تحيّرات جديدة! إنّه يتساءل: “أيّهم أبيع أوّلاً؟ أيّهم يروق أكثر لتاجر
القمح؟ أترك له البكر؟ كلاّ فأنا أحترم بكوريّته. الصغير إذاً؟ كلاّ، فأنا أشفق
على هذا الولد، إذ إنّه أصغر من أن يدرك مصيبته. أمّا هذا فنسخة طبق الأصل عن
أبويه. وذاك، كم هو موهوب للدراسة! آه! يا لها من معضلة! ماذا سيحلّ بنا؟ على أي
الأولاد أرتمي؟ أينبغي لي أن اتحول إلى وحش كاسر؟ كيف أنسى الطبيعة؟ لكن ان احتفظت
بهم جميعاً أموت جوعاً وإن ضحّيت بأحدهم فكيف أنظر إلى الآخرين الذين سيرتابون بي
كما لو بخائن؟ كيف أبقى في هذا المنزل الذي أخليته من أصحابه؟ كيف أجلس إلى مائدة
أبتعتها بمثل هذا الثمن؟” ثمّ يذهب في النهاية ليبيع الإبن المفضل لديه،
وعيناه مُغْرَوْرَقتان بالعبرات.

 

 لكنّك
لا تأبه بتوجّعه ولا ترقُّ وتشفق على الطبيعة البشريّة. خَمَصَ الجوعُ الفقير وأنت
تتراخى، وتتغافل عن الأمر تغافلاً وتطيل من محنته. يقدّم لك أحشاءه ثمناً لطعامه.
ما هذا! كيف لا تتجمد يدك حين لَمْسِ عملة البؤس هذه، بل تساوم لتربح أكثر؟ تُشاجر
لتكسب الغالي بثمن بخس، وتحسن كلّ الوسائل في عينيك لتزيد مصيبةً فوق المصيبة!
إنّك لا ترثي لدموعه وإذا به يسترحم غيرَ راحم! ليس ما يمسُّ قلبك ويحرك عواطفك:
لا ترى إلاّ الذهب في كلّ مكان، لا تصوِّرُ في مخيّلتك سواه.

 

 يسكن
الذهب أحلام لياليك وتهجس به في النهار. إن المجانين لا يبصرون العالم الحقيقيّ بل
تخيلات عقلهم المريض. كذلك نفسك التي علقت في شباك وسواسها ترى الدّنيا كلّها
ذهباً، كلها نقوداً. إنك لتؤثر الذهب على الشمس ومنية قلبك أن يستحيل كلّ ما في
الكون ذهباً، وتبذل قصارى جهدك لتحقّق تلك الأمنية. ما الذي تمسك عن فعله لتربح
الذهب؟ الخبز يصير ذهباً والخمرة تتحوّل عسجداً والصوف يتغير إلى تبر7. كل تجارة
وكل فكرة تنتج لك ذهباً. حتى الذهب نفسه يولّد ذهباً وقد حَبِلَ من الربّا. لا حدَّ
لطمعك ولا شبع لجشعك. غالباً ما يُترك الفتيان الشرهون ليملاؤا جوفهم من الأطايب
بقدر ما يشاءون، حتى يؤول بهم الإفراط إلى الاشمئزاز منها. أمّا البخيل فليست هذه
حاله. الشبع يثير شهيته.

 

 ”
إذا فاض غناكم فلا تمل إليه قلوبكم” (مز 61: 11). والحال أنك تحجز هذه السيولة
وتسدّ منافذ خروجها. وهكذا ماذا سيكون من أمر ثروتك المكدسة والرّاكدة؟ إنها لتكسر
السدود وتفيض من سجنها الضيق وتثقب خزائن الغنيّ وتصدِّع إهراءاته كأنها تقوم
باجتياح.

 

 تراه
سوف يبني أكبر منها؟ ربمّا أنه لن يخلّف لوارثيه إلاّ تلك الخرائب: لذلك يلزم وقت أقلّ
للقضاء عليه هو منه لتحقيق مشروعه الموسوم بالبخل وإعادة بناء أهرائه.

 

 لقي
هذا الأنسان الميتة التي تليق بطمعه. وأنتم، لو تسمعون منّي، لكنتم شرّعتم أبواب
مخازنكم على وسعها وأفضتم غناكم في كلّ مكان. فكما يمتدّ نهر في أرض خصبة بواسطة
أقنية عديدة، كذلك أنتم انشروا أموالكم بطرائق شتى واتركوها تجري وتطال بيوت
المحتاجين. إنّ البئر التي تفرغونها مراراً تُنبع لكم ماء أغزر. أمّا إن أهملتموها
فتأسُن مياهها. هكذا إن تتركون أموالكم راكدةً بقيت من غير فائدة. لكن إن تركتموها
تسيل وتجري فستضحي خصبة ويستفيد منها الجميع. آه! لا تزدروا بمدائح الذين تحسنون
إليهم! لا تشكّوا بعد اليوم بالثواب الذي يُهيئه لكم الديّان القدّوس! تذكروا على
الدوام مَثَل الغنيّ المحكوم عليه الذي أحتفظ بما كان في يده من الأموال وقلق لأجل
أموال الغد، غير عالم إن كان سيحيا يوماً واحداً بعد، ومرْتكباً بذلك آثام الصباح
التالي منذ العشيّ.

 

 ما
كاد السائل يتقدّم منه حتى أطلق العنان لغلاظة قلبه. لمّا يَجْنِ غلاله بعد، إلاّ
أنّ انقباض كفّه سبق وأدانه. فالأرض أبدَتْ عطاءً وفيراً، والحقول اكتظّ مداها
بالحصاد الكثيف. على الدّوالي انتفخت عناقيد سخيّة والزيتونة حملت ثماراً غنيّة.
لاحت على وجه الأرض بشائر قطافٍ جَنِيّ وقد فاضت بالخيرات أمّا هو فما عَرَف الكرم
ولا حسن الوفادة. فهو قبل أن يملك ضَمَر النقمة للفقراء. على ذلك فكم وكم من
المخاطر تحتفّ بالزرع قبل الحصاد: البَرَد يضربه والإعصار يقتلعه من ايادينا
وتنهمر السحب بوابل السّيول فتخرّب السهول. أفلا تضرَع إلى الله ليتمّ سابق
إنعامه؟ ولكن عجلتك وعينك الرّغيبة تصيرّانك غيرَ أهل لترى هذه المواعيد تتحقق.

 

إنّك
تحادث نفسك في سريرتك. لكن كلامك محكوم عليه في السماء. لذلك تأتيك الأجوبة من
علُ.

 ماذا
كنت تهمس؟ ” يا نفس إن لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة فكلي واشربي
وتنعمّي كل يوم”. ما هذا الجنون! إذا كانت لك نفس خنزير فهل عندك بشرى أفضل
من هذه تعدها بها؟ إنك سمج وجاهل لخيرات النفس، لدرجة أنك تحشوها بالأطعمة
الجسدانية، أفتقدّم لها كلّ ما تتقبله بيوت الخلاء؟ إن كان فيها طيبة، إن كانت
مملوءة محبّة وتعيش في حميميّة مع الله، إذاً لها خيرات كثيرة: فلتفرح بأفراح
الروح الجميلة. لكن بما أن أفكارك أرضية صرف، وإلهك هو بطنك، وكلّ كيانك ما هو إلا
جسدٌ مستعبدٌ للأهواء، فاسمع حكم الله الواجب بحقّك، وليس إنسان يوجّهه لك بل
الربّ نفسه قائلاً: ” يا جاهل في هذه الليلة تؤخذ نفسك منك، وما كدّسته لمن
يكون؟”.

 

 إنّ
اختلاط الرأي هذا الناشئ عن غباوتك لأفظع من العذاب الأبديّ. فالذي سيساق عنوةً
بماذا ينشغل؟ يقول سأهدم أهرائي وأبني أكبر منها. أمّا أنا فسأقول له: أصبْتَ، إنّ
أهراء الظلم لجديرة بالهدم. إهدِم بيدك عمل خباثتك. إهدِم أهراءك التي ما خفّت
يوماً لحاجة أحد. إحطم بيتك كلّه الذي يحفظ أعمال ظلمك. إقلب منه السقف وأسقط
الجدران أرضاً وعرّض قمحك المعفّن للشمس وفُكَّ أسْر خيراتك واترك الناس يسخرون من
مأوى إله المال العتم هذا.

 

 يقول:
” سأهدم أهرائي وأبني أكبر منها. لكن إن ملأت هذه أيضاً فماذا تعمل؟ هل
تهدمها من جديد وتعود تبنيها. أَمِنْ حماقةٍ أشدَّ من هذه الورشة التي لا تنتهي؟
تبني بسرعة وتهدم بسرعة؟ لكن إن أردت أهراء إليك بمنزل الفقير. ” اجمعوا لكم
كنوزاً في السماء…” (متى 6: 2).

 

 يقول:
” حسناً، سأشاطر المساكين حالما أملأ مخازني الجديدة”. إذن تُعطي لنفسك
عمراً مديداً! احذرْ أن تؤخذ فجأة بانقضاء أجلك. فأقسامك لا تدلّ على محبتك بل على
أنانيتك. إنّك لا تقطع الوعود لتعطي فيما بعد بل لتتهرّب اليوم ممّا يتوجّب عليك.
ماذا يمنعك من التوزيع الآن؟ أليس الفقير ههنا؟ أليست الأهراء ملآنة؟ ألعلّ الثواب
فيه شك؟ أم الوصيّة غامضة؟

 

ها
إنّ الجائع يهلك. ها إن العريان يرتجف. ها إن المدين ينتحر. أمّا أنت، فكيف تؤجِّل
إحسانك إلى غدٍ؟ اسمع سليمان يقول: ” لا تقُل أعود غداً وأعطيك، لأنك لا تعرف
ما يخبئ لك الغد “(أمثال 3: 28). فبكم من الوصايا أنت مزدرٍ، يا من سدّ البخل
أذنيك! وأيّ عرفان كان الأحرى بك إبداؤه حيال المحسن إليك! كم ينبغي لك التّهلل
والابتهاج من الشرف الذي أسبغه عليكَ إذْ إنك لا تضطر إلى استمناح الآخرين، بل
الآخرون يحدقون ببابك متسوِّلين!.

 

لكنك
لا تزال متجهّم الوجه، عابساً وتتجنب لقاءهم خوفاً من أن تضطرَّ إلى التخلي عن قرش
واحد. ليس على لسانك سوى كلمة: ” أنا لا أملك شيئاً، عَدِّ عني إلى غيري، أنا
فقير”. حقاً إنك فقير ومُعدم من كلّ خير. فقير في الإنسانية وفقير في الإيمان
وفقير في الرجاء الأبديّ. هلاّ تشارك إخوتك في غلاّت الحصاد. هلاّ تشاركهم جَناك
لئلا يؤول إلى العفن غداً. يا لقساوة بخل يترك ما عنده يهترئ بدل أن يترك منه
للبائس!

 

 يقول
الغنيّ: إلى من أسيء إن احتفظت بما هو ملكي؟ لكن قل لي أرجوك: أيّ الأموال ملكك؟
من أين أتيت بها؟ إنك أشبه برجل يدخل المسرح ويريد أن يمنع الآخرين من الدّخول،
ناوياً أن يتمتع وحده بالعرض الذي يحق للجميع أن يشاهدوه. هذه حال الأغنياء
بعينها: يستولون على الأموال العامّة ويقيمون أنفسهم أرباباً عليها لأنهم اكتسبوها
قبل غيرهم، فيما لو رضي كلّ واحد بما يقضي حاجته اليوميّة وترك ما فضَل عنه
للمساكين لزال الفقر والغنى كلاهما. ألعلّك لم تخرج عرياناً من بطن أمّك؟ أوَلن
تعود عرياناً إلى جوف الأرض. هذه الأموال الحاضرة من أين جاءتك؟ إن قلت لي من
الصّدفة كنتَ كافراً بإيمانك ومنكراً باريكَ وجاحداً صنيعة من أجزل لك العطايا.
أمّا إذا اعترفت بأنها هبات الله العليّ فأوضِحْ لنا سبب ثرائك. أيكون أن الله
ظالم يوزع خيرات الأرض بغير تساوٍ؟ ولمَ أنت غنيّ وذاك فقير؟ أليس لكي تجد طيبة
قلبك ونزاهتك في التدبير مكافأتها ويجد الفقير ثوابه في الجوائز الخلابّة التي
وُعد بها إن أطال أناتَة؟

 

 أنت
يا من تغلّف جميع أموالك في طيّات بخلك الذي لا يرتوي، أتظنّك لا تنغّص عيش أحد
بحرمانك البائس هذا الحرمان؟ مَن البخيل؟ هو من لا يكتفي بحاجته. من السارق؟ من
يستولي على ما يملكه آخر. وأنت ألست بخيلاً؟ ألست سارقاً؟ ذلك أنك غنمتَ بالأموال
التي إليك أوكلت إدارتها. من يختلس رداءَ غيره يُسَمَّ نشالاً. فماذا نسمّي إذاً
مَن لا يستر عرية المعدم فيما يستطيع ذلك؟ فهذا الخبز الذي تحتكره للجائع. والمعطف
الذي تخفيّه في خزانتك ملك العريان. والحذاء الذي يهترئ عندك ملك الحافي القدمين.
للفقير المال الذي تخبّئه عندك. أنت إذاً مستبّد بكلّ الذين كان بإمكانك مساعدتهم.

 

 تقول:
ما أبلغَ هذه المواعظ! لكن الذهب أكثر رونقاً. فكأني بمن يتكلم مع الفاسقين بشأن
العفة: كلّمَا قبّحتَ ذكر عشيقاتهم أوقدت فيهم ذكراهنّ وزدتهنَّ تولّعاً بهنّ.

 

 كيف
أصف لك معاناة الفقير حتى تعرف الأناّت التي تخنقها بثروتك؟ آه كم ستبدو لك قيّمة
يوم الدينونة القولة الآتية: تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعدّ لكم منذ
إنشاء العالم. لأني جعت فأطعمتموني وعطشت فسقيتموني وكنت عرياناً فكسوتموني”
(متى 25: 34 و39). القشعريرة والعرق البارد والظلمات ستعتريك عندما تسمع الحكم
التالي: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائكته. لأني
جعت ولم تطعموني وعطشتُ ولم تسقوني وكنت عرياناً ولم تكسوني”.

كلاّ،
ليس ما تدانُ عليه جشعك، إنما رفضك للمشاركة.

 

 لقد
بلّغتك ما بدا لي موافقاً لمصلحتك، فإن سمعتَ مني تبدو لك الخيرات التي وعدتَ بها
جليّة بيّنه. وإلاّ ففي الكتاب وعيد يتوعّد أرجو ألاّ يتحقق على حسابك. فاختر
الأوفق لك ولتُصبح أموالك ثمناً لخلاصك ولتصر بك إلى الخيرات السماويّة المعدّة
لك.

 

 بنعمة
الذي دعانا جميعاً إلى ملكوته، له المجد والعزة إلى دهر الداهرين، آمين.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى