علم المسيح

تحذير من العثرات



تحذير من العثرات

تحذير من العثرات

 

«وَمَنْ
أَعْثَرَ أَحَدَ هٰؤُلاءِ ٱلصِّغَارِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِي
فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ ٱلرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي
لُجَّةِ ٱلْبَحْرِ. وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ ٱلْعَثَرَاتِ. فَلا بُدَّ
أَنْ تَأْتِيَ ٱلْعَثَرَاتُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ
ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي بِهِ تَأْتِي ٱلْعَثْرَةُ. فَإِنْ
أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ
لَكَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي
ٱلنَّارِ ٱلأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلانِ. وَإِنْ
أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ
تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ
ٱلنَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ» (متى 18: 6-9).

 

مقالات ذات صلة

ثم
تطرَّق المسيح إلى موضوع آخر مهم جداً، وهو العثرات. وكان قد تكلم عنه في وعظه على
الجبل، وكرره الآن كتعليم خاص للتلاميذ وحدهم. لقد أعطاهم نفسه قدوة لما جنَّبهم
العثرة ودفع الجزية، ووبّخهم على غلطهم لما أعثروا التلميذ المجهول الذي كان يُخرج
شياطين باسمه. ثم قال المسيح إن غرق الإنسان مثقلاً بحجر الرحى في لجة البحر، أفضل
له من أن «يعثر أحد هؤلاء الصغار». ولا بد من أنه قصد بالإعثار أولاً أن يقود
الإنسان غيره إلى الخطيئة، وقصد أيضاً الإهانة والتكدير في غير محله. فمن يفعل ذلك
لأحد تلاميذه الحقيقيين ينال جزاءً مخيفاً، يجعله يتمنّى أن يبدل العقاب – لو أمكن
– بالغرق في قعر البحر.

 

ولكي
لا يولِّد كلام المسيح آمالاً فارغة في تلاميذه، فيظنون أنهم يستطيعون إزالة
العثرات من العالم تماماً، قال: «لا بد أن تأتي العثرات». فهل هناك عذر لمن يُعثر
غيره لأن العثرات لا بد أن تأتي؟ أسرع المسيح وتلافى هذا الوهم فقال: «لكن ويل
لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة».

 

ثم
نصح المسيح أن من تعثره يده فليقطعها، ومن تعثره عينه فيقلعها. وهذا بالطبع كلام
مجازي، لأن قطع اليد أو قطع العين الحرفي لا يزيل الإثم الذي مركزه القلب، فقَطْع
أعضاء الجسد لا يصلحها. يمكن أن يرتكب الإنسان جميع الخطايا في فكره وقلبه ولو قلع
ليس العين اليمنى فقط، بل واليسرى أيضاً، وقطع يده اليمنى واليسرى أيضاً. فالإله
الروح، الذي له وحده الحكم في أمر الخطيئة والهلاك، ينظر إلى ما في القلب وليس إلى
ما في الأعضاء. والمقصود من هذا الكلام هو أن كل من يجرُّ الإنسان إلى الخطيئة يجب
إبعاده ولو كان عزيزاً عند الإنسان، كعينه اليمنى أو يده اليمنى.

 

قصد
الخالق أن تكون أعضاء الجسد بركة وآلة للخير في نفع الناس، لذلك يسمِّي الرسول
بولس الأجساد هياكل للروح القدس (1 كورنثوس 6: 19) فالذي يشوهها يُهين الهيكل
وصانعه. إنه لا يطلب قلعاً لأعضاء الجسد، بل يطلب صيانتها وتكريسها لخدمته. وهذه
الخدمة تتعذر على من يتلف هذه الأعضاء.

 

ثم
قال المسيح إن كل من يعثر غيره يتعرَّض لجهنم النار، حيث دودهم لا يموت والنار لا
تُطفأ. وليس في هذا الكلام رائحة تهديد، بل هو تحذير وإنذار مقدَّم ممن أتى من
السماء ليخلصنا من هذه الأبدية المرعبة. ولا يمكن أن محباً نظيره يبالغ في وصف
المخاوف التي يخشى من أن تصيب الذين يحبهم.

 

تحذير
من تعثير الصغار

«لا
تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هٰؤُلاءِ ٱلصِّغَارِ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ
إِنَّ مَلائِكَتَهُمْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ
أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. لأَنَّ ٱبْنَ
ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ. مَاذَا
تَظُنُّونَ؟ إِنْ كَانَ لإِنْسَانٍ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَضَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا،
أَفَلا يَتْرُكُ ٱلتِّسْعَةَ وَٱلتِّسْعِينَ عَلَى ٱلْجِبَالِ
وَيَذْهَبُ يَطْلُبُ ٱلضَّالَّ؟ وَإِنِ ٱتَّفَقَ أَنْ يَجِدَهُ،
فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ
ٱلتِّسْعَةِ وَٱلتِّسْعِينَ ٱلَّتِي لَمْ تَضِلَّ.
هٰكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي
ٱلسَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هٰؤُلاءِ ٱلصِّغَارِ» (متى
18: 10-14).

 

ثم
حذر المسيح تلاميذه من احتقار الصغار، لأن الله يعتني بهم، حتى أنه يقدم لهم خدمة
ملائكية خصوصية. قال إن ملائكتهم ينظرون كل حين وجه الآب السماوي. فأيُّ حقٍ للناس
أن يحتقروهم؟ ليس المقصود بهذا القول صغار السن وحدهم، بل يشمل أيضاً صغار النفوس،
وعلى الأخص المؤمنين الواقعين تحت نيران الاضطهاد، أو الغرقى في بحر الاحتقار. ثم
أوضح المسيح أن خلاصه يعمُّ جميع الأطفال، عندما قال: «ليست مشيئة أمام أبيكم الذي
في السماوات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار».

 

وأردف
بهذا القول كلاماً جميلاً من غاية مجيئه من السماء، بيّن فيه تمسُّكه بلقب ابن
الإنسان. وهو «لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك». ومثَّل عمله
بتفتيش إنسان عن خروف أضاعه، فترك على الجبال التسعة والتسعين التي لم تضل لكي
يفتش عن الضال. ومتى وجده يفرح به أكثر من التسعة والتسعين. حقاً إن اهتمام الله
وفرحه بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة، يفوق إدراك
البشر، وأن أفكاره ليست كأفكارهم.

 

إن
أخطأ إليك أخوك

«وَإِنْ
أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَٱذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ،
فَخُذْ مَعَكَ أَيْضاً وَاحِداً أَوِ ٱثْنَيْنِ، لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ
كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ
فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ٱلْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ
عِنْدَكَ كَٱلْوَثَنِيِّ وَٱلْعَشَّارِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:
كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى ٱلأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي
ٱلسَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى ٱلأَرْضِ يَكُونُ
مَحْلُولاً فِي ٱلسَّمَاءِ. وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنِ ٱتَّفَقَ
ٱثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ
فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي ٱلَّذِي فِي
ٱلسَّمَاوَاتِ، لأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ
ثَلاثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (متى 18: 15-20).

 

ثم
تكلم المسيح عن عثرة أخرى لا بد من وقوعها بين أهل الإيمان ضمن الكنيسة. فكيف
يتصرف المؤمن متى تعدى عليه أخٌ؟ أولاً: لا يجب أن يدخل معه في منازعة، بل عليه أن
يحفظ نفسه من الغيظ. ثم عليه أن يراعي المحبة الأخوية، فلا يُفشي الأمر خشية
تضخُّمه فيصعب إصلاحه. وعليه أن يعاتب المعتدي حبياً وعلى انفراد، أملاً برجوعه عن
خطئه في الحال، ويمنعه من تكرار زلته. لأنه يُرجَّح أن المعتدي متى رأى عدوه في
روح الحب والمسالمة، يخجل ويندم ويتوقف عن تكرار الاعتداء ويُصلِح ما فعل. ولهذا
السبب قال المسيح: «إن سمع منك فقد ربحت أخاك».

 

أما
إنْ قسّى المعتدي قلبه فالواسطة الثانية لتخجيله وإقناعه هي الاستعانة بلجنة صغيرة
تسعى في إصلاح ذات البيْن، وتكون شاهداً على المعتدي إن لم يمتثل للحق، وللمعتدَى
عليه ببرائته من الذنب. لكن إنْ أصرَّ على رفض هذه الوسائط الحبية، تُرفع القضية
إلى المجلس الرسمي، أي الكنيسة، لتنظر في الأمر، وتسعى في إصلاح المذنب. وهذا
الاستشناف مفيد، لأن من شأنه أن يجعل المعتدي يخضع للجنة، لئلا يزيد تخجيله
وتُخفَض كرامته بسبب تقديم الشكوى عليه للكنيسة. فإنْ لم يخضع لحكم الكنيسة يحق للشاكي
إن يجتنبه ولا يعتبره كأخ، لأنه قد برهن أن ليس فيه الشروط الجوهرية للأخوية
المسيحية.

 

«حِينَئِذٍ
تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ: «يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ
أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ:
«لا أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ
مَرَّاتٍ» (متى 18: 21-22).

 

كانت
الشريعة اليهودية تقضي بأن يغفر الإنسان لمن يسيء إليه، ثلاث مرات. وإنْ تكررت
الإساءة لا يُكلَّف بتكرار المغفرة. وشعر بطرس أن شريعة المسيح الجديدة أوسع من
القديمة، فسأل المسيح: «يا رب، كم مرة يخطئ إليَّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع
مرات؟» ظن أن سبع مرات هي أكثر ما يُطلب منه، فيكون قد تكرم بقوله «إلى سبع مرات».
فكم كان خجله لما أجابه المسيح: «لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع
مرات». يعني إلى ما لا نهاية له.

 

ما
أصعب هذا الأمر على الإنسان، فإن الطبيعة البشرية لا تحتمله دون نعمة إلهية. لكن
الروح الذي يقود إلى مسامحة مسيحية قلبية في المرة الأولى، يقود أيضاً في الثانية،
وإلى ما لا نهاية له. ولا سيما إنه إذا غفر مرة يتقوى في هذه الروح، فيسهل تكرار
الغفران أكثر من المرة الأولى. والذي ليس له في قلبه أن يسامح في المرة المئة
يبرهن أن مسامحته الأولى لم تكن من روح مسيحي حقيقي. فكل من يشعر بفضل الإله
الغفور، لا يمكنه أن يحاسب إخوته، مهما عُظمت تعدياتهم عليه.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى