علم

المحبة الفاعليه الكامله



المحبة الفاعليه الكامله

المحبة
الفاعليه الكامله

القديس
سمعان اللاهوتى الحديث

أيها
الإخوة والآباء

إن
من يتظاهر بالفضيلة فيما يضلل ويفسد كثيرين هو بالحقيقة بائس ومدان وممقوت من الله
والناس. بالمقابل، بديهي أن الخالي من الهوى فيما يتظاهر ببعضه من أجل خلاص ومنفعة
الكثيرين هو مستحق للمديح ومبارك كما يعلمنا الآباء القدماء. لعب الشيطان دور
الحية والمرشد، وفي ظهوره حسناً ونافعاً جلب الموت وخسّر الإنسان الله وكل ثمار
الجنة، وأظهر نفسه كقاتل وعدو لله. لهذا إن من يتظاهر بالشر فيما يردد كلمات بارعة
لكي يعرف ما يحقق الشر من خلال الذين يظهرون الفضيلة والطاعة ولكي يعيد الأشرار
إلى الندامة والخلاص والاعتراف بخطاياهم، هو بالحقيقة “متمثل
بالمسيح”[1] ومسار عامل لله ومنقذ للناس. لكن هذا العمل هو فقط لأصحاب الحس
غير المتأثر بهذا الجو أو بحس العالم وأشيائه، الذين لا تتأثر أفكارهم بالمرئيات
بل قد ارتفعت عن مستوى الجسد. أتكلم عن مساوي للملائكة، المتحدين كلياً بالله،
الذين امتلكوا المسيح كلياً في نفوسهم بالفعل وبالاختبار وبالإدراك وبالمعرفة
وبالمعاينة.

إن
التنصت أو التجسس على أعمال قريبنا أو أقواله هو شر أكيد خاصةً إذا كان بهدف
انتقاده أو تشويه سمعته أو إفشاء ما رأينا عندما تسنح الفرصة. بالمقابل هذا ليس
مرذولاً إذا كان لتصحيح قريبنا بالنصح والحكمة والروية وللصلاة من أجله بدموع
وبنفس منسحقة. بالحقيقة، لقد رأيت رجلاً اجتهد ألاّ يفوته شيء مما يقول أو يفعل
رفاقه. لم يفعل ذلك ليضرهم إنما لينصحهم ويحذرهم من الأفكار والأفعال الشريرة،
وذلك بتحريك أحدهم بالكلمة والآخر بالهدايا أو بطرق أخرى. بالفعل، لقد كنت أراه في
بعض الأوقات يندب أحدهم أو يتأوه على آخر. أحياناً كان يلطم وجهه أو صدره من أجل
شخصٍ ما معتبراً نفسه أخطأ عن الآخر وينظر إلى نفسه كأنه الخاطئ ويعترف إلى الله مرتمياً
لديه بحزنٍ جارح. وقد رأيت فرح أحدهم عظيماً لنجاح المجاهدين إذ كان يستحسن تقدمهم
وكأنه هو مَن سوف يكافأ عنهم لفضيلتهم ومجهودهم. أما لأولئك الذين سقطوا في كلمة
أو عمل فكان يندب وكأنه فعلاً مسؤولاً عن هذه الأشياء وعليه أن يقدم حساباً عنهم
ويتحمل الجزاء. لقد رأيت أيضاً رجلاً آخراً مندفعاً ومملؤً رغبةً بخلاص إخوته حتى
أنه كان يتوسل إلى الله، محب الإنسان، بكل نفسه وبدموع ساخنة، إما أن يخلص إخوته
أو أن يدان معهم. موقفه كان مثل موقف موسى أو حتى مثل موقف الرب نفسه، إذ أنه لم
يرضَ أن يخلص وحده. ولأنه كان مربوطاً بهم روحياً بالمحبة المقدسة في الروح القدس،
لم يُرد أن يدخل مملكة السماوات إذا كان هذا الدخول يعني الافتراق عنهم. يا للرباط
المقدس! يا للقدرة التي لا توصف! يا للنفس ذات الأفكار السماوية أو بالأحرى
المحمولة من الله والمكَمَلة بمحبة الله والقريب.

 

إذاً
مَن لم يصل بعد إلى هذا الحب ولم يرَ أياً من ملامحه في نفسه ولا أحس بحضوره، لم
يزل مرتبطاً بالأرضيات راسخاً فيها. كلا، الأحرى أن طبيعته هي أن يخفي نفسه كالفأر
الأعمى في جوف الأرض لأنه أعمى مثله ولكن قادر فقط على سماع المتكلمين على الأرض.
أي سوء حظ هو أن الذين ولِدوا من الله وأصبحوا خالدين و”شركاء الدعوة
السماوية”[2] و”ورثة الله ووارثون مع المسيح”[3] وسيرتهم “هي
في السماوات”[4]، لم يتوصلوا بعد إلى إدراك عظمة هذه النعم. نحن بلا إحساس
كالحديد الملقى في النار أو كجلد الحيوان الميت الذي لا يحس عندما يُغَمس في الصبغة
القرمزية. إن هذا هو موقفنا مع أننا في وسط بركات الله العظيمة ونعترف أننا لا نحس
بها في داخلنا. وهكذا فنحن نتباهى وكأننا مخَلَّصون ومحسوبون بين القديسين، وندّعي
ونزخرف أنفسنا بقداسة مصطنعة كأولئك الذين يقضون حياتهم في التعاسة كموءَدين في
قاعة الموسيقى أو المسرح. نحن كالمهرجين والمومسات الذين ليس لهم جمال طبيعي وبغباء
يفكرون أن يجملوا أنفسهم بمستحضرات وألوان إصطناعية. كم هي مختلفة هيئة القديسين
المولودين من فوق[5].

 

عندما
يأتي طفل من رحم أمه، يحس الهواء لاشعورياً ويندفع عفوياً نحو البكاء. فعلينا أن
نعلم أن أتي المولود من فوق من هذا العالم كما من رحم مظلم، فهو يدخل في الضوء
الفكري السماوي وبينما هي يحدق به بإمعان يمتلئ بفرح لا يوصَف. وبينما يفكر
طبيعياً بالظلمة التي وُلِد منها، يذرف دموعاً بلا تعب. هكذا يبدأ المرء أن يُحسَب
بين المسيحيين. أما الذين لم يلجوا معرفة هذا الجمال ومعاينته، الذين لم يلتمسوها
بصبر عظيم وتأوهات ودموع لكي يتنقوا ويصلوا إليها، كيف لهم أن يُدعوا مسيحيين؟
إنهم ليسوا مسيحيين بالحقيقة! إن كان “المولود من الجسد جسد هو والمولود من
الروح هو روح”[6]، فإن لم يفتكر المولود بالجسد ولم يؤمن بأن على الإنسان أن
يولد بالروح أو أن يسعى إلى ذلك، كيف له أن يصبح روحانياً ويحسب نفسه بين
الروحانيين؟ قد يدخل خلسةً كالذي يرتدي ملابس فاحشة، ولكن ما أن ينضم إلى القديسين
لابسي ثياب العرس في العيد الملوكي، حتى يُلقى خارجاً مغلول اليدين والرجلين. فهو
ليس ابناً للنور[7] بل من لحم ودم[8] وسوف يُرسَل إلى النار الأبدية “المعدة
لإبليس وملائكته”[9]. من تلقّى السلطان ليصبح ابناً لله[10] ووارثاً لملكوت
السماوات والبركات الأبدية، الذي تعلم بشتى الطرق ما هي الأعمال والوصايا التي يجب
أن ينشأ عليها إلى هذا المجد والكرامة، ومن ثم احتقر كل هذه الأمور وفضل الفانيات
والأرضيات مختاراً الحياة القذرة ومفتكراً أن المجد العابر أفضل من الأبدي، كيف لن
يُفصَل بعدل عن كل المؤمنين ويُدان مع الخائنين ومع الشيطان نفسه؟

 

لهذا
أرجوكم جميعاً، أيها الإخوة والآباء، أن تجاهدوا ما دام زمان ولم نزل بين الأحياء.
إسعوا لتصبحوا أبناءً لله وتُحسَبوا بين أبناء النور، لأن من هذا تأتي الولادة من
فوق. “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم”[11]، لا تحبوا الجسد
والشهوات التي تنبع منه. ابتعدوا عن كل شهوة رديئة وطمع[12] حتى عن أبسط مظاهرها وأدواتها.
بإمكاننا أن نفعل ذلك إذا حفظنا في ذهننا عظمة ذلك المجد والفرح والسرور التي سوف
نحصل عليها في الدهر الآتي. قولوا لي، هل من شيء، في السماء أو الأرض، أعظم من أن
نكون أبناءً لله وورثة له ووارثون مع المسيح[13]؟ لا شيء إطلاقاً! وإذ نفضل
الأشياء الأرضية والأشياء التي بيدنا ولا نسعى إلى الخيرات “الموضوعة لنا
فوق”[14] ولا نفسح مجالاً لها بشوق، نؤمن إثباتاً أكيداً للذين ينظرون إلينا
بأننا ضحايا مرض عدم الإيمان كما هو مكتوب “كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم
تقبلون مجداً بعضكم من بعض. والمجد الذي من الإله الواحد لستم تقبلونه”؟[15]
هكذا، إذ أصبحنا عبيداً للشهوة فنحن مسمرين بالأرض وما عليها ونرفض أن ننظر إلى
السماوات وإلى الله. إذ ننخدع بحماقة النفس لا نطيع وصاياه ونتخلى عن تبنيه لنا
كأبناء.

 

أخبروني
هل من أحمق أكثر ممَن يتخلى عن طاعة الله ولا يسعى للوصول إلى بنوّته؟ لدى المؤمن
بوجود الله أفكار عظيمة عنه. فهو يعرف أن الله هو السيد الوحيد، الخالق، ورب
الأشياء جميعاً، وأنه لا يموت، أبدي، لا ينتهي، لا يُوصَف، لا يندثر ولا نهاية
لملكه. كيف يتردد بوضع نفسه حتى الموت لمحبته لله، لكي يستحق على الأقل أن يكون
أحد خدامه الحقيقيين الواقفين إلى جانبه إن لم نقل ابنه ووريثه؟ كل من يجاهد ليحفظ
وصايا الله يصبح ابناً لله وابناً مولوداً من فوق ومعروفاً لدى الجميع كمؤمن حق
ومسيحي. ولكن إن أهملنا هذه الوصايا وعصينا قوانينه التي سوف يثبتها عندما يأتي
ثانية وهذه المرة بقوة ومجد عظيم[16]، سوف نظهر أنفسنا من خلال أعمالنا كغير
مؤمنين من جهة الإيمان، وكمؤمنين شفوياً فقط من جهة عدم الإيمان. لا تنخدعوا: بدون
أعمال لا ينفعنا الإيمان لوحده لأنه ميت[17]. الأموات لن يكونوا مشاركين في الحياة
إلا إذا سعوا إليها أولاً بتطبيق الوصايا. كما ينمو الثمر العصاري، كذلك بتطبيقنا
الوصايا تنمو في داخلنا المحبة، الرحمة، الشفقة على الجار، اللطف، التواضع، احتمال
التجارب، العفة ونقاوة القلب التي من خلالها نستحق رؤية الله وبها نُمنَح وجود
الروح القدس واستنارته. هذا هو الحضور الذي يهب الولادة من فوق ويحوّلنا أبناءً
لله. إنه يلبسنا المسيح ويضيء مصابيحنا. يظهرنا أبناءً للنور ويحرر نفوسنا من
الظلام ويجعلنا هنا والآن شركاء مدركين للحياة الأبدية.

 

لا
نتكلن إذاً على هذه أو تلك من الممارسات أو الفضائل كالصيام والسهرانيات أو النوم
على الأرض وسواها من الإماتات فيما نحن نستخف بتطبيق وصايا الرب وكأن الخلاص ممكن
بواحدة دون الأخرى. إنه لمستحيل، مستحيل! فلتحثكم العذارى الخمس الحمقى مع أولئك
الذين صنعوا قوات كثيرة بإسم المسيح وبالرغم من هذا، لأنهم لم يملكوا في داخلهم
محبة ونعمة الروح القدس فقد سمعوا الرب يقول لهم: “إذهبوا عني يا عمال الظلم
لأني لست أعلم من أين أنتم”[18]. ليس أولئك فقط بل كثيرون معهم، رجال عمّدهم
الرسل القديسون والقديسون الذين أتوا بعدهم، ولكنهم لم يُوجدوا مستحقين لنعمة
الروح القدس لكثرة شرورهم. لم يُظهروا حياة مستحقة ل”الدعوة التي دُعوا
بها”[19] ولم يصبحوا أبناءً لله بل على العكس بقوا لحماً ودماً بدون أن
يؤمنوا بأن الروح موجود أو أن يسعوا إليه أو يتوقعوا الحصول عليه. من أجل ذلك،
هكذا أشخاص لن يكونوا أسياداً لشهوات الجسد أو انفعالات النفس ولن يتمكنوا من
إظهار أي نبل في الفضيلة لأنه كما قال السيد: “لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا
شيئاً”[20].

وهكذا
أتوسل إليكم أيها الآباء والإخوة لنحاول بكل قوانا أن نصبح، الآن وهنا، شركاء عطية
الروح القدس حتى نحصل على البركات الحالية والمستقبلية بنعمة ورأفة ربنا يسوع
المسيح له المجد إلى الأبد، أمين.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى