علم المسيح

الفصل السادس



الفصل السادس

الفصل السادس

يا أبتاه إن
أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس

 

1.
حزن كإنسان

2. “إن
أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس” ماذا يريد؟

3. “وسمع
له من أجل تقواه” ماذا يعنى ذلك؟

4. ماذا كان
عمل الملاك الذى ظهر له فى البستان؟

 

فى البستان،
قبل القبض على السيد المسيح بلحظات:

“ابتدأ
يحزن ويكتئب”(1).

“ابتدأ
يدهش ويكتئب”(2).

أقتربت ساعة
القبض عليه لإتمام الآلام المحتومة حسب التدبير الإلهى الأزلى لإتمام الفداء،
وتجسد فى فكر السيد وعقله كل ما هو آت عليه، بلا ريب ولا شك فبدأ يكتئب ويحزن،
وكما جاء فى الإنجيل للقديس مرقس “يدهش ويكتئب” والفعلين فى أصلهما
اليونانى يعبران عن الأنذهال إلى أقصى درجة والألم النفسى الشديد (المبرح)(3). وسيطر عليه الحزن الشديد، الحزن الذى يعادل
الموت فصرح لتلاميذه: “نفسى حزينة جداً حتى الموت”(4).

اعتصرته
الآلام التى عبرت إلى نفسه(5)، آلام الحزن الذى سيطر
عليه. كان حزيناً إلى هذه الدرجة بسبب الآلام النفسية والجسدية والكفارية الآتية
عليه، بسبب ثقل الخطية وعقوبتها التى جاء لكى يتحملها نيابة عن البشرية التى عصت
الله، دخل فى المعصرة وحده(6)، دخل معصرة غضب الله ليرد
لله الآب حتى الموت ما سبق أن فقدته البشرية بسبب الخطية وعصيان الإنسان الأول (7).

 

1-
حزن كإنسان:

والسؤال
هنا: كيف حزن وهو الإله المتجسد؟ ولماذا؟

والإجابة هى
أن السيد حزن كإنسان، فقد “اتخذ جسداً” اتخذ الطبيعة الإنسانية،
“جاء بشراً” له روح إنسانية:

“يا
ابتاه فى يديك أستودع روحى”(8).

ونفس
إنسانية:

“نفسى
حزينة جداً”(9).

وجسد
إنسانى:

“هيأت
لى جسداً”(10).

كان كاملاً
فى ناسوته “روحاص ونفساً وجسداً”. وهكذا أيضاً اتخذ المشاعر والأحساسيس
الإنسانية فقد كان “مثلنا فى كل شىء بلا خطية”(11)،
تدبيرياً.

اتخذ
الناسوت تدبيراً، وحمل المشاعر والأحساسيس الإنسانية تدبيراً، وتألم تدبيراً وحزن
تدبيراً، واضطراب أمام الموت كإنسان تدبيراً. حمل كل صفات وخصائص الناسوت
تدبيرياً.

ولكنه كإله
فهو فوق الألم والخوف والمشاعر والاحساسيس الإنسانية. وفوق الموت، فهو السرمدى،
الذى لا بداية له ولا نهاية، الحى القيوم الذى لا يموت “أنا هو الأول والآخر والحى…
وها أنا الحى القيوم ولى مفاتيح الهاوية والموت”(12).

ولكنه
بإرادته الإلهية، حسب التدبير، قبل أن يتجسد ويقدم ذاته فداء للبشرية. قدم ذاته
بإرادته “لهذا يحبنى الآب لأنى أضع نفسى لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها منى بل
أضعها أنا من ذاتى لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن أخذها أيضاً”.

 

قال القديس
أمبروسيوس:

“انذهل
كإنسان، انذهلت نفسه (الإنسانية) وليس قوته أو لاهوته، انذهل لأنه اتخذ الضعف
البشرى. فقد اتخذ لذاته نفساً، واتخذ أيضاً الشعور البشرى (شعور النفس) لأن الله
لا يمكن أن يحزن أو يموت بإعتبار كونه الله”(14).

وقال أيضاً:
“فى موضع آخر يقول: “الآن نفسى قد اضطربت”. إنه اضطراب النفس
البشرية لأن اللاهوت غير قابل للألم… فالرب ليس حزيناً (باللاهوت) لكن نفسه
حزينة. الحكمة ذاتها ليس حزيناً (حسب اللاهوت) ولا الطبيعة الإلهية، بل
النفس”(15):

 

قال القديس
جيروم:

“لنقدم
الشكر أن ليسوع جسد حقيقى ونفس حقيقية، فلو أن الرب لم يأخذ الطبيعة الإنسانية
بكاملها لما خلص البشرية. لو أنه أخذ جسداً فقط بلا نفس لخلص الجسد دون النفس مع
أننا نحتاج إلى خلاص النفس أكثر من الجسد. لقد أخذ الجسد والنفس معاص ليخلصهما،
يخلص الإنسان بكامله كما خلقه”(16).

 

2-
“إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس” ماذا يريد؟

وهو فى حالة
الحزن والإندهاش والإكتئاب أبتعد السيد عن تلاميذه ثم جثا على ركبتيه أمام الله
حاملاً ثقل خطايا كل العالم، وصلى قائلاً:

“يا
ابتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت”(17).

وفى صلاته
هذه يقول الكتاب:

“كان
فى جهاد وكان يصلى بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض”(18).

وتعبير
“جهاد” فى أصله اليونانى يعنى أنه كان فى حالة صراع روحى رهيب، كان
يصارع بكل قواه الإنسانية كإنسان. كان يصلى “بأشد لجاجة” حتى كما يقول
العلماء “انفجرت الشعيرات الدموية الدقيقة للغدد العرقية” فامتزج العرق
بالدم تحت تأثير هذا الصراع الإنفعالى الرهيب الذى كان يمكن أن يؤدى إلى الموت.

ويصف القديس
بولس فى رسالته إلى العبرانيين هذا الصراع وهذه اللجاجة قائلاً:

“الذى
فى أيام جده إذ قدم بصراخ شديد ودموع وطلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت
وسمع له من أجل تقواه. مع كونه أبناً تعلم الطاعة مما تألم به”(19).

وهنا تبرز
عدة أسئلة:

(أ) لماذا
قدم هذه الصلاة بهذا الجهاد وبهذه اللجاجة؟ وكيف “سمع له”؟

(ب) وهل كان
يجهل إرادة الآب؟

(ج) وهل
إرادته تختلف عن إرادة الآب؟

(د) وهل
تنفصل إرادته الإنسانية عن الإلهية؟

(أ) صلى
كإنسان:

قدم السيد
المسيح هذه الصلاة للآب كإنسان يواجه آلاماً نفسية وجسمية وكفارية لا يقوى عليهما
إنسان ما مهما كان. كانت الخطية التى صنعها الإنسان غير محدودة لأنه عصى الله غير
المحدود وبالتالى كانت عقوبة الخطية غير محدودة وآلامها غير محدودة ولا يحتملها
الإنسان المحدود وحده دون اللاهوت ولكنه اللاهوت لا يتألم ولا يتحمل عقوبة
الإنسان، والمسيح جاء ليتحمل الآلام كإنسان وليس كإله، جاء ليتحملها بناسوته
المحدود المتحد بلاهوته غير المحدود. ولكن كإنسان صلى وكإنسان صارع “بصراخ
شديد ودموع وطلبات وتضرعات”. ولكنه لم يطلب النجاة من الألم أو الموت بمعنى
الهروب منها، كلا. ولم يطلب أن “تعبر عنه الكأس” وأن “تجتازه”
بمعنى أن لا يذوق الأم والموت. حاشا. فهو الذى وبخ بطرس عندما لم يوافق (بطرس) على
قوله أنه سوف يتألم ويصلب ويموت ويقوم فى اليوم الثالث، قائلاً له “أنت معثرة
لى لأنك لا تهتم بما لله ولكن بما للناس”(20).

وكذلك عندما
حاول (بطرس) الدفاع عنه بالسيف ساعة القبض عليه فوبخه قائلاً:

“اجعل
سيفك… فى الغمد. الكأس التى أعطانى الآب ألا أشربها”(21).

وهو فى كلتا
الحالتين يؤكد، كما سبق أن أكد مراراً حتمية شرب الكأس، أنه لا يطلب من الآب
التخلى عن الكأس، فهذا أمر محتوم ولا مفر منه، ولكنه يطلب أن “تعبر” عنه
الكأس “تجتازه” كما يقول آباء الكنيسة “دون أن يكون لها عليه
سلطان”(22).

 

قال القديس
ديونيسيوس الاسكندرى:

العبارة
“لتعبر هذه الكأس” لا تعنى انها لا تقترب منه، ما كان يمكن للكأس أن
تعبر به وتجتازه ما لم تقترب منه، أولاً… فإنها إن لم تقبل إليه لا تعبر
عنه”(23).

أنه يطلب أن
تعبر به، أن يجتازها دون أن يكون لها عليه سلطان، أنه يطلب القدرة على احتمالها،
وهو بلاهوته الإله القادر على كل شىء.

أنه يبين
لتلاميذه الثلاثة، الذين كانوا قريبين منه وقت الصلاة وبالتالى لنا، قوة وعدم
محدودية الآلام التى عليه أن يجتازها ويعتصر بها، وعجز الإنسان عن احتمالها وفى
نفس الوقت يكشف عن قدرته (كإله متجسد) على احتمالها بسبب شخصيته الفريدة التى لها
خواص اللاهوت وصفاته وخواص الناسوت وصفاته. فهو فى ذاته له خواص اللاهوت غير
المحدود وغير المتألم وله خواص الناسوت المحدود والمتألم، فهو المحدود وغير
المحدود والمتألم وغير المتألم.

 

ويقول
الكتاب إن استجابة صلاته جاءت فى ظهور الملاك ليقويه.

(ب) لم يشك
ولم يجهل إمكانية الآب:

والسيد
المسيح لم يشك فى إمكانية الآب ولم يجهلها، فهو واحد مع الآب فى الجوهر ” أنا
والآب واحد”(24) وكل ما للآب هو له
“كل ما للآب هو لى”(25).
هو واحد مع الآب فى الجوهر واللاهوت والكيان والقدرة، واحد فى كل شىء، والآب
والابن إله واحد. وبالتالى لا يمكن أن يشك فى إمكانية الآب أو يجهلها لأن إمكانية
الآب هى إمكانيته. الله غير محدود فى كل شىء على الإطلاق ولا يوجد مستحيل أمامه
“هل يوجد مستحيل بالنسبة لك”(26).

ولذلك بدء
السيد صلاته للآب قائلاً “كل شىء مستطاع لك”(27).
وهذا تأكيد آخر على أنه لم يكن يطلب التخلى عن الكأس ولكنه كان يعبر عن إنسانيته
التى أتخذها.

 

قال القديس
امبروسيوس متسائلاً:

“لقد
كتب يا ابتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس” فإذا كان هو القدير فكيف يشك فى
الإمكانية؟

الكلمات
تقول إنها كلمات المسيح
“.

ويجيب
“لقد أتخذ له الطبيعة الإنسانية وبذلك اتخذ كل أحوالها. ثم تجدونه فى المكان
الأعلى يقول “ثم تقدم قليلاً وخر على وجهه وكان يصلى قائلاً يا ابتاه إن
أمكن” كان يتكلم كإنسان وليس كإله، لأنه هل يمكن أن يكون جاهلاً بإمكانية ما
يجب؟ أو هل مستحيل شىء على الله؟

بينما
الكتاب يقول “هل يستحيل شىء عليك”(28).

(ج) وحده
أراده الآب والابن واللاهوت والناسوت:

وهذه الصلاة
لا تعبر عن اختلاف فى إرادة الآب والابن لأن الآب والابن واحد فى اللاهوت والجوهر
والقدرة والإرادة “كل ما هو لى فهو لك وما هو لك فهو لى… ليكونوا واحداً(29) كما نحن (الآب والابن)… إننا نحن واحد”
والابن قد جاء إلى العالم لينفذ إرادة الآب “نزلت من السماء ليس مشيئتى بل
مشيئة الذى أرسلنى”(30).

“فما
أتكلم به فكما قال لى الآب هكذا أتكلم”(31)
وذلك لأنه واحد معه ومنه “أنا أعرفه لأنى منه”(32)
“ليس أن أحد رأى الآب إلا الذى من الله قد رأى الآب”(33)
“خرجت من عند الآب وأتيت إلى العالم”(34).

وخروجه من
عند الآب أو منه فى الأصل اليونانى
(ε K)تعنى “خروج من الأصل” أى أنهما كما قال السيد
” أنا والآب واحد”(35)،
إله واحد، طبيعة واحدة، إرادة واحدة. كما أن إرادة اللاهوت والناسوت واحدة، مشيئة
واحدة من اتحاد مشيئة اللاهوت ومشيئة الناسوت. فمشيئة الناسوت كان يجب أن تخضع
للاهوت الذى تجسد لتحقيق إرادة الآب المحتومة منذ الأزل وهذا واضح فى قول السيد
“نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتى بل مشيئة الذى أرسلنى”. والسيد هنا
يبين ذلك فى قوله “ولكن لتكن لا إرادتى بل إرادتك” “ليس كما أريد
أنا بل كما تريد أنت”(36).

لقد أعلن
بذلك وحدته فى الإرادة مع الآب، كما أعلن وحده المشيئة فى ذاته، فالناسوت برغم ما
بدأ من أنه كان يرفض الألم إلا أنه خضع للإرادة الإلهية التى قررت قبول الألم، حسب
التدبير الإلهى، منذ الأزل، ولم يكن هناك أختلاف، بل مشيئة واحدة.

 

قال القديس
امبروسيوس:

“فلنفكر
فى خضوعه إذ يقول “يا ابتاه إن شئت أن تعبر… ولكن لتكن لا إرادتى بل
إرادتك” إن هذا الخضوع هو خضوع الطبيعة البشرية المتخذه كما نقرأ وإذ وجد فى
الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت”. الخضوع هو خضوع الطاعة إذا، والطاعة
حتى الموت”(37)، والموت خاص بالناسوت
المتخذ… وهكذا لا يوجد ضعف فى اللاهوت ولكن يوجد إخلاء”(38).

 

قال القديس
أثناسيوس الرسولى:

“بالنسبة
لقوله “إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس” لاحظ أنه برغم قوله هذا فقد وبخ
بطرس قائلاً “أنت لا تهتم بما لله لكن بما للناس”(39)
لأنه كان يريد ما استنكره (بطرس) لأنه جاء لأجل هذا وكانت إرادته هى الراغبة (أنه
لأجل هذا أتى) ومع ذلك فقد قال كلا القولين ليبين أنه الله الذى كان يريد فى ذاته
ولكن عندما صار إنساناً خاف بالجسد، ولأجل هذا الجسد وحد إرادته بالضعف الإنسانى
(البشرى)… شىء غريب حقاً الذى ينسب إليه أعداء المسيح من كلمات الخوف يعطى البشر
الشجاعة ليكونوا بلا خوف… وقد بينت شجاعة الشهداء القديسين أن اللاهوت لم يكن
خائفاً بل أن المخلص نفسه أزال هو خوفنا. لأنه كما أبطل الموت بالموت، وكل الشرور
البشرية بالوسيلة البشرية، هكذا بهذا المسمى خوف أزال هو خوفنا وجعل البشر لا
يخافون الموت أبداً… وكانت كلماته “أعبر عنى هذه الكأس” “ولمناذا
تركتنى” كلمات إنسانية، وكان فعل أختفاء الشمس وقيامته من بين الأموات فعلاً
إلهياً. وقال أيضاً “نفسى قد أضطربت” جسدياً (إنسانياً) وقال “لى
سلطان أن أضعها ولى سلطان أن أخذها أيضاً” إلهياً.. اضطرابه يليق بالناسوت
أما كونه له القوة أن يضع حياته وأن يأخذها ثانية بحسب إرادته فليس من خواص
الناسوت ولكن من قوة الكلمة لأن الناسوت يموت ليس بقوة الكلمة ولكن بضرورة الطبيعة
ورغم إرادته”(40).

 

وقال القديس
كيرلس عمود الدين:

“فى
الواقع هو ذاته ما كان يخشى الموت من حيث هو الكلمة وهو الله، لكنه كان متعجلاً أن
يتبع التدبير حتى النهاية. فإنه كانت فيه إرادة الآب. ومن جهة أخرى أنه كان يبين
رفضه أيضاً رفضه للموت لأن الجسد بطبيعته يرفض الموت، لهذا لأنه كان يريد أن يعلم
الناسوت أن لا يعاود فيفكر فى غرائزه، بل أن يطلب إرادة الله قال كإنسان: لا كما
أريد أنا بل كما تريد أنت”.
وأضاف “أختار برحمته ومحبته للبشر
أن يصبح مثلنا وقبل الآلام التى أنزلها به اليهود، عار الآلام الثقيل لم يرفضه،
وحقاً عندما جاء الوقت الذى كان عليه أن يقبل الصليب لأجل حياة الكل. ولكى يؤكد
لنا أن الآلام ليست مرفوضة بل مقبولة، عبر عن ذلك بالشكل الذى يليق به كإنسان وقال
بشكل صلاة “يا ابتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس ولكن لتكن لا إرادتى بل
إرادتك، وقال أيضاً أنه نزل من السماء لكى يقبل المرفوض وغير المقبول أى الموت
ويعطى القيامة لكل الساكنين على الأرض، فهو وحده الذى استطاع أن يمنح الحياة من
جديد للجنس البشرى”(41).

 

وكتب القديس
يوحنا ذهبى الفم مقالاً عن:

“إن
أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس” قال فيه(42):

أولاً: لا
يمكن القول بأن السيد المسيح كان يجهل إن كان ممكناً أن تعبر عنه الكأس أم لا
بقوله (هذا).
]المعرفة الخاصة بآلامه ليست أعظم من المعرفة الخاصة بجوهر
طبيعته، الأمر الذى هو وحده يعرفه تمام المعرفة وبدقة، إذ يقول “كما أن الآب
يعرفنى وأنا أعرف الآب”(43).
ولماذا أتكلم عن ابن الله الوحيد، فإنه حتى الأنبياء يبدوا أنهم لم يجهلوا هذه
الحقيقة (أى آلام المسيح وصلبه) بل عرفوها بوضوح، وقد سبق أن أعلنوا عنها قبلاً
مؤكدين حدوثها تأكيداً قاطعاً.

ثانياً: لا
يمكن فهم القول
بمعنى
الرغبة فى الهروب من الصليب. لقد دعى (بطرس) ذاك ذهب إعلاناً من الآب وقد طوبه
ووهبه مفاتيح ملكوت السموات. دعاه “شيطاناً”، ودعاه “معثرة”
وأتهمه أنه لا يهتم بما لله
هذا كله لأنه قال له: “حاشاك يا رب
لا يكون لك هذا “رأى لا يكون لك أن تصلب. فكيف إذاً لا يرغب فى الصليب
؟ قال
بنفسه: “أيها الآب قد أتت الساعة محد ابنك”(44).
لقد تكلم هنا عن الصليب كمجد، فكيف يستعفى عنه، وها هو يستعجله؟!”.

ثالثاً: إن
هذه العبارة فد سجلها لنا الإنجيلى لتأكيد تجسده ودخوله فعلاً تحت الآلام (لهذا
السبب أيضاً كانت قطرات العرق تتدفق منه، وظهر ملاك ليقويه، وكان يسوع حزيناً
ومغتماً، إذ قبل أن ينطق بتلك الكلمات (ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت) قال
“نفسى حزينة جداً حتى الموت
لقد أعلن المشاعر البشرية الحقيقية
بوضوح، تأكيداً لحقيقة تجسده وتأنسه).

رابعاً:
بجانب تأكيده للتجسد قدم لنا نفسه مثالاً عملياً بهذا التصرف الحكيم (هناك
إعتباراً آخر لا يقل أهمية عنه
وهو أن السيد المسيح جاء على الأرض،
راغباً فى تعليم البشرية الفضائل، لا بالكلام فقط إنما بالأعمال أيضاً. وهذه أفضل
وسيلة للتدريس
لقد أوصى
تلاميذه أن يصلوا: “لا تدخلنا فى تجربة” معلماً إياهم بهذه الوصية عينها
بوضعها فى صورة عملية قائلاً: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس”. هكذا
يعلم كل القديسين ألا يثبوا بأنفسهم فى المخاطر غير ملقين أنفسهم بأنفسهم فيها
فماذا؟ حتي
يعلمنا إتضاع الفكر، وينزع عنا المجد الباطل
صلى كمن
يعلم الصلاة، ولكى لا نطلب ألا ندخل فى تجربة، ولكن إذ لم يسمح الله بهذا، نطلب
منه أن يصنع ما يحسن فى عينيه، لذلك قال: “ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد
أنت”، ليس لأن إرادة الابن غير إرادة الآب، إنما لكى يعلم البشر أن يقمعوا
إرادتهم فى إرادة الله ولو كانوا فى ضيق أو إضطراب، حتى وإن أحدق بهم الخطر، ولو
لم يكونوا راغبين فى الأنتقال من الحياة الحاضرة”.

 

3-
وسمع له من أجل تقواه ماذا يعنى ذلك؟

يقول
الكتاب:

“الذى
فى أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسمع له
من أجل تقواه. مع كونه ابنا تعلم الطاعة مما تألم به”(45).

فماذا يعنى
قوله “وسمع له”؟

والإجابة هى
أن هذه الصلاة كانت “فى أيام جسده” أى بعد أن أتخذ جسداً وجاء بشراً،
فصلى كإنسان مقبل على آلام أن “يعبر عنه الكأس” “يجتاز الكأس”
“أن يخلصه من الموت”لا بمعنى الهروب أو التخلى عن تقديم ذاته ولكن بمعنى
أعطائه المقدرة على تحمل الآلام غير المحدودة، أن “يجتاز الكأس”
“أن يخلصه من الموت” لا بمعنى الهروب والتخلى عن المهمة، مهما الصلب، بل
يخلصه من الموت بالقيامة من الأموات.

وقد تم ذلك
“سمع له” فى شكل ملاك نزل من السماء يقويه”(46)
القوى التى أعطيت له من تلك اللحظة ليتحمل الصليب محتقراً. بل، مستهيناً بالعار
والخزى. “سمع له” أيضاً بالخلاص من الموت، أى بالقيامة من الأموات فى
اليوم الثالث كقول الكتاب: “لذلك سر قلبى وتهلل لسانى حتى جسدى أيضاً سيسكن
(مطمئنا) على رجاء. لأنك لم تترك نفسى فى الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فساداً”(47) أى أن صلاته أجيبت “سمع
له” بالقدرة الفائقة التى ظهرت فى تحمله الآلام الغير محدودة وأيضاً بالقيامة
من الأموات. وإن كان هو يعلم تماماً أن الألم والموت أمر محتوم أزلاً وقد جاء
مخصوص لكى يبذل ذاته عن حياة العالم إلا أنه كإنسان إضطرب أمام الآلام الغير
محدودة وأمام الموت الكفارى، وكإنسان صلى وكان لابد أن يطلب المعونة، وكإنسان
ونائب عن البشرية كان لابد أن يبين هول ومرارة وقسوة الآلام الآتية عليه ويطلب من
الآب المعونة، وأن يسلم إرادته للآب كى تسلم البشرية معه إرادتها للآب. ومع أنه
كإله واحد مع الآب فى الطبيعة والإرادة ككلمة الله السرمدى، وكإله متجسد له طبيعة
واحدة من طبيعتين ومشيئة واحد من مشيئتين، إلا أنه كان لابد أن يسلم الإرادة للآب
كإنسان ونائب عن البشرية، وكإنسان كان لابد أن يطلب من الآب أن يقيمه من الأموات
مع أنه هو الذى وضع ذاته بإرادته
كالإله المتجسد وقام من الموت بسلطان لاهوته كقوله “لى أن
سلطان أن اضعها ولى سلطان أن آخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها منى بل أضعها أنا من
ذاتى”(48).

قال ذهبى
الفم متسائلاً:

“ماذا
يعنى التعبير “بصراخ شديد”؟ و”سمع له”
هل يقول أى
إنسان هذا بخصوص الله؟”

ثم يجيب بعد
عدة أسئلة من هذا النوع:

“أن
هذا قيل فيما يختص بالتجسد”.

ثم يسأل
ثانية “هل صلى للآب كى ينقذه من الموت؟”

“وهل
لهذا السبب قبل أن حزن حزناً شديداً وقال إن أمكن فلتعبى عنى هذه الكأس؟” ومع
ذلك صلى للآب بخصوص قيامته. لكن على العكس فهو يعلن صراحة “أنقضوا هذا الهيكل
وفى ثلاثة أيام أقيمه”(49)
و “لى سلطان أن أضع حياتى ولى سلطان أن آخذها أيضاً ليس أحد يأخذها منى بل أضعها
أنا من ذاتى” ماذا إذاً؟ لماذا صلى؟ ويقول أيضاً “ها نحن صاعدون إلى
أورشليم وابن الإنسان يسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت
ويصلبوه
وفى اليوم الثالث يقوم “ولم يقل أبى سيقيمنى ثانية “فكيف صلى بخصوص هذا!
إذاً؟ ولأجل من صلى؟ ويجيب. لهؤلاء الذين آمنوا به”(50).

 

4-
ماذا كان عمل الملاك الذى ظهر فى البستان؟

ظهور
الملائكة فى حياة المسيح شئ مألوف(51)،
فقد بشر الملاك العذراء بولادته(52)
وبشرت فرقة من الملائكة الرعاة بمولده(53)،
وبعد التجربة على الجبل جاءت الملائكة لتخدمه(54)
وكذلك بعد القيامة من الأموات بشرت الملائكة بقيامته(55).

وقد ظهر فى
البستان “ملاك ليقويه” فماذا تعنى تقوية الملاك؟ وهل كان بالفعل فى حاجة
إلى قوة خارجة عنه وهو القادر على كل شئ”(56)
فهو بلاهوته، كإله، الإله القدير، كلى القدرة، ولكنه كإنسان قيل عنه أن الملاك جاء
ليقويه. جاء ليقول له “لك القوة والمجد”، كما يقول بعض آباء الكنيسة،
ممجداً بذلك لاهوته كى يتقوى بذلك ناسوته أمام تلك المحنة الطاحنة، فقد دخل ذلك
بأختياره، وضع ذاته بإرادته. فهو لم يطلب ملاك ليقويه ولكنه قدم ذاته لله الآب ومع
ذلك ظهر الملاك ليقويه كإنسان. كما أنه قبل الآلام بإختياره وبإرادته فكانت آلاماً
تدبيرية فجاء الملاك لا ليعطيه قوة فهو القدير ولكن جاء لكى جاء يخدمه، لكى يمجده
يقول له:

“لك
القوة يا مخلص. لك المجد يا رب. لك العزة يا ملك. لا أعرفك إلا قوياً ذو سلطان
وأقتدار
أنك وإن
كنت قد أظهرت الضعف بمشيئتك وتألمت لأجل خليقتك. فإن هذه الأوصاف تليق بك. فأنت
كما أنت الإله والقادر بقوتك ومشيئتك”(57).

ولذلك نصلى
فى أسبوع الآلام قائلين:

“لك
القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين. يا عمانوئيل إلهنا ومخلصنا لك القوة
والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين. يا ربنا يسوع المسيح مخلصنا الصالح”(58).

 

 

(1) متى 37: 27.

(2) مز 33: 4.

(3) الفعل الثانى فى أصله يعنى خارج البيت Not at home وهو يتضمن كرب النفس لتحرر نفسها من الجسد تحت ضغط الكرب العقلى
الكثيف.

(4) متى38: 26

(5) يون5: 2

(6) إش 63: 1-3

(7) 1 كو 47:
15

(8) لو 50: 23.

(9) متى 38:
26.

(10) عب 5: 10.

(11) عب 15: 4.

(12) رؤ 18: 1.

(14) The
Cyr. Faith B: II VII, 56
.

(15) القمص تادرس يعقوب، الإنجيل بحسب متى 269. In Luc: Ser: 125

(16) القمص تادرس يعقوب، الإنجيل متى ص 537 On Ps: Hom: 35

(17) متى 39: 16.

(18) لو 44: 22.

(19) عب 7: 5و8.

(20) متى 23: 16.

(21) يو11: 18.

(22) الإنجيل بحسب لوقا، القمص تادرس يعقوب ص 654.

(23) رؤ 8: 1.

(24) يو 30: 10.

(25) يو15: 16.

(26) أر17: 32.

(27) مر 36: 14.

(28) The
Che. Faith B: II: 41 – 42
.

(29) يو 10: 17 22.

(30) يو 38: 6.

(31) يو 50: 12.

(32) يو 29: 7.

(33) يو 46: 6.

(34) يو 16: 16.

(35) يو 30: 10.

(36) مر 36: 14.

(37) فى 9: 2.

(38) The
Chr: Faith B: V: 171
.

(39) متى 23: 16.

(40) Against
Ar:
3: 57.

(41) المسيح واحد مركز دراسات الآباء ص 99.

(42) الحب الإلهى للقمص تادرس يعقوب ص 367 292.

(43) يو 15: 10.

(44) يو 10: 17.

(45) عب 7،8.

(46) لو 43: 22.

(47) أع 26: 2و27.

(48) يو 18: 10.

(49) يو 19: 2.

(50) On
Heb: Hom: VIII
.

(51) فهو رب وخالق الملائكة والذى تخضع له الملائكة
عب 6: 1.

(52) لو 26: 1 37.

(53) لو 8: 2 12.

(54) متى 11: 4 ومر 13: 1.

(55) متى 2: 28 7.

(56) رؤ 8: 1.

(57) القول الصحيح فى آلام السيد المسيح، للقديس
بطرس السدمنتى 99.

(58) البسخة المقدسة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى