علم الكتاب المقدس

الفصل السابع عشر



الفصل السابع عشر

الفصل
السابع عشر

الكتابة
ولغات الشرق القديم

المقدّمة

الكتابة
هي تصوير فكر الإنسان بواسطة مصطلح على مادّة ملموسة. ويشكّل نموّ الكتابة أداة
خارقة للاتّصال بين الناس، وهي لا تتيح فقط نقل الفكر بين إنسانين تفصل بينهما
مسافة كبيرة أو صغيرة، ولكن بين فترتين تفصل بينما آلاف السنين (5000 سنة
تقريبًا). إنّ الشعوب التي لا كتابة لها، هي شعوب من دون تاريخ، بقدر ما يبدأ
التاريخ مع الوثائق المكتوبة. فإذا غابت الكتابة، صارت معرفة المدنيّات القديمة في
خانة “ما قبل التاريخ”. لن نشدّد على الفرق بين التاريخ وما قبل
التاريخ، ولكنّنا نقرّ بأنّ ذاكرة الشعوب التي لا كتابة لها لا تعود إلى زمن بعيد،
وأنّ التقليد الشفهي يشوِّه الأحداث بقدر ما تبتعد هذه الأحداث في الزمن. إذن
تاريخ الشعوب التي لا كتابة لها، تاريخ قصير وعرضة للتشوّه. أمّا الكتابة فتتيح
لنا الاتّصال المباشر بالماضي ورجالات الماضي، وهي تحدّد وتكمّل معطيات الذاكرة
وتحمل غنى كبيرًا إلى الخبرة البشرية.

وتشكّل
التوراة أكبر مثل عن الطريقة التي بها تدوم الكتابة وتتيح لبشر منفصلين بعضهم عن
بعهم أن يتّصلوا بعضهم ببعض. تألّفت التوراة من مجموعة كتب مختلفة (نحن أمام مكتبة
صغيرة مؤلّفة من 46 كتابًا أو سفرًا) دونت أو أُعيد تدوينها خلال حقبة دامت أكثر
من ألف سنة. وهي تتيح لنا أن نتّصل بالحكماء والكهنة والأنبياء، ونتعرّف إلى
أقوالهم بواسطة الكتابة. ولكن، إذا أردنا أن نفهم هذا التعليم الذي يقدّموه، وجب
علينا أن نتعرّف إلى ميزات وسيلة النقل المتبعة، عنيت بها الكتابة. بل أن نتعرّف
إلى ميزات الكتابة كما وُجدت واستُعملت في الشرق الأوسط القديم، حيث وُلدت وتطوّرت
الأبجديات الأولى.

 

أ-
ولادة القبة

تبدو
الكتابة لأوّل وهلة وكأنّها لعبة يقوم بها الأولاد، لأنّهم في عمر الخامسة أو
السادسة يتعلّمون القراءة والكتابة. لا شكّ في أنّ هذا النظام المصطح في الاتّصال،
يرتبط في أصله، بالرسم الذي يعبّر عن حاجة فنية أساسية عند الكائن البشري.

فقد
وُلدت كتابة الرسم ونمت في مدنيّات مستقلّة (في الصين، في أميركا الجنوبية..).
ولكن إذا عدنا إلى التاريخ نجد أنّ المدنيتيّن الأوليين اللتين استعملتا الكتابة
بصورة منظّمة همَا في الشرق الأوسط القديم. فقد وُجدت الكتابة في زمن واحد
تقريبًا، حوالي سنة 3000 ق. م. في بلاد الرافدين وفي مصر ولماذ في هذين البلدين
وليس في غيرهما؟ لأنّ نموّ وسيلة الاتصال التي هي الكتابة ارتبط طبيعيًا بنمط من
المدنية تضمّن مجتمعًا منظّمًا ومركّبًا ومنوّعًا ومركّزًا. لقد ظهرت الكتابة في
منطقتين لعبت فيهما الجماعات المدائنية دورًا سياسيًا واقتصاديًا هامُّا. وهذا ما
فرض وجود نظام حسابي ثابت وأمين يساعد الدولة على توزيع الخيرات.

وإنّ
آخر الحفريات الأركيولوجية في شوش (في ايران) أبرزت العلاقات بين نظم الحسابات
ومختلف القطع المعدنية وأولى اللوحات المكتوبة والمؤلّفة من أرقام وصور مطبوعة في
لوحة من الطين. وإنّ تطور هذه الصور قاد المجتمع إلى كتابة مجردة، نراها في أوروك،
في بلاد الرافدين السفلى، حوالي سنة 3300. وهذه الكتابة ستتطور بسرعة نحو تمثّل
الأصوات، وهذا ما يساعد الكتابة على أن تمثّل اللغة نفسها. وهذا الانتقال إلى عالم
الأصوات تمّ حوالي سنة 3000 ق. م. ليرسم اللغة عند السومريين (أو بالأحرى عند
الطبقة الحاكمة منهم) في جنوب بلاد الرافدين.

وعادت
أوّل الكتابات في مصر إلى سنة 3150 تقريبًا. ومنذ سنة 3080- 3040 نجد 70 نصبًا
تحيط بقبر الملك جار وتشهد على نظام كتابة متطوّر. هناك 20 علامة
“ابجدية” تقابل الحروف الصوامت. وهناك علامات عديدة تقابل كلمة كاملة،
أو حرفين أو ثلاثة حروف صوامت، أو معرّف يساعدنا على ترتيب الكلمة اللاحقة في هذه
الفئة أو تلك. وستمزج هذه العلامات كما في المصري الكلاسيكي المسمّى هيروغليفي.

 

ب-
تطوّر الكتابة في مصر وبلاد الرافدين

ارتبط
تطوّر الكتابة في مصر وبلاد الرافدين بالمواد المستعملة لرسم الكتابة. من جهة نجد
الطين الرخو وقَلمًا من قصب أو خشب بري بشكل دائرة (ليكتب الأرقام في الزمن
القديم) ثمّ بشكل مثلّث (من هنا علامات بشكل مسمار). ومن جهة ثانية نجد لوحات
الخشب وقطع الفخار ولفيفة البردية مع ريشة وحبر أسود أو أحمر.

في
بلاد الرافدين استُعمل الطين الرخو، فكان من الصعب أن نرسم الخطوط المقوّسة. فحلّت
محلّها سلسلة من خطوط مستقيمة. حين تُرسم بداية الخط يغرز القلم فيعطي الخط شكل
مسمار أفقي أو منحنِ (من أعلى إلى أسفل أو من أسفل إلى أعلى) أو عمودي (من أعلى
إلى أسفل)، أو شكلَ رأس سمار. لهذا سمّيت هذه الكتابة الكتابة المسمارية. كُتبت
أوّلاً في عواميد (من أعلى إلى أسفل ومن اليمين إلى الشمال). ثمّ وّلت سنة 2600
تقريبًا، فكُتبت بطريقة أفقية (من الشمال إلى اليمين)، وهذا ما ساعد الكاتب على
الإسراع في رسم خطوطه.

وحصل
عامل مهمّ جعل الكتابة المسمارية تتجر، هو استعمالها لتدوين اللغة الاكادية خلال
الألف الثالث ق. م.. إنّ تبنيّ هذه اللغة السامية الشرقية (المؤلّفة من لهجتين:
الأشورية والبابلية) أبرز الطابع المقطعي (متعلّق بمقاطع لفظية) للكتابة دون أن
يترك كليّا الصور القديمة. وصارت الكتابة كتابتين: الكتابة الأشورية والكتابة
البابلية. وظلّت الكتابة المسمارية تتطوّر على مدى ثلاثة آلاف من السنين قبل أن
تزول قبل المسيحية بقليل.

وعرفت
الكتابة الهيروغليفية أيضاً تاريخًا طويلاً بدأ بنهاية الألف الرابع ق. م. وظلّ
مكتوبًا حتى القرن الرابع ب. م. (الكتابة الأخيرة المعروفة قد وجدت في جزيرة على
النيل وقد دوّنت سنة 394 ب. م.). سميّت الكتابة الهيروغليفية (أي الصورة المقدّسة)
لأنّها قريبة من الفن الإيقوني (الإيقونة تعني الصورة). تكتب الهيروغليفية من
اليمين إلى الشمال. أمّا ترتيب العلامات (أو الصور) فيتكيّف مع النصب الذي يكتب
عليه.

وبجانب
هذه الكتابة الهيروغليفية الضخمة، استعمل كتبة مصر في لفائف البرديات خطاً جرّارًا
يسمّى الخط الهيراتي. يتميز هذا الخط بتبسيط العلامات، باستعمال الربط، بوضع
علامات الوقوف.. هذا الخط سيصبح ابتداء من القرن السابع ق. م. الخط الشعبي
(ديموتي) الذي استُعمل في العقود ونصوص الإدارة المدنيّة اليومية. أمّا الهيراتي
فاستعمله الكهنة لينسخوا نصوصاً دينية.

 

ج-
الكتابة الهيروغليفية المسمّاة حثّية

ابتداء
من القرن الخامس عشر ق. م.، طوّرت المملكة الحثّية في آسية الصغرى (تركيا الحالية)
نظام الكتابة عندها بمحازاة الكتابة المسمارية. ونجد هذه الكتابة في الأختام
والنقيشات، وقد استعملت في جنوبي الأناضول وشمالي سورية حتى القرن الثامن ق. م..
توصّل العلماء إلى قراءة الكتابة الحثية بعد أن اكتشفوا كتابات في لغتين:
الفينيقية والحثّية، وذلك في كاراتيبي وراس شمرا (اوغاريت) ومسكينة (ايمار).

 

د-
الأبجديّات

1-
الأبجديّات المسمارية

أبرزت
اكتشافات رأس شمرا (أوغاريت) ورأس ابن هاني على الشاطئ السوري الشمالي كتابات
مدوّنة في خمسة أشكال: المسمارية الأشورية البابلية، المسمارية الأبجدية،
الهيروغليفية الحثّية، الهيروغليفية المصرية، الكتابة القبرصية المينوية (أو
الكريتية). وهذه الكتابات تنقل إلينا لغات: السومرية، الأكادية، الأوغاريتية،
الحثية، الحورية، المصرية، القبرصية، المينوية. وهذا التعدّد في اللغات المكتوبة
في أوغاريت نفهمه حين نعرف الوضع الجغرافي لهذه المملكة الصغيرة العائشة من
التجارة الدولية بين الشمال (المملكة الحثية) وبين الجنوب (مصر)، بين الشرق
(ميطاني ثم أشورية) وبين الغرب (قبرص). تعود هذه الكتابات إلى القرنين الرابع عشر
والثالث عشر ق. م. ساعة كانت تلك المملكة مرتبطة بالمملكة الحثّية وتابعة لها.

والكتابة
المستعملة لهذه اللغة السامية الغربية هي الأوغاريتية وهي أبجدية مسمارية تتضمن 30
علامة: 28 حرفًا صامتًا و3 حروف مصوّتة (أ، و، ي) مع العلم أنّ الألف هي حرف صامت
وحرف مصوّت. ثمّ نجد أبجدية مسمارية مبسّطة من 22 حرفًا تقابل أبجدية الفينيقيين
والعبرانيين المستعملة في كنعان (جنوبي سورية وفلسطين ولبنان). نجد في هذه
الأبجدية الأخيرة عشر كتابات تقريبًا، لأنّ الأبجدية الخطوطية الكنعانية كانت
طاغية في أرض كنعان. وهاتان الأبجديتان هما تطبيق سماري للأبجدية الخطوطية
الكنعانية.

 

2-
الأيحديّات الخطوطية

لا
تزال ولادة الأبجدية مغطّاة بالأسرار وموضوع اختلاف في الآراء. أجل لا نعرف الكثير
عن هذا الاكتشاف الذي يُتيح لنا أن نكتب الفكر البشري بأقلّ ما يمكن من العلامات
(بين 20 و30 علامة). ولكنّ هنا نقاطاً تبدو واضحة.

 

النقطة
الأولى

الأبجدية
الخطوطية الكنعانية سابقة للأبجديات المسمارية التي استوحت منها. هذا القول يخضع
لتأريخ أولى الكتابات الألفبائية الخطوطية (شكيم، جازر، لاكيش) التي تعود إلى
القرنين السادس عشر والخامس عشر كما يخضع أيضاً للقراءة المشكّلة للعلامات
المسمارية الألفبائية المستوحاة من اسم الحروف الألفبائية الخطوطية، وهذا الاسم
يرتبط بكتابة هذه الحروف.

 

النقطة
الثانية

هذه
الأبجدية الخطوطية هي مستوحاة من الكتابة الهيروغليفية المصرية. نحن نعرف أنّ
الهيروغليفية امتلكت أبجدية خاصة تستعمل لكتابة الأسماء الغريبة. ومن الواضح أنّ
شكل أكثر الحروف الأبجدية الخطوطية يُذكّرنا بشكل الهيروغليفية المصرية. ثمّ إنّ
هذه الأبجدية الخطوطية ستتوسّع مع الكتابة على البرديات (أو على الجلد) بواسطة
الريشة والحبر. وهذا الخط من الكتابة يقابل الكتابة المستعملة في مصر منذ الألف
الثالث ق. م.

 

النقطة
الثالثة

خُلقت
هذه الأبجدية لتكتب الأسماء السامية. فهي تصوّر الحروف الصامتة التي تلعب دورًا
مختلفًا عن الحروف المصوّتة في هذه اللغات. ثمّ إنّ القيمة الصوتية لهذه العلامات
ترتبط بالاسم السامي للصورة الممثّلة. فهذه العلامة تمثّل الماء (ماييم في
الكنعانية) من هنا حرف الميم.

 

النقطة
الرابعة

هذه
الأبجدية اكتشفت أو خُلقت أو نُظّمت في الدلتا المصري الشرقي في أيّام الهكسوس
(الملوك الرعاة) أو ملوك السلالة الثامنة عشرة، أو في سيناء، أو في كنعان، أو على
الشاطئ الكنعاني وبالتحديد في جبيل. ومهما يكن من أمر موضع اكتشافها فهي قد وُجدت
في ممتلكات مصر في بلاد آسية.

والكتابات
في هذا النمط من الكتابة لا تزال قليلة: بعض قطع الفخار، بعض الكتابات على الأواني
أو على الأقواس. أهم هذه الكتابات تلك التي نقرأها على القوس: “ذكر بعل ملك
أمورو”، وهو ذكر بعل ملك جبيل المذكور في خبر سفَر المصري وان أمون (حوالي
سنة 1100 ق. م.).

وفي
نهاية الألف الثاني تقريبًا، انتشرت هذه الأبجدية الخطوطية الكنعانية وتوسّعت حسب
التقاليد المتعدّدة في الممالك التي تكوّنت في ذلك الوقت في لبنان وسورية وفلسطين.
وهكذا وُلدت الأبجدية العبرية القديمة، والفينيقية، والأرامية، واليونانية. ولقد
حوّلت الأبجديةُ اليونانية بعض العلامات ولاسيّمَا الحلقية منها لتشير إلى الحروف
المصوتة، وأدخلت خمسة حروف إضافية. وحوالي سنة ألف تحدّد اتّجاه الكتابة السامية
من اليمين إلى الشمال.

 

ه-
أنماط مختلفة من الكتابات

ترتبط
تقنية وفن الكتابة بالمواد المستعملة. ونحن نستطيع أن نميّز طريقتين للكتابة في
الشرق الأوسط القديم.

 

1-
الطريقة الأولى

الكتابة
على الطين. إرتبطت بالكتابة المسمارية وكان مركزها بلاد الرافدين حيث لعب الطين
دورًا كبيرًا واستُعمل في بناء البيوت والقصور والمعابد بشكل قرميدات مجففة في
الشمس. استُعملت هذه الكتابة المسمارية للسومري ثم الأكادي (البابلي والأشوري)،
ثمّ للحثي والكنعاني.. وكان أوسع انتشار لها في النصفي الثاني من الألف الثاني،
وقد وصلت إلى بلاد فارس (شوش) والأناضول (بوغاز كوي أو حتوسة) وسورية الشمالية
(أوغاريت الالخ) وكنعان ومصر (تل العمارنة).

الطين
مادة نجدها في كل مكان. وإذا تجفّف الطين حُفظت الكتابة إلى ما لا نهاية. أمّا
الخطر فهو أن تنكسر هذه اللوحة الطينية المجففة. وإمكان حفظ هذه اللوحات يفسّر لنا
كثرة الكتابات في هذه الطريقة: نحو نصف مليون لوحة اكتشفت في حفريات أكيولوجية في
أماكن مختلفة من الشرق القديم.

 

2-
الطريقة الثانية

الكتابة
على البردي أو الجلد بواسطة القلم أو الريشة والحبر. توسّعت هذه الطريقة أوّلاً في
مصر فرحمت الكتابة الهيروغليفية أو الهيراتية، ثمّ امتدّت إلى كنعان مع الأبجدية
الخطوطية، ثمّ إلى كل الشرق الأوسط القديم فدوّنت في الألف الأوّل الأرامية
واليونانية.

المادّة
المستعملة هنا هي متجرة وغالية الثمن، ولكنّها خفيفة الحمل إذا قابلناها بلوحات
الطين. ثمّ إذا كان البردي أو الجلد يدوم مئات السنين، إلاّ أنّ الحبر يُمحى فلا
يبقى أثر للكتابة. وإذا كان المناخ رطبًا مثل مناخ بلاد الرافدين أو سورية ولبنان
وفلسطين، يصبح البردي والجلد بقايا عضوية لا قيمة لها. أمّا المناطق التي لا مطر
فيها (مصر، الصحاري) فهي تحتفظ بهذه المواد العضوية، لاسيّمَا إذا وُضعت في
المغاور والقبور. لهذا السبب لا نجد الكثير من الكتابات القديمة، من عبرانية
وأرامية وفينيقية، التي اكتشفت في الحفريات. فالكتابات على البرديات والجلود زالت
كلّها ولم يبقَ لنا إلاّ الكتابات على مواد قاسية. فهناك كتابات على الحجر (نصْب، تماثيل،
ختوم ولويحات حجرية، نقيشات) أو على المعدن (لويحات ذهبية أو فضية أو برونزية،
أسلحة وأواني برونزية، تعاويز برونزية وفضية) أو على لوحات خشبية (لاسيّمَا مصر،
مغطاة بالبحص أو الشمع)، أو على أوانٍ فخارية.

نشدّد
هنا على أهمّية الكتابات الضخمة على الصخور ذات الطابع الملكي. فهي تذكر أحداثًا
تاريخيّة مهمّة. أمّا النصوص على الخشب فلقد لعبت دورًا هامًا في كتابة نصوص قديمة
من القرن الأوّل في الأناضول وبلاد الرافدين وسورية ولبنان وفلسطين.

 

و-
الكتبة

الكتابة
في الشرق الأوسط القديم هي تقنية ثمينة تفترض تدرّبًا وتمرّنًا على استعمال القلم
في الطين أو الحبر على البردي أو الجلد، ومعرفة بمئات العلامات المستعملة في
الكتابة المسمارية أو المصرية (الهيروغليفية، الهيراتية، الديموتية). على الكاتب
أن يعرف كيف يكتب رسالة أو عقدًا أو بلاغًا حسب القواعد والحقوق المعمول بها. عليه
أن يعرف أن ينظّم الحسابات الشهريّة والسنوية، حساب الحصص الموزعة أو غلال الحبوب.
عليه أن يعرف التقاليد الوطنية وأن يكتب العقود الدولية والحوليّات التي تمجّد عمل
الملك السياسي.. كانت مثل هذه التقنية ضرورية لحياة ونموّ الممالك في الشرق الأوسط
القديم. فمن كان مالكًا هذه المهنة كانوا يبحثون عنه ويسلّمونه أعلى الوظائف،
فيقوم بها بنفسه أو كسكرتير عند من يقوم بها. إن غاب الكتبة فلا إدارة (إحصاء،
ضرائب، حصص توزيع..) وبالتالي لا مملكة تدوم.

وامتلاك
الكتابة أعطى الكتبة شعور التفوّق بالنسبة إلى سائر الفئات الاجتماعية (الفلاّحين،
الصنّاع، التّجار..). وهذا الشعور قريب من عاطفة مدير تجاه الموظّفين عنده. وهذه
العاطفة بالانتماء إلى طبقة عالية، كان يتقوّى بالتدّرب الطويل على الكتابة في
المدارس، وهو تدرّب ضروري لامتلاك هذه التقنية. غالبًا ما يبدأ التدرّب في عمر
مُبكر (5 أو 6 سنوات) فيبتعد التلميذ عن رفاق عمره. ثمّ إنّ هذا التدرّب الطويل
يشكّل استثمارًا مُكلفًا لا تقدر أن تدفعه إلاّ العائلة الميسورة أو تلك العاملة
في الإدارة الملكية.

وكانت
الكتابة، شأنها شأن سائر النشاطات والتقنيات، موضوعة تحت حماية إله خاص: نبو هو
كاتب الكون في بلاد الرافدين. تحوت هو الإله في مصر وكانت مصر تصوّر الكاتب وهو
يعمل تحت عين تحوت (إله الكتابة وشفيع الكتبة ويصوَّر بصورة قرد) الساهرة. ونلاحظ
أيضاً في مصر دور الإلاهة سخات التي اكتشفت الكتابة وامسكت الحوليات، ودور امحوتف
الكاتب والمهندس الذي عاش حوالي سنة 2700 ق. م. وصار شفيع الكتبة وأُلِّه في
العصور المتأخّرة.

 

ز-
وظائف الكتابة

وُلدت
الكتابة من حاجات الإدارة ومسك “الدفاتر” والحسابات، فاستُعملت أكثر
فأكثر في ميادين عديدة من الحياة اليومية. وها نحن نقدّم بعض هذه الميادين:

 

1-
الاقتصاد

توخّت
اللويحات الأولى العدّ وحفظ الحسابات. وسيبقى الميدان المميّز في استعمال الكتابة
في كل تاريخ الشرق الأوسط القديم. فالكتابة تلبّي حاجات الإدارة المحليّة، أو
تنظّم أعمال ومداخيل الخاصّة من الشعب. وهي تسجّل ملكية الأشياء مثل الأواني
والتحف الثمينة. وتنظيم لائحة الأسماء هذه هي مهمّة للأعلاميات (دراسة أسماء
العلم)، وهي تتضمّن تارة سلسلة من أسماء العلم (مع أو بدون ذكر الألقاب)، وطورًا
إشارة إلى كمّية الطعام أو الحبوب أو السلاح أو الفضة، ومرة ثالثة ذكرًا لأصل
الأشخاص المذكورين. في بعض المرات تنسخ هذه اللوائح الأسمائية كتابات عن أواني
وجرار، ترافق إرسال هذه المواد. ونشدّد هنا على لوائح الأسلاب التي تموّل الخزانة
الملكية في اشورية.

وهناك
أوامر توزيع حصص الإعاشة في الخازن الملكيّة. يحتفظ مدير الخزن بهذه اللوائح
ليبرّر إدارته. ثمّ إنّ هذه اللوائح تُنسخ في نهاية الشهر أو السنة على لفيفة أو
على لويحة، وهذا ما يساعد على معرفة وضع الخزن.

وهناك
عقود الشراء والبيع وتبادل الأملاك المنقولة وغير المنقولة، المبنيّة وغير
المبنيّة. تدوّن هذه العقود عادة في نسختين وبحضور شهود. يدوّنها كاتب يلعب دور
كاتب العدل، ويجعل ختمًا ريًا على لويحة الطين أو على الخيط الذي يربط البردية
الملفوفة أو المطويّة. تحدّد هذه العقود حدود الأرض أو الأملاك المباعة، كما تحدّد
المال الموضوع (فضة موزونة حسب وحدة الوزن المحلية). ونربط بهذه المجموعة الهبات
الخاصة أو الملكية. في هذه الحالة الأخيرة، تهدف الهبات إلى مكافأة هذه الخدمة أو
تلك. وقد تكون الأرض المعطاة معفية من الديون. إنّ دراسة هذه العقود وهذه الهبات
مهمّة، لأنّها تتيح لنا أن ندرك الوزن الاقتصادي لبعض الشخصيات وتأثيرهم السياسي.
ونستطيع أيضاً أن نلاحظ أنّ هذه العقود (بيع أو شراء) وهذه الهبات تصيب أيضاً
أشخاصاً من وضع اجتماعي دنيء لاسيّمَا الخدّام والعبيد (نساء أو رجالاً). ونربط
بهذا النمط من العقود، إجراءات التحرير من العبودية. ودراسة الوثائق تساعدنا على
فهم البُنى الاجتماعية ومرونتها في المجتمع القديم.

وهناك
عقود القروض والاعتراف بالدَين. تتضمّن هذه العقود بصورة خاصّة تحديد الكية
المقرضة (رأس المال) والفوائد الواجب دفعها (شهريًا أو غير ذلك)، وتاريخ الدفع (في
الريف، في أيّام الحصاد المقبلة). فالشرق الأوسط عرف الدين بالفائدة، وبالفائدة
الباهظة، كما عرف الرهن العقاري.

وهناك
عقود الإيجار (أرض أو سفينة) والشراكة والوصيات وقواعد الإرث، ورسائل الأعمال
الخاصة أو الملكية، والأسعار الرؤية المرتبطة بالقانون أو بشريعة الذبائح،
والمعاهدات والنصائح الاقتصادية العملية (الزراعة، تربية المواشي، التجارة). نحن
هنا أمام بداية علم اقتصادي سيرتبط بالتعليم والمدرسة إرتباطاً وثيقا.

 

2-
القانون

القانون
ضروريّ لتنظيم المجتمع وبقائه، لاسيّمَا إذا صار متشعّبًا. وسريعًا ما رافق
القانون المكتوب القانون الشفهي والعُرف، فقواه وصحّحه وحلّ محلّه. وأبرزت
الحفرياتُ الأركيولوجية عدّة قوانين أشهرها قانون حمورابي، وقرارات عديدة قد لا
تكون لها دومًا قيمة قراراتنا في الزمن الحاضر وهذه القوانين والقرارات هي مَلكية،
لأن ممارسة العدالة هي عنصر هام من السلطة الملكية، وتنفيذ أحكام العدالة هو موضوع
مهم في إيديولوجيا الملكية.

كانت
الكتابة تدوّن هذه القوانين المرتبطة باصلاحات سياسية كبيرة والمنسوخة مرارًا في
المدارس، كما كانت تدوّن أحكام العدالة ونتائج الذنوب والجرائم والخلافات. وهذه
الأحكام كانت مدوّنة ومحفوظة. لأنّها تتعلّق بأملاك غير منقولة. وقد يستطيع
المشتكون أن يدوّنوا وجهة نظرهم تدوينًا خطيًا. لهذا نجد نصوصاً تورد شكاوى خطية.

ونربط
بهذا النطاق القانوني عقود الزواج والطلاق وتحرير العبيد. كل هذا يكشف علاقات
تسلسلية في الخليّة الأساسية التي تكوّن المجتمع القديم هي العائلة الواسعة أو
العائلة بالمعنى الحصري.

 

3-
السياسة

وكانت
الكتابة أداة فاعلة في خدمة السياسة الملكية. وكان الكاتب الملكي يلعب الدور
الأوّل في إدارة المملكة. ويظهر استعمال الكتابة في خدمة السياسة الملكية في
الكتابات على التماثيل والنقيشات والأنصاب. هدفت هذه الكتابات الملكية إلى تمجيد
الملك والإشادة بقدرته وأعماله، وإلى إعلان شرعيّة سلطانه وإلى إثارة الاحترام
والخوف لدى عبيده كما لدى سائر الشعوب. إنّها تروي أحداثًا تاريخيّة فتفهمنا
التاريخ القديم، ولكنّها بالحري أداة دعاية للملك. وهذا ما نقوله أيضاً عن
الحوليّات التي دوّنها بعض الملوك لاسيّمَا في أشورية، وعن لائحة المدن المحتلّة
بعد حملات عسكرية (وهذا فن أدبي اشتهرت به مصر).

وكانت
الكتابة في خدمة السياسة الملكية، فاستعملت لتدوين معاهدة مع ملك آخر. فلقد كانت
هذه المعاهدات الدولية معاهدات تجارية أو اتفاق زواج، أو اتفاق سلام بعد حرب لم
يكن فيها لا غالب ولا مغلوب. وتعكس هذه الاتفاقات تسلسل الدول، وتبيّن العلاقات
بين ملك سيّد وملوك خاضعين له. مثلاً إتفاقات التبعيّة في النصف الثاني من الألف
الثاني والنصف الأول من الألف الأوّل. لعبت هذه الاتفاقات الخطية مع بنودها
الدقيقة والتهديد بالإنتقام في حال الإخلال بها، دورًا سياسيًا هامًا في تكوين
وتنظيم المملكة الحثيّة والمملكة الأشوريّة الجديدة. كان الاتفاق يدوَّن احتفاليًا
على لويحات من فضة أو ذهب أو على أنصاب، وفي لغة كل من المتعاقدين، وهذا ما يفترض
كتبة ملمّين بلغتين أو أكثر.

وأخيرًا،
تكون الكتابة في خدمة السياسة بواسطة النصوص التعليمية (الحكمة، التأديب) التي
تدرّس في المدن الملكية. فإن درس الطالب التاريخ أو القصة أو الأمور العلمية، فهدف
درسه هو أن يتعلّم كموظف عتيد احترامَ الملك وأهميّة خدمة الدولة.

 

4-
الديانة

كانت
الحياة الاجتماعية في الشرق الأوسط القديم متشرّبة من الديانة، وقد لعبت المعابد
دورًا هامًا في ولادة الكتابة وتجرها، لاسيّمَا بواسطة المدارس المحاذية للمعابد.
ثمّ، لا ننسى وظيفة المعابد الاقتصادية، كما لا ننسى دورها في نقل التقاليد
القديمة. وهذا ما يفسّر استعمال لغة ميتة (مثل السومرية في بلاد الرافدين) أو
كتابة قديمة (مثل الهيراتية في مصر) في العصور المتأخرة.

وإليك
بعض أنماط الكتابات الدينية: لائحة الآلهة، الأساطير لاسيّمَا المتعلّقة بالخلق،
الصلوات من مدائح وتوسّلات، كتب الطقوس لاسيّمَا تلك التي تصوّر فئات الذبائح
وتقدّم روزنامة الأعياد، الأساطير عن تأسيس الهيكل، التعويذات والتقسيمات وما فيها
من أمور سحرية، البركات واللعنات، الأقوال النبوية، نصوص العرافة..

 

5-
بداية العلوم

ولدت
الكتابة من حاجة “مسك الدفاتر”. ولهذا لا نعجب إن كانت قد أسمت في تطوّر
علم الحساب ومراقبة ظواهر الكون (الكسوف والخسوف، دورات الشمس والقمر، الكواكب).
وهذا التطوّر ساعد الأقدمين، لاسيّمَا في العهد الأشوري الجديد، على الانتقال من
علم التنجيم إلى علم الفلك. والاهتمام بالكتابة قاد الكتبة إلى وضع لوائح بالمعادن
والنبات والحيوان. وهكذا بدأت دراسة نظريّة لظواهر الطبيعة. ثمّ إنّ
“الأطبّاء” دوّنوا ملاحظاتهم من أجل تشخيص الأمراض والوصفات لإبعاد هذا
المرض أو ذاك.

 

6-
اللغة والأدب

إنّ
واقع التشعّب اللغوي في الشرق الأوسط القديم، وضرورة الاتّصال بين بلدان تتكلّم
لغات مختلفة على أثر تكوين أولى الممالك أو تطوير التجارة أو العلاقات السياسيّة
الدوِليّة، أجبرا الناس على تدوين الوسائل الضرورية لتعلّم اللغات الحية أو الميتة
(كالسومرية مثلاً). ولقد قدّمت اللويحات المسمارية عدة قواميس في لغتين أو ثلاث.
وإنّنا نجد بين التمارين المدرسية طرائق تساعد الطالب على إيراد كلمات تبدأ بالحرف
الواحد أو تُبرز البنية الصرفية الواحدة وتعلّمه تصريف الأفعال.

هناك
استعمال اللغة في الاقتصاد والسياسة والدين، وهناك الأدب أو فن الرواية وفن الكتاب
مع جمل إيقاعية. وهكذا كان لنا الأساطير والتواريخ التي نُسخت جيلاً بعد جيل،
وأناشيد الحب، والأمثال والأقوال المأثورة. ستُجمع هذه الأمثال حسب أصلها وموضوعها
وأسلوبها. وهكذا ارتبط الأدب بالتعليم المُعطى في المدارس، والإنسان يبحث في كل
شيء عن الجمال.

 

ح-
المدارس

ظهرت
المدارس كمراكز للتدريب على القراءة والكتابة، كمقامات لنقل المعرفة والثقافة
المكتولة، لتدوين الأدب. ولكن لا نتخيّل هذه المدارس القديمة على مثال مدارسنا أو
جامعاتنا الحديثة حيث يُعطى التعليم بطريقة منظّمة. علينا بالأحرى أن نتخيّل هذه
المدارس مثل المدارس التقليدية القديمة في الشرق: يحيط بالمعلّم تلاميذ في غرفة أو
في رواق أو في ساحة عامة. ولا نستطيع أن نتأكّد من وجود مدرسة في مكان ما إلاّ إذا
اكتشفنا تمارين مدرسية ونصوصاً تعليمية.

 

1-
في مصر

دوّنت
كتب عن التعليم القديم في مصر فاستند العلماء إلى شهادات معاصرة ولاسيّمَا تعليمات
وحكم رجعت إليها هذه المدارس، فقدّموا لنا لوحة عن تقدّم المدارس المصرية خلال
ثلاثة آلاف سنة. كانت المدرسة في الأساس وسيلة نقل المعرفة داخل العائلة الواحدة،
من الآب إلى الابن. وبعد المملكة الوسيطة، امتدّ التعليم إلى طبقات جديدة من
المجتمع. وبعد ذلك، تنظّم فصار شعبيًا، بعد أن فرض توحيدُ المملكة وإدارتها تجديد
البيروقراطية وتدريب عدد كبير من الموظّفين في خدمة الفرعون ومعابده. ويذهب بعضهم
إلى القول إنّه في ذلك الوقت، استطاع كل مصري أن يقود ابنه إلى المدرسة. وإذا
علمنا أنّ الذهاب إلى المدرسة يعني في ذلك الزمان تعلّم مهنة الكاتب، وأنّ مهنة
الكاتب تفتح الطريق أمام وظيفة في الإدارة المدنيّة، أو الدينية، نفهم أنّ افتتاح
المدارس في المملكة الوسيطة دمج الطبقات الاجتماعيّة المختلفة بعضها ببعض.

ويمكننا
أن نميّز في مصر القديمة نمطين من المدارس. نمط يرتبط بالقصر، وآخر يرتبط بالهيكل.
كان “بيت الحياة” (أو الهيكل) يقدّم تعليمًا غايته تدريب الكهنة
العديدين. إذًا كان التعليم مركّزًا على نقل التعليم الديني، على نسخ النصوص
المقدّسة القديمة في اللغة الهيراتية. أمّا المدارس المرتبطة بالبلاط الملكي فتتيح
لأبناء الريف أن يتدرّبوا على قراءة وكتابة النصوص التي ستكون نماذج في إدارات
الدولة (رسائل، لوائح أسماء العلم..). ولكنّ أبناء الملك والموظّفين الكبار
العتيدين، كانوا يدرّبون في البلاط الملكي مدّة طويلة توصلهم إلى ما بعد عمر الشباب:
القراءة، الكتابة، الحساب، الهندسة، الرسم، الموسيقى، الرياضة البدنية، تعليم
يدربهم على الأمانة للملك وعلى النزاهة في المعاملة مع الشعب. وإليك بعض الأمثلة:

إذا
كنت رجل ثقة، فمان أرسلك كبير إلى آخر، كن دقيقًا في العمل الذي يرسلك إليه: أنقل
الرسالة كما قالها. لا تسلب بيوت الجيران ولا تنهب خيرات قريبك.

وكان
الطالب “الملكي ” يتعلّم التاريخ والجغرافيا، ولاسيّمَا جغرافية المناطق
البعيدة عن العاصمة، كما يتعلّم اللّغات (كالاكادية في المملكة الجديدة،
واليونانية في عهد البطالسة). أمّا المعلّمون فكانوا الموظّفين الكبار الذين تركوا
النشاط السياسي أو المهني فأشركوا تلاميذهم في اختباراتهم.

نشير
هنا إلى أنّه وُجد في طيبة ثلاث مدارس مختلفة: مدرسة ابتدائية، مدرسة للكهنة،
مدرسة لأبناء الملوك وعظماء المملكة الذين سيتسلّمون مقاليد الدولة. فالمدرسة
الابتدائية تعلّم القراءة والكتابة. ينسخ الطالبُ النصوصَ ويُنشدها. ويستعمل
المعلّم موجزًا (مثل النص المدعو كاميت) يعطي تمارين (نقل جمل، نماذج حروف، لائحة
كلمات متشابهة..). وهو يستعمل العصا عند الحاجة والمثل يقول: أذن الولد على ظهره،
فهو يسمع عندما تضربه. ولقد بقي لنا تمارين نسخ لنصوص مختارة دوّنت على قطع الفخار
أو لويحات الخشب المغطّاة بالجفص التي تُغسَل ثم يُعاد استعمالها. مثلا: كتاب
الموتى، تعليمات وحكم. أمّا استعمال البرديات الغالية الثمن فقد ظل محصورًا
بالطلاّب الميسورين.

 

2-
في بلاد الرافدين

إذا
عدنا إلى نصوص بلاد الرافدين، نفهم أنّ تدريب الكتبة يتمّ في آدوب با أو بيت
اللويحات. نعرف هذا البيت من نص سومري كلاسيكي يصوّر لنا حياة الطالب اليومية.
وهذا النص قد نُسخ في المدارس كتمرين على الكتابة. “أيّها التلميذ، أين ذهبتَ
منذ نعومة أظافرك؟ ذهبتُ إلى المدرسة. ماذا عملتَ في المدرسة؟ تلوتُ لويحتي،
تناولتُ الطعام، هيّأتُ لويحتي الجديدة، ملأتُها كتابة وانتهيت منها. ثمّ دلّوني
على امثولتي. وبعض الظهر، دلّوني على تمرين الكتابة. بعد المدرسة ذهبتُ إلى البيت.
دخلتُ البيت فوجدت أبي جالسًا.. “.

يبدأ
التعليم، كما رأينا، في عُمر مبكّر. يطول التدرّب على قراءة وكتابة المقاطع
اللّفظية (بي، با، بو، ايب، أب، أوب) والرموز السومرية. بعد هذا، ينتقل الطالب إلى
لائحة الأسماء المترادفة أو فئات الأشياء وإلى لائحة الأشكال الغراماطيقية، وإلى
أول تمارين الحساب، وإلى دراسة المجموعات التشريعيّة، وإلى النصوص الأدبيّة
الكلاسيكيّة. وقد وصل إلينا مقاطع نُسخت كتمرين مدرسي. ويبدو أنّ نهاية الدروس
كانت تُعلن بعد نسخ نص كلاسيكي كبير (نصّ رسميّ أو نصّ أدبي).

ما
يلفت انتباهنا في مدارس بلاد الرافدين هو وجود لغتين. فاللغة السومرية ماتت منذ
بداية الألف الثاني، ومن ظلّ الطالب يتعلّمها ليكون على اتّصال مباشر بنصوص الماضي
المكتوبة في السومرية. وكانت الترجمة توضع تجاه أو تحت النص السومري. وهكذا فبعد
القرن التاسع عشر، ظلّوا ينسخون النصوص السومرية التي حافظت عليها المدارس
ورتّبتها في لوائح بجانب النصوص الاكادية. فبدت مدرسة بلاد الرافدين مكان النشر
والخلق الأدبي. أمّا أشهر المدارس القديمة فهي نيفور، ايسين، ثمّ بابل، نمرود،
نينوى.

لا
نملك شميلة عامّة عن مدارس بلاد الرافدين، وقد ظلّت أمور عديدة غامضة أو موضع
جدال. فنحن لا نعرف إلى الآن كيف كانت بنية هذه المداس. كانت تتكدّس التمارين
المدرسية والنصوص التعليمية. قد يُعطى التعليم في بيت كاهن مثقّف أو اختصاصي
(مثلاً: تفسير الأحلام). كان هذا التعليم خاصاً. وقد يكون عامًا إذا أُعطي بجانب
الهيكل أو البلاط الملكي اللذين يملكان مكتبة قويّة تتضمّن المؤلّفات الأدبيّة
الكلاسيكيّة والنصوص الرعيّة والقواميس المتعدّدة اللّغات.. ونحن نقرأ كولوفون
إحدى لويحات أوروك (قاموس سومري أكادي) الذي يعود إلى منتصف الألف الأول ق. م.:
“لترنو عشتار بفرح إلى القارئ الذي لا يسرق الوثيقة ويردّها إلى مكانها. أمّا
الذي يخرجها إلى ايانة (اسم الهيكل) فلتصبّ عليه عشتار غضبَها”.

 

3-
في سورية وفينيقية وفلسطين

لا
نملك معطيات كثيرة عن مدارس سورية وفينيقية وفلسطين. ولكنّ التي نملك تساعدنا على
فهم ولادة ونقل الثقافة المكتوبة في هذه المنطقة، ولاسيّمَا ولادة ونقل النصوص
التوارتية في إسرائيل القديم.

في
الألف الثالث، وصلت إلينا مُعطيات من لوحات تل مرديخ (إبله) في سورية الشمالية. من
الواضح أنّ آلاف اللويحات التي وُجدت هناك تدلّ على مدارس الكتبة المطبوعة
بالتقليد البابلي.

وفي
الألف الثاني، كان في عاصمة كل مملكة تابعة للمصريين أو الحثّيين مدرسة خاصة
بالكتبة. هذا ما تفترضه اكتشافات رأس شمرا (أوغاريت) في الشمال، وأفيق في الجنوب.
فقد أبرزت حفريات أوغاريت عددًا من التمارين المدرسيّة والنصوص التعليميّة (من
التقليد البابلي) والأبجديّات، ونسخات كلمات منعزلة أو مجموعة، وحروف اللغة
الأوغاريتية نفسها. اكتُشفت بعض هذه النصوص في بيت رئيس الكهنة (رب كهنيم) مع نصوص
خرافية وأسطورية، أو في بيت كاهن متخصّص في نصوص العرافة والخرافات وكتاب الطقوس،
أو في بيت الكاتب الملكي (رفعانو).

تفترض
هذه الاكتشافات أنّ هؤلاء الأشخاص الثلاثة كانوا يعلّمون في إحدى غرف بيوتهم. وفي
أفيق وُجدت قواميس (من لغتين أو ثلاث لغات) فدلّت على وجود مدرسة في نهاية البرونز
الحديث. نلاحظ في أوغاريت وأفيق التعليم البابلي التقليدي (يضمّ أيضاً اللغة
السومرية) والتعليم المحلّي.

هناك
إشارات ضئيلة عن وجود مدارس في فينيقية في الألف الأوّل. ما اكتشفناه هو قطعة من
أبجدية حُفرت على لويحة كلسية (القرن 8 ق. م.). بداية أبجدية مكتوبة بالحبر على
جرة، وُجدت في قبر في سلامينة (حوالي القرن 7 ق. م.). سلسلة الأعداد من 1 إلى 10
وُجدت في صرفت، قرب صيدا (5- 4 ق. م.). لويحة كلسية تتضمن لائحة أسماء علم كُتبت
في جبيل (بيبلوس) على يد أحد الطلاب المتمرّنين (9- 10 ق. م.).

هذه
الاكتشافات المتفرّقة تدلّ على وجود مدارس فينيقية في بيبلوس (10- 9 ق م) وهذا ما
تفترضه المدوّنات التي وُجدت في جبيل وكيتيون وسلامينة (قبرص) وصرفت وشقمونا (5- 4
ق. م). نحن أمام نصوص بدائية. أمّا التمارين المتقدّمة فكُتبت على البردي وضاعت.

ونقول
الشيء عينه على العالم الأرامي. وها نحن نذكر بعض إشارات مشتّتة: في بلاد
الرافدين، في تلّ خلف/ جوزان، على نبع الخابور، وُجدت لويحة كلسية تحمل أبجدية
تعود إلى نهاية القرن 8. في وادي الأردن الأوسط، وعلى شاطئ يبّوق، كشفت تنقيبات
دير علّة العائدة إلى القرن 8، أبجدية على طرف كاسة من الفخار ونصًّا أدبيًا دوِّن
على الجفصين بالحبر الأسود والأحمر، سفر بلعام بن بعور الإنسان الذي يرى الآلهة.
كل هذا يعني أنّ الحُجرة التي وُجدت فيها هذه الكتابة قد كانت مدرسة فارتبطت بمكان
للعبادة قريب.

وفي
مصر في القرن 5: إنّ أبجديّة محفورة على الصخر في وادي حمامات، واكتشافات الفنتين،
توجّه أنظارنا إلى وجود مدرسة. فقد وُجد في الفنتين أبجديّة دوّنت على أوستراكة
كما وُجدت قطعة تحمل خبرًا مصريًا تُرجم إلى الأرامية، وقطع لقصة وحكمة أحيقار،
وقطع لنسخة الترجمة الأرامية لمدوّنة داريوس الأوّل في بسيتون. كل هذه النصوص كانت
تدرّس في مدارس الكتبة الأراميين في المملكة الفارسية.

في
إسرائيل القديم وفي الزمن الملكي (1000- 587 ق. م.). وُجدت اكتشافات دلّت على وجود
مدارس في لاكيش وأراد وقادش برنيع وكونتلات عجرود. إنّ هذه الاكتشافات تعطينا فكرة
عن التمارين المدرسيّة البدائية في هذه “المدارس”: أبجديات، حروف منعزلة
أو مجموعة، كلمات كُتبت مرّات عديدة، أسماء علم، عبارات تبدأ الرسائل، لائحة
الشهور، سلسلة الأعداد، لائحة الأوزان والمكاييل، تمارين لتعاليم لغة أجنبية
كالفينيقية مثلاً.

وهناك
إشارات أخرى تتيح لنا أن نرسم صورة عن تطور المدارس في إسرائيل في الزمن الملكي:
تكاثُر المدوّنات، ظهور الأنبياء الكتبة ابتداء من القرن 8 ق. م. وانتشار المدارس
جعل العلم ينتشر وفي نهاية الفترة الملكية (حوالي 600 ق. م.)، يمكننا أن نعتبر أنّ
قسمًا من شعب يهوذا عرف القراءة والكتابة. أمّا في أورشليم، فنمت مدارس عالية،
مدارس ملكية ومدارس كهنوتية ونبوية. وهذا ما يفسّر انتقال النصوص التوارتية التي
استُعملت منذ ذاك الوقت كنصوص كلاسيكيّة أو كتب قراءة.

لا
نعرف الشيء الكثير عن المدارس اليهودية في الزمن الفارسي أو الهلنستي. يمكننا أن
نتحدّث عن المدارس المحيطة بالهيكل في أورشليم ومدارس الريف التي ارتبطت بالمجامع.
وقد قدّم الرابانيون شهادتهم على مدارس يهودية في الزمن الروماني ولاسيّمَا مدارس
الفريسيين التي تكوّنت في عدد كبير من القرى. ولا ننسى مدرسة الأسيانيّين في قمران
قرب البحر الميت بين القرن الأوّل ق. م. والقرن الأوّل ب. م.. فقد شهد المؤّرخ
فلافيوس يوسيفوس على أهمية التعليم الذي يعطيه الأسيانيون للأولاد. وقد دلّت
اكتشافات قمران على أبجديات عديدة (للتعليم الابتدائي) ونصوص كلاسيكية من التوراة
نُسخت وشُرحت وكانت موضوع تعليم.

أجل،
لقد لعبت المدارس دورًا بارزًا في نقل الثقافة والمعرفة، واستفاد الناس من الكتابة
في الإدارة وفي الميادين الاقتصادية والاجتماعية.

 

ط-
الأرشيف والمكتبات

1-
الثقافة المسمارية

إنّ
وجود أرشيف ومكتبات تحتوي لويحات مسمارية أمر معروف، وقد أبرزته اكتشافات اللويحات
في أماكن مختلفة. فالتنقيبات الأركيولوجية منذ القرن 19 قد أبرزت مكتبات هامة في
بلاد الرافدين (اوروك، ايسين، لارسا، نيفور، بابل، نوزو، ماري، نينوى) وفي
الأناضول (بوغازكوي/ حتوسا، كولتيبي)، في شمال سورية (ايمار، ألالخ، اوغاريت، تل
مرديخ/ إبله) ومصر (تل العمارنة).

يمكننا
أن نميّز هنا مكتبات خاصة (موظّف كبير، كاهن، كاتب ملكي) ومكتبات عامة (قصر ملكي،
هيكل). ويمكننا أن ننظر إلى المضمون فنميّز أرشيفًا إداريًا (إحصاءات، جردات،
توزيع إعاشة وسلاح، جمع الضرائب، الخارج والداخل في المتجر، خلاصات ومراجعة حسابات
شهرية وسنوية) وديبلوماسيًا (رسائل، معاهدات) وقانونيًا (حق التملك، بيع وشراء،
هبة، زواج أو طلاق، قرارات قانونية، تحرير عبيد). كما نجد نصوصاً أدبيّة وفلكيّة
وحسابيّة مع الحوليّات والكرونيكات.

وأشهر
هذه المكتبات نجدها في بوغازكوي (14- 13 ق. م.)، نيفور، اشور (في أيّام تجلت
فلاسرالأوّل)، نينوى (في أيّام اشور بانيبال، في القرن 7)، بابل (في أيّام نبونيد
في القرن 6). وإنّ وجود المكتبتين الخاصتين بأشور بانبيال ونبونيد قد وافق قرار
هذين الملكين بأن يجمعا في قصريهما كل علوم عصرهما. وقد تكون نيّة هذين الملكين
بأن تُحفظ من الضياع نصوص جليلة دوّنت في السومرية والاكادية، يوم صارت الأرامية
اللغة الرئيسية في بلاد الرافدين. كانوا يعودون إلى هذه المكتبات للاطّلاع كما
يقول مؤلّفو لويحة في أوروك. ولهذا تنظّمت هذه المكتبات، ووُضعت لوائح، وكان لكل
لويحة عنوان هو الكلمات الأولى. وإنّ هذه اللوائح تتيح لنا أن نكوِّن فكرة عن عدد المؤلّفات
التي وصلت إلينا من كل مكتبة. كتبوا الأعمال المهمّة على لوِيحات متلاصقة تُرقم،
أو كانوا يكتبون في أسفل الصفحة أولى كلمات الصفحة التالية. إذَا عدد المؤلّفات
أقل من عدد اللويحات. وهنا تبرز مشكلة مهمّة في المكتبات المسمارية: وزن اللويحات
وحجمها بالنسبة إلى النص المكتوب.

في
المكتبات الخاصة: حُفظت اللويحات في جرار أو صناديق خشب أو في سلال مع لويحة تدلّ
على مضمون ما “في السلّة”. أمّا في المكتبات الملكية، فقد خصّصت حجرة أو
حجرات لحفظ هذه اللويحات، حجرات أقفل عليها وخُتمت بالشمع الأحمر لئلاّ تُسرق أو
تُتلف. مثلاً: الأرشيف الرحمي في تل مرديخ/ ابلة في سورية الشمالية (الألف الثالث
ق. م.) يتضمن 17000 لويحة وُجدت في ثلاث حجرات من الحي الإداري. توضع اللويحات
بجانب الحائط أو على رفوف من خشب. وكيف نتعرّف إلى مضمون اللويحة؟ جعل عليها
الكاتب مدوّنة في الأرامية (رقعة أو إتيكات) كتبها بالحبر أو حفرها بالقصبة. وإن
نقلَ الكاتبُ مؤلفًا “كلاسيكيًا” (أو مدرسيًا) جعل اسمه في كولوفون
وأرفقه بتاريخ النص الأصلي وبالظروف التي فيها نُسخ هذا النص.

حُفظت
النصوص في المكتبات الكبرى على لويحات من الطين المطبوخ. وبعد القرن 8 ق. م. ولاسيّمَا
في مكتبة أشور بانيبال، وجدت لويحات من خشب (أو عاج) تغشّيها طبقة خفيفة من الشمع.
قد تكون اللويحات الخشبية معزولة أو مربوطة (درفتان أو أكثر)، وكان باستطاعة
الكاتب أن يزيد نصوصاً أخرى على ما دوّن في السابق (هذا كان مستحيلاً في اللويحات
الطينية). استُعملت اللويحات الخشبية خاصة لتدوين الملاحظات التنجيمية أو
الأسترولوجية (خبرة الماضي تساعدنا على الأستعداد للمستقبل). ويمكننا أن نقدر
مكتبة أشور بانيبال في نينوى على الشكل التالي: حوالي 300 لويحة خشبية (درفتان أو
أكثر)، 2000 لويحة طينية مطبوخة. ولكن ما يؤسف له هو أنّ اللويحات الخشبية تُلفت
أو أحرقت فلم نعثر عليها.

لم
تُحفظ كل اللويحات في المكتبات. فهناك لويحات إدارية أو إقتصادية تستعمل في نهاية
الشهر أو السنة ثمّ تُرمى (كما نرمي الورقة المسودّة). وما كانوا يحتفظون إلاّ
بالخلاصة. أمّا الأعمال القانونية فتُحفظ حتّى موت أصحابها (حق الملكية مثلاً) أو
قد تنتقل إلى الورّاث أو إلى الشاري. وإذا حكمت المحكمة، “تحطّم ”
اللوحة السابقة أو تُمحى باستعمال الحبر الأحمر.

 

2-
حضارة البردي والجلد

ترجع
حضارة البردي إلى مصر، وهناك سندرس مسألة الأرشيف والمكتبات. فلنا شهادة عن وجود
البرديات منذ سنة 3100 تقريبًا، وقد استعملت لفائف البردي وأوراقه لكتابات جُمعت
في الأرشيف والمكتبات. غير أنّ الجلد لعب دورًا هامًا، وقد استُعمل من أجل كتابات
مدعّوة إلى أن تدوم وتُوضع في مكتبات الهياكل: إن تحوتمس الثالث (حوالي 1468-
1346) قد وضع لفيفة جلدية تروي مآثره في معبد امون، وذلك بعد انتصاره في مجدو.

وُجد
في ادفو، في عهد البطالسة، مبنى استعمل في أيّام بطليموس التاسع أو ارجاتيس الثاني
(116- 96 ق. م.) كمكتبة أو مخزن كتب: جعلت كُوى في الجدران وفوق كل كوة وُجدت
مدوّنة تدلّ على المضمون أو على العناوين. وُجدت في مكتبة فيلاي لائحة كتب تعود
إلى العصور المسيحية الأولى وقد رُتبت ترتيبًا مماثلاً لما في مكتبة إدفو..

ولكن
في حوزتنا شهادات أدبيّة تدلّ بوضوح على وجود لوائح كتب ومكتبات في زمن قديم. وقد
ارتبطت هذه المكتبات بالمعابد الكبرى أو “بيوت الحياة” أي المدارس والجامعات
العائشة في ظلّ هذه المعابد. ونلاحظ أنّ نصوص تل العمارنة وُجدت في “بيت
الحياة” بين المعبد والقصر الملكي. وبسبب قرب بيوت الحياة من المعابد، فقد
تضمّنت هذه المكتبات، أوّل ما تضمّنت، كتبًا مرتبطة بالعبادة (نصوص ليتورجية، جردة
الهيكل ولائحة بالأشخاص، نصوص دينيّة أو سحريّة) أو نصوصاً تعليمية (علم الفلك
والهندسة والرياضيات والطب والحكمة) أو نصوصاً ملكية مثل خبر انتصار تحوتمس الثالث
في مجدو (ذكرناه اعلاه). عُرفت هذه المكتبات واشتهرت: زارها الفرعون، ولمّحت
النصوص إلى أن ذاك النص وُجد في مكتبة المعبد. وقد لفتت هذه المكتبات نظر الرحالة
اليونانيين. ولقد استند ديودورس الصقلّي إلى شهادة هيكاتيس (من ميليتس، في القرن 6
ق. م.) ليتحدّث عن مكتبة اوسيمندياس (أو رعمسيس الثاني) التي حدّدها العلماء شمالي
غربي أو شمالي شرقي معبد رعمسيس في طيبة.

كانت
مكتبات المعابد المرتبطة ببيوت الحياة تحفظ التقليد حيّا فتنسخ النصوص المقدسة
(الهيراتية) لئلاّ تضيع. وذكرت مكتبة ملكية، مكتبة امينوفيس الثالث. ووُجدت مكتبات
خاصة بالموظّفين الكبار أو بالمعلّمين.

لم
تنفصل هذه المكتبات عن الأرشيف، وإن ارتبط الأرشيف بالقصر الملكي الذي توضع في
حجراته الوصيات وسجل المساحات والأحكام الناتجة عن الدعاوى. حُفظت ورقات ولفائف
البردي في صناديق أو في جرار. وحين انتهت فائدة هذه الوثائق، رُميت أو أزيلت عنها
الكتابات واستُعملت مرة أخرى (هذا ما يمسى الطرس)، والأمر واضح بالنسبة إلى
التمارين المدرسية (استُعمل البردي كما نستعمل اليوم الدفتر المدرسي).

لم
تكن المكتبات المصرية بحاجة إلى أمكنة واسعة كالمكتبات المسمارية، لأنّ لفيفة
البرد أو الجلد (قياسه حوالي 10 أمتار في الطول، 20 سنتم في العرض) يتضمّن نصاً
يحتاج إلى عشرات اللويحات المسمارية. ولكنّ البردي يُتلف بعد عدد من السنوات أمّا
الطين فيُحفظ.

لم
تصل إلينا أيّة مكتبة مصرية مع كتبها الموضوعة في مكانها. ولكنّ تنظيمها علّم
اليونانيين واللاتين كيف يرتبّون مكتباتهم. فمكتبة الاسكندرية (أهم مكتبة في
العصور القديمة) قد أسسّها بطيموس الأوّل سوتر (325- 285 ق. م.) بجانب الموزيوم
(جامعة، أكاديمية، مركز بحث علمي). وعمل البطالسة، فجمعت مكتبةُ الاسكندرية كل
الكتب اليونانية المعروفة سواء أتت من اليونان (أثينة، رودس) أومن آسية الصغرى
(برغامس) أو من سورية (انطاكية) أو من صقلية (سيراكوزا). اشترى المنظّمون هذه
الكتب أو استعاروها وأعادوها بعد أن نسخوها. ولم تقتصر هذه المكتبة على الكتب
اليونانية، بل سعت إلى جمع التراث الأدبي الشرقي كلّه. فضمّت أعمال أناس ترجموا أو
استلهموا تقاليد شرقية: مناتون (تاريخ مصر) بروسيوس (أمور بابلية) ميناندريس
الصوري، فيلون الجبيلي (في حوزتنا بعض المقاطع من هذه الكتب). ولم يبق لنا اليوم
الشيء الأخير من هذه المكتبة التي ضمّت، على ما يبدو، 490000 لفيفة في نهاية القرن
3 ق. م. ودمّرت سنة 391 ب. م. يشير المؤرخ سترابون أنّ هذه المكتبة استوحت تنظيمها
من مكتبة أرسطو فاستعملت الرفوف بدل الكوى. وكانت مكتبة الاسكندرية مهمّة بالنسبة
إلى تاريخ التوراة. فقد قالت رسالة أرستيس إنّ الترجمة السبعينية تمّت في
الاسكندرية لتوضع في مكتبتها.

لم
نجد مكتبات وأرشيفًا فينيقيًا أو أراميًا مكتوبًا على البردي والجلد في أرض سورية
وفينيقية. ولكنّ طقس مصر احتفظ لنا بكيّات من الأرشيف الأرامي العائد إلى القرن 5
ق. م.. وهكذا وجد في وعاء في نفق تحوت في هرموبوليس مجموعة من ثماني رسائل مكتوبة
على البردي: لُفّت هذه الرسائل، وخُتمت، كتب العنوان على القفا. لم ترسل هذه
الرسائل إلى أصحابها، ولهذا لا نستطيع أن نسمّيها أرشيفًا بالمعنى الحصري للكلمة.
ووُجدت مجموعة رسائل مكتوبة على جلد ومحفوظة في كيس من جلد. تتعلّق هذه الوثائق
بإدارة ارشاما، مرزبان مصر ووُجد في الفنتين عدد من الأرشيف العائلي: أرشيف يونيا
المسؤول عن الجماعة اليهودية، أرشيف خادم الهيكل حنانيا، أرشيف امرأة اسمها
مبطحيا. كُتب هذا الأرشيف على البردي فتضمّن رسائل وعقودًا وهبات ووثائق زواج
وإقرارات بالديون.. ومن الفنتين جاءتنا أمثال وأسطورة أحيقار وترجمة خبر اخلاقي
مصري، ونسخة من مدوّنة بسيتون. كل هذا شكّل مشروع مكتبة ارتبطت بمدرسة أرامية.

ووُجد
أرشيف أرامي (القرن 4 ق م، حوالي سنة 332) يعود إلى عائلات سامرية كبيرة (في مغارة
وادي دالية). نحن هنا أمام رسائل من البردي لُفّت وخُتمت. ولم تكشف التنقيبات إلاّ
بردية واحدة (وهي طرس) تتعلّق بالوثائق العبربة في الزمن الملكي. ولكن وُجدت
مجموعة نصوص دوِّنت على اوستراكات ولاسيّمَا في السامرة (النص الأوّل من القرن 8
ق. م.)، لاييش (588- 587 ق. م.)، اراد. وقد استُعملت كلمة “أرشيف
الياشيب” لتدلّ على 18 اوستراكة وُجدت في أراد، وهي وثائق حسابات شهرية كُتبت
في الشهر الأخير الذي سبق سقوط القلعة (بداية 597 ق. م.) وكانت سترمى بعد نسخها في
لفيفة من الورق البردي. أمّا 17 وثيقة التي وُجدت في جرّة في لآيش (حوالي 600 ق م)
ومجموعة 200 وثيقة بيعت مؤخّرًا في السوق، و50 وثيقة وُجدت سنة 1982 في عوفل، فهي
شهادات واضحة على وجود أرشيف (مكتوب على البردي) في نهاية العصر الملكي، وهذا ما
يثبت مقال إرميا النبي في 6: 23- 14.

لم
نكتشف مكتبات في الزمن الملكي، ولكن قد يكون في اكتشاف “كتاب الشريعة”
في بيت الرب (2 مل 8: 22) تلميحًا إلى وجود مكتبة في إحدى حجرات الهيكل في
أورشليم.

في
زمن الهيكل الثاني، تلمّح بعض نصوص الرابانيين إلى وجود لفائف من البردي حُفظت في
هيكل أورشليم قبل تدميره سنة 70 ب م. وكان لكل مجمع مكتبته الصغيرة: صندوق يتضمّن
لفائف “التوراة” (أو أسفار موسى) والأنبياء وسائر الكتب. ولكنّ أوضح مثل
عن وجود مكتبة في أرض فلسطين في القرن الأوّل المسيحي نجده في قمران. ضمّت هذه
المكتبة مئات المخطوطات التي كُتبت على جلد وحُفظت في جرار.

ونتذكّر
أخيرًا (بعد القرن 8 ق م) التوسّع في اللجوء إلى الأرامية في الإدارة الأشورية:
استُعمل البردي والجلد في بلاد الرافدين (لم يصلنا أي نصّ بسبب الطقس). لهذا يبدو
من الممكن أنّه في زمن الأخمينيين وُجد أرشيف بل مكتبات على لفائف من جلد. ويثبت
هذا الإمكانيّة أختام وُجدت في برسيبوليس ونمرود وإشارات في بعض الكتب مثلاً عز 6:
1ي مع كلمة “بيت سفريا” أي بيت الأسفار والكتب.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى