علم

الفصل الخامس



الفصل الخامس

الفصل
الخامس

الإنسان
والخلاص في اللاهوت عند أثناسيوس

 

أولاً: أُسس التقليد الآبائي

التي يقوم عليها الخلاص

 

أثناسيوس
يعتبر أن تجسُّد ابن الله، وموته على الصليب خاصة، هو مركز الإيمان واللاهوت،
أو بتعبيره اليوناني: “رأس ومبدأ
الإيمان
kef£laion tءj p…stewj([1])
كما يقول:

[لأنه
لأجل خلاصنا، الكلمة صار إنساناً ومات.]([2])

ولكن كيف كان أثناسيوس يفهم الخلاص؟ ومن أي شيء نحن نخلص؟
وإلى أي غاية ينتهي بنا الخلاص؟

ثم
ماذا كانت تعني حقيقة وفعالية موت المسيح عند أثناسيوس؟

ينبغي
لدارس اللاهوت أن يفهم أن موضوع الخلاص لم تستطع الكنيسة على مدى كل العصور أن
تستوفيه حقه، لعمقه وتعدُّد وجهات الرؤية لموضوع الفداء الذي أكمله المسيح كما
كشفه وأعلنه الله لبولس الرسول([3]).

ففي
عصر الآباء الرسوليين، بدأت الرؤيا من نحو الخلاص على مستوى أخلاقي سلوكي (متأثرين
بالعهد القديم)، باعتبار أن الإنجيل هو الناموس الجديد والوعد بالحياة
الأبدية القائمة على معرفة الله معرفة حقة، على أن يكون قبول الله بالإيمان فيصير
الخلاص انتقالاً من حياة الشر أي التدبير الشمالي بتعبير الليتورجيا،
(تدبير الخطية) إلى حياة البر أي التدبير اليميني بتعبير الليتورجيا
أيضاً (تدبير الصلاح).

ثم جاء آباء آسيا الصغرى من القديس أغسطينوس، ومَنْ بعده
(وهم متأثِّرون بالطب)، فنظروا الخلاص من وجهة نظر طبيعية أو واقعية
مرضية فالمسيح جاء كطبيب، والإنسانية في المسيح
الطبيب انتقلت من مرض الموت إلى
صحة الحياة، أي من الفساد إلى عدم الفساد
¢pص fqزraj e„j ¢fqars…an، وأن الطبيعة البشرية تغيَّرت بالتجسُّد،
فصار به “الإنسان إلهاً” أي يحيا مع الله إلى الأبد شريكاً في صفاته وطبيعته
الإلهية.
ثم
جاء آباء شمال إفريقيا (محامون)، ونظروا إلى الخلاص كعمل قضائي أو اشتراعي،
كحكم صدر بناءً على تعدي وعن ديون ويحتاج إلى محكمة وقضاء وشفاعة وتبرئة من ديون ثقيلة.
فأدخل ترتليان إلى اللاهوت
الغربي كله عقيدة الدرجات القضائية التي يمر فيها الإنسان، من حالة التجريم
والتغريم إلى حالة الصفح والبراءة، وطبَّقها على المسيح في شخصه هو، وليس من
جهة أعماله، أي أنه جاز القضاء وحصل على البراءة. وظل هذا الفكر متجذِّراً في
لاهوت الغرب وازداد في زمان انشقاق البروتستانت وبقي حتى اليوم كأساس لمفهوم
الخلاص عند الغرب عامة.

أمَّا
عند أوريجانوس فاتسعت النظرة الفلسفية نحو الخلاص فشملت العالم بأسره. فالخلاص
عمل كوني
Cosmological تمَّ على مستويات شملت العالم بأسره حيث تحوَّل
الشر كمشكلة العالم الأُولى والعظمى إلى “الخير” الكلي (الصلاح)، وانهزمت جنود
الشر في هذا الصراع تحت سلطان الله.

 

ثانياً: أساس لاهوت الخلاص عند أثناسيوس

 

ثم
جاء أثناسيوس وأمامه هذا التراث المتعدِّد الجوانب لموضوع الخلاص والفداء، والعجيب
أنه لم يتجاهل أي وجه من أوجه هذا التراث، ما عدا فكر أوريجانوس بخصوص الصراع مع
الشيطان فيكاد يكون أثناسيوس قد تنحَّى عنه تقريباً، ولو أنه مرَّ عليه مروراً.

فالخلاص عند أثناسيوس شمل هذه العناصر، وكان واضحاً في
التأكيد على أهمية عامل القضاء بمعنى العقوبة والتبرئة على أساس الدّينْ
الذي كان يتحتم علينا دفعه، باعتبار أن الموت الذي تمَّ القضاء به علينا بكلمة
الله
(تك 3) قد ارتبط بالخطية كعقوبة يتحتَّم دفع ثمنها كدين
رfeilزmenon([4]):

[والآن
نكون قد بيَّنا جزئياً على قدر المستطاع، وعلى قدر ما استطعنا إدراكه، العلة
التي من أجلها ظهر (الرب) جسدياً،

(أ)
وهي أنه لم يكن في مقدور أي أحد آخر أن يحوَّل الفاسد إلى عدم الفساد إلاَّ
المخلِّص بنفسه،
وهو الذي بنفسه ومنذ الابتداء قد خلق كل شيء من لا شيء؛

(ب)
لذلك فإنه ليس بمقدور أحد آخر أن يخلق من جديد مثال صورة الله للإنسان سوى الذي هو
صورة الآب!

(ج)
وأنه ليس بمقدور أحد آخر أن يجعل المائت غير قابل للموت سوى ربنا يسوع
المسيح الذي هو “الحياة نفسها”.

(د)
كما أنه ليس بمقدور أحد أن يعلِّم الناس شيئاً عن الآب، ويبطل عبادة الأوثان،
سوى “الكلمة”،
الذي يدبِّر كل شيء وهو وحده الابن الوحيد الحقيقي للآب.

(ه)
ولكن نظراً لأنه كان يتحتَّم دفع الدين المطلوب على الجميع، لأنه كما سبق وقلت إنه كان يتحتَّم على الجميع أن يموتوا، فلهذا السبب
الخاص بالذات حقا، جاء
بيننا!

ومن
أجل هذا الغرض نجده بعد أن أكمل كل براهين لاهوته بواسطة الأعمال التي عملها، قدَّم
نفسه كذبيحة عن الجميع مسلِّماً هيكله للموت عوضاً عن الجميع وذلك:

§ من أجل أن يخلِّص الناس ويجعلهم أحراراً من تعدياتهم وذنوبهم
القديمة؛

§ ليعلن أنه قوي، وأقوى من الموت ذاته مُظهراً جسده علناً وهو في
حالة عدم الفساد كباكورة لقيامة الجميع.

ولكن
أود أن لا تستغربوا أني أكرِّر نفس الكلام بخصوص نفس الموضوع (الخلاص)، إذ أننا
بصدد الكلام عن مشورة الله وتدبيره، لذلك فنحن نشرح ذات المعنى على أكثر من
وجه، خوفاً من أن نفقد شيئاً (من أوجه التقليد المتعددة في هذا الموضوع). ولئلاَّ
نُطالب بتهمة التسبب في عدم معالجة الموضوع بالقدر الكافي.
لأنه أفضل لنا أن
نقع تحت الملامة من أجل التكرار من أن نترك شيئاً كان ينبغي أن نسجِّله! فالجسد
(الذي اتخذه الرب) لأنه يشترك مع الجميع في نفس الطبيعة إذ هو جسد بشري
مع كونه مأخوذاً من عذراء فقط بمعجزة فائقة لا تُجارى ولكن لأنه
جسد قابل للموت، كان ينبغي أن يموت أيضاً وفق نظرائه. ولكن بمقتضى حقيقة اتحاده
“بالكلمة” صار غير خاضع للفساد بحسب طبيعته.

وهكذا
حدث أن اجتمع فيه معجزتان معاً، فالموت الذي على الجميع تمَّ وتحقَّق في جسد الرب
ثم أن الموت والفساد انغلبا وزالا معاً بواسطة “الكلمة” المتحد بالجسد!

لأنه كانت هناك حاجة إلى الموت، وكان الموت في حاجة إلى مَنْ
يعانيه عن الجميع لكي ما يسدِّد الدين القائم على الجميع!!

وبما
أن “الكلمة” كما قلت سابقاً ليس في مقدوره أن
يموت، لأن “الكلمة” غير قابل للموت، لذلك أخذ جسداً لنفسه له قدرة أن يموت حتى
يستطيع أن يقدِّمه كخاصته عوضاً عن الجميع، وإذ تألَّم من خلال اتحاده به (بالجسد)
عوضاً عن الجميع استطاع أن يبيد ذاك الذي له سلطان الموت أي الشيطان
لكي يخلِّص أُولئك الذين بسبب الخوف من الموت كانوا كل أيام حياتهم تحت العبودية.]([5])

والآن
يكفي للقارئ أن يعود مرَّة أخرى ليقرأ هذه الصفحة الرائعة عن لاهوت الخلاص
لأثناسيوس، ليكتشف كيف استطاع هذا العملاق أن يجمع بالفعل كل أوجد التقليد عن
الخلاص كما تسلَّمته الكنيسة، كما رقمناها تحت الحروف (أ، ب، ج، د، ه)، ثم عاد
وأكد بتكرار جديد بديع للغاية ما جاء سابقاً تحت حرف (ه) مشيراً بذلك إشارة بليغة
إلى تفضيله أخذ الخلاص في معنى تسديد دين عقوبة الموت!

ولكي يتضح لدى القارئ أهمية فكرة تسديد الدين في مفهوم
الخلاص عند أثناسيوس نقرأ له مرَّة أخرى بتوضيح آخر في مقالته الثانية في الدفاع
ضد الأريوسية الآتي:

[لأننا لن نسمع مرة أخرى: «اليوم الذي تأكل منها موتاً
تموت»
(الحكم) بل نسمع: «حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً» (تبرئة).

من أجل هذا فإن “كلمة الله” الكامل وضع
على نفسه جسد البشرية غير الكامل، وذلك من أجل تكميل الأعمال، حتى يدفع الدين الذي
علينا عوضاً عنا حتى يستطيع أن يكمِّل بنفسه ما كان ناقصاً أو مفقوداً من الإنسان.

وأمَّا الإنسان فكان فاقداً عدم الموت وأضاع طريق الفردوس
…]
([6])

وبالإضافة إلى وجهات الخلاص المتعدِّدة هذه لم يغفل
أثناسيوس أيضاً نموذج الخلاص بالتقدمة، ثم بالذبيحة الكهنوتية التي أكملها المسيح
في نفسه كفَّارة من أجل الجميع أو عوض الجميع، وهي نظرة العهد القديم العملية
والواقعية لتصوير مفهوم الخطية وفعلها القاتل للنفس، والتي لا رجاء من رفع تأثيرها
وعقوبتها إلاَّ
بالفداء. وقد أفاض في
شرحها كالآتي:

1 التقدمة prosfor£ الكهنوتية
كفعل خلاص:

[وحينما
صارت مشيئة الآب السمائي أن تُدفع الفدية الكفارة عن
الجميع، لكي تُمنح النعمة للجميع، لذلك أخذ الكلمة بالحق … جسداً ترابياً …
لكي كرئيس كهنة يستطيع أن يقدِّم نفسه (بجسده) إلى الآب ويطهِّرنا من الخطايا
جميعاً في دمه.]([7])

[لأن
الكلمة إذ رأى أنه ما من وسيلة لرفع الفساد عن الإنسان إلاَّ بالموت كحالة
ضرورية، بينما في نفس الوقت كان مستحيلاً على الكلمة أن يجوز الموت، لأنه غير قابل
للموت باعتباره ابن الله، من أجل هذا اتخذ له جسداً قابلاً للموت، حتى بهذا الجسد
الذي اشترك فيه الكلمة الذي هو فوق الجميع يستطيع أن يكون كفواً للموت عن
الجميع،
وفي نفس الوقت يرى أنه بسبب “الكلمة” الذي أتى واتحد به صار الجسد
غير قابل للفساد،
ومن ذلك فصاعداً أمكن أن يرفع الفساد عن الجميع بنعمة
القيامة.

وهكذا فإن الكلمة بتقديم جسده الذي أخذه
كتقدمة
prosfor£ خالية من أي دنس، رفع وأباد في الحال (حكم) الموت عن كل نظرائه
بتقديم المعادل والبديل!
(مفهوم واقعي بديع للفداء).

لأن “كلمة الله” كونه أعلى من الجميع،
صار من الطبيعي أن يكون موته بتقديم هيكله الخصوصي كوسيلة جسدية من أجل حياة
الجميع كافياً لتسديد الدين عن الجميع
(مفهوم
بديع عن الخلاص بتسديد الدين).

وبذلك فإن ابن الله غير القابل للفساد، لما اشترك مع
الجميع بذات الطبيعة البشرية، ألبس
الجميع عدم الفساد عينه
بوعد القيامة!
(مفهوم بديع عن معنى الخلاص بالخروج من دائرة الفساد).

لذلك فإن الفساد الحقيقي (الهلاك) القائم في الموت لم يعد
له أساس أو علة للوجود ضد الإنسان، بسبب “الكلمة” الذي بجسده الواحد جاء
وسكن بيننا … لأن جنس البشر كان سيسير إلى العدم لو لم يأتِ الرب مخلِّص الجميع
ابن الله
ويحل بيننا ويواجه الموت ويضع النهاية له. (مفهوم بديع للخلاص كغلبة
الموت
).]
([8])

2 الذبيحة qعsia كفعل خلاص([9]):

وهي
تساوي فعل التقدمة السابق مضافاً إليه عنصر الألم حتى الموت!

[فالعالم
كان في ما سبق مُداناً، وكان تحت القضاء والدينونة من قِبَل الناموس، وأمَّا
الآن فقد وضع “الكلمة” على نفسه عقاب الدينونة هذه، وإذ تألَّم في الجسد
من
أجل الجميع منح الخلاص للجميع.]([10])

[وبالأكثر
جدًّا الإله “الكلمة” الذي للآب الكلي الصلاح لا يمكن أن يهمل الجنس البشري، عمل
يديه، ليسير نحو الهلاك والفساد، ولكنه لما محا الموت بواسطة تقديم جسده الخاص
هكذا، أصلح إهمال الإنسان بتعليمه. فأعاد كل ما كان للإنسان بقوته الخاصة.

وهذا
كله يتأكَّد لنا بواسطة كلمات بولس الرسول: «لأن محبة المسيح تحصرنا، إذ نحسب هذا
أنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذاً ماتوا، وهو مات لأجل الجميع
كي يعيش الأحياء في ما بعد، لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام
» (2كو 14:
5و15). كما يقول أيضاً: “ولكن الذي وُضع أقل (بسبب التجسُّد) عن الملائكة قليلاً
(زمن)، يسوع، نراه مكلَّلاً بالمجد والكرامة من أجل “ألم الموت” لكي “يذوق”
بنعمة الله الموت لأجل كل واحد.
” (انظر: عب 9: 2)

ولكن بولس الرسول يعود ويوضِّح السبب الذي من أجله كان يلزم
أن لا يتجسَّد أحد آخر سوى الإله الكلمة نفسه هكذا: “لأنه كان يليق به، ذلك
الذي الكل به كان ومن
أجله كان
الكل،
أن يأتي بأبناء كثيرين إلى المجد، أن
يكمِّل رئيس خلاصهم بالآلام.
” (انظر:
عب 10: 2)

وبهذه
الكلمات كان بولس الرسول يعني أنه كان لا يخص أحداً آخر قط أن يستعيد الإنسان مرَّة أخرى من حالة الفساد الذي حدث، إلاَّ
“كلمة الله” الذي صنع الإنسان منذ البدء!

وأنه
لكي تقدَّم ذبيحة عن الأجساد، التي هي مثل جسده، لزم أن “الكلمة” نفسه يتخذ
جسداً أيضاً، وهذا أيضاً يشير إليه بولس الرسول هكذا: “لأنه كما أن الأولاد
متشاركون في اللحم والدم، فإنه هو نفسه أيضاً اشترك مثلهم في نفس الشيء، لكي يبيد
بالموت ذلك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، حتى يتسنَّى له أن يخلِّص أُولئك الذين
بسبب الخوف من الموت كانوا كل أيام حياتهم تحت العبودية.” (انظر: عب 2: 14و15)

لأنه
بذبيحة جسده الخاص صنع أمرين معاً: الأول: وضع النهاية للناموس الذي كان ضدًّا
لنا؛ وثانياً: جعل لنا بداية جديدة للحياة بالرجاء في القيامة التي أعطاها لنا.

لأنه
من حيث أن الموت ساد على كل الناس بواسطة إنسان، هكذا حدث العكس، أي كلمة الله، إذ
قد صار إنساناً حصل على إبادة الموت وقيامة الحياة، كما قال بولس الإنسان الحامل
للمسيح: «فإنه إذ الموت بإنسان بإنسانٍ أيضاً قيامة الأموات.» (1كو 21: 15)

«لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيصير الجميع
أحياءً.» (1كو 22: 15)


وهذا هو السبب الأول الذي من أجله صار المخلِّص إنساناً.]([11])

ثم
من هذه الاتجاهات التي ركَّز عليها القديس أثناسيوس، نستطيع أن نلخِّص نقط
الارتكاز الأساسية في هذه الكلمات: الموت والحياة، الفساد وعدم الفساد.

ولكن
هناك دقائق هامة جدًّا في عرض أثناسيوس لأفكاره عن الخلاص تستلزم الفهم والتدقيق،
وسنعرض لها باختصار:

حالة الإنسان الأُولى وما آلت إليه وما أعوزها

(في إطار معنى الخلاص)

يؤكِّد
أثناسيوس أن مجمل حالة الإنسان الأُولى (أي خلقة آدم) لم تكن بحسب عناصر الطبيعة (
Nature) فقط، لأن الطبيعة المجرَّدة قابلة للفساد fqزra وبالتالي
للزوال، لذلك وهب الله “الكلمة” للإنسان لكي
تكون خلقته على صورة الله غير زائلة أي “غير فاسدة”
(وهذا ينطبق تماماً وبالحرف الواحد على التقليد الليتورجي الوارد في قداس القديس
باسيليوس القبطي، الذي يبدأ بقوله:
[يا الله العظيم الأبدي الذي جَبَلَ
الإنسان على غير فساد.
(ونصها اليوناني في القداس القبطي الأصيل: الذي خلق
الإنسان على الخلود
).]

وهنا
يفترق أثناسيوس عن اللاهوت المعاصر الآن (وخاصة اللاهوت الكاثوليكي) الذي يقول بأن
الإنسان بالخلقة الأُولى وُهب كاستثناء عطية فائقة
لطبيعته يمكن أن يفقدها فيعود إلى طبيعته (الترابية) الزائلة.

أمَّا
أثناسيوس فيقول إن خلقة الإنسان الأُولى كانت على صورة الله منذ الخلق أي بموهبة
“الكلمة”. لذلك فالإنسان يستحيل أن يفقد فعل وصورة “الكلمة” لأنها من
صميم خلقته، ولا يمكن أن تفارقه فيصير الإنسان إلى زوال، إنما يمكن فقط ان تضعف
أو تتلف ولكن لا يمكن أن تُفقد بالكلية!
([12])
أي صورة الله لا تمحى مطلقاً فيتحوَّل الإنسان إلى الزوال
حتى من أشر الناس، ولكنها تتشوَّه (بمعنى أن يفقد الإنسان المعرفة ذات البصيرة
النيِّرة التي يعرف بها الحق من الباطل إثر خطية معرفة الخير والشر التي أكلها
فترسَّبت في عقله وليس في بطنه)، وبالتالي يفقد الصفات التي هي أصلاً إلهية ووُهبت
له كنعمة مجَّانية، مثل الحب الإلهي والتواضع والوداعة والطاعة والسلام والفرح
وطول الأناة والشكر والتسبيح الدائم إلخ. ولكن يستحيل أن يفقد صورة الله وأهم
مميزاتها الجوهرية الخلود([13]).

وفي
هذا يقول أثناسيوس:

[إن
هذا يشبه صورة لإنسان رُسمت على لوحة، ثم حدث أن تشوَّهت بأصباغ خارجية، هنا
يصبح من اللازم حضور صاحب الصورة مرَّة أخرى حتى يتسنَّى تجديد صورة الوجه على ذات
الخشب.
كذلك فإنه بسبب كرامة الصورة يصبح من غير اللائق أن تُلغى اللوحة
الخشبية المرسوم عليها الصورة حتى ولو تشوَّهت بل يكون
من اللائق إعادة تجديد ملامح الصورة عليها.

هكذا، وبنفس المعنى، فإن القدوس ابن الله إذ هو صورة الآب
جاء إلى عالمنا ليجدِّد الإنسان المصنوع على صورته ويوجده
(يعيده إلى
الوجود الإلهي) كواحد قد ضل، ولكن لم يُزل وذلك عن طريق رفع (مغفرة) خطاياه
(الصبغة التي شوَّهت الصورة) كما قال الرب نفسه: «لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب
ويخلِّص ما قد هلك.» (لو 10: 19)

من
أجل هذا قال لليهود أيضاً: «إذا لم يولد الإنسان ثانية (من جديد)» (يو 3:
3و5)، وهو لا يقصد كما ظنوا أنه ميلاد من امرأة ولكن يتكلَّم عن النفس التي
تولد وتُخلق من جديد على شبه صورة الله …

فإذا
كانت معرفة الله قد أُخفيت، فعلى مَنْ تُلقى مسؤولية تعريف العالم بالآب؟
… والإنسان ليس في مقدوره أن يواجه غش وخداع الأرواح الشريرة المضلَّة؟ أو كيف
يتوفَّر للإنسان أن ينتصر على ما هو فوق حدود قدرة نفسه وعقله، في حين أنه لا
يستطيع حتى أن يراهما؟ أو كيف يستطيع الإنسان أن يغيِّر في أمور لا يراها (النفس
والعقل)؟

فإذا
قال قائل إن في الخليقة ما يكفيها للقيام بذلك، ولكن إن كان في الخليقة حقا هذه
القدرة لكان من المستحيل على هذه الشرور العظيمة أن تحدث للإنسان.

لأن
الخليقة بينما كانت بكامل إمكانياتها، إذا بالإنسان يتدهور ويقع في هذه
الأخطاء بالنسبة لله.

فإلى
مَنْ تكون الحاجة؟ أو فمن ذا يكون المنقذ إلاَّ “كلمة الله”
وهو الوحيد الذي يرى النفس والعقل والذي يهب الحركة لكل ما في الخليقة؟ وبواسطتها
يعلن الآب؟

لأنه
هو الذي كان منذ البدء يعلم البشر عن الآب بتدبيره لكل
شيء وبأعمال عنايته، وهو أيضاً الذي يستطيع أن يجدِّد هذا التعليم عينه.


ولكن (وبالرغم من ذلك) فالبشر فقدوا الرؤيا نحو السمائيات والتفتوا نحو الأرضيات،
لذلك وهو راغب في أن يربح الإنسان لنفسه جاء إلينا متغرِّباً كإنسان، آخذاً لنفسه
جسداً كالآخرين ومن الأرضيات، أي بأعمال جسده (إنسانيته) بدأ يعلِّمهم حتى إن ما
كان قد تعذَّر عليهم أن يدركوه من خلال تدبيره وعنايته الفائقة الروحانية وسلطانه
على كل شيء، فإنهم لا يخفقون في إدراكه “ككلمة الله متجسِّداً” من خلال
الأعمال التي قام بها بجسده الحقيقي وبالتالي يدركون الآب أيضاً.]([14])

ومرَّة
أخرى يعود أثناسيوس بعد ذلك بزمان طويل ويؤكِّد ويكرِّر:

[لأنه
بالرغم من أننا مخلوقون على صورة الله ومدعوون معاً كصورة الله لمجده، ولكن ليس
هذا كأنه لنا من ذواتنا أو لحسابنا ولكن لحساب الصورة الحقيقية والمجد الحقيقي
الذي لله الساكن فينا الذي هو “كلمته”
الذي من أجلنا “صار بعد ذلك جسداً” هذا
الذي صار لنا كنعمة امتيازنا
(عن كل الخلائق الأخرى).]([15])

على
أن التصدُّع الذي حدث في صورة الإنسان بالمخالفة لوصية الله، الأمر الذي انتهى
بالإنسان إلى الالتصاق بالأرضيات عِوضاً عن الرؤيا والتأمُّل السمائي
qewr…a tîn qe‹wn([16])، طوَّح
بالإنسان فكرياً نحو فقدان الله الذي هو نفسه عدم الوجود([17])
(في حضرة الله).

ولكن
بحسب الواقع كان هذا الابتعاد عن صورة الله يتم تدريجياً نحو الفساد
fqزra وهذا كان في حقيقته عملية خطيرة تسير بالإنسان نحو فقدان الله
كلية وكان أثرها الواضح والمباشر هو ازدياد الجهل بالله الموازي
لتشوُّه صورة
e‡kwn “الكلمة” أي
اللوغس الساكن في الإنسان
(الذي يعطيه الإدراك والمنطق والبصيرة والرؤيا
الصحيحة) الذي كان الإنسان بواسطته، وبواسطته فقط، يقرأ ويستعلن الله ذاته في
العالم كما في كتاب مفتوح([18]).

ومن
هذا العرض السريع والمختصر، ندرك أن القديس أثناسيوس يركِّز في الأساس
من جهة التغيير إلى أسفل الذي أصاب الإنسان على الناحية المرضية
pathological التي أصابت طبيعة الإنسان، فوق كل الآثار الأخرى الجانبية
المترتِّبة على ذلك مثل النواحي الأخلاقية والسلوكية مؤكِّداً
أن صورة الله في الإنسان لم تفنَ بل تشوَّهت.

وهو
يتبع بذلك الخط الواضح الذي يؤكِّده الإنجيل من أقوال الرب: “فلمَّا سمع يسوع قال
لهم: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى
… لأني لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة.
” (مت 12: 9و13).

كذلك
أوضح أثناسيوس جدًّا أن هناك تصدعاً أصاب الطبيعة البشرية بسبب الخطية، أوردها
موارد الهلاك والفساد، وكان يسير بها نحو فقدان الله نهائياً، وأصبح الحل الوحيد
والحاجة الوحيدة متركِّزة في تغيير جذري تجوزه الطبيعة البشرية، لا يمكن أن يتم
إلاَّ بتجديد التحام العنصر الإلهي أي الصورة الأصلية “الكلمة” في صميم هذه
الطبيعة البشرية، كما كان سابقاً، والذي فقدته البشرية (بالموت) تدريجياً، وصارت
تسير بدونه نحو الحرمان الكلي من الحياة في الله أو الوجود معه([19])
الذي هو الهلاك.

وهو
يوضِّح ذلك أيضاً هكذا:

[إنه
سابقاً لم يكن شيء موجوداً على الإطلاق، فكان المطلوب لخلقة كل شيء هو مجرَّد نطق
ملكي، ثم الإرادة الإلهية لإتمام ذلك.

ولكن بعد أن خلق الإنسان، وأصبح الأمر يحتاج بحسب
الواقع إلى علاج ما هو قائم وموجود وليس ما هو غير موجود؛ دعت الضرورة أن
يظهر الطبيب والمخلِّص في الخليقة الموجودة التي وصلت إلى تلك الحال، لكي يشفي
ما حدث،
لهذا السبب بالذات صار هو إنساناً واستخدم جسده كوسيلة بشرية …

لأن الخلاص لم يكن مطلوباً لأشياء ليس لها وجود، حتى كان
يكفي مجرَّد صدور أمر إلهي به؛ ولكنه (صار) مطلوباً للإنسان، الذي كان موجوداً
بالفعل وكان منحدراً إلى الفساد والهلاك،
لهذا كان من الطبيعي
ومن العدل أن يستخدم “الكلمة” وسيلة بشرية ويعلن نفسه جهاراً.

ثم يلزم أن ندرك أن الفساد الذي دخل الطبيعة البشرية لم يكن
خارج الجسد، بل صار ضارباً فيه، فصار الجسد في حاجة إلى أنه عوض الفساد والموت
تدخل فيه الحياة وتمسك به، حتى كما ملك الموت في الجسد تملك فيه الحياة بالمقابل.

والآن
إذا كان الموت عنصراً خارجاً عن الجسد، لكان من اللائق أن تكون الحياة المطلوبة له
عنصراً يأتيه من الخارج. ولكن إذا كان الموت ربط الجسد وأصابه في الصميم وصار
سائداً عليه وكأنه قد اتحد به، أصبح من الحاجة أن تكون الحياة (الكلمة) مربوطة في
صميم الجسد (التجسُّد) حتى يتسنَّى للجسد وقد لبس الحياة عوض الموت أن يلقي عنه
الفساد ويتخلَّص منه.

بل
وحتى لو فرضنا أن “كلمة الله” قد جاء بدون جسد (أي خارج الجسد) وليس في الجسد،
لكان قادراً أن يهزم الموت تماماً بحسب طبيعة الكلمة، لأن الموت ليس له سلطان البتة على الحياة (مصدر الحياة). ولكن حتى ولو حدث
ذلك لظل الفساد عالقاً بالجسد
البشري!!

من أجل هذا نجد أنه بحكمة لبس الكلمة جسداً حتى إذا ارتبط
الجسد وثيقاً بالحياة لا يعود بعد كمائت يسكن في الموت؛ بل إذ يلبس عدم الموت،
يُعطَى له أن يقوم ثانية في القيامة ويبقى غير مائت.

لأن الجسد بمقتضى أنه لبس الفساد، كان يستحيل عليه أن يقوم
ثانية من الموت، إلاَّ إذا (نفض عنه الفساد) ولبس الحياة.

ولأن الموت لا يمكن بأي حال من الأحوال بمقتضى طبيعته أن
يظهر إلاَّ في جسد، لهذا لبس “كلمة الله” جسداً لكي يواجه الموت بالجسد ويظفر به
ويغلبه. أو كيف للرب على أي حال أن يُثبت أنه الحياة،
إن لم يكن قد أقام ما هو مائت؟
]([20])

 

ثالثاً: موت المسيح على الصليب

عند أثناسيوس في إطار معنى الخلاص

 

كان
همُّ أثناسيوس الذي يحرِّك فكره وقلمه في بداية حياته، أن يثبت للوثنيين حتمية
تجسُّد “كلمة الله” لتكميل خلاص الإنسان. لذلك فالبؤرة التي كانت تجمع كل أفكار
أثناسيوس وتشعُّها لم تكن الصليب، بل التجسُّد. ولكن بطبيعة الحال لم يَغِبْ عن
أثناسيوس ولا إلى لحظة واحدة أن التجسُّد غايته الأُولى هي خلاص الإنسان، هذا الخلاص
الذي يستحيل أن يتم إلاَّ بموت المسيح.

فالإنسان أقحم نفسه في دائرة الموت متورِّطاً في التعدي،
فوقع تحت حكم الموت، ولذلك أصبح تكميل الحكم بالموت على كل إنسان أمراً حتمياً،
وهذا أكمله المسيح في نفسه عن كل إنسان!!
ويلاحظ القارئ هنا ربط
الخطية بالموت والخلاص الذي يقدِّمه أثناسيوس بمنتهى الوضوح والتسلسل اللاهوتي:

[وأرسل
ابنه الخاص، وهذا باتخاذه لنفسه جسداً من خليقته صار ابناً للإنسان. وبينما الكل
ساقط تحت حكم الموت، إلاَّ أنه كونه غير هؤلاء جميعاً، وقد قدَّم للموت جسده
الخاص؛ صار الكل فيه وكأنهم ماتوا جميعاً، وهكذا كملت الكلمة القائلة «لأن الكل
مات في المسيح» (2كو 14: 5)، والكل أصبح فيه أحراراً من الخطية ومبرَّئين من
اللعنة التي أتت على الجسد، يقومون من الموت لابسين عدم الموت في غير فساد ليدوموا
إلى الأبد.

لأن الكلمة لمَّا لبس الجسد صارت كل عضة للحية عديمة الفاعلية،
إذ أوقف مفعولها نهائياً منه، بل وكل شر ناتج من حركة الجسد انقطع تيَّاره في
الحال، ومع هذا وذاك، أبطل مفعول الموت الذي هو رفيق الخطية،
كما قال
الرب نفسه: «رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء» (يو 30: 14)، وأيضاً:
«لأجل هذا أُظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس» (1يو 8: 3). ولمَّا أُبطلت
ونُقضت هذه من الجسد، تحرَّرنا جميعاً بالتالي بسبب قرابتنا واتصالنا بهذا “الجسد”
وصرنا متحدين بالكلمة، خاصة من جهة المستقبل.
]([21])

وهنا
يهمنا جدًّا أن ننبِّه القارئ، أن أثناسيوس وإن كان يركز بشدة على حقيقة الموت
ذاته كعلة الهلاك والفساد، ويصوِّب الخلاص الذي أكمله المسيح على إلغاء وإبادة
الموت؛ إلاَّ أن أثناسيوس لا يغفل إطلاقاً مفهوم الخطية باعتبارها العلة المؤدِّية
للموت.

ونحن
نختلف تماماً مع العالِم اللاهوتي أرشيبلد روبرتسن([22])
في قوله إن أثناسيوس لم يتغلغل إلى المعنى العميق الذي وصل إليه بولس الرسول في
ربط الخطية بالموت بالخلاص في قوله: «لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه، في ما كا
ضعيفاً بالجسد (أي بسبب ضعف الجسد البشري)، فالله إذ أرسل ابنه في
شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا،
نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح.» (رو 3: 8)

لأن
القول السابق لأثناسيوس فيه كل الكفاية لرد هذه التهمة عن أثناسيوس، علماً بأن
أثناسيوس، ابن الثلاث والعشرين سنة، لم يكتب كتابه هذا “تجسُّد الكلمة” ليعظ
المسيحيين ويرشدهم إلى مفهوم الخلاص، بل كتبه إلى الوثنيين ليثبت لهم أهمية
التجسُّد باعتباره وسيلة وأداة للموت لإبادة الموت كعقوبة، حيث تأتي الخطية في هذا
الحوار في الدرجة الثانية بعد التجسُّد من جهة غرض الكاتب.

وأيضاً
نكرِّر ما سبق أن قلناه:

[ولكن
لمَّا كان ضرورياً أيضاً أن يُوفي الدين الذي استحق على الجميع، لأن الجميع
استحقوا الموت (بسبب الخطية)، الأمر الذي من أجله وكسبب جوهري حقيقي
أتى المسيح بيننا، لأجل هذا بعد أن قدَّم براهين كثيرة عن لاهوته بواسطة أعماله
قدَّم “ذبيحة نفسه” أيضاً عن الجميع، وإذ سلَّم هيكله للموت عوضاً عن الجميع،
أولاً لكي يحرِّر البشرية من معصيتهم القديمة، وثانياً
لكي يُظهر أنه أقوى من
الموت وذلك بإظهار أن جسده عديم الفساد، صائراً كباكورة لقيامة الجميع …

وهكذا
أكمل عملين عجيبين بآن واحد: الأول تكميل موت الجميع في جسد الرب، والثاني
قضاؤه على الموت والفساد كلية بسبب اتحاد “الكلمة” بالجسد. لأنه كان لابد من الموت
وكان لابد أن يتمِّم الموت نيابة عن الجميع لكي يوفي الدين المستحق على الجميع.
]([23])

وهكذا
يوضِّح القديس أثناسيوس ويؤسِّس بقوة ومنطق لا يُجارَى كيف كان لابد أن يموت
الإنسان، وكيف أن المسيح كمخلِّص مات عن الجميع ليوفي العقوبة، وإذ وفَّى العقوبة
بموته ألغى الموت ذاته كعقاب أو كعَرَض من أعراض الفساد اللاحق أساساً باللعنة:

[والآن
إذ مات عنَّا “مخلِّص الجميع” فإننا نحن الذين نؤمن بالمسيح لا نموت بعد
بذات العقاب الذي كانوا يموتون به سابقاً باستحقاق حسب وعيد الناموس،
لأن هذا الحكم قد بطل، ولكن إذ بطل الفساد وأُبيد بنعمة القيامة، من أجل ذلك نحن
فقط ننحل بالموت الذي بحسب طبيعة أجسادنا المنحلة بالموت في الميعاد الذي يحدِّده
الله لكل واحد، حتى نصير قادرين أن نفوز بقيامة أفضل.
]([24])

وهنا
أيضاً يلزمنا أن ننتبه إلى وجهة نظر أثناسيوس في تركيزه الشديد على الموت الذي
احتمله بالجسد كوسيلة الخلاص الأُولى والعظمى.

فأثناسيوس
يرى أن الموت الذي جازه المسيح بالجسد استنفذ كل قوة الموت وسلطانه الذي كان
واقعاً ضد الطبيعة البشرية عامة:

[وهكذا
إذ أخذ من أجسادنا جسداً من ذات طبيعتها، ولمَّا كان الجميع تحت عقوبة فساد الموت،
قدَّم جسده للموت عوضاً عن الجميع وقدَّمه (ذبيحة) للآب، وبهذا قد أبطل أولاً
الناموس الذي كان يقضي بهلاك الإنسان (المتعدِّي)، وذلك بأن اعتبر أن الجميع ماتوا
بموت المسيح لأن سلطان الموت قد أُكمل (استنفذ تماماً) في جسد الرب:

plhrwqe…shj
tءj ™xous…aj ™n tù kuriakù sèmati.

فلم
يعد له أساس يمسك فيه داخلنا، نحن الذين صرنا نظراءه، لأنه ناب عنَّا. وثانياً ولأن
البشرية انحدرت إلى الفساد، استطاع أن يعود بها نحو عدم الفساد ويحييها من الموت
بامتلاك جسده وبنعمة القيامة التي فيه ليبطل الموت
منهما.]([25])

وبهذا
التصوير الذي بلغ غاية الدقة والإبداع، ينتهي أثناسيوس من تأكيد ملاشاة الفساد
والموت من طبيعة الإنسان كعدو ترك له العنان مدى الدهر، ليجري وراء الإنسان ويجري
بلا رادع حتى يصطدم أخيراً بقوة عظمى تبتلعه وتوقف استمراره!

والخلاص
الذي حازه الإنسان من الموت والفساد هو في الحقيقة انتصار ساحق تمَّمه المسيح لنا
بثمن باهظ وهو قبوله القصاص واللعنة والموت في جسده، وهو القدوس الرقيق اللطيف
الذي بلا عيب ولا غش ولا خطيئة قط، حيث كانت القيامة إعلاناً نهائياً عن هذا
الانتصار.

لذلك
فموت المسيح يعتبره أثناسيوس أصل ورأس ومبدأ الحياة لنا =
¢rc¾ zw»j:

[لأنه
بذبيحة جسده وضع حدًّا لحكم (الموت) الذي كان قائماً ضدًّا لنا ووضع لنا مبدأ
الحياة =
¢rc¾ zw»j برجاء القيامة من الأموات الذي أعطاه لنا.

لأنه
إن كان بإنسان (آدم) قد ساد الموت على البشر: لهذا السبب بتأنُّس كلمة الله أبطل
الموت وتمَّت قيامة الحياة … «فإنه إذ الموت بإنسان، بإنسان أيضاً قيامة
الأموات. لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيُحيا الجميع» (1كو 15:
21و22). ونحن الآن لا نموت بعد تحت الدينونة بل كأُناس يقومون من الموت ننتظر
القيامة العامة للجميع التي سيعيِّنها في وقتها الله الذي تمَّمها والذي وهبنا
إيَّاها.]([26])

ويبلور
القديس أثناسيوس العلاقة بين القيامة وبين نهاية الفساد الذي ألمَّ بالإنسان هكذا:

[ويصبحون
عديمي الفساد بفضل القيامة =
¢fq£rtoi
di¦ tءj ¢nast£sewj
.]([27])

أمَّا دور الصليب كسلاح الانتصار على الموت فيقدِّمه لنا
القديس أثناسيوس بغاية الوضوح هكذا:

[فإن
كان تلاميذ الرب يحتقرون الموت ويتحدُّونه ولا يعودون يخشونه، بل بعلامة الصليب
وبالإيمان بالمسيح يدوسونه كميت …
فهذا برهان غير قليل بل هو بيِّنة واضحة
على أن الموت قد أُبيد وأن بالصليب صارت النصرة عليه، وبالصليب لم يعد
للموت سلطان بل قد مات موتاً حقيقياً.

لأن
كل الذين يؤمنون بالمسيح يدوسونه كأنه لا شيء؛ بل ويفضِّلون أن يموتوا عن أن
ينكروا إيمانهم بالمسيح، لأنهم يعلمون يقيناً أنهم عندما يموتون لا يهلكون بل
يبدأون الحياة فعلاً، ويصبحون عديمي الفساد بفضل القيامة …

كذلك
فالموت قد قهره المخلِّص وشهَّر به على الصليب وأوثق يديه ورجليه!!]([28])

[فإن
كانت الشياطين اعترفت به، وأعماله شهدت له، فلا ينبغي أن يتصلَّف أحد ضد الحق
أن المخلِّص أقام جسده،
الذي في الأزمنة الأخيرة اتخذ جسداً لخلاص الجميع،
وعرَّف العالم عن الآب، وأبطل الموت ووهب الكل عدم الفساد بموعد القيامة إذ
أقام جسده،
كباكورة لهذا (لعدم الفساد)، وأظهره (أي أظهر جسده بعد
القيامة) كعلامة الظفر على الموت وفساده بواسطة الصليب.]([29])

 

رابعاً: نتيجة غلبة الموت والفساد التي أكملها المسيح
لحسابنا

في إطار معنى الخلاص

اشتراك الإنسان في الطبيعة الإلهية، اتحاد الإنسان بالله،

تأليه الإنسان qeopoihqîmen, qeopoi»sij

 

يجدر
بنا هنا أن نشير إلى أن الكنيسة منذ لحظة انطلاقها بأمر الرب العلني وبقوة دفع
الروح القدس، وبسلطان إلهي ظهر على لسان بطرس الرسول أنه قادر أن يميت ويحيي بكلمة
– كما حدث في حالة حنانيا وسفيرة هكذا وضحت الكنيسة للعالم أنها
إلهية منذ أول لحظة، وهكذا استمرت بالتلاميذ ثم الأنبياء ثم الأساقفة والقديسين
تنطق باستعلان إلهي في ما يخص رسالة الخلاص في الإنجيل، وكل نطق إلهي في ما يخص
عمل المسيح بالإنجيل حُفظ فيها كقضية مسلَّم بها أنها نطق إلهي. وكان هو التقليد: «وإذ
كانوا يجتازون في المدن كانوا يسلِّمونهم القضايا =
dزgma التي حكم بها الرسل والكهنة والشيوخ الذين في أُورشليم ليحفظوها» (أع 4:
16). هذه التي على أساسها كان يُبنى الشرح والتعليم، لا كأنه تعليم اجتهادي، بل
كان يُنظر إليه بكل هيبة ووقار أنه تعليم الرب، أو بصورة مختصرة: “كلمة” الله
ذاتها.

لهذا
فإن التعليم بحسب التقليد الرسولي في الكنيسة في ما يخص الإنجيل والخلاص والكلمة،
كان هو المرجع النهائي الثابت غير القابل للنقاش، والمُلزم للمؤمنين، ليس من جهة
التصديق العقلي، بل من جهة الحياة المنبثقة منه. وكان هذا هو مفهوم الإيمان
De fide قبل أن يصبح له قانون ومجامع.

وهذا
يوضِّح لنا أن المسيحية إيمان بالتسليم الحي المنحدر من “الكلمة” الحي، عَبْر
الرسل، أو أن الإيمان هو هو الكلمة المحيي
المذخر بالتقليد وبالإنجيل في الكنيسة،
وليست المسيحية موضوع
نقاش
لاهوتي أو صراع فكري استقر على صورة ما.

فالإيمان
كما تقدِّمه الكنيسة منذ البدء هو تعليم محيي، هو “الكلمة” نفسه “هو الحق
الكلي”،
ولا يمكن أن يؤخذ منه جزءٌ ويُترك الآخر، أو أن يكون قابلاً للتغيير
والتعديل، وقد وضعته الكنيسة من خلال مجمع نيقية في حدود قاطعة مانعة كما يسميها
أثناسيوس:

 

ذrisqڑnta, or, سroi: definitions([30])

وأثناسيوس
يوضِّح أيضاً هذه الحقيقة الهامة جدًّا بقوله:

[إن كلمة الرب التي تُسلِّمت إلينا من خلال المجمع المسكوني
في نيقية هي باقية إلى
الأبد.]([31])

وهكذا
فإن أثناسيوس حينما يركِّز بشدة على الإيمان بتألُّه الإنسان، فهو كان يتمسَّك
بقوة بتقليد الكنيسة القديم من جهة النتيجة المباشرة التي آلت إلى الإنسان بسبب
تجسُّد ابن الله وتأنُّسه ثم موته على الصليب الذي به تبرّر الإنسان، والقيامة
التي نال بها الإنسان الحياة الأبدية، وهكذا نال الإنسان نصيباً في الطبيعة
الإلهية كنتيجة حتمية.

وهنا
يُبرز أثناسيوس الاصطلاح التقليدي الذي أصبح ميراث اللاهوت الشرقي كله([32]):

“تألُّه الإنسان”، وهو التعبير المقابل للتجسُّد؛ “فالتأنُّس” يقابله “التألُّه” الذي يعني
في اللاهوت

الاتحاد بالله، الذي ابتدأ الإعلان الإلهي عنه
بإلهام وبتحديد قاطع من بطرس الرسول في رسالته الثانية 4: 1 بتعبير الاشتراك في
الطبيعة الإلهية،
ثم التزم به الآباء إيرينيئوس ومن بعده، وامتد عبر هيبوليتس

وأُوريجانوس وآباء آسيا الصغرى إلى
أثناسيوس الذي بلغ به إلى القمة من جهة البرهان والشرح والتوضيح.

وهنا
ينقسم مفهوم “الاتحاد بالله” أي “التألُّه” في اللاهوت الشرقي إلى اتجاهين:

الأول:

أوريجاني،
حيث يعتبر أوريجانوس أن أعلى ما يهدف إليه الإنسان هو أن يعود إلى مصدره الأول
بحالته الأُولى التي خُلق عليها.

الثاني:

عند
إيرينيئوس وآباء آسيا الصغرى، وهو يختلف تماماً عن أوريجانوس. فإن الإنسان
عندهم خُلق لغاية لم يستطع أن يحقِّقها إطلاقاً، وأن فترة الاضطراب العظمى التي
وقع فيها الإنسان بسبب دخول عنصر الخطية عليه قد أصلحه وشفاه التجسُّد. والتجسُّد
هو الذي حمل الإنسان إلى رأس آخر (المسيح) جديد، غير رأسه الأول آدم الذي انحدر
منه، وبذلك فإن التجسُّد حمل الإنسان إلى غاية جديدة أخرى كان يستحيل عليه أن
يبلغها لو بقي تحت رئاسته الأُولى القديمة.

وباختصار
نستطيع أن نضع هاتين النظريتين هكذا:

1
عند أوريجانوس كان التجسُّد لعودة الإنسان “إلى” حالته الأُولى.

2
عند إيرينيئوس وأثناسيوس كان التجسُّد لتقدُّم الإنسان وامتداده
فوق حالته الأُولى.

وهذا
التركيز على هذه الرؤية اللاهوتية بالنسبة لأثناسيوس كان مدخلاً ضمن أسلحته
الماهرة لتحطيم الفلسفة العقلانية التي للأريوسيين، التي تؤكِّد على أن اللاهوت
عند أثناسيوس بالذات لا ينحصر في دائرة المعرفة
Gnosticism، لكنه يخترقها سريعاً ليبلغ الغاية الحقيقية من الخلقة ومن
التجسُّد التي تفوق قامة المعرفة البشرية، بل وكل ما للإنسان، وهي الاتحاد بالله،
التي يسمِّيها اللاهوتيون الأوائل ذوو الجراءة في الإيمان والتعبير “بالتألُّه”،
التي يُقصد منها بحسب التفسير عامة “الاتحاد بالله” أو أحياناً وبصورة
خافتة “التبني” لله، أو بحسب تعبير بولس الرسول “ورثة مع المسيح في الله”؛
والتألُّه هو المقابل المتحصِّل من التأنُّس. فكما أن المسيح أخذ بالاتحاد
بالجسد البشري كل ما للإنسان (ما عدا الخطية طبعاً ولو أنه حمل عقوبتها)، كذلك
فالاتحاد بالمسيح يعطينا كل ما لله أو بحسب تعبير بولس الرسول نأخذ “كل ملء الله”،
كما تقول التسبحة السنوية المقدَّسة: [هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له. فلنسبِّحه
ونمجِّده ونُزِدْه علواً].

والمسألة
في أمر “التألُّه”، أي الاتحاد بالله، ليست هينة، فهي تختص بالإيمان كله وبمنهج
العبادة والصلاة والاتصال بالله في الصميم. فلكي نعرف الله لا بد أن نقترب منه،
ويستحيل الاقتراب من الله إلاَّ عن طريق “الكلمة” والروح، وهذا هو
الاتصال الذي يؤدِّي إلى كشف طرق الحكمة الإلهية والذي عليه يبني
الإنسان فكره وسلوكه، وهو “الاتحاد بالله” المعتبر هبة الكمال التي أُهِّلت لها
طبيعة الإنسان بواسطة “الكلمة”،
لما قَبِل أن يتحد بجسد إنسان أي يتأنَّس، فتأنُّس
الله أعطى فرصة لتألُّه الإنسان،
مع تحفظات في المفهوم اللاهوتي، حيث أن
التألُّه لا يُخرج الإنسان عن إنسانيته ولا يستنفذ كل ما لله، حيث ما يتحصَّل عليه
الإنسان من الاتحاد بالله لا يوصِّله إلاَّ إلى كمال صورة الله الذي خلقه
عليها ليبلغها في النهاية، والتي لا يمكن أن تتم إلاَّ بالاشتراك في الحياة

الأبدية.

وبحسب
أثناسيوس فإن آدم لم يحقِّق غاية رسالته وأخفق في الاحتفاظ بمعرفة الله بسبب
استخدامه لحريته، ووقع فريسة لقوة أخرى خارجية، وفقد قوة “الكلمة” لمَّا انحاز
لمعرفة غير معرفة الله، وبالتالي فقد كل أمل في تحقيق الاتحاد بالله وهي غاية
خلقته. من أجل هذا تجسَّد “الكلمة” لكي يرفع الإنسان مرَّة أخرى إلى معرفة الله
الحقة، وبالتالي استرد له ما كان له من قدرة على الاتحاد بالله “التألُّه” ولكن
بنعمة عظمى، لأن تجسُّد الكلمة وبقاءه في جسد إنسان الذي يجلس به المسيح الآن عن
يمين العظمة في الأعالي أعطى ضماناً للإنسان لتكميل الاتحاد بالله والثبوت فيه
بالفداء،
وإنما على طول المدى، لأنه يستحيل بلوغ كمال نعمة الاتحاد بالله قبل
أن يخلع الإنسان جسد الموت الفاسد ويلبس عدم الموت وعدم الفساد. «أيها
الأحباء، الآن نحن أولاد الله ولم يُظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنه إذا أُظهِر
(المسيح) نكون مثله لأننا سنراه كما “هو”.» (1يو 2: 3)

على أن كل ما أخذه كلمة الله من الإنسان بالتجسُّد قدَّمة
للإنسان وجعله قابلاً للاتحاد بالله (التألُّه) جسداً ونفساً وعقلاً وروحاً، أي كل
طبيعته!! كذلك فإن كل ما استرده المسيح لنا
بصفة عامة
وليست فردية
أصبح غير قابل للضياع
أو الفقدان الناتج من ضعف طبيعتنا، فالمسيح لا يمكن أن يفقد ما اكتسبه لنا بسبب
أخطائنا نحن، وهذه هي صفات الخليقة الجديدة التي هو رأسها والضامن لتحقيقها!!

[لأنه بالموت الذي (جازه) وصل عدم الموت إلى الجميع، ولأنه بتأنس
الكلمة عرَّفت العناية الإلهية العامة الإنسان بكل شيء، كما عرف الإنسان واهبها
وبارئها أي كلمة الله نفسه، لأنه صار إنساناً لكي نصير نحن فيه إلهاً، وأظهر
نفسه في جسد لكي يستعلن لنا الآب غير المنظور.]([33])

[فالبشرية
تكمَّلت فيه – أي بلغت كمالها – فهي استردت ما كانت عليه في خلقتها منذ البدء،
ولكن بنعمة أكبر!
لأنه عندما نقوم من الأموات فلن نخاف الموت في ما
بعد، بل سنملك مع المسيح إلى الأبد في السموات.]([34])

وواضح
جدًّا من تعبيرات أثناسيوس من جهة “التألُّه” للطبيعة البشرية أنه يعني
الاتحاد بالله، الأمر الذي أوضحه القديس بطرس الرسول بمعنى: “لتصيروا شركاء
الطبيعة الإلهية”،
وهذا يُرجعه أثناسيوس إلى ما أكمله الكلمة في نفسه
بالتجسُّد ليضمن خلاصنا.

[الكلمة
صار جسداً لكي يقدِّم جسده من أجل الجميع، ولكي إذا ما نحن اشتركنا في روحه القدوس
نصير آلهة (شركاء في الطبيعة الإلهية).]([35])

[إنه
لم يكن إنساناً وصار إلهاً بعد ذلك، بل هو إله صار إنساناً لكي يصيِّرنا نحن آلهة
(فيه) (شركاء في الطبيعة الإلهية).]([36])

[هذه
هي النعمة التي صارت إلينا والارتفاع الذي حدث لنا، لأنه لمَّا صار إنساناً صار
ابن الله يُعبد، فصرنا نحن معه جسداً واحداً، ولكن لم تفزع منَّا القوات السمائية
حينما أُدخلنا إلى مجالاتهم.]([37])

[ومن
أجل صِلاتنا بجسده صرنا نحن أيضاً هيكلاً لله، وبالتالي صرنا أبناء الله، حتى أن
الرب المعبود محسوب أنه داخلنا أيضاً، والذين ينظروننا يقولون: «إن الله فيهم
بالحقيقة».]([38])

[وبالرغم
من أنه لا يوجد إلاَّ ابن واحد لله بالطبيعة، حقيقي ووحيد، إلاَّ أننا نحن أيضاً
صرنا أبناءً … فبالرغم من أننا بشر من الأرض، إلاَّ أننا نُدعى الآن آلهة …
لأن في هذا كانت مسرَّة الله الذي أعطانا هذه النعمة.]([39])

[ونحن
نُحسب أولاد الله وآلهة، بسبب أن “الكلمة” فينا. فإننا نُحسب أيضاً أننا في الابن
وفي الآب، لأن الروح القدس فينا.]([40])

[نحن
البشر جُعلنا آلهة بالكلمة، بسبب أننا اتحدنا به من خلال جسده.]([41])

[وما
هذا السمو والتقدُّم الذي صار لنا إلاَّ التأليه والنعمة التي وُهبت لنا من
الحكمة.]([42])

[من
أجل ذلك اتخذ جسداً إنسانياً حتى إذا ما جدَّده لنفسه (كخالق) له حينئذ يؤلِّهه
في ذاته =
™n کautù qeopoi»sV وبهذا يُحضرنا جميعاً إلى ملكوت السموات على مثاله. (أي ما صار
له بالجسد جعله لنا أيضاً) لأن الإنسان كان لا يمكن أن يتألَّه (يتحد بالله) إن
كان اتحاده يتم بمخلوق، أو أن يكون ابن الله ليس إلهاً، وكذلك لا يمكن أن يأتي
“إنسان” إلى حضرة الله إذا لم يكن هو كلمته الحقيقية ومن جوهره وقد لبس جسداً.

وكما
أنه كان يستحيل علينا أن نتخلَّص من اللعنة والخطية إن لم يكن الجسد الذي اتخذه
الكلمة هو جسد بشري، إذ يستحيل أن تكون لنا شركة بيننا وبين آخر غريب عنا (عن
طبيعتنا)، كذلك أيضاً فالإنسان يستحيل أن يتألَّه (يتحد بالله) إن لم يكن الكلمة
الذي صار جسداً هو من جوهر الآب. لأن اتحاد الإنسان بالله هو من هذا النوع، حتى
يمكنه أن يوحِّد (يُتحِد) ما هو لطبيعة الإنسان بنفسه الذي هو بطبيعة الله (أو هو
إله بطبيعته)، وهكذا يصير خلاص الإنسان وتألُّهه (أي اتحاده بالله)
مؤكَّداً ومضموناً.
]([43])

كذلك
من الواضح أن أثناسيوس يؤكِّد أن تأليه الإنسان لا يتم خارجاً عن المسيح، كما
يستحيل أن يكون عملاً قائماً بحد ذاته، بل إن تأليه الإنسان يتم “في المسيح”
بالإيمان والأسرار وخارجاً عن المسيح يستحيل أن يتم أي اتحاد أو حتى
اقتراب من الله!!
لأن الاتحاد بالله يستلزم أولاً تخلُّص الإنسان من كل
أخطائه، وهذا أكمله المسيح بموته على الصليب غاسلاً بدمه كل خطايا الإنسان التي
كانت تعوق الاتحاد بالله.

[فإذا
كان الله قد أرسل ابنه مولوداً من امرأة، فهذه الحقيقة لا تخجلنا، بل على النقيض
تعطينا مجداً ونعمة عظمى لأنه صار إنساناً حتى يستطيع أن يؤلهنا (يوحِّدنا
بالله) في ذاته، ووُلد من عذراء حتى يأخذ على نفسه خطأ جنسنا، حتى نصير نحن من
الآن فصاعداً جنساً مختاراً و“شركاء في الطبيعة الإلهية”
كما يقول المغبوط
بطرس (2بط 4: 1).]([44])

ومرة
أخرى يوضِّح أثناسيوس أن هذا الاتحاد بالله يتم عن طريق الروح القدس أيضاً:

[وفضلاً
عن هذا فإننا بالروح القدس نشترك كلنا في الله لأنه يقول: “أما تعلمون أنكم
هيكل الله وروح الله يسكن فيكم. إن كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله لأن هيكل
الله مقدَّس الذي أنتم هو” (1كو 3: 16و17)، ونظراً لأننا دُعينا شركاء المسيح
«أمين هو الله الذي به دعيتم إلى شركة ابنه» (1كو 9: 1) وإن
كنَّا بالاشتراك في الروح القدس نصبح “شركاء الطبيعة الإلهية” فمن الجنون أن نقول
إن الروح القدس له طبيعة مخلوقة أو أنه ليس له طبيعة الله، لأن الذين فيهم الروح
القدس، هؤلاء يصيرون آلهة،
(أي مشتركون في الطبيعة الإلهية) فإن كان الروح
القدس يجعل الناس آلهة،
فلا شك أن طبيعته هي طبيعة إلهية.]

ومن
أقوال أثناسيوس هذه يتضح لنا أن موضوع اتحاد الإنسان بالله “التأليه” هو
حقيقة غير منازَع فيها، بل وبالأكثر فإنه يتخذها أساساً وبرهاناً على أن الروح
القدس نفسه له طبيعة الله، مما يوضِّح أن موضوع اتحاد الإنسان في الله بواسطة
الشركة في المسيح والروح القدس هو حقيقة أساسية في اللاهوت، وتقليد كنسي راسخ منذ
الآباء الأوائل يوستينوس وبوليكاربوس وإغناطيوس وإيرينيئوس وهيبوليتس وترتليان،
الذين اعتبروا الخلاص مستحيلاً وغير مضمون إذا لم يبلغ الإنسان هذا الاتحاد
بالله
بالروح القدس و“الكلمة” والأسرار.

ولئلاَّ
يتوه أحد في معنى “تأليه الإنسان” الذي لا يُفهم منه إلاَّ
انتساب الإنسان لله ولئلاَّ يظن أحد أن “تأليه الإنسان” عمل
يُخرج الإنسان عن إنسانيته أو يغيِّر شيئاً من طبيعته الإنسانية، يعود أثناسيوس
ويوضِّح جدًّا هذا الأمر هكذا:

[إن
الآب بواسطة الابن يؤلِّه ويضيء الجميع …، فالذي به ينال الجميع الألوهة والحياة
كيف يمكن أن يكون هو (الابن) من جوهر مخالف لجوهر الآب؟]([45])

[ولكن
ليس بحسب الطبيعة نكون أبناء الله، بل بسبب الابن الوحيد الذي يكون فينا. وكذلك أيضاً الآب لا يكون أباً لنا بحسب الطبيعة، بل
لأنه أبٌ للكلمة الذي يكون فينا،
الذي به
وفيه نصرخ يا أبا الآب. وهكذا الآب لا يدعو أبناءً له إلاَّ الذي يرى فيهم ابنه

الوحيد.]([46])

[إذن، فالروح هو الذي في الله، ولسنا نحن من أنفسنا نكون في
الله، ولكن كما أننا نصير أبناءً وآلهة بسبب الكلمة الذي يكون فينا، هكذا أيضاً
نصير في الابن وفي الآب، ونصير واحداً معهما بسبب الروح الذي فينا، لأن الروح هو
في الكلمة والكلمة نفسه هو بالحقيقة في الآب.]([47])

[وإذ
كان يرغب أن ينهي على الموت الذي ألمَّ بنا، اتخذ لنفسه جسداً من العذراء مريم، حتى
بتقديمه إلى الآب ذبيحة عن الجميع
يستطيع أن يخلِّصنا (من لعنة
الموت) نحن الذين كنا بسبب الخوف من الموت تحت العبودية …

من
أجل هذا صار الكلمة جسداً لكي يقدِّم جسده عن الجميع، ولكي إذا اشتركنا في روحه
“نتألَّه”،
وهي العطية التي كان يستحيل علينا الحصول عليها إذا لم يكن قد
لبس هو بنفسه جسدنا المخلوق،
لأنه من ذلك أخذنا اسمنا “كرجال الله” و“إنسان
المسيح”.

ولكن كما أنه بأخذنا الروح القدس لا نفقد طبيعتنا الخاصة
(الإنسانية)،
هكذا الرب لمَّا صار إنساناً من أجلنا ولبس جسداً لم
يتغيَّر عن لاهوته، لأنه لم ينقص شيئاً عندما تسربل بالجسد، بل بالحري ألَّهه
وجعله غير مائت.]([48])

وهنا يقول القديس مقاريوس الكبير في عظته 49 في هذا الموضوع
مفرِّقاً بين النفس البشرية والله هكذا:

[هو
الله وهي ليست إلهاً، هو الرب وهي صنعة يديه، هو الخالق وهي المخلوقة، هو الصانع
وهي المادة، ولا يوجد شيء مشترك قط بينه وبين طبيعتها.]([49])

ويعود
أثناسيوس يناقش كيف يتم “تأليه الإنسان” أي اتحاده بالله، موضِّحاً أن
بواسطة “جسد المسيح” والاتحاد به يتم تأليه الإنسان، لأن جسد المسيح صار
متألِّهاً بمجرَّد اتحاده بالكلمة:

[وكما
أن المسيح مات ثم ارتفع ممجَّداً كإنسان كذلك فإنه
كإنسان قيل عنه إنه أخذ ما لله (المجد)، حتى تصير عطية أو هبة
هذه النعمة لنا أو تصلنا، لأن “الكلمة” لم يكن ضعيفاً أو قليل الشأن عندما
قَبِلَ المجد لنفسه كأنه يطلب أو يبحث لنفسه عن نعمة، بل إنه بالحري ألَّه
الجسد الذي لبسه. والأكثر من هذا أنه “أعطى” وسلَّم
جسده
المؤلَّه هذا
بنعمة خاصة ومجَّاناً إلى الجنس البشري (الأسرار)

وهذه
هي نعمتنا وارتفاع مجدنا، لأنه بالرغم من أنه صار إنساناً، فابن الله لا يزال
معبوداً؛ وقوات السموات لا تستغرب عندما تراناً جميعاً نحن المعتبرين جسداً
واحداً معه،
داخلين في دائرة مملكتهم.]([50])

[ونحن
إنما نتألَّه (نتحد بالله) ليس باشتراكنا (السرائري) من جسد إنسان ما ولكن
بتناولنا من “جسد” “الكلمة” ذاته!!]([51])

ثم
يعود أثناسيوس ويؤكِّد أنه عندما نأخذ جسد المسيح هذا المعتبر أنه مؤلَّه،
نتخلَّص من ضعفاتنا ونتحرَّر من قيود خطايانا،
وبالتالي فنحن نشترك في صفات وأمجاد اللوغس الكلمة!! ونأخذه:

[لأنه
ليس بحسب آدميتنا بعد نموت، ولكن من الآن فصاعداً كل ضعفاتنا الجسدية التي هي بحسب
أصل جنسنا قد تحوَّلت إلى “اللوغس” الكلمة، فنحن نقوم من التراب واللعنة التي بسبب
الخطية قد رُفعت، بسبب ذلك الذي هو فينا (أي الكلمة المتجسِّد)، والذي صار لعنة من
أجلنا.

وهذا
تمَّ بحكمة، لأنه كما أننا جميعاً من تراب الأرض ونموت في آدم، هكذا إذ تجدَّدنا
ووُلدنا ثانية من فوق من الماء والروح في المسيح، نحيا ونقوم، لأن الجسد
(الإنسان عامة) لم يعد أرضياً بعد بل صار “كلمة”
logwqe…shj tءj s£rkoj بسبب كلمة الله الذي من
أجلنا صار جسداً (إنساناً كاملاً).
]([52])

وأثناسيوس
هنا يقصد جسد البشرية عامة. وحينما يقول إن الجسد صار كلمة، فهذا لا يفيد أن الجسد
البشري تحوَّل عن بشريته أو فقد شيئاً من إنسانيته، ولكنه فقد الموت والفساد
وتحوَّل عن الشر الذي استُعبد له وصار من خاصة الكلمة ومناسباً له ومطابقاً
لصفاته، “لأجلهم أُقدِّس أنا ذاتي” (يو 19: 17)، أو كما تقول التسبحة
السنوية [أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له].

ويستمر
أثناسيوس في شرحه وتعليله لقيمة اتخاذ الكلمة جسداً بشرياً كاملاً ليعمل فيه عمله
الخلاصي العجيب، موضِّحاً أن كل ما “للكلمة” صار للجسد البشري الذي اتخذه
لنفسه، وهذا بالتالي كله انتقل إلينا لمَّا أعطانا جسده.
وبذلك ضمن الله لنا
بواسطة التجسُّد وموت المسيح على الصليب الخلاص الشامل، ليس من الموت فقط، بل
أيضاً من الخطية العاملة بالشهوة!

[لأنه
إن لم تكن أعمال لاهوت “اللوغس” أي أعمال الكلمة بصفته إلهاً لم
تتم من خلال الجسد، فإنه كان يتعذَّر تأليه الإنسان (اتحاده بالله).

كذلك
فإنه لو لم تكن خواص وصفات “الجسد” (البشري) نُسبت “للكلمة”، فإنه كان يستحيل على
الإنسان أن يتخلَّص منها (أي من الصفات المتعارضة مع الحياة الأبدية كالجوع والعطش
والتعب والبكاء التي سنتخلَّص منها جميعاً بالقيامة).

… ولكن الآن لأن الكلمة صار إنساناً وامتلك “كل ما” يخص
الجسد (من موت ولعنة وفساد)، فإن كل هذه لا تستطيع بعد أن تمس الجسد بسبب الكلمة
الذي حل فيه، ولكنها أُبيدت تماماً بواسطته، وهكذا لم يعُد الناس بعد خطاة
وأمواتاً بحسب شهواتهم، ولكن لأنهم قاموا بقوة الكلمة فإنهم سيبقون إلى الأبد غير
مائتين وبلا فساد.
]([53])

وفي
اختصار وروعة يبرز أثناسيوس حتمية بلوغنا الحرية والخلاص من كل فساد الطبيعة
البشرية بالاتحاد بالله، كقضية مرتبطة ارتباطاً جذرياً وبالأساس بالتجسُّد نفسه أي
باتحاد الكلمة بجسد الإنسان هكذا:

[فإذا اعترضتَ على كوني أنا قد تحرَّرت وتخلَّصت من الفساد
الذي هو في طبيعتي، فانظر لأنك لا تستطيع أن تعترض على كلمة الله لأنه أخذ هيأتي
كعبد! لأنه كما أن الرب لمَّا لبس الجسد صار إنساناً، هكذا نحن البشر قد تألَّهنا
(اتحدنا بالله) بالكلمة لأنه أخذنا وضمنا إليه في جسده، وبذلك ورثنا من الآن
فصاعداً الحياة الأبدية.]
([54])

والقديس
أثناسيوس ينبِّه ذهننا أن “التقديس” شيء و“التأليه” شيء آخر والأول
يمهِّد للثاني.

ثم
إن كل ما قيل عن المسيح في ما يخص جسده منذ ميلاده حتى صعوده وجلوسه عن يمين الآب
هو في الحقيقة عملية استرداد رسمية خطَّط لها الآب ليكمِّلها الابن بالجسد لحساب
الإنسان، سواء في نموه في القامة والنعمة، أو طاعته لأبيه وأمه، أو عماده وحلول
الروح القدس عليه، أو غلبته للشيطان على جبل التجربة بالصوم والصلاة، أو إتيان
المعجزات العديدة، أو طلبه المجد من الآب، أو قيامته من الأموات، أو صعوده إلى
السموات، أو جلوسه عن يمين الآب؛ فهذه كلها غنائم الإنسان من تجسُّد الكلمة!!

[ولكي
يفدي البشرية جاء الكلمة وحلَّ بيننا، ولكي يقدِّس ويؤلِّه (يوحِّد بالله)
الإنسان صار الكلمة جسداً.

ومَن ذا الذي بعد ذلك لا يرى أن كل ما قاله الرب بخصوص ما
تقبَّله من الله (النعمة، المجد، الروح القدس، الذهاب إلى الآب)
لمَّا صار جسداً إنما ذكره ليس من أجل نفسه.]([55])

ويعتبر
القديس أثناسيوس أن “تأليه الإنسان”، أي اتحاده بالله، عملية تتم على مستوى الفرد،
وليست عملية صورية تمت لحساب المجموع البشري، فكما يتقدَّس كل إنسان بالروح القدس
ليصير عضواً حيًّا قائماً بذاته في الجسد الكلي، كذلك عملية التأليه أي الاتحاد هي
عملية فردية تتم بالاتحاد بالابن والآب. لذلك يضعها أثناسيوس بصورتها الواضحة في
صيغة الجمع بقوله: نحن أبناءً وآلهة، ولم يقل صرنا ابناً وإلهاً. ولكن من
هذا التقديس الفردي والتأليه أي الاتحاد الفردي بالله تتم الوحدة الكلية الشاملة =
“ليصير الكل إلى واحد”. ويؤكِّد أن “تأليهنا” أي اتحادنا ووحدتنا مع الآب والابن
بواسطة الروح القدس شيء آخر تماماً ويختلف كلية عن اتحاد الآب والابن.

[وليس كما أن الابن في الآب هكذا نصير نحن في الآب، لأن
الابن لا يأخذ مجرَّد شركة في الروح القدس (كما نأخذ نحن) حتى يصير في الآب،
بل ولا
يُقال أصلاً إن الابن يأخذ الروح القدس، بل إنه هو الذي يعطيه، ولا يُقال إن
الروح القدس يوحِّد الكلمة في الآب أصلاً
بل إن الروح القدس يأخذ من الكلمة
«يأخذ مما لي ويخبركم». فالابن في الآب مثل كلمته الخاصة ومثل شعاعه، أمَّا نحن
فبدون الروح القدس نصير مفترقين وغرباء عن الله!! ولكن بشركتنا في الروح القدس
نلتحم باللاهوت، لذلك فوجودنا في الآب ليس هو منَّا بتاتاً
ولكنه من الروح القدس الذي فينا والذي يسكن داخلنا،
الذي باعترافنا الحسن
والحق نحتفظ به فينا، كما يقول يوحنا: «مَن اعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت
فيه وهو في الله» (1يو 15: 4).


إذن، فالروح القدس الذي هو في الله الذي لا نستطيع أن نراه نحن في
أنفسنا وكما أننا نحن “أبناء وآلهة” بسبب الكلمة([56])الذي فينا، لذلك نحن سنصير في الابن وفي الآب، وسنُحسب أننا صرنا واحداً في
الابن وفي الآب، لأن الروح القدس فينا، الذي هو في الكلمة وفي الآب.]
([57])

ثم
يرتفع أثناسيوس بمعنى “التأليه” كحقيقة تكميل عمل الابن في الخليقة ليس بالمفهوم
اللاهوتي الجامد بل على مستوى تكميل كل شيء في الأخلاق والسلوك والحب، فهو غاية
الله من خلقة الإنسان، وغاية الإنسان من عبادته لله؛ وغاية المسيح من كل أعماله أن
يبلغ بالإنسان إلى “الكمال المسيحي” أو التكميل في المسيح لحساب الآب، وهكذا يرتفع
بمعنى تأليه الإنسان (أي اتحاده بالله) إلى مستوى التقدُّم في
السلوك والأخلاق ويصبُّه أخيراً في مفهوم المحبة! وهذا هو شأن أثناسيوس في
كل لاهوته!! وهنا أثناسيوس يشرح بتفصيل صلاة المسيح في يوحنا 17:

[أيها
الاب امنحهم روحك حتى يكونوا هم أيضاً واحداً في الروح ويكونوا كاملين
(يتكمَّلون فيَّ). لأن كمالهم يعلن أن كلمتك قد نزل إليهم وحلَّ بينهم،
وحينما
يراهم العالم كاملين ومملوئين من الله يؤمنون أنك أرسلتني وأنني حالٌّ هنا، لأنه
من أين يأتيهم الكمال إلاَّ كوني أنا هو “كلمتك” الذي لبست جسدهم وصرت إنساناً
فأكملت العمل الذي أعطيتني؟

والعمل
قد أُكمل لأن بني الإنسان قد أُكمل فداؤهم، ولن يبقوا في الموت بعد، بل إذ
تألَّهوا صار يشدهم رباط الحب كلما تطلَّعوا إليَّ.
]([58])

[فإذا
كان الكلمة قد نزل من أجل تقدمنا، فهو لم يأخذ اسم ابن الله كامتياز أو
مكافأة بل إنه هو نفسه قد جعلنا أبناء للآب، وألَّه (وحَّد بالله) الإنسان بأن صار
هو نفسه إنساناً، لذلك فالكلمة لم يكن إنساناً ثم صار إلهاً بل على النقيض فهو
كإله صار أخيراً إنساناً لكي بالحري يؤلِّهنا.
]([59])

[لقد
لبس جسداً مخلوقاً مكمَّلاً … حتى فيه نصير قادرين أن نتجدَّد ونتألَّه.]
([60])

وبهذا
العرض السريع لمفهوم “التألُّه” عند أثناسيوس نرى أنه يقع موقع القلب من اللاهوت
بل ومن مفهوم المسيحية كلها عند قديسنا الكبير، وقد صار أسلوبه المفضَّل والمؤكَّد
دائماً للتعبير عن اتحاد الإنسان عامة بالمسيح.

وهو
لا يقصد قط أن يعتبرنا الآن في وضعنا الحالي في مفهوم حالة “التألُّه”،
ولكن واضح أنه يقصد دائماً أنها “غاية” عمل التجسُّد كلياً.

والعجيب
أن أثناسيوس حينما يتكلَّم عن الفداء فإنه بغاية السرعة يرتفع إلى حقيقة
“التألُّه”، أي الاتحاد بالله، كغاية هامة
جدًّا ينتهي إليها الفداء، حيث يؤكِّد عليها بكل اعتناء وأهمية بكثرة وتكرار.

واتجاه “التألُّه” (الاتحاد بالله) عند أثناسيوس لا ينشأ
أصلاً كأنه حاجة الإنسان الخاطئ بنوع خاص، بل كحاجة الإنسان كمخلوق بنوع عام!
لأن آدم باعتباره مجرَّد مخلوق لم يكن فيه أساس أمين للنعمة لتقيم فيه بدون خطر
الزوال، لأنه حاز نعمة الله كهبة من خارجه وليست من صميم طبيعته الترابية، أي أن
آدم لم يكن متحداً بالنعمة
لذلك فقدها، ولذلك أصبح في التجديد من أهم الأمور
الأساسية أن يتحد الإنسان بالنعمة أي بالروح القدس ليصير للنعمة والقداسة
أساسٌ راسخٌ فيه لا يزول.

[وبالأكثر
جدًّا ينبغي أن ندرك أن السبب المتقن والصالح الذي من أجله صنع هذا (الفداء
بالتجسُّد وليس بمجرد نطق إلهي) أنه إذا كان الله قد أمر أو تكلَّم فقط
وهذا كان في سلطانه لكانت اللعنة قد رُفعت في الحال، ولكانت قدرة
الله قد استُعلنت بسبب هذا الأمر (النافذ المفعول)، ولكن الإنسان كان سيظل مثل
آدم قبل التعدي يحوز النعمة من الخارج ولا يحوزها متحدة بجسده.
]([61])

وهكذا
ينفرد أثناسيوس دون جميع الآباء في التأكيد على أن التجسُّد هو بالدرجة الأُولى
حاجة ملحة كانت تحتاجها الخليقة لضمان الاتحاد بالله (التألُّه) أسبق وأعمق من
مفهوم رفع الخطية، لأن رفع الخطية هو عند أثناسيوس درجة في طريق الاتحاد
بالله وليست غاية بحد ذاتها.

[لأن
الاتحاد المطلوب هو أن “الكلمة” (المتجسِّد) يصنع اتحاداً بين ما هو إنسان بطبيعته
وبين ما هو إله بطبيعته، وهكذا يصبح خلاص
الإنسان وتألُّهه (اتحاده بالله)، ثابتاً
ومؤكَّداً.]([62])

[لأن
طبيعة الأشياء المخلوقة لا يمكن أن تعطي ضماناً أي لا يمكن ضمانها
لأنه حتى الملائكة تعدت وكل البشر خالف، لذلك أصبحت الحاجة إلى الله نفسه
أي كلمة الله لكي يحرِّر الذين وقعوا تحت اللعنة.]([63])

بهذا
يمكن للقارئ أن يفهم فكر أثناسيوس وكيف يركِّز بشدة على التجسُّد وما أكمله
المسيح بالجسد كمدخل للاتحاد بالله كملجأ أخير لا مفر منه للحصول على الخلاص
الأبدي، ليبقى الإنسان ويدوم مع الله في حياة أبدية آمنة.

 

خامساً: التبني، وعقيدة وحدة المؤمنين في جسد المسيح

في إطار معنى الخلاص

 

يتجه
القديس أثناسيوس في توضيح كيفية حصولنا على التبني بغاية الاختصار والدقة، باعتبار
أن عملية التبني لا تعني إطلاقاً دخول شيء جديد على حياتنا من خارجنا وبعيداً عنا،
ولكن بواسطة حصولنا على “الاتحاد” به أي بشخصه هو، باتصال عضوي
كاتصال الرأس بأعضاء الجسم، وليس كمجرَّد علاقة تحكمها المشيئة أو العواطف أو
ارتباط معنوي.

وأهم
ما في منهج أثناسيوس من جهة علاقتنا بالمسيح أنه دائماً أبداً يؤكِّد على حقيقة
الاتحاد الذي يتم بين المسيح وبيننا، وعلى الحياة الإلهية التي نحصل عليها فيه.
ويوضِّح دائماً أن هذا الاتحاد وهذه الحياة هما بآن واحد برهان وثمرة مباشرة
للاهوت المسيح ومساواته للآب، وأيضاً برهان لقيامته من الأموات التي أكملها في جسم
بشريته لحسابنا. فحقيقة لاهوت المسيح وحقيقة اتحادنا به هما الأساس الذي بنى عليه
أثناسيوس حقيقة الخلاص وكل ما يتعلَّق بالخلاص، كالتبني وقبول الحياة الأبدية مع
الله ونوال صفات المسيح والشركة في مجده كميراث في الآب.

وينتهي
من هذا إلى أن بنوَّة البشرية لله بواسطة المسيح صارت أمراً حتمياً بسبب ابن الله،
وهو الابن الوحيد الذي صار إنساناً، أي أن التبني هو ثمرة التجسُّد الإلهي.

التبني
عقيدة أساسية محبوبة للغاية عند أثناسيوس، وهي جزء أساسي في عملية التألُّه، أو
حصيلة وثمرة أساسية للتألُّه أي الاتحاد بالله. فحينما نتحد بالكلمة المتجسِّد
(نتألَّه)، نصير أبناء الله بالتبني. بل إن بمجرَّد اتخاذ الله الكلمة أو كلمة
الله لجسدنا خاصة له ليظهر فيه كإنسان، صرنا في الحال بمقتضى قرابتنا ونسبنا له
أبناءً بالتبعية.

وأثناسيوس
يؤكِّد موضِّحاً أن التجسُّد الإلهي تمَّ لكي يمنح الله للإنسان حالة التبني، على
أساس أنه كان يستحيل على الإنسان الحصول على التبني ليس بسبب الخطية في الأساس
ولكن بسبب أن طبيعته المخلوقة
غير مؤهَّلة للتبني من تلقاء ذاتها.

صحيح
أنه يتحتَّم أن تُرفع الخطية أولاً التي اقتحمت طبيعته
ويبطل فعلها القاتل للنفس، قبل أن يحصل الإنسان على التبني، ولكن إمكانية حصول
الإنسان على التبني كان من المستحيل بلوغها بدون تجسُّد الكلمة.
وهذه الحاجة
الأساسية للتجسُّد الإلهي تُنسب بحسب أثناسيوس إلى
حقيقة أننا مخلوقون عاجزون تماماً بحسب طبيعتنا أن نحصل على بنوَّة الله التي ترفع
الخليقة من حالة العبودية والموت إلى حالة الشركة في الطبيعة الإلهية وبلوغ حرية
البنين، الأمر الذي أسَّسه ابن الله في جسده أولاً لحسابنا.

لذلك
لا يملُّ أثناسيوس مئات المرَّات وهو يكرِّر:

[إن ابن الله صار إنساناً لكي يصير بني البشر أبناءً لله]

[لا
يوجد تبنِّي بدون “الابن الحقيقي” لأن هو نفسه يقول: «ليس أحد يعرف
مَنْ الابن إلاَّ الآب، ولا مَنْ هو الآب إلاَّ الابنُ، ومَنْ أراد الابن أن
يُعلن له»
(لو 22: 10)، وعلى ذلك فإذا كان كل الذين يُدعون أبناءً لله وآلهة
(نالوا الاتحاد بالله) بالنعمة سواء في الأرض أو في
السماء (أرواح تكمَّلت في الإيمان) قد نالوا التبني والتألُّه “في الكلمة”، ولأن
الكلمة هو ابنٌ، فواضح أنه مصدر كل بنوَّة
لأنه ابن قبل الكل، وأنه حقا هو
الابن الوحيد، وأنه إله حق من إله حق.]([64])

ولكي
يوضِّح أثناسيوس أهمية بل خطورة بل حتمية الاتحاد بالله وبلوغ البنوَّة لله كأمر
لا مفر منه، إذا أُريد للإنسان أن يغلب الموت والفساد ويحيا إلى الأبد، وفي نفس
الوقت وبنفس القوة يوضِّح على هذا التوازي حتمية ألوهة الابن؛ يقول:

[إذا
صح أن يكون الابن مخلوقاً لكان قد كُتب على الإنسان البقاء في الموت إلى الأبد كما
كان تحت اللعنة لأنه كان يستحيل عليه أن يتحد بالله. إذ من غير
المعقول أن مخلوقاً يوحِّد آخرين مخلوقين بالله، لأن هذا المخلوق يحتاج هو أولاً
لمن يجعله متحداً بالله، ولتعذَّر على أي فرد من الخليقة أن يوصِّل الخلاص
للخليقة، لأن هذا الفرد هو بذاته يحتاج أولاً لمن يخلِّصه (من ربقة الضعف الذي في
الخليقة).

من
أجل هذا أرسل الله ابنه الخاص الذي أخذ لنفسه جسداً مخلوقاً صائراً ابناً
للإنسان.
والآن لأن كل البشر حُكم عليهم بالموت، بقي هذا الذي هو مُبرَّأ (من
الحكم واللعنة)، الذي قدَّم جسده الخاص للموت عن الجميع؛ لذلك اعتُبر أن الجميع
ماتوا عن طريقه
لأنهم ماتوا فيه، والنطق بالحكم الذي كان ضدنا أكمله
هو. لذلك فنحن فيه نجونا وتحرَّرنا من الخطية
ولعنتها، فأُعطينا القيامة من الموت لنبقى إلى الأبد لابسين عدم الموت وعدم

الفساد!]([65])

ولينتبه
القارئ أن أثناسيوس في كلامه أعلاه يصوِّب سهمه إلى الأريوسيين ليضرب في موقعين
بسهم واحد هو:

§ لكي نخلص ونحيا إلى الأبد يلزم أن يكون المخلِّص إلهاً أزلياً!

وبصورة
أخرى:

§ لكي نكون أبناءً لله يلزم أن يكون الابن إلهاً!

وبصورة
أوضح يقول:

§ لكي نتحد بالله يلزم أن يكون الكلمة المتجسِّد من جوهر الله.

وأثناسيوس
يضع العقيدة الأرثوذكسية في معادلة ذات حدين كالآتي:

§ إن كان لنا الخلاص مطلباً حتمياً: يكون الإيمان بالمخلِّص كإله،
إيماناً حتمياً.

§ إن كان تحرُّرنا من عبودية الموت والفساد هو صراخ واقعي خارج من
عمق طبيعتنا: يتحتَّم أن يكون الإيمان بمن مات عنَّا صراخاً على مستوى أعلى، أنه
إله مات بجسد بريء.

ونعود
ونكرِّر أمام القارئ أن ينتبه إلى منهج أثناسيوس اللاهوتي في جمع حقائق الإيمان
على خط واحد، أو قل في صرَّة واحدة إمَّا تأخذها كلها وإمَّا تتركها كلها، فهو يضع
لاهوت المسيح في القمة، ثم الاتحاد الأقنومي الذي تمَّ بين الله الكلمة والطبيعة
البشرية، مع حقيقة بشرية المسيح الكاملة كإنسان، مع خلاص الإنسان وتأليهه (اتحاد
الإنسان في المسيح)؛ وكلما تكلَّم أثناسيوس عن إحدى هذه الحقائق، فلابد أن يربطها
بالحقائق الأخرى سواء في جمل متراصة أو على مدى الحديث بكل حذر وانتباه، حتى
يستحيل على القارئ أن يكتشف أي هذه الحقائق أكثر أهمية عند أثناسيوس.

فالإيمان
عند أثناسيوس كلٌ واحد لا يتجزَّأ: التجسُّد، ولاهوت المسيح، وتأليه الإنسان، أي
اتحاده بالله! وهذا الإلهام في الحقيقة لم يجاره فيه أي أب من الآباء ولا أي
لاهوتي من بدء الكنيسة حتى اليوم. وقد يبدو هذا تكتيكاً موضوعاً لمصارعة الخبث
الأريوسي؛ ولكن في الحقيقة الذي يدرس روح أثناسيوس يدرك أن هذا كان إيمان أثناسيوس
الذي يعيشه في المسيح، وكان هو مضمون خلاصه الذي كان يبشِّر به كما يدافع عنه سواء
بسواء.

[إذن،

(أ)
فكان يتحتَّم أن يكون الابن هو إله حق، وكان لا يمكن للإنسان أن يقف في حضرة الله،
إلاَّ إذا كان

(ب)
الكلمة الذي اتَّخذ جسداً له هو حقا “كلمة الله”. وأنه كما كان

(ج)
يستحيل علينا أن نتخلَّص من الخطية والإثم إلاَّ إذا كان الجسد الذي اتخذه الكلمة هو حقا جسداً بشرياً، لأنه لا يمكن أن يكون
لنا شركة مع غريب،
كذلك

(د)
فإن الإنسان لا يمكن أن يتألَّه (يتحد بالله) إلاَّ إذا كان ذلك الذي اتخذ جسداً
هو بالجوهر كلمة الله حقا، لأن الاتحاد المطلوب حدوثه أن الذي بطبيعته إنسان
يتَّحد بذلك الذي بطبيعته إله.

(ه)
وهكذا يتحقَّق خلاصنا وتألُّهنا (اتحادنا بالله)، ويدومان لنا بتأكيد.]([66])

وفي
الحقيقة يتعذَّر علينا بل ويستحيل أن نجد مثيلاً للقديس أثناسيوس بين جميع آباء
الكنيسة في إصراره وتكراره للعقيدة الواحدة عشرات بل ومئات من المرَّات بلا ملل
ولا كلل، وكل مرَّة يلقي ضوءًا جديداً من زاوية جديدة ليزيد العقيدة ترابطاً
وانسجاماً ويرسِّخها في ذهن الكنيسة، وكأنه يشعر نحو المستقبل بمسئولية إرساء
الإيمان كله بكل دقائقه، وكأنها ضرورة قد وُضعت عليه.

وهو
يبلور الإيمان في هذه الحقائق الحية:

§ إن المسيح إله حقيقي وإنسان حقيقي بآن واحد.

§ وهو واحد بالحقيقة. أي لا تصدر عنه أي ثنائية. مع أنه إله
متأنِّس! وذلك ليوحِّد الإنسان بالله، كما هو واحد في ذاته.

§ وفي النهاية يفوز الإنسان بالتبني والحياة الأبدية.

ويلاحظ
القارئ أن العقيدة عند أثناسيوس تبدأ بلاهوت المسيح، هذا أمر حتمي، وتنتهي عند
التبني أي صيرورة الناس أبناء الله الحي وارثين لأبوَّة الله في المسيح ابن الله!
ولكن إرادة الله من نحو تبنِّي الإنسان كانت منذ البدء وقبل إنشاء العالم.

وعقيدة التبني عملية عميقة جدًّا في
مفهوم أثناسيوس. فهي كما قلنا سابقاً ليست أمراً يكتسبه الإنسان من الخارج، أو هبة
تُمنح له؛ بل هي وجود وسكنى واتحاد دائم للروح القدس و“الكلمة”:

الروح
القدس نفسه، لأنه هو نفسه الذي يتكلَّم فينا ويخبرنا بأمور المسيح ويمجَّد المسيح
فينا وبنا.

وكذلك
“الكلمة”، أي الابن، فسكناه واتحاده بنا هو وحده الذي يعطينا حق البنوَّة، وبه
نخاطب الله القدير “يا أبانا”. وبدون شركة الاتحاد في الروح القدس و“الكلمة”، أي
الرب يسوع نفسه، لا يمكن أن نُدعى أولاد الله.

فالإنسان
لكي يصير ابن الله يعني أنه قَبِلَ اللاهوت «أمَّا كل الذين قبوله أعطاهم
سلطاناً أن يصيروا أولاد الله.» (يو 12: 1)

[لأن
هذا هو حب الله لبني البشر أنه أراد أن يكون لهم أباً بالنعمة، هؤلاء الذين
خلقهم.
وهذا (التبني) إنما يحدث عندما يتقبَّل الناس وهم مجرَّد خليقة روح الابن في قلوبهم صارخاً «يا أبا الآب» (غل 6: 4).

نعم،
هؤلاء عندما يقبلون “الكلمة” ينالون به القوة التي يصيرون بها أولاد الله.
ولأنهم أصلاً مجرَّد خلائق، فإنهم لا يمكن أن يصيروا أبناءً إلاَّ إذا قبلوا روحه،
أي روح ابن الله الذي هو من جوهره.

ولهذا إن كان الكلمة صار جسداً، فذلك لكي يجعل الإنسان
قادراً أو مؤهَّلاً لقبول اللاهوت!…

ونحن
لسنا أبناء الله بالطبيعة، ولكن ابن الله الذي فينا هو ابن الله بالطبيعة، وكذلك
فإن الله ليس أبانا بالطبيعة ولكنه أبو “الكلمة” الذي فينا، الذي فيه وبه نصرخ:
«يا أبا الآب»
(رو 15: 8)؛ حتى أن الآب حينما ينظر أُولئك الذين يرى فيهم ابنه
يقول الآب: “لقد ولدتكم” (مز 7: 2) ويدعوهم أولاده.]([67])

[لذلك
كما اشترك “الكلمة” في ضعفاتنا باتخاذه جسداً بشرياً، هكذا نحن باتخاذنا
(قبولنا) الكلمة نشترك في عدم موته.
]([68])

كما
يلاحظ أن أثناسيوس حينما يتكلَّم عن اتحاد الإنسان بالله يركز على مفهوم الاتحاد
الفردي والاتحاد العام.
فالمسيحيون يتحدون “بالكلمة” في شخص يسوع المسيح، على
أساس أن الكلمة أخذ على نفسه كل ضعفات طبيعة بني الإنسان. وفي المقابل، منح
الكلمة الطبيعة البشرية بصفة عامة أيضاً أمجاده الإلهية الخاصة.

هذا
الاتحاد العام، وهذا التحرير العام للطبيعة البشرية من الضعفات، وهذا المنح العام
لأمجاد وحياة الكلمة للطبيعة البشرية أيضاً، هو في الحقيقة امتداد لمفهوم الجسد
السري العام للمسيح الذي يجمع المسيحيين كأعضاء الجسد الواحد، وهي العقيدة التي
يركِّز عليها بولس الرسول جدًّا في كافة الرسائل. وقد استلمها الرسل والآباء
الرسوليون ثم آباء الكنيسة عامة في ما قبل أثناسيوس، ولكن الجديد عند أثناسيوس أنه
يتعقَّب هذه العقيدة من أصولها حتى جذورها، ويفسِّرها كعقيدة الخلاص على أساس
التجسُّد، ويوضِّحها مراراً وتكراراً لتكون أساس الإيمان لمفهوم الخلاص والفداء
والتبني في الكنيسة.

[ولأن
الكلمة صار إنساناً وجعل ضعفات الجسد له أي نسبها إلى نفسه
صارت بالتالي هذه الضعفات بلا قوة لإزعاج الجسد، لأن “الكلمة” متحد بالجسد …

وحينما
وُلد الجسد من مريم والدة الإله، قيل عنه أنه وُلد مع أنه هو “الكلمة” الذي خلق كل
الأشياء. ففي الحقيقة هذا هو ميلادنا نحن الذي أخذه لنفسه، وبهذا لم نعد بعد
مجرَّد تراب تعيَّن لنا أن نعود إلى التراب، ولكننا صرنا متحدين “باللوغس” الكلمة
من السماء، الذي سوف يحضرنا إلى السماء.

وبالمثل، فإنه ليس بدون سبب قد أخذ كل الضعفات الأخرى التي
للجسد، لأنه شاء أن لا نكون بعد مجرَّد بشر بل نصير منتسبين للكلمة، ونشترك في
الحياة الأبدية.

أمَّا الموت الذي كان ميراثنا بسبب ميلادنا الأول فقد بطل.
فميلادنا وكل ضعفات الجسد قد تحوَّلت عنا، وصارت وحُسبت على “الكلمة”؛ أمَّا نحن
فقد ارتفعنا عن التراب وأُزيلت عنَّا لعنة الخطية بواسطته وهو الكائن فينا ومن
أجلنا، الذي صار وحُسبَ بسببنا وعنَّا “فاعل شر”.

وكما
كنا بالحق مخلوقين من تراب، وفي آدم قَبِلْنا الموت جميعاً، هكذا إذ وُلدنا
الآن من الماء والروح قَبِلْنا الحياة من المسيح.

وجسدنا لم يعد بعد ترابياً، لأنه قد صار كلمة has been made Word (هنا أصل المعنى في اليوناني يفيد الفعل من كلمة “لوغس” أو
“تَلَوْغنَّا” وهي باليونانية
logwqe…hj Verbified
وذلك بسبب “الكلمة” الذي صار جسداً من أجلنا.
]([69])

هنا
يكشف أثناسيوس عن الربح الهائل الذي اكتسبته البشرية ككل من التجسُّد، دون أن يفقد
الله بسبب التجسُّد شيئاً بالمرة، بل اكتسب وربح خليقته التي كانت في بطن الشيطان
والآن صارت مجداً دائماً لاسمه. لأن المسيح لما قَبِل الضعفات التي للطبيعة
البشرية وأخطرها الموت ومسبباته ونتائجه ألغاها في جسده
باتحاد لاهوت الكلمة.

ثم
إذ أعطانا التأهُّل للاتحاد به عن طريق الروح القدس والجسد المقدَّس، ألغى من صميم
طبيعتنا حكم الموت ولعنة الخطية، وعوض الموت واللعنة والفساد سلَّمنا الاتحادُ
بلاهوته قداسةَ الحياة الأبدية وعدم الموت وعدم الفساد معاً.

وحينما
يقول أثناسيوس عن “أن جسدنا اتحد بالكلمة”، يقصد جسدنا جميعاً، وبحسب النص
اليوناني يكون المعنى المقصود أن الجسد البشري أخذ صفات الكلمة، لأن الاصطلاح كما
سبق وقلنا يفيد ذلك “
verbified”.

وأثناسيوس
يؤكِّد المعنى الواقعي من الاتحاد، وليس الفلسفي أو الرمزي أو التشبيهي، فنحن
نتحد بالابن المتجسِّد اتحاداً واقعياً يُدخلنا في صميم طبيعة الكلمة المتجسِّد
جسداً،
ونفساً، وفكراً، وروحاً، وامتيازات لاهوتية تتناسب مع الميراث في المسيح لله،
لنصير جسداً واحداً وروحاً واحداً في الروح القدس والكلمة.

[ولأن
ضعفات البشر قد رُفعت عنهم وأُبطلت بل أُبيدت في المسيح الكلمة، المنزَّه عن كل
ضعف، صار البشر أقوياءً وأحراراً إلى الأبد كما يقول لنا يوحنا بهذه الكلمات:
«وتعلمون أن ذاك أُظهر لكي يرفع خطايانا، وليس فيه خطيةٌ» (1يو 5: 3).

فإن
كان هذا الكلام حقا فليس لهراطيقي بعد أن يسأل: لماذا وكيف أن الجسد وهو مائت
بطبعه يعود إلى الحياة، وإذا أُعيدت له الحياة فكيف لا يعاني بعد الجوع والعطش
والألم والموت؟ (بعد القيامة) أليس هو تراباً؟ فكيف يتخلَّص مما هو له بالطبيعة؟
نقول إنه إذا كان هذا هو اعتراض الهراطقة، فالجواب يأتي على لسان الجسد نفسه هكذا:
نعم أنا مخلوق من تراب وأنا بطبيعتي مائت ولكني صرت جسد الكلمة وقد حمل كل ضعفاتي
مع أنه منزَّه عن كل ضعف وقد صرت حرًّا فلست بعد عبداً لضعفاتي، وذلك بسب الرب
الذي خلَّصني ونجاني منها. فإذا كنتم تلومونني كيف صرت حرًّا من فساد طبيعتي
فاحذروا لئلاَّ بذلك تعثرون في “كلمة الله”، لأنه هو الذي أخذ حالة عبوديتي
على نفسه.

لأنه
كما أن الرب أخذ جسداً وصار إنساناً، هكذا نحن البشر إذ قد حُسبنا ضمن جسد
الكلمة، صرنا متحدين به أو إلهيين
Divine وصرنا ورثة للحياة
الأبدية (فيه).
]([70])

وقد
يتهيَّأ للقارئ أن كلام الجسد على لسان أثناسيوس أعلاه يفيد جسد المسيح، ولكن آخر
جملة تلك التي علَّق بها أثناسيوس على المعنى كله، تفيد إفادة حاسمة أن أثناسيوس
يقصد الجسد البشري عامة الذي يتكلَّم هكذا ويقول: “لقد صرت جسد الكلمة وأنه حمل
ضعفاتي وصرت حرًّا، ولم أعد بعد عبداً لضعفاتي، وقد خلَّصني ونجَّاني من ضعفاتي”،
هذا المتكلِّم هنا بحسب أثناسيوس هو جسدي وجسدك وبشريتنا جميعاً باعتبار أن جسد
المسيح قد احتوى جسدنا وتبنَّاه وخلَّصه ونجَّاه، لأنه مات به وقام وحرَّره من الموت
والفساد والعبودية، وورَّثه معه ميراث الابن في ما لله من “مجد” و“حب”،
وأننا نحن المؤمنين صرنا في المسيح جسداً واحداً هو الرأس ونحن الأعضاء فيه. لذلك،
فإنه في مواضع كثيرة، حينما يقول أثناسيوس “جسد المسيح”، فهو يقصدنا ضمناً([71]).

[لقد
أخذ “الكلمة” ما هو لنا (الجسد) لنفسه، حتى إذا صرنا نحن جسداً واحداً فيه، وبعد
أن نكون قد اتصلنا تماماً وارتبطنا بواسطة الجسد المتشابه، يمكن أن نبلغ إلى
إنسان كامل وندوم في عدم الموت وعدم الفساد.
]([72])

ويظل
أثناسيوس متمسِّكاً بكل أمانة وثقة في الجمع بين بشرية المسيح مع بشريتنا على
مستوى الواقع والشمول المذهل للعقل حقا، لدرجة أنه يعتبرنا مقدَّسين ومتحدين في
المسيح إلى الحد الذي يرى أن الوقار اللائق بالله وحده ينسحب على “الكلمة” الموجود
فينا والمتحد بنا، أي يشمل بشريتنا المفدية والمخلَّصة والمتحدة بالرب في أشخاص
المؤمنين القديسين، فهو يجمع بين بشرية المسيح الخاصة أي جسده الإنساني وبشريتنا
المفدية والمتحدة معه. وأثناسيوس يرى في قول الكتاب بخصوص ارتفاع المسيح بواسطة
الله بعد الموت وأن الملائكة صارت تسجد له، أنه إنما يقصدنا نحن أيضاً في المسيح،
أي البشرية المفدية فيه!

[إن
حقيقة تجسُّد الرب التي بها صار المسيح مسجوداً له وقد آمنا أنه ابن الله الذي
أعلن لنا الآب،
هذه الحقيقة تُظهر أن التمجيد والارتفاع ليست أموراً ممنوحة “للكلمة”
في قدرته الخاصة باعتباره “الكلمة”، ولكن ممنوحة لنا!! لأنه بسبب قرابتنا
لجسده قد صرنا أيضاً هيكلاً لله وصرنا أبناءً لله، حتى أن الرب يمكن أن يُكرم
أيضاً (يُعبد
adored) فينا. وكل مَنْ يرانا ونحن في حالة السمو الروحي بالروح القدس
يصرخ بكلمات الرسول عينها: «يخر على وجهه ويسجد لله منادياً أن الله بالحقيقة
فيكم
» (1كو 25: 14).]

وأثناسيوس
يهتم للغاية بتوضيح معنى أننا صرنا واحداً في المسيح، بمعنى أنه يجمعنا كلنا في
نفسه جسداً واحداً، حسبما ورد في إنجيل يوحنا الأصحاح 17، وهو يضيف على معنى
الوحدة ما يؤكِّد وجودها ودوامها على المستوى الأخلاقي والأدبي، فالوحدة مع المسيح
عند أثناسيوس ليست فلسفية أو صورية، بل واقعية كيانية أخلاقية كاملة
لأنها بالروح القدس “وبالكلمة”، أي إلهية!

والأصل
في ذلك كله أن جسد المسيح صار ممجَّداً ومكرَّماً جدًّا في عين الآب، بسبب لاهوته،
وبسبب اتضاع الابن، وطاعته وحبه للآب والخليقة، فصرنا نحن كل الذي
آمنوا وتقدَّسوا في المسيح حائزين لهذا التكريم عينه.

وأثناسيوس
يستنطق “الكلمة المتجسِّد” كلاماً حلواً، مخاطباً الآب فيه هكذا:

[أنا
كلِمتُكَ (أيها الآب) وأنتَ فيَّ، ولكني
أنا فيهم بالجسد، وبك قد أُكمل خلاص البشرية فيَّ، لذلك أسأل أن يكونوا واحداً
بحسب الجسد الذي فيَّ وبحسب الكمال الذي لهذا الجسد، حتى إذ يتحدون بهذا الجسد
ويصيرون واحداً فيه، يصيرون أيضاً كاملين؛
حتى يكونوا جميعاً جسداً واحداً
وروحاً واحداً، إنساناً كاملاً، كأنما أحملهم جميعاً في ذاتي.

لأنه من حيث أننا نشترك في المسيح الواحد، ونملك في داخلنا
الرب الواحد، نصير جميعاً جسداً واحداً.
]([73])

يُلاحِظ القارئ أن “الكمال” الذي يبلغه الإنسان هو نتيجة
اتحاد المؤمنين بجسد المسيح، وهذا معتبر أنه إحدى خصائص اللاهوت الأساسية عند
أثناسيوس.

وحينما
احتدم الصراع مع الأريوسيين من جهة عدم تساوي الابن مع الآب في
الجوهر واستشهد الأريوسيون تلفيقاً بقول يوحنا الرسول: «ليكونوا
واحداً كما أننا نحن واحد (أي الابن والآب)» (يو 22: 17)، مدَّعين أن الوحدة بين
الآب والابن هي مُشَابَهة فقط، لأنها تساوي الوحدة بين المسيحيين التي هي لا تزيد
عن كونها وحدة تشابه فقط([74]):
بادر أثناسيوس ليرد على ذلك ويقول هذا غش وخداع، وفي إجابته تظهر جدًّا وتتضح
خصائص الوحدة التي تقوم بين المؤمنين في المسيح؛ فهو يصفها:

(الفصل
10: 25):

[فبالرغم
من أننا خُلقنا على صورة الله، ودُعينا صورة ومجد الله، إلاَّ أنه لم يكن هذا
لحسابنا قط بل قد نلنا هذه النعمة لحساب الصورة الحقيقية والمجد الحقيقي الساكن
فينا الذي هو “كلمته” الذي صار جسداً من أجلنا
].

(الفصل
17: 25):

[ولكن
هؤلاء الأريوسيين المحتالين يحتجون ويقولون: “إذا كنا
نحن نصير واحداً مع الآب (كما يقول إنجيل يوحنا 17)، فكذلك وعلى نفس المستوى يكون
المسيح (الكلمة) والآب واحداً. وكذلك يكون هو أيضاً في الآب والآب فيه، فكيف
تدَّعون أنه بناء على قوله: «أنا والآب واحد» و«أنا في الآب والآب فيَّ» أنه هو من
جوهر الآب؟ لأنه ينتج من قولكم هذا إمَّا أننا نحن نكون أيضاً من جوهر الآب، أو أن
الابن يكون غريباً عن جوهر الآب كما أننا نحن أيضاً غرباء عن جوهر الآب”!

إنهم
بذلك يثرثرون ويخرِّفون، وإني أرى في عنادهم وضلالتهم نوعاً من التزييف والخداع
الذي يوقعهم فيه الشيطان، لأنه على منوال كلامهم يقول الكتاب أيضاً عن أمثالهم
(الشيطان) «سنصعد إلى السماء ونصير مثل العلي» (انظر: إش 14: 14).

لأن
الأريوسيين يريدون أن يجعلوا ما مُنح لنا بالنعمة كأنه يساوي اللاهوت جوهر الله
المعطِي (النعمة). وحينما يسمعون من الإنجيل أننا صرنا أبناءً، يعتقدون أنهم صاروا
بأنفسهم مثل “الابن الحقيقي” مساوين له بالجوهر. وحينما يسمعون قول المخلِّص:
«ليصيروا واحداً كما أننا نحن واحد» يخدعون أنفسهم ويتعجرفون أنهم بذلك يصيرون
أيضاً مثل “الابن” في الآب والآب في الابن].

(الفصل
19: 25):

[ولكن
بالرغم من أنه يوجد ابن واحد بالجوهر مع الآب حقيقي
ووحيد، إلاَّ أننا نحن أيضاً نصير أبناء الله، ولكن ليس كالابن الحقيقي الذي هو
بالجوهر (في الآب). إنما نحن أبناء بالنعمة، حسب عطية ذلك الذي دعانا لهذا.
فبالرغم من أننا بشر من التراب أصبحنا نُدعى آلهة
Qeo… ليس كالله أو كلمته اللذين هما بالحق ¢l»qeiv، وإنما بحسب مسرة الله
الذي أعطانا هذه النعمة …

ويوحنا
لم يقل إنه كما الابن في الآب هكذا ينبغي أن نكون نحن، لأنه كيف يكون لنا ذلك؟
فالابن هو كلمة الله وحكمته، أمَّا نحن فمخلوقون من التراب، وهو بالطبيعة
والجوهر كلمة الله، وإله حق،
كما يقول يوحنا: «ونعلم أن ابن الله قد جاء
وأعطانا بصيرةً لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا
هو الإله الحق والحياة الأبدية» (1يو 20: 5). أمَّا نحن فجعلنا أبناءً فيه
بالتبني والنعمة،
باعتبارنا شركاء في روحه، كقول الكتاب: «وأمَّا كل الذين
قبلوه فأعطاهم سلطاناً (قوة) أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه» (يو 12:
1).

أمَّا
هو فهو “الحق”، لأنه قال: «أنا هو الحق». وحينما خاطب الآب عنَّا قال: «قدِّسهم
في حقك، كلمتك هو حَقٌّ» (يو 17: 17).

أمَّا نحن فبالاقتداء (kat¦ m…mhsin) نصير مجرَّد فضلاء ™n£retoi وأبناءً.

أي
أننا لن نصير في مثل وحدته حينما يقول: «أن يكونوا
واحداً كما أننا نحن واحد»، ولكننا نأخذ منه المثال والنموذج. وإذ ننظر إليه
نصير واحداً مع بعضنا البعض في اتفاق ووحدة الروح …
].

(الفصل
20: 25):

[ووحدة
التدبير،
ولنا في وحدة الابن الجوهرية بالآب مثال ونموذج، كما علَّمنا بقوله:
«تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب»، لا أن نصير مساويين له، فهذا محال،
وإنما بالنظر إليه نبقى وندوم في وداعته.

هكذا
إذ يرغب المسيح أن يدوم تدبيرنا الصالح في صدق وثبات وبلا انحلال تجاه الآخرين،
أراد أن نأخذ منه النموذج، لذلك قال: «ليكونوا واحداً كما نحن»، لأن وحدتهما غير
منحلة ولا منقسمة أي ليتعلَّموا منا هذه الطبيعة غير المنقسمة فيدوموا هم أيضاً
في وفاق مع بعضهم
].

(الفصل
21: 25):

[كذلك
قوله: «ليكونوا واحداً فينا»، هذا معناه الصحيح لا أن تكون وحدانيتنا مثل
وحدانية الابن في الآب، وإلاَّ كان قد قال: “ليكونوا واحداً فيك” مثله! …
فقوله: «ليكونوا واحداً فينا» أوضح
الفارق والاختلاف كونه هو وحده في الآب كحالة فريدة، باعتباره
كلمته الوحيد
وحكمته الوحيدة، ولكننا نحن نكون في الابن، ثم من خلال الابن نصير في الآب.

وهذا
معناه، إذا أردنا توضيح هذه الاية: «واحداً فينا»، يكون هكذا:

إن في قوة الآب والابن يصيرون هم واحداً، لأنه بدون الله
يصير هذا مستحيلاً …
لذلك واضح
أن في اسم الآب والابن نصير مؤهَّلين أن نكون واحداً حافظين جدًّا رباط

المحبة.

والرب
وهو حافظٌ نفس هذا المعنى في نفسه يستطرد قائلاً: «والمجد الذي أعطيتني قد
أعطيتهم ليكونوا واحداً
كما أننا واحد»].

(هنا
أثناسيوس يريد أن يقول إن الوحدانية التي صرنا وسنصير إليها هي “عطية مجد”
من الابن، وهي أصلاً من الآب لنا عن طريق الابن المتجسِّد، فالوحدة عطية فائقة
وقوة ورفعة إلهية فائقة = “المجد” في الابن).

[والآن نلاحظ أن بقوله “كما” في الآية: «يكونوا واحداً كما
أننا نحن واحد»، لا يعني التطابق بل التشابه، كنموذج وكمثل مقدَّم لهم].

(الفصل
22: 25):

[«أنا
فيهم وأنتَ فيَّ حتى يُكمَّلوا إلى واحد»، هنا يسأل الرب لنا شيئاً عظيماً وأكثر
تكميلاً وكمالاً لنا (أي الوحدة)، لأنه واضح أن الكلمة قد أتى ليكون فينا،
لأنه
لبس جسدنا.

«وأنت
أيها الآب فيَّ» لأني كلمتك ولأنك أنتَ فيَّ، لأني كلمتك وأنا فيهم بسبب الجسد،
قد صار لهم بواسطتك كمال الخلاص فيَّ،
لذلك أنا أسأل لكي يكونوا هم أيضاً
واحداً بحسب الجسد الذي فيَّ وبمقتضى كماله، حتى يكونوا هم أيضاً كاملين إذ يصيرون
في وحدانية (متحدين) معه (مع الجسد)، وإذ يصيرون واحداً فيه، وكأنما الجميع قد
صاروا محمولين فيَّ؛ يصبحون جميعاً جسداً واحداً وروحاً واحداً، وينمون معاً حتى
إلى إنسان كامل (أف 13: 4).

لأننا إذ نشترك جميعاً في المسيح الواحد نصير جسداً واحداً
حائزين على الرب الواحد في داخل ذواتنا
].

(الفصل
23: 25):

[ونصير
واحداً مثل الآب والابن وذلك بالفكر الواحد، واتفاق الروح
(سيمفونيا) “وعندما
يصيرون كاملين حينئذ يعلم العالم أنك أرسلتني”، لأنه إذا لم أكن قد جئت ولبست
جسدهم هذا، ما كان أحد منهم قد كمل، بل لصار جميعهم في الفساد.
فاعمل فيهم أنت
أيها الآب. وكما أعطيتني أن أحمل ذلك (الجسد)، امنحهم روحك حتى يصيروا فيه
واحداً ويصيروا كاملين فيَّ … وكمالهم يتم بالفداء من الخطية ولا يعودون تحت
الموت، بل إذ يتألَّهون
(يتحدون بالله) ناظرين إليَّ، يحفظون رباط الحب مع
بعضهم البعض!
].

(الفصل
24: 25):

[وبالاشتراك
في الروح نلتحم باللاهوت،
لذلك فوجودنا في الآب ليس هو منا، بل من الروح الذي
فينا الساكن فينا
].

(الفصل
25: 25):

[لأنه
من حيث أن “الكلمة في الآب” وأن الروح قد أُعطي بواسطة الكلمة، فقد أراد الله أن
نقبل الروح؛ حتى إذا قبلناه نكون قد قبلنا “روح الكلمة”، الذي هو في الآب،
فنصير نحن واحداً في الكلمة بسبب الروح ومن خلال الكلمة نصبح في الآب.
]([75])

والقديس
أثناسيوس بهذا العرض المتشعِّب النواحي لمفهوم الوحدة القائمة بين المؤمنين على
أساس الشركة في الروح القدس و“الكلمة” والاتحاد بجسد المسيح، يكون قد وضع أساس
إيمان الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة في هذه العقيدة الأساسية عقيدة الاتحاد بالله
والوحدة في جسد المسيح.

والمعروف
أن كلاًّ من القديس هيلاريون والقديس كيرلس الكبير قد بنى على هذا الأساس عينه،
حتى بلغت عقيدة اتحادنا في الجسد الواحد الذي يضم المؤمنين جميعاً أقصى كمالها
ونضوجها اللاهوتي عند كيرلس الكبير([76]).

وهكذا
ينبغي أن يُعزَى الفضل لأثناسيوس الكبير، الذي استطاع أن ينتزع من الأريوسيين جميع
أسلحتهم التي صوَّبوها ضد لاهوت المسيح المساوي للآب، وأن يستخدمها هي بذاتها في
وضعها الأصيل الإلهي ليبني بها لاهوت الكنيسة الإيجابي الذي لا ينازَع ولا يُناظَر
في ما يختص باتحادنا الوثيق بالمخلِّص.

وأثناسيوس
في كافة المواضع لا يغيب عن رؤياه “اتحاد المخلِّص بخاصته”، هذه هي الرؤيا
العظمى التي لم يهدأ يوماً واحداً على مدى خمسين عاماً من أن يوضِّحها بكافة
الطرق، سواء اتحاد الكلمة بجسده الخاص أو اتحاده هو بنا جميعاً. فأثناسيوس يجمع
بين الاثنين معتبراً أن هذا هو الذي جمعه الله ولا يستطيع أحد أن يفرِّقه
([77]).

[كل ما كُتب عن المخلِّص بحسب بشريته، يلزم أن ننسبه لجنس
البشرية عامة، لأنه أخذ جسدنا وحمل ضعفاتنا.]
([78])

وأثناسيوس
في دفاعه ضد الأريوسيين في حديثه الأول يستمر إلى عشرة فصول، منحصراً في موضوع
واحد لا يحيد عنه في ما يختص بجسد المسيح العام الذي يجمع كل المؤمنين (الجسد
السري)، موضِّحاً ذلك من قول بولس الرسول: «وضع نفسه وأطاع حتى الموت … لذلك
رفَّعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم.» (في 2: 8و9)

فهذا
الارتفاع أو الإعلاء الذي ناله المسيح كان موضوع تهليل الأريوسيين، باعتبار أن “الكلمة”
كان في حاجة إلى تمجيد أكثر، إذن فهو لم يكن أعلى من كل شيء من البدء!!

ويزمجر
أثناسيوس ضد هذا الادعاء، ويكشف غش منطق الأريوسيين. لأن هذا الارتفاع أو الإعلاء
إنما يخص بشرية المخلِّص فقط، وذلك من أجلنا نحن!!

[إن
الكلمة الأزلي، صورة الآب، أخذ شكل العبد. وكإنسان، عانى الموت بجسده من أجلنا،
لكي يتسنَّى له أن يقدِّم ذاته إلى الآب عنَّا بالموت، لذلك أيضاً، كإنسان
وبسببنا ومن أجلنا، قيل عنه أيضاً أن الله “رفَّعه”.

لأنه كما بموته مُتنا جميعاً في المسيح، هكذا سنرتفع في
المسيح نفسه عندما نرتفع إلى السماء بعد قيامتنا من الأموات «
حيث دخل
المسيح كسابق لأجلنا»
(عب 20: 6)، وهو لم يدخل شيئاً (السماء) كأنه رمز أو
صورة للحقيقة، ولكن دخل السماء نفسها «لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد
أشباه الحقيقية بل إلى السماء عينها ليظهر أمام وجه الله لأجلنا» (عب 24: 9).

ولكن
إذا كان المسيح الذي هو دائماً رب وخالق السموات قد دخل الآن السموات من أجلنا، يلزم
إذن أن يكون من أجلنا ما قد كتب: أنه ارتفع
(رفَّعه الله).

وكذلك
مكتوب أنه، وهو الذي يقدِّس جميع الناس، يقدِّس نفسه من أجلنا أمام الآب، هذا
بكل تأكيد لا يعني أن الكلمة نفسه يلزمه أن يصير أكثر قداسة بل أنه يقدِّسنا نحن
جميعاً في نفسه. وهكذا يلزمنا أن نأخذ نفس هذه الآية بنفس المعنى “قد رفَّعه
الله”، لا كأنه يرفعه إلى ما هو أكثر كمالاً فهو الأعلى، ولكن لكي يصير هو برّنا
فنرتفع فيه فندخل أبواب السماء التي أعاد فتحها لنا.]([79])

وفي
ختام هذا الفصل نقدِّم للقارئ شهادة حسنة من أحد لاهوتيي الألمان القدامى، وأكثر
من تخصص وتحمَّس للاهوت أثناسيوس الكبير، وهو العالِم موللر:

[لقد
ضرب أثناسيوس جذوره عميقاً عميقاً جدًّا في تربة الكنيسة. وقد كان أثناسيوس لا
يعرف نفسه إلاَّ فيها، فكان ماضيها حاضراً دائماً أمامه، وأخذ على عاتقه أن لا
يقدِّم المسيح يسوع إلاَّ متحداً بكنيسته من الداخل، وفي كلمة واحدة كان المسيح هو
نفسه الكنيسة!
]([80])

لقد
ركَّز أثناسيوس كثيراً على “جسد المسيح”، الجسد الذي أخذه الكلمة لخاصته، من
العذراء مريم دائمة البتولية والمؤمنين الذين اتحد بهم بروحه، فضمَّهم إلى جسده
ونفسه، وحملهم في أحشائه، وفداهم، وتبنَّاهم، وغيَّرهم، فجدَّد خلقتهم، وقدَّسهم،
ورفَّعهم، وألَّهَهم (ووحَّدهم بذاته) بنعمته.

وكان
كلما تكلَّم أثناسيوس عن “جسد” الكلمة ينطلق سريعاً ليكشف فيه سر “الجسد”
الفائق الذي يجمع المؤمنين:

[وعندما
افتقد “الكلمة” العذراء القديسة مريم أتى الروح القدس إليها معه وصاغ
الكلمة “الجسد” بالروح القدس وشكَّله لذاته، إذ أراد أن تتحد البشرية بالله
ويُحضرها إليه بنفسه،
وبه يصالح الكل عاملاً الصلح …]([81])

وكان
لاهوت المسيح هو المفتاح الكبير الهائل، الذي يفتح كل أسرار الخلاص والفداء
والحياة الأبدية للكنيسة كلها، فلاهوت المسيح هو الذي يرفعنا من التراب ويقدِّسنا
لنفسه ويوحِّدنا بجسده (يؤلِّهنا)، وهو الذي جعل التجسُّد انتصاراً على الموت
والهاوية والخطية والفساد، وبه صار التجسُّد القوة الضاربة ضد الشيطان، وصار هو
قوة التبني التي بها صرنا نحن الآن أبناءً لله الحي، وصار هو الحياة الأبدية
للكنيسة، لأن فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس!!

ولم
يكن أثناسيوس في كل هذه الحقائق الإيمانية كمستحدِث، بل كوارث
بالتقليد جوهرة العقيدة والإيمان الحي من الرسل والآباء، ولكنه صقلها
بالنعمة والإلهام تحت ضيق الاضطهاد وعناد الأريوسيين وكفرهم، وجعلها تاجاً على رأس
الكنيسة تشعُّ على كل الأجيال لاهوتاً حيًّا يُفرِّح قلب المؤمنين!

 

ملخَّص الفصل الخامس

الإنسان والخلاص

في اللاهوت عند أثناسيوس

 

أولاً: أُسس التقليد الآبائي

 

§ تجسُّد ابن الله وموته على الصليب، هو رأس ومبدأ الإيمان عند
أثناسيوس.

§ موضوع الخلاص لم تستطع الكنيسة على مدى العصور أن تستوفي تعدُّد
وجهات رؤيته، فكان لكل عصر رؤيته الخاصة له.

§ ففي عصر الآباء الرسوليين كانت رؤية الخلاص على مستوى أخلاقي
سلوكي، فيكون الخلاص انتقالاً من حياة الشر إلى حياة البر.

§ وآباء آسيا الصغرى (القديس إغناطيوس ومَنْ بعده) نظروا الخلاص على
مستوى وجهة نظر “مَرَضِيَّة”. فالمسيح جاء كطبيب، والخلاص هو انتقال من مرض الموت
إلى صحة الحياة، أو من الفساد إلى عدم الفساد. وهنا بدء نظرة الآباء إلى أن
الإنسان أُعطي بالتجسُّد أن يحيا مع الله إلى الأبد ويصير شريكاً في صفاته وطبيعته
الإلهية على أن يظل هو هو الإنسان.

§ ثم جاء آباء شمال إفريقيا (وهم محامون)، ونظروا إلى الخلاص كعمل
قضائي، أي كشفاعة وتبرئة من ديون ثقيلة.

§ عند أوريجانوس اتسعت نظرته للخلاص واتخذت صبغة فلسفية، فالخلاص
عمل كوني، تمَّ على مستويات شملت
العالم بأسره، فيه انهزمت جنود الشر في هذا الصراع تحت سلطان الله.

 

ثانياً: أساس لاهوت الخلاص عند أثناسيوس

 

§ أثناسيوس لم يتجاهل أي وجه من أوجه هذا التراث.

§ فأكَّد أثناسيوس على عامل “القضاء” بمعنى العقوبة والتبرئة من
الدَيْن الذي كان يتحتَّم علينا دفعه. ذلك لأن الموت مرتبط بالخطية كعقوبة.

§ ثم في كتاب “تجسُّد الكلمة” يوضِّح أثناسيوس مبررات التجسُّد
الحتمية:

(أ)
تحويل الفاسد إلى عدم الفساد.

(ب)
خلقة الإنسان الجديدة على مثال صورة الله.

(ج)
جعل المائت غير قابل للموت.

(د)
أدرك البشر حقيقة الآب.

(ه)
دفع الدَيْن المطلوب بتقديم “الكلمة” نفسه ذبيحة. وهذا يتم بالتقدمة، وبالذبيحة
الكهنوتية كفَّارة عن الجميع (وهذه هي نظرة العهد القديم العملية والواقعية لتصوير
مفهوم الخطية والخلاص منها بالفداء).

1 التقدمة الكهنوتية كفعل خلاص:

§ ما من وسيلة لرفع الفساد عن الإنسان إلاَّ بالموت.

§ لذا اتخذ الكلمة (غير القابل للموت) جسداً (قابلاً للموت)، ليكون
كفؤاً للموت عن الجميع. ولكي باتحاد الكلمة بهذا الجسد يصير غير قابل للفساد.

§ وهكذا حقَّق التجسُّد بالتقدمة الكهنوتية:

(أ)
إبادة الموت عن البشر، وقد صاروا نظراء الكلمة المتجسِّد، بتقديم المعادل والبديل
(وهذا هو مفهوم الفداء).

(ب)
تسديد الدين عن الجميع (مفهوم الخلاص بتسديد الدين).

(ج)
ألبس الجميع عدم الفساد بوعد القيامة (الخلاص بالخروج من دائرة الفساد).

(د)
وضع نهاية للموت (الخلاص كغلبة للموت).

2 الذبيحة:

§ وهي تساوي فعل التقدمة السابق مضافاً إليه عنصر الألم حتى الموت.

§ وتمَّت بأن:


وضع “الكلمة” على نفسه عقاب الدينونة.


محا الموت بواسطة تقديم جسده الخاص حتى الموت موت الصليب.


بقيامته استعاد الإنسان مرَّة أخرى من حالة الفساد، لأنه هو وحده الذي يستطيع ذلك
بصفته الخالق الذي صنع الإنسان على صورته.

ولكي نفهم بتدقيق لاهوت أثناسيوس عن الإنسان والخلاص لابد
من عرض أفكاره باختصار:

حالة الإنسان الأُولى:

§ الإنسان بحسب طبيعة التراب فقط يكون قابلاً للفساد وبالتالي
للموت، لذلك في الخلقة الأُولى وهب الله للإنسان “الكلمة” غير الزائل
لكي تصبح خلقة الإنسان على صورة الله.

§ وبهذا أصبح يستحيل أن يفقد الإنسان المخلوق على صورة الله فعل
وصورة “الكلمة” لأنها أصبحت من صميم خلقته. قد تضعف أو تتلف أو تتشوَّه، ولكن لا
يمكن أن تُفقد بالكلية.

§ أي قد يفقد الإنسان الصفات الإلهية التي وُهبت له كنعمة مجانية
ولكن يستحيل أن يفقد صورة الله، وأهم ميزاتها الجوهرية: الخلود.

§ لذلك فإن القدوس حينما جاء إلى عالمنا، إنما جاء ليجدِّد الإنسان
المصنوع على صورته، ويعيده إلى الوجود الإلهي مرَّة أخرى.

ما آل إليه الإنسان بسقوطه:

§ إن التصدُّع الذي حدث في صورة الإنسان بالمخالفة، انتهى إلى
الالتصاق بالأرضيات، وبدأ الإنسان يسير نحو الفساد، وبالتالي نحو فقدان الله
وازدياد الجهل به، وذلك بسبب تشوُّه صورة
“الكلمة” الساكن في الإنسان (الذي يعطيه الإدراك والمنطق والبصيرة والرؤيا

الصحيحة).

§ أثناسيوس هنا يركِّز على التغيير الذي
أصاب الإنسان، كناحية مَرَضِيَّة ولكن دون أن تفنى صورة الله في
الإنسان.

وما أعوز الإنسان:

§ لذلك أصبح الحل الوحيد والاحتياج الوحيد هو إلى تغيير جذري تجوزه
الطبيعة البشرية لتعود إلى صحتها.

§ وهذا لا يمكن أن يتم إلاَّ بتجديد التحام العنصر الإلهي (أي
الصورة الإلهية) في صميم هذه الطبيعة البشرية.

§ الكلمة المتجسِّد هو الطبيب والمخلِّص الذي أتى ليشفي ما حدث.

حتمية التجسُّد:

§ إن الخلاص هو للإنسان، وليس لأشياء ليس لها وجود (لكي يكفي مجرَّد
صدور أمر إلهي بالغفران). لذلك لزم أن يستخدم “الكلمة” وسيلة بشرية ويعلن نفسه من
خلالها جهاراً.

§ ولأن الفساد الذي دخل الطبيعة البشرية لم يكن خارج الجسد بل في
داخله، صار الجسد محتاجاً إلى أن تدخل فيه
الحياة وتمسك به من الداخل وتملك عليه ولا تتركه كحالة آدم الأُولى.

§ كل هذا يبيِّن أن الخلاص كان لابد أن يكمل من داخل طبيعة الإنسان،
ولا يأتي إليها كأمر إلهي خارجي يُفرض عليها من خارجها وإلاَّ فمآلها للفساد
والسقوط مرَّة أخرى.

 

ثالثاً: موت المسيح على الصليب عند أثناسيوس

في إطار معنى الخلاص

 

§ التجسُّد غايته الأُولى خلاص الإنسان، وهذا الخلاص يستحيل أن يتم
إلاَّ بموت المسيح.

§ حينما قدَّم المسيح جسده الذي اتخذه لنفسه، صار الكل فيه، وكأنهم
هم ماتوا جميعاً. وهذا هو معنى القول: «الكل مات في المسيح.» (2كو 14: 5)

§ يركِّز أثناسيوس بشدة على حقيقة الموت باعتباره علة الهلاك
والفساد، لذلك يصوِّب الخلاص الذي أكمله المسيح على إلغاء وإبادة الموت. ومعروف أن
الخطية هي العلة المؤدية للموت، لذلك فهي التي قدَّم عنها المسيح نفسه ذبيحة عن
الجميع ليوفي عقوبة الخطية عن الجميع، وبذلك يلغي الموت ذاته الذي هو نتيجة
الخطية.

§ وهكذا بالخلاص الذي نناله بموت المسيح يتلاشى الموت من طبيعة
الإنسان، ولا يعود له أساس داخلنا يمسك فيه، أولاً: لأن المسيح مات نائباً عنَّا
جميعاً، ثانياً: بقيامته من الأموات وهب نعمة الحياة الأبدية لكل مَنْ آمن به
واعتمد لموته.

§ فموت المسيح هو رأس ومبدأ الحياة.

§ وبفضل القيامة يصبح البشر عديمي الفساد.

 

رابعاً: نتيجة غلبة الموت والفساد التي
أكملها المسيح لحسابنا

في إطار معنى الخلاص

“اشتراك الإنسان في الطبيعة الإلهية” أو “اتحاد الإنسان
بالله” أو “تألُّه الإنسان”

 

§ إن أثناسيوس وهو يتكلَّم عن
نتيجة الخلاص، يركِّز بشدة على الإيمان ب“تألُّه الإنسان”، باعتبار هذه الحقيقة
تقليداً قديماً في الكنيسة، كنتيجة مباشرة آلت إلى الإنسان بسبب تجسُّد ابن الله
وتأنُّسه، ثم موته على الصليب الذي به تبرَّر الإنسان، والقيامة التي نال بها
الإنسان الحياة الأبدية.

§ “تألُّه الإنسان” هو التعبير المقابل “لتجسُّد الله (الكلمة)”. أي
أن “التأنُّس” يقابله “التألُّه”. الذي يعني: “الاتحاد بالله”، الذي ابتدأ الوحي
الإلهي يعلن عنه على فم بطرس الرسول بتعبير: «الاشتراك في الطبيعة الإلهية».

§ التزم بهذا التعليم الآباء القديسون إيرينيئوس ومَنْ بعده، إلى
أثناسيوس الذي بلغ القمة في برهانه وشرحه وتوضيحه([82]).

§ في اللاهوت الشرقي اتجاهان في ما يختص بتألُّه الإنسان:

الأول: أوريجاني: نسبة إلى أوريجانوس الذي يعتبر أن
أعلى ما يهدف إليه الإنسان هو أن يعود “إلى” حالته الأُولى التي خُلق عليها.

الثاني: عند إيرينيئوس وآباء آسيا الصغرى: وهم يعتبرون
أن الإنسان خُلق لغاية لم يستطع تحقيقها، وأن التجسُّد حمل الإنسان إلى تبعية رأس
آخر للبشرية (غير آدم)، وبالتالي حمله إلى غاية أخرى هي: “التألُّه”، كان يستحيل
عليه أن يبلغها لو بقي تحت رئاسته الأُولى القديمة.

§ ركَّز أثناسيوس على هذه الرؤيا اللاهوتية: التألُّه باعتباره
الغاية الحقيقية من الخلقة ومن التجسُّد، تلك الغاية التي تفوق قامة المعرفة
البشرية. هذه الرؤيا جعلها أثناسيوس مدخلاً ضمن أسلحته الماهرة لتحطيم الفلسفة
العقلانية التي للأريوسيين.

§ ولتبسيط معنى هذه الكلمة:

كما
أن المسيح أخذ بالاتحاد بالجسد البشري كل ما للإنسان
(ما عدا الخطية طبعاً)، هكذا الإنسان بالاتحاد بالمسيح
أُعطي كل ما لله «كل ملء الله» (أف 19: 3)، دون أن يخرج الإنسان عن إنسانيته أو
يستنفذ كل ما لله.

§ فتأنُّس الله أعطى فرصة لتألُّه الإنسان.

§ لكي نعرف الله، لابد أن نقترب منه. ويستحيل الاقتراب من الله
إلاَّ عن طريق “الكلمة” والروح. وهذا هو “الاتصال” الذي يؤدِّي إلى كشف طريق
الحكمة الإلهية والذي عليه يبني الإنسان فكره وسلوكه.

متى وكيف يبلغ الإنسان إلىكمال نعمة الاتحاد بالله:

§ يستحيل بلوغ كمال الاتحاد بالله، قبل أن يخلع الإنسان جسد الموت
الفاسد، ويلبس عدم الموت وعدم الفساد. علماً بأن ابن الله تجسَّد لكي يجعل كل ما
أخذه كلمة الله من الإنسان قابلاً للاتحاد بالله (التألُّه)، كذلك فإن كل ما
استرده المسيح للطبيعة البشرية عامة بالموت والقيامة أصبح غير قابل للضياع أو
الفقدان بسب أخطائنا. وهذا هو ضمان المسيح العجيب للخليقة الجديدة الذي هو رأسها
والضامن لتحقيقها.

§ وكما يتم الاتحاد بالله (التألُّه) عن طريق كلمة الله المتجسِّد،
هكذا يتم عن طريق الروح القدس أيضاً [بالاشتراك في الروح القدس نصبح شركاء الطبيعة
الإلهية … الذين فيهم الروح القدس، هؤلاء يصيرون آلهة (أي مشتركون في الطبيعة
الإلهية)].

§ عطية الاتحاد بالله هي حقيقة غير منازَع فيها، اتخذها القديس
أثناسيوس برهاناً على أن الروح القدس نفسه له طبيعة الله.

§ التحفُّظ الهام الذي يضعه القديس أثناسيوس (وسائر آباء الكنيسة)
في حقيقة اتحاد الإنسان بالله، هي أن “تأليه الإنسان” هو انتساب الإنسان لله، وهو
لا يُخرج الإنسان عن إنسانيته أو يلغي طبيعته الإنسانية، بل يظل الله إلهاً
والإنسان إنساناً.

كيف صار التجسُّد واسطة تأليه الإنسان:

§ بواسطة الاتحاد بجسد المسيح يتم تأليه الإنسان، لأن جسد المسيح
صار “متألِّهاً” بمجرَّد اتحاده بالكلمة: [نحن نتألّه ليس باشتراكنا في جسد إنسان،
بل بتناولنا من “جسد الكلمة” ذاته].

§ وحينئذ نتحرَّر من ضعفاتنا
ومن قيود خطايانا، وبالتالي نشترك في صفات وأمجاد اللوغس الكلمة.

§ تحوُّل الإنسان يعني أنه فقد الموت والفساد وتحوَّل عن الشر الذي
استُعبد له.

§ كل ما للكلمة صار للجسد البشري الذي اتخذه لنفسه، وهذا بالتالي
انتقل إلينا لمَّا أعطانا جسده [كما أن الرب لمَّا لبس الجسد صار إنساناً، هكذا
نحن البشر قد تألَّهنا (اتحدنا بالله) بالكلمة، لأنه أخذنا وضمَّنا إليه في جسده،
وبذلك ورثنا من الآن فصاعداً الحياة الأبدية].

§ كل ما قيل عن المسيح في ما يختص بتجسُّده وأعماله ومعجزاته وصلاته
… إلخ، هذه كلها هي غنائم للإنسان بسبب تجسُّد الكلمة.

§ و“تأليه الإنسان” عملية تتم على مستوى الفرد إذا تقدَّس الإنسان
بالروح القدس. ومن هذا التقديس الفردي بالله تتم الوحدة الكلية الشاملة “ليصير
الكل إلى واحد”.

الفرق بين اتحادنا بالله والوحدة بين الآب والابن:

§ القديس أثناسيوس يؤكِّد أن اتحادنا ووحدتنا مع الآب بالروح القدس
شيء آخر تماماً يختلف عن اتحاد الآب بالابن.

[الابن
في الآب مثل كلمته الخاصة ومثل شعاعه، أمَّا نحن فبدون الروح القدس نصير مفترقين
وغرباء عن الله، وباعترافنا الحسن نحتفظ به فينا].

§ “التأليه” هو تكميل عمل الآب في الخليقة، وتكميل الإنسان للسمو
إلى مستوى الأخلاق والسلوك والحب السمائي، فهو غاية المسيح من كل أعماله لخلاص
الإنسان، أي يبلغ بالإنسان إلى “الكمال المسيحي” ويصبُّه أخيراً في المحبة.

§ التألُّه (الاتحاد بالله) هو حاجة الإنسان كمخلوق بنوع عام، لأن
آدم باعتباره مجرَّد مخلوق لم يكن فيه أساس أمين للنعمة لتقيم فيه بدون خطر
الزوال، لأنه حاز نعمة الله كهبة من خارجه وليس في صميم طبيعته الترابية. لذلك
أصبح من أهم الأمور الأساسية في التجديد أن يتحد الإنسان بالنعمة أي بالروح القدس من داخل، ليصير للنعمة والقداسة أساس راسخ
فيه لا يزول.

 

خامساً: التبني وعقيدة وحدة المؤمنين
في جسد المسيح

في إطار معنى الخلاص

 

§ التبني عطية إلهية نحصل عليها بالاتحاد بشخص المسيح ابن الله. وهي
ليست مجرَّد علاقة تحكمها المشيئة أو العواطف.

§ أهم ما في علاقتنا هذه بالمسيح، هو أن هذا الاتحاد هو ثمرة مباشرة
للاهوت المسيح ومساواته للآب. هذا هو الأساس الذي يُبنى عليه حقيقة الخلاص وكل ما
يتعلَّق بخلاصنا، من تبني، وقبول الحياة الأبدية مع الله، ونوال صفات المسيح،
والشركة في مجده كميراث في الآب.

§ بنوَّة البشرية لله بعد التجسُّد أصبحت
أمراً حتمياً بسبب ابن الله، فالتبني هو ثمرة التجسُّد الإلهي.

§ والتبني أيضاً هو وجه من أوجه “التألُّه” أي “الاتحاد بالله”.
فحينما نتحد بالكلمة المتجسِّد، نصير فيه أبناءً بالتبني وأبناءً حقيقيين أي ورثة.

§ والحقيقة التي يؤكِّد عليها القديس أثناسيوس: هي أنه ليس بسبب
الخطية أساساً كان يستحيل على الإنسان الحصول على التبني، بل لأن طبيعته المخلوقة
لم تكن مؤهَّلة للتبني.

§ لذلك ما أسَّسه ابن الله في جسده أولاً كان لحسابنا، ومن ثمَّ
انتقل إلينا.

§ لاهوت المسيح هو ضمان بلوغنا الخلاص، وبالتالي التبني. فلكي نخلص
ونحيا إلى الأبد يلزم أن يكون المخلِّص الذي نتحد به إلها أزلياً. ولكي نكون
أبناءً لله يلزم أن يكون الابن إلهاً.

§ ينبغي أن ننتبه إلى أن منهج أثناسيوس اللاهوتي كلٌّ واحد لا
يتجزَّأ. فالإيمان بلاهوت المسيح، والاتحاد الأقنومي بين الكلمة والطبيعة البشرية،
وكمال بشرية المسيح، وخلاص الإنسان، وتأليهه بالنعمة؛ كل هذه الحقائق الخمس مرتبطة
بعضها بالبعض وذات أهمية واحدة؛ إمَّا تؤخذ كلها أو لا تؤخذ على الإطلاق.

§ هذه الحقائق الحية يُصرُّ أثناسيوس عليها ويكرِّرها، وكل مرَّة
يلقي ضوءًا جديداً عليها من زاوية جديدة.

§ ويبلور أثناسيوس الإيمان كله هكذا:


المسيح إله حقيقي وإنسان حقيقي بآن واحد.

– هو واحد بالحقيقة، أي لا تصدر عنه ثنائية، وذلك ليوحِّد
الإنسان بالله، كما هو واحد في ذاته.


وفي النهاية يفوز الإنسان بالتبني والحياة الأبدية.

§ التبني: هو وجود وسكنى واتحاد دائم بالروح القدس والكلمة. والروح
القدس هو الذي يتكلَّم فينا ويخبرنا بأمور المسيح، ويمجِّد المسيح فينا وبنا.

§ [ابن الله الذي فينا هو ابن الله بالطبيعة. والآب حينما ينظر أُولئك
الذين يرى فيهم ابنه، يقول الآب: “لقد ولدتكم” ويدعوهم أولاده].

التبني من خلال الجسد السري للمسيح:

§ اتخاذ الكلمة لكل ضعفات طبيعة بني الإنسان، يقابله منح الكلمة
أمجاده الإلهية الخاصة للطبيعة البشرية بصفة عامة.

§ على أن هذا الاتحاد العام، وهذا التحرير العام للطبيعة البشرية من
الضعفات، وهذا العطاء العام لأمجاد وحياة الكلمة، هو امتداد لمفهوم الجسد السري
العام للمسيح الذي يجمع المسيحيين كأعضاء الجسد الواحد.

§ فالمسيحيون يتحدون “بالكلمة” في شخص يسوع المسيح على أساس أن
الكلمة سبق واتخذ لنفسه الطبيعة البشرية واتحد بها في التجسُّد.

§ المسيح لمَّا قَبِلَ الضعفات التي للطبيعة البشرية بالتجسُّد لم
يفقد شيئاً بالمرَّة من مجد لاهوته، بل اكتسب وربح خليقته التي كانت في بطن
الشيطان، والآن صارت سبب مجد دائم لاسمه.

§ [كما أن الرب أخذ جسداً وصار إنساناً، هكذا نحن البشر إذ قد
حُسبنا ضمن جسد الكلمة، صرنا متحدين به أو إلهيين وصرنا ورثة للحياة الأبدية
(فيه)].

§ بصيرورتنا أعضاءً في الجسد الواحد الذي للمسيح، يمكننا أن نبلغ
إلى إنسان كامل وندوم في عدم الموت وعدم الفساد.

§ يتمسَّك القديس أثناسيوس تمسُّكاً شديداً بحقيقة الجمع بين بشرية
المسيح مع بشريتنا، لدرجة أنه يعتبرنا مقدَّسين ومتَّحدين في المسيح إلى الحد الذي
يرى فيه أن الوقار اللائق بالله وحده ينسحب على “الكلمة” الموجود فينا والمتحد
بنا، أي يشمل بشريتنا المفدية والمخلَّصة والمتَّحدة بالرب في أشخاص المؤمنين
القديسين.

§ حتى أنه يرى أن كل مَنْ يرانا، ونحن في حالة السمو الروحي بالروح
القدس، يصرخ بكلمات الرسول عينها: «يخرُّ على وجهه ويسجد لله منادياً أن الله
بالحقيقة فيكم.» (1كو 25: 14)

§ أثناسيوس يوضِّح معنى أننا صرنا واحداً في المسيح. ذلك أنه يجمعنا
كلنا في نفسه جسداً واحداً. ولأن جسد المسيح صار ممجَّداً ومكرَّماً في عين الآب
بسبب لاهوته، وبسبب اتضاع الابن، وطاعته وحبه للآب والخليقة؛ صرنا نحن (كل الذين
آمنوا وتقدَّسوا في المسيح) حائزين لهذا التكريم الإلهي عينه: «المجد الذي لي أنا
أعطيتهم».

§ الكمال الذي يبلغه الإنسان، هو نتيجة اتحاد المؤمنين بجسد المسيح:

[حتى
إذ يتحدون بهذا الجسد ويصيرون واحداً فيه، يصيرون أيضاً كاملين؛ حتى يكونوا جميعاً
جسداً واحداً وروحاً واحداً، إنساناً كاملاً، كإنما أحملهم جميعاً في ذاتي].

الفرق بين الوحدة بين الآب والابن، والوحدة بين المسيحيين
والآب:

§ الأريوسيون وهم يراوغون يدَّعون أن أثناسيوس ينادي بتساوي
“الوحدة” الحاصلة بين الآب والابن، و“الوحدة” الحاصلة بين المسيحيين والآب؛ حتى
يبلغوا من وراء هذا الاتهام المزيَّف إلى التقليل من شأن الرابطة بين الآب والابن.

§ وأثناسيوس، وهو يرد عليهم، يحدّد بوضوح الفرق بين طبيعة كل وحدة
عن الأخرى:

فالوحدة
الممنوحة للمسيحيين هي بالنعمة، ووحدانية الابن في الآب هي وحدانية جوهر.

هو ابن حقيقي ووحيد بالجوهر، ونحن أبناء الله
فعلاً ولكن بالنعمة حسب عطية ذاك الذي دعانا لهذا.

بالرغم من كوننا بشراً فقد أصبحنا نُدعى آلهة
ليس كالله أو كلمته اللذين هما بالحق وإنما بحسب مسرَّة الله الذي
أعطانا هذه النعمة.

نحن أبناء بالتبني والنعمة، إذ صرنا شركاء في
روحه.

هو “الحق” ونحن بالاقتداء نصير فضلاء وأبناءً.

هو “المثال” و“النموذج” الذي عليه تصير وحدتنا
بالآب.

بدون الله تصير هذه الوحدة مستحيلة. ولابد أن
نحفظها برباط المحبة.

وجودنا في الآب هو من الروح الساكن فينا
وليس منا.

هذا التعليم هو أساس إيمان الكنيسة:

§ القديس أثناسيوس بتعليمه الواضح عن الوحدة القائمة بين المؤمنين
والله على أساس الشركة في الروح القدس والكلمة، وبالاتحاد بجسد المسيح، يكون قد
وضع أساس إيمان الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة.

§ هذه العقيدة بلغت منتهى كمالها ونضوجها
اللاهوتي عند القديس كيرلس الكبير في القرن الخامس
.

§ أثناسيوس في كل جداله مع الأريوسيين، لا يغيب عن رؤياه “اتحاد
المخلِّص بخاصته”، سواء اتحاد الكلمة بجسده الخاص أو اتحاده هو بنا جميعاً.
أثناسيوس يجمع بين الاثنين معتبراً أن هذا هو الذي جمعه الله، ولا يستطيع أحد أن
يفرِّقه.

§ وهذا الارتفاع والإعلاء الذي ناله المسيح بقيامته وصعوده، وهو ما
اعتبره الأريوسيون برهاناً على عدم لاهوت المسيح؛ اعتبره أثناسيوس عكساً لذلك منطلقاً
لارتفاع وإعلاء البشرية كلها إذ من أجلنا نحن كان هذا الارتفاع والإعلاء، لأنه
بسبب لاهوته لم يكن محتاجاً لهذا ولا لذاك.

§ لاهوت المسيح هو الذي جعل التجسُّد مفتاحاً كبيراً لنا، فتح
أمامنا كل أسرار الخلاص والفداء والحياة الأبدية للكنيسة كلها.

§ وفي كل هذه الحقائق الإيمانية، كان أثناسيوس كوارث بالتقليد لكنز
العقيدة والإيمان الحي من الرسل والأنبياء والآباء، صقلها بالنعمة والإلهام ليجعل
منها تاجاً على رأس الكنيسة، تشعُّ على كل الأجيال لاهوتاً حيًّا يُفرِّح قلوب
المؤمنين.



اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى