علم

أنبا مقارة الكاتب



أنبا مقارة الكاتب

أنبا
مقارة الكاتب

قال
مقارة الكاتب
: أردتُ الدخولَ إلى مدينةِ الإسكندريةِ لقضاءِ بعض حوائجي،
ولما دخلتُ إلى المدينةِ قابلني رجلٌ لا أعرفه خارجاً من المدينةِ، وعلى كتفِه
وعاتقهِ آلةُ صناعةِ البستانِ ومعه من ثمارِه، فقال لي: «من أين أتيتَ يا أبي،
وإلى أين تذهبُ»؟ فقلت له: «أنا من الوادي المقدس، وأنا طالبٌ هذه المدينةَ».
فقال: «أنا أسألك أن تبيتَ عندي الليلةَ في منزلي، وعند الصباحِ تمضي حيث تريد».

وكان
ذلك الوقت مساءً، وسألني باسم يسوع المسيح، فأجبتُه إلى ما سأل، وكنتُ لا أعلمُ
معبودَه، ولا مذهبه، إلا أنه يعرفُ كلامَ أهلِ الجبالِ، وهي اللغة القبطية، فمضيتُ
معه إلى منزلِه، فأخرجَ مفتاحاً، وفتح البابَ، ودخلنا، فنظرتُ يميناً وشمالاً، فلم
أجد شيئاً سوى حصيرةٍ، قد مضى عليها مدةٌ من الزمنِ، ووعاءً فيه ماء، وحبلاً
مشدوداً في سقفِ البيتِ، وكتاباً موضوعاً على كرسي، وسراجاً فيه زيت، ومنديلاً فيه
رغيف من الخبزِ اليابسِ لا غير. فقدَّم لي ماءً أولاً، فغسلتُ وجهي ورجليَّ، ثم
بعد ذلك انتصب إلى الصلاةِ، فوقفتُ وصليتُ معه إلى حينِ أتم صلاتَه، وأنا معه،
فأحضر ذلك الرغيف اليابس وقليلاً من الملحِ، وسألني أن آكلَ، فأخذتُ وأخذ معي، وأكلنا
جميعاً.

أما
أنا، فلما وقع ذلك الطعامُ في فمي، وإذا طعمُه مثل شهدِ العسلِ، وأحلى منه،
والملحُ أيضاً كان كأنه مثل ذلك، فتداخلني العَجَبُ، وأكلنا من رغيفِ الخبزِ هذا،
نحن الرجلين، ولم يذهب منه شيءٌ، فقلت: «يا ليت شِعري، ما هذا الرجل»؟

وبعد
أكلِ الطعام بدأ يسألني عن الكتبِ المقدسةِ، وما فيها من آلام المسيح، ويشرحُ
تفسيرها، ورغم أني كاتبٌ جميعُ أيامي كلِّها، ومطَّلع في الكتبِ المقدسةِ، إلا أني
لم أكن عارفاً بما أوضحه لي. فقلتُ: «هذا من اللهِ، هذا الرجل هو ملاكٌ، وإن الله
سهَّل طريقي، إذ جمعَ بيني وبينه». وكنتُ أسمع منه، ولا أقدر أن أجيبه، لأجلِ ما
فيه من الروحِ الناطقةِ.

ولما
كان الصباحُ، وهو لم ينم، أخذ آلتَه، وأراد الخروجَ إلى المكانِ الذي فيه الكرم
الذي كان له، وأنا لا أعلمُ بذلك، وقال لي: «أنا أريدُ أن أخرجَ إلى عملي باكراً
حتى أنصرفَ باكراً»؛ وإنما كان يشيرُ بذلك إلى الآخرةِ، وأنا لا أعلمُ. ودفع لي
مفتاحَ منزلِه، وقال لي: «اخرج أنت واقضِ ما تريده من حوائجك، وعد إلى منزلي، فإنك
تكون عندي إلى عشرةِ أيامٍ»، فأخذتُ المفتاحَ، وتوجَّه هو إلى عَمَلِهِ.

أما
أنا فقد مضيْتُ إلى البيعةِ والصلاةِ وتناول الأسرار، فوجدتُ فيها رهباناً قديسين
كنتُ أعرفهم، فلما رأوني، فرحوا بي وقالوا لي: «يا مقارة، متى أتيتَ إلى هنا»؟
فقلتُ: «بالأمسِ». فقالوا: «أين أنت نازلٌ»؟ فقلت لهم عن صفةِ ذلك الرجلِ،
فتعجبوا، ولم يعرفوه، فسألوا عنه الرجلَ الذي كان قيِّماً بالبيعةِ، وهو خبيرٌ
بجميعِ سكانِ المدينةِ، فلم يعرفه، وكان ذلك عجيباً.

ولما
فرغتُ من الصلاةِ والقداس، عدتُ أريدُ المنزلَ، فلم أجده، وتعبتُ متحيراً، لا أدري
كيف أذهبُ، فتفكرتُ وقلتُ: «لعل الذي رأيتُه كلَّه كان مناماً، أمضي وأجلس على
الطريقِ في المكانِ الذي اجتمعتُ به فيه أولاً، لعلي أراه».

وكنتُ
قد وضعتُ في المنزلِ قبل خروجي منه بعضَ حوائجي، فخرجتُ إلى خارجِ المدينةِ،
وجلستُ على الطريقِ في المكانِ الذي اجتمعتُ به فيه أولاً، فلم أجلس إلا قليلاً،
وإذا بذلك الرجلِ قد أقبلَ عليَّ، على تلك الحالةِ الأولى، فتطلَّع وأبصرني، وقال
لي: «لِمَ خرجتَ إلى ها هنا»؟ فأعلمتُه بجميعِ ما نالني في ذلك اليوم. فقال لي:
«أسأتَ إليَّ اليومَ لَمَّا فعلتَ هذا، إني رجلٌ مُطَالبٌ بما قدمته يداي، وكنتُ
لا أريدُ أن يعرفَ موضعي أحدٌ»، وهذا كان تعليماً حسناً.

ثم
إنه مشى، وأنا أتبعه، حتى دخلنا إلى المنزلِ، وفعل مثلَ المرةِ الأولى، وأقمتُ
عنده ثلاثةَ أيامٍ، وذلك الرغيف لم يذهب منه شيءٌ، وقضيتُ بعضَ حوائجي في هذه
المدةِ، وأردتُ الانصرافَ، فقال لي: «ألم أقل لك إنك ستقيم عندي عشرةَ أيامٍ»؟

وأخذ
آلتَه، وأراد الخروجَ إلى كرمِهِ، فقلتُ له: «أنا أمضي معك اليومَ إلى كرمِك
لأبصرَه، وأنظرَ عملَك». فقال لي: «قم وامشِ»، وأخذ بيدي، وخرج أمامي، وأنا أتبعه
حتى خرجنا من بابِ المدينةِ. وإذا بثلاثةِ رجالٍ، لابسين لِباسه، ومعهم أداةً مثلَ
أداتِه، وقالوا له: «قد أبطأتَ علينا، انهض»، فنهضَ وهو يقول لي: «يا مقارة، امشِ
خلفَنا». فمشيتُ وأنا أريد أن أكلِّمهم، وهو وإياهم لا يلتفتون إليَّ، وهم مجدين
في المسيرِ، وأنا لا أعلمُ أين يريدون إلى وقتِ صلاة الثالثةِ من النهارِ؛ وإذا
نحن قد أشرفنا على عينٍ جاريةٍ ونهرِ ماءٍ لا يعرفُ أحدٌ آخِرَه، وحوله شجرٌ من
النخيلِ والعنب والزيتون والتين والرمان؛ فصلوا، وأخذوا الأداةَ التي معهم، وجعلوا
يكرمون في تلك الأشجار، ولا يأكلون من ثمارِها، وأنا كنتُ متفكراً.

فدنوتُ
إلى الرجلِ الذي كنتُ نازلاً عندَه، وقلتُ له: «هؤلاء القوم شركاؤك في هذه
الروضةِ، لم يكلموني»، فقال لي: «هم يعرفونك، لكنهم يقولون إنك لا تريدُ أن تكونَ
معهم مقيماً». فقلتُ: «إنهم يعملون أعمالاً لا أعرفها، وأنا مشغولٌ بما أنت عارفٌ،
فإني أكتبُ كتبَ البيعةِ، وأريد بذلك عمارتها، فأجدد ما قدم منها».

وأقمتُ
ذلك النهارَ كلَّه معهم، وعند صلاة التاسعةِ أكلتُ من ثمرةِ ذلك الشجرِ، وكنتُ
أُكثرُ من الأكلِ منه ولا أملُّ، وهي لا تُشبعني، فقلتُ لذلك الرجلِ: «إن ثمرات
هذا الشجرِ لا تُشبع الجائعَ». فقال كلاماً، وهو تعليمٌ روحاني: «إنّ اهتمامَك هو
بطعامِ العالمِ، وتركتَ الاهتمامَ بالعملِ الصالحِ، والطعام الروحاني»؛ وللوقتِ
علمتُ أن القومَ صالحون، فدنوتُ إليهم أريدُ أن أتباركَ منهم، وطلبتُهم فلم أجدهم.

وبقيتُ
في الروضةِ وحدي، أطوفُ فيها يميناً وشمالاً، ولا أدري أين أذهبُ، وأقمتُ على هذه
الحال عاماً كاملاً، آكُلُ من ثمرِ الشجرِ، ولا أدري من يجاوبني، ولا القوم الذين
رأيتُهم، وقلتُ: «لقد فعل الله معي، مثل قديسيه، وأسكنني هذا الجنان، وهو الذي
بعثَ لي هؤلاء القوم الذين رأيتُهم».

وبينما
أنا في آخرِ العامِ، وإذا بي أرى ركاباً يريدون المسيرِ إلى حاجتهم، فتقدمتُ
إليهم، وقلتُ لهم: «إلى أين تقصدون»؟ فقالوا: «مدينةَ الإسكندريةِ». فقلتُ لهم:
«هل لكم أن تأخذوني معكم؟ فإني ها هنا في هذه البريةِ لا أعلمُ أين أذهبُ»، حدث
هذا لما داخلني الفكرُ بحبِ العالمِ بينهم، فظهر لي الشيطانُ وجنودُه في هذه
الهيئةِ، ليخرجوني من الموضعِ الرحبِ إلى الضيقِ والتعبِ. وحملوني وأنا لا أعلمُ
أنهم الشياطين؛ وفي أسرعِ وقتِ مضيتُ إلى مدينةِ الإسكندرية، وكان رجلٌ من الركابِ
يقول: «قد ربحنا هذا، وأخرجناه من النعيمِ إلى التعبِ».

وفيما
أنا متفكرٌ في كلامهِ، إذا بالرجلِ الذي كنتُ نازلاً في منزلهِ، وكنتُ قد جعتُ،
فمشى أمامي وأنا أتبعه إلى منزلِه، فأحضر لي ذلك الرغيفَ بعينِه، وأكلتُ، وأكل معي
كالعادةِ، وقال: «يا مقارة، أين كنتَ في هذه المدة»؟ فقلتُ له: «إني في الروضةِ،
ومنذ فارقتُك انتظرتُك عساك تعودَ إليَّ، فلم أنظرك إلا في هذه الساعةِ»؛ ثم أقبل
عليَّ، وقال لي: «يا مقارة، اخترتُ لك مكاناً تكون فيه، ولكنك لم ترغب فيه؛ لكن
الشيطانَ العدو، هو الذي أخرجك منه ولم تعلم». فقلتُ له: «يا أبي، مَن هؤلاء القوم
الذين كانوا معك»؟ فأخبرني بأنهم قديسون عظام، يسكنون هذه المدينةَ، ومنازلهم مثل
منزلي هذا، ونحن كلّ يومٍ نمضي مع بعضنا سراً إلى هذه الروضةِ، نصلي فيها، ونُصلح
أشجارها، ونعودُ إلى منازلنا، وأهلُ هذه البلادِ لا يشعرون بنا، فلو صبرتَ قليلاً،
لكنتَ لنا رفيقاً. هل تعرف هذه البريةَ والروضةَ؟ فقلت: «لا». فقال لي إنها من
الجنانِ التي وعدَ الله بها أتقياءه وأصفياءه، ولا يعرف أحدٌ من الناسِ بُعدَ
المسافةِ بين العالم الكوني وبينها.

وللوقتِ
صرتُ نادماً، وكلح وجهي، وأطرقتُ وجهي إلى الأرضِ، ولم أستطع رفعَ رأسي، ثم رفعتُ
صوتي وبكيتُ نادماً، فقال لي: «قم ارجع إلى مكانِك، فإنّ اللهَ جعلَك لتمجيدِ اسمه
فيما تكتبه، وستصير راعياً، وأخبرني بأشياءٍ كثيرةٍ، وأقمتُ عنده بقيةِ العشرةِ
أيامٍ التي ذكرها، ولم تكن المدة التي كانت، وكنتُ فيها في الروضةِ، إلا مثل منامٍ
رأيته، وإني سألتُه في عدةِ مسائل وأبوابٍ، فأخبرني بها، وقد كتبتُها في كتابٍ
آخر.

ولما
أردتُ المسيرَ، أخرج لي ذلك الرغيف، وأعطاه لي، وقال لي: «استعمل منه وقتَ حاجتك،
فإنه يُغنيك عن كثيرٍ من الطعامِ، واحذر أن تُعلِمَ أحداً بما رأيتَ، وسطِّره في
كتابٍ، ولا يقرأه أحدٌ إلا بعد وفاتِك، وإني أُعلمك أنك ستكونَ رئيساً، وتدوم
رئاستُك اثنتين وعشرين سنةً، وتكتب كتباً كثيرةً، فيها عجائب وبراهين، وهي تكون
بعدك ذِكراً لك».

ولما
خرج يريدُ أن يودعني عند مسيري، قال لي: «يا ولدي أوصيك إذا انتقلتْ إليك
الرياسةُ، فلا تَكبُر نفسُك على أخيك، بل كن متواضعاً، رحوماً جداً، عفيفاً،
وطوباك لأنك تقدس قرابين كثيرة، وتصبغ شعباً كبيراً بالمعموديةِ. وفي العام
التالي، تأتي إلى هذا المنزلِ، وتطلبني، ويهديك الله إليه».

ثم
إني انطلقتُ، وفي تلك الساعةِ وصلتُ إلى مسكني بدير برموس، ولم يمضِ إلا خمسةٌ
وعشرون يوماً، وإذا بالأب البطريرك البابا ديمتريوس يدخل إلى الدير، ويأخذني
ويرسمني أسقفاً على كرسي نقيوس، وسلم إليَّ رعايةَ شعبٍ كثيرٍ، كما ذكر لي الأب
القديس؛ ولما كان في العام الثاني، أتيتُ إلى مدينة الإسكندرية، واجتمعتُ بذلك
الأب القديس، فوجدتُه على حالِه، وعندما رآني، قبلني وقبلته، ونزلتُ بمنزلِه،
ووجدتُ عنده القومَ رفقاءَه، فسلموا عليَّ، وسلمتُ عليهم، وقالوا: «يا مقارة،
اليوم تحصنتَ من الشيطانِ، احفظ هذه، فهي حصنٌ عظيمٌ»، وتباركتُ منهم، وودعوني،
فلما أرادوا المسير، سألتهم هل لي وصولٌ إلى تلك الروضةِ؟ فقالوا: «لا، فهو ذا أنت
ترعى شعباً كثيراً، إياك أن تحيفَ في الحكمِ أو تحابي».

وأما
أنا، فإن ذلك الرغيفَ الذي أعطاني إياه القديس، فقد كنتُ آكل منه في اليومِ ما
يغنيني عن ثلاثةِ أيامٍ، وسألتُ القديس عنه، فلم يخبرني ما هو.

وأنا
مقارة، كتبتُ هذا جميعَه، وكنتُ قد سألتُ الله أن يحلَّ هؤلاء القوم في منزلي
ويصلُّوا في بيعتي بنقيوس، فرأيتُ أحدَهما قائماً أمامي، وقال لي: «يا مقارة، إنك
لن ترانا إلى اليوم الذي تمضي فيه إلى ربك، فنكون حاضرين الصلاةَ عليكَ».

فنسأل
الله أن يجعلنا من العاملين بطاعتِه، ويكفينا شرّ الشياطين، آمين.

 

كان
شابٌ اسمه مقارة
، اتفق له وهو يرعى ويلعب مع صديقٍ له، فقتله بغيرِ تعمدٍ،
ولم يعلم به أحدٌ. فمضى لوقته إلى البريةِ وترهب، وأقام ثلاث سنين في البردِ
والحرِ، في أرضٍ ليس فيها ماءٌ. وبعد ذلك بنى كنيسةً داخل البريةِ، وأقام فيها
خمساً وعشرين سنةً، واستحق نعمةً من الله، حتى إنه قويَ على الشياطين، وفرح في نسك
الرهبنةِ. وأقمتُ بالقربِ منه زماناً، ولما صار لي عليه دلالٌ، فتشتُهُ عن فكرِهِ
بسبب خطيةِ القتلِ، فقال: «أقمتُ أياماً كثيرةً متعباً، لأجلِ هذا الفكر، وهو
يلازمني ليلاً ونهاراً، ويقلقني جداً، وآخر الأمرِ أراحني الربُّ من حزنِ القلبِ
بسببه، حتى لقد شكرتُ القتلَ الذي فعلتُه بغيرِ اختياري، لكونه كان سبباً لخلاصي،
وبنعمةِ الربِ صرتُ، إذا تعرضتْ إليَّ الشياطينُ، بفكرِ تعظيم القلبِ، ويقولون لي:
قد صرتَ رجلاً عظيماً أكثرَ من الرهبانِ كلِّهم، فأجيبهم قائلاً: «والقتل الذي
فعلتُه، ما أشد عذابي في الجحيم بسببه». فيمضون عني. ومرةً أخرى يقولون لي: «أيها
القاتل، لماذا تقعد في هذه البريةِ، وليست لك توبةٌ، فتتعب في الباطلِ، امضِ إلى
العالمِ واصنع إرادتك لئلا يفوتك الأمران»، فأقول لهم: «الربُّ الذي صنع الرحمةَ مع
عبدِه موسى، يرحمني أنا أيضاً»، وكنتُ أعزي نفسي وحدي بأن موسى لم يستحق أن يرى
الله، إلا بعد أن هرب من مصر، ودخل البريةَ، لأجلِ الذي قتله بغيرِ اختياره.

وما
قلتُ هذا ليطيبَ قلبُ أحدٍ بالقتلِ، بل ليعرفوا أن أسباباً كثيرةً مختلفةً تجتذبُ
الناسَ إلى الفردوس؛ فواحدٌ يهربُ لأجل الفقرِ والاستدانةِ، وآخر يهربُ من جورِ
المتسلطين، وآخر بسببِ زنى زوجته، وآخر من شرِّ أسياده، وبالجملةِ فإن قوماً
يهربون من الخوفِ الدنيوي، وقوماً يحبون الله، ويؤثرون خلاصهم، فيصيرون رهباناً
بإرادتهم.

قال
دورثاوس
:
«إن الأوجاعَ هي غيرُ الخطايا، فالخطايا هي عملُ الأوجاعِ بالفعلِ، والأوجاعُ هي
أسباب الخطايا، فقد يوجد إنسانٌ فيه الأوجاع كالغضبِ الضار، وشهوةِ الشرِّ، ولا
يستعملها.

والقديسون
ما اكتفوا بأن لا يفعلوا الشرورَ فقط، بل واجتهدوا في أن يقلعوا من نفوسِهم
الأوجاعَ التي هي أصولُها، ولما صَعُبَ عليهم ذلك وهم بين العلمانيين، تغرَّبوا في
البريةِ، ولازموا الصوم والصلاةَ والسهرَ، فقاموا بما قُرر عليهم من الوصايا، من
عفةٍ، ومسكنةٍ، ونافلةٍ، وغربةٍ، لتكميل وصايا الربِّ. وزيادة العفةِ، وهي عدم
الجماع البتة. والمسكنةِ، وهي عدم القنيةِ بالكمالِ. والنافلة، وهي ما زاد على
الفريضةِ، وهي الرهبنة. وفرزوا للرهبنة شكلاً (أي زِيًّا) فيه رموزٌ على غرضها.
أما القلونية التي ليس لها كُم، فإذا أردنا أن نعملَ بأيدينا شراً، إما بالسرقةِ،
أو الضربِ، أو غيرهِ، فإن ذلك يُقصِّر أيدينا كتقصيرِ كُمِّنا. وأما الاشتداد بالمنطقةِ،
فللتشمر والاجتهاد في خدمةِ اللهِ، وكونها من جلدٍ ميت، لنميتَ أوجاعَنا. وأما
الأباليون بشبهِ الصليب، فإشارة إلى حملِ الصليبِ واتِّباع سيدنا. وأما القوفلية،
فهو شبه الخنق، وهو لباس الأطفال، والأطفال لا مكر عندهم، ولا حقد ولا نجس، ولا
إقامة هوى، وذلك هو أكبر أغراض الرهبنةِ».

قال
شيخٌ
:
«الرهبنة هي غربةٌ، وفقرٌ، وصبرٌ على البلايا والظلمِ».

وقال
أيضاً
:
«إن لم تبغض الإثمَ، فلن تستطيعَ أن تحبَّ البرَّ، كما كُتب: حِدْ عن الشرِّ واصنع
الخيرَ».

كذلك
قال
:
«النيةُ هي المطلوبةُ في كلِّ موضعٍ، لا الموضعَ، فإنَّ آدم كان جالساً في
الفردوسِ، وأطاع مشورةَ الشيطانِ، وتبعَ هواه وعصى وصيةَ اللهِ، وأيوبَ كان جالساً
على المزبلةِ، وقاوم الشيطانَ، وضبطَ هواه، وحفظ وصيةَ الإله».

كما
قال
:
«إنَّ المسيحيين الحقيقيين، هم أفضلُ الأممِ، والرهبان (الحقيقيين) أفضل
المسيحيين».

كان
رئيسُ ديرٍ

أباً لمائتي راهب، هذا زاره السيد المسيح بصورةِ شيخٍ مسكينٍ، فسأل البوابَ أن
يقولَ للمعلمِ عنه، فدخل، فوجده يخاطب آخرين، فصبر، ثم عرَّفه، فقال له: «دعنا في
هذا الوقتِ»، فتأخر البوابُ. وعند الساعةِ الخامسةِ زارهم رجلٌ مُوسِرٌ، فتلقاه
رئيسُ الديرِ بسرعةٍ، فتقدم ربنا سائلاً قائلاً: «أريدُ يا معلم أن أكلمَك»،
والرئيسُ دخل مع ذلك الغني مسرعاً ليصلحَ له طعاماً، بمعنى أنه غريبٌ، وبعد الأكلِ
شيَّعه إلى البابِ، ونسي المسكين إلى المساءِ، ولم يَقبل الغريبَ المسكين. ثم
انصرف الربُّ، بعد أن راسله على لسانِ البوابِ قائلاً: «قل للمعلمِ إن كنتَ ترى
كرامةً وتشريفاً، فذلك لأجلِ سالفِ تعبك، إني مرسلٌ لك أقواماً يزورونك من أربعِ
جهات الدنيا، وأما خيرات ملكوتي، فلا تذوقها». فعرف حينئذ أن الشيخَ المسكين، هو
الربُّ، وتندم وتألم.

اتفق
اثنا عشر

من القديسين الحكماء، واجتمعوا على رأيٍ واحدٍ، ورغب بعضُهم إلى بعضٍ في أن
يَذكُرَ لهم طريقةَ نسكِهِ، لينتفعوا:

فقال
الأول: « أنا منذ بدأتُ بالانفرادِ، صلبتُ ذاتي عما هو خارج عني، وجعلتُ فيما بين
نفسي وبين الأشياءِ الجسمانيةِ سوراً، وصرتُ في بيتي، كمن هو داخل السورِ، فلا
ينظر إلى ما هو خارج عنه، فكنتُ أتأمل ذاتي فقط، منتظراً الرجاءَ كلَّ وقتٍ من
اللهِ، وصوَّرتُ الأفكارَ الخبيثةَ بصورةِ العقاربِ والحيات، فمتى أحسستُ بها
متحركةً فيَّ، طردتُها وأبعدتُها بالغيظِ والتهويل، وما كففتُ في وقتٍ من الأوقاتِ
من الغضبِ على نفسي وجسمي، لكي لا يعملا عملاً شريراً».

وقال
الثاني: «أنا منذ زهدتُ في العالمِ، قلتُ في نفسي، اليومَ وُلدتَ، فاترك ما مضى
وابتدئ بالعبادةِ لله. وأنزلتُ نفسي منزلةَ الغريبِ في المكانِ الذي من شأنهِ أن
ينصرفَ غداً».

وقال
الثالث: «أنا من باكرِ النهارِ أطرحُ ذاتي على وجهي أمامَ ربي، وأقرُّ بجرائمي، ثم
أتضرعُ للملائكةِ أن يسألوا الله العفوَ عني، وعن الناسِ جميعاً، ثم أطوفُ أماكنَ
العذابِ بعقلي، وأبكي وأنوح إذ أرى أعضائي مع الذين يُعاقبون ويبكون».

وقال
الرابعُ: «أنا أتصور نفسي جالساً في جبلِ الزيتون مع ربنا وملائكتهِ، وأقولُ
لنفسي، منذ الآن لا تعرف أحداً بالجسدِ، بل كن مع هؤلاءِ دائماً، بمنزلةِ مريم
الجالسةِ عند قدمي السيدِ، لتسمعَ أقواله سماعاً مطيعاً، كقولِ ربنا: كونوا
أطهاراً لأني طاهرٌ، كونوا كاملين مثل أبيكم الذي في السماءِ، فإنه كاملٌ،
تعلَّموا مني فإني وديعٌ ومتواضعٌ بقلبي».

وقال
الخامس: «وأنا أتصورُ الملائكةَ صاعدين ونازلين، في استدعاءِ النفوسِ، وأتوقعُ
وفاتي كلَّ يومٍ، وأقول: مستعدٌ قلبي يا إلهي».

وقال
السادس: «أنا أستشعرُ كلَّ يومٍ أنني أسمعُ من ربنا هذه الأقوال: اتعبوا من أجلي
فأُنيّحَكم، إن كنتم أولادي فاستحوا مني كأبٍ محبٍ، وإن كنتم إخوتي فوقروني، إن
كنتم أحبائي فاحفظوا وصاياي، إن كنتم رعيتي فاتبعوني».

وقال
السابع: «أنا أذكِّرُ نفسي بهذه: وهي الإيمان والرجاء والمحبة، حتى أنجح
بالإيمانِ، وأفرح بالرجاء، وأكمل المحبة لله والعبادة».

وقال
الثامن: «أنا أرى المُحال طائراً طالباً واحداً يبتلعه، وأرفعُ نظري العقلي إلى
إلهي واستنجدُ به عليه في أن لا يدعه يتقوى على أحدٍ، وخاصةً على الخائفين منهم».

وقال
التاسع: «إني أرى كلَّ يومٍ كنيسةَ القواتِ المعقولةِ، وأعاينُ ربَّ المجدِ، في
وسطِها، لامعاً جداً، وأسمعُ نغماتهم في تسابيحهم التي يرفعونها إلى الله، بمنزلةِ
من قد فَهِمَ ما هو مكتوبٌ: إن السماواتِ تخبر بمجدِ الله، فأحسبُ كلَّ ما على
الأرضِ رماداً وكُناسةً، ويزولُ عني الضجرُ والتعبُ والغم».

وقال
العاشرُ: «أنا أرى الملاكَ الذي معي قريباً مني، وصاعداً بأعمالي وأقوالي، فأحفظُ
ذاتي، وأتذكرُ قولَ النبي: سبقتُ فرأيتُ الربَّ أمامي في كلِّ حينٍ، لأنه عن يميني
لكي لا أتزعزع».

وقال
الحادي عشر: «أنا أضعُ وجهي على ضبطِ الهوى، والعفةِ، وطولِ الروحِ، والمحبةِ،
وأقولُ لنفسي: لا ننم».

وقال
الثاني عشر: «أما أنتم فلكم أجنحةٌ من السماءِ، طالبين ما في العُلا، فقد انتقلتم
بالنيةِ من الأرضِ، وتعريتم من هذا العالمِ، فأنتم أناسٌ سمائيون أو ملائكةٌ
أرضيون. وأما أنا، فإذا قايستُ نفسي بكم، أكونُ غيرَ مستحقٍ الحياةَ، لأني أُعاينُ
خطاياي أمامي في كلِّ حينٍ، وأينما توجهتُ تتقدمني، وقد حكمتُ على ذاتي أني في
جملةِ الذين تحت الأرضِ قائلاً: سأكون معهم، إذا كنتُ مستوجباً أن أكونَ قريبهم،
وأُبصرُ هناك الدودَ والحسراتِ والعبراتِ المتصلةَ المُرةَ، أقواماً تُقعقع
أسنانُهم، ويقفزون بجملةِ جسمِهم مرتعشين، من رؤوسهم إلى أرجلهم، وأطرحُ ذاتي على
الأرضِ، وأنثرُ الرمادَ عليَّ، متضرعاً إلى اللهِ، في أن لا أباشرَ تلك العقوباتِ،
وأنظر أيضاً بحرَ نارٍ يغلي، ويعجّ، يتوهم من يُبصرُه، أن أمواجَه تبلغُ إلى
السماءِ، وملائكةٌ متنمرين يطرحون أناساً لا يُحصَون في ذلك البحرِ المريع، وكلهم
يعجُّون بولولةٍ عظيمةٍ، ويحترقون كالقشةِ، وقد ارتدَّتْ عنهم رأفاتُ اللهِ، لأجلِ
آثامهم، وأنتحبُ على جنسِ البشرِ، وأتعجب كيف يجسُرُ أحدٌ أن يتكلمَ كلمةً أو
ينظرَ نظرةً بمخالفةٍ، وقد أُعدتْ هذه العقوبات، لكلِّ من لا يؤمن بالإلهِ ويطيع
وصاياه، وبهذا أضبطُ النوحَ في نفسي، والدموعَ في عيني، وأحكمُ على ذاتي بأني لستُ
أهلاً للسماءِ، ولا للأرضِ، متشبهاً بالنبي القائل: صارت دموعي لي خبزاً نهاراً
وليلاً».

فهذه
أقوالُ وسيرةُ الآباءِ المغبوطين، فطوبى لمن اهتدى بأقوالهِم، واقتدى بأفعالهِم،
ومِن ربنا نسألُ العفوَ والعونَ، وله نقدمُ التسبيحَ والشكرَ، ولأبيه الصالح،
وروحِ قدسِه، الآن ودائماً، آمين.

كان
شيخٌ قديس
،
إذا قام بخدمةِ القداسِ، يرى ملاكين واقفين، واحداً عن يمينِه، والآخرَ عن
اليسارِ، هذا كان قد أخذ نسخةَ القداسِ، من واحدٍ من ذوي البدع في الإيمانِ، وإذ
كان ساذجاً، لا يعرفُ تحريرَ الآراءِ الإلهيةِ في تقديسهِ بسذاجةٍ، فقد كان يقولُ
كما في النسخةِ، ولا يعلم أنه يغلط. وبتدبيرٍ من اللهِ، زاره شماسٌ، راهبٌ، عالمٌ،
فلما خدم الشيخُ القداسَ بحضرتِه، قال له: «هذا ليس قولَ أصحابِ الأمانةِ
الصحيحةِ»، وإذ كان الشيخُ يبصرُ الملاكين في قداسِه، فإنه لم يلتفت إلى قولِ
الشماس. أما الشماسُ، فإنه لبث يقول له: «غلطتَ يا أبي، والكنيسةُ الأرثوذكسية، لا
تقبلُ هذا القولَ». ولما رآه الشيخُ لا يكفُّ عن توبيخهِ، التفتَ إلى الملاكين،
وقال لهما: «ما معنى قول الشماس»؟ فقالا له: «اقبل منه، فقد قال لك الصوابَ». فقال
لهما الشيخُ: «وأنتما، ما بالكما لم تقولا لي»، فقالا: «إنَّ اللهَ رسمَ هذا
التدبيرَ، أن يُصلحَ الإنسانَ، إنسانٌ مثله». فانصلح رأيُ الشيخِ من ذلك اليوم،
وشكر الله تعالى، والشماسَ.

قال
القديس يوحنا ذهبي الفم
: «إذا ما أخطأنا، فإن الله قد يُنهض علينا
أعداءَنا ليؤدبونا، وعلى هذا فلا ينبغي أن نحاربهم، بل يجبُ أن نحاسبَ نفوسَنا
ونثقفها، ولكونه أطلقهم علينا لأجلِ خطايانا، فمتى حاربناهم، نصرَهم علينا، ولهذا
أمرنا أن لا نكافئَ أعداءنا، فلنقبل الامتحانات، كقبولِ الأدويةِ من الحكيمِ
لنخلصَ، وكقبول التأديب من الأب لنتشرف، فلهذا قال الحكيمُ ابن سيراخ: أيها
الولدُ، إن تقدمتَ لخدمةِ ربك، فهيئ نفسَك للتجاربِ».

قال
القديس باسيليوس
: «إن النصارى قد مُنعوا من محبةِ المجدِ الباطلِ، ومن
إرضاءِ الناسِ، ومن المباهاة، أما العلمانيون فإنهم يَخزون من المسكنةِ، ويهيئون
أنواعَ المأكولات للضيفِ، وأما نحن، فلا نرذل المسكنةَ التي طوَّبها الربُّ. وكما
لا يليق بنا إعداد الآلات الكريمة الثمينة في الضيافات، وإحضار البُسط فيها، كذلك
لا يحسن بنا الاحتفال بالمأكولات اللذيذة الثمينة، الخارجة عن مأكولاتنا.

فإن
قَصَدَك أيها الأخُ غريبٌ، فإن كان حالُه كحالِك، قدم له الخبزَ، فإنه يعرفُ
فائدته ويجد عندك ما تركه في قلايته، فإن كان قد أتعبه، فقدم له ما يزيل تعبَه.

وإن
قَصَدَك علمانيٌ، فإنه يأخذُ من عندِك رسماً للقناعةِ في المأكولاتِ، وتذكاراً
لموائد النصارى، ونموذجاً للمسكنةِ المسيحيةِ.

إذا
كنا نُغيِّر ملابسنا لمن يتلقانا، فلا نُغيِّر أيضاً موائدنا للذي يطرقُ بابَنا.
والرسولُ يقول: إن أكلتم وشربتم، أو مهما عملتم، فاعملوه لتمجيدِ اللهِ. وما يُعمل
للمباهاةِ، ليس هو لتمجيدِ اللهِ. ويعقوبُ اكتفى في مطلوبهِ من اللهِ، بخبزٍ
يأكله، وثوبٍ يلبسه. والرسول قال: يكفينا القوتُ والكسوةُ. وسليمان سأل اللهَ
قائلاً: رتِّب لي الكفافَ، الذي يقومُ بالأَودِ. والكفافُ هو عدم الفضلةِ، وعدم
الحاجةِ الضرورية معاً، والغذاء الضروري هو اليسير الثمن، والسهل الموجود، فبهذا
يجبُ الاهتمام، وتقديمه لكلِّ محتاجٍ إليه.

ولما
كان قوتُنا إنما نحصلُ عليه من شغلِ أيدينا، يوماً بيومٍ، فلا نصرفه في تنعيمِ غير
المحتاجين، لئلا نضيِّق على نفوسِنا، ونُسببُ لهم المضرةَ الحادثةَ من التبذيرِ
حيث يجب التقشف».

وقال
أيضاً
:
«لما شاهدتُ قوماً أماتوا أجسادَهم بالنسكِ، مدحتُهم، لأني رأيتُ ضبطَ الهوى
قاهراً للشياطين، إذا كان مبنياً على ناموسِ الربِّ. ولما رأيتُهم بعد ذلك كذابين
حلافين، سألتُهم قائلاً: إذا كنتم عاملين بوصايا الناسِ، فاهتموا أولاً بوصايا
الربِّ، وتجنبوا الكذبَ، واليمينَ الحقَ، وباقي ما نهى عنه، وتوعَّد بالعقابِ
عليه. فلمَّا لم يقبلوا مشورتي، بان لي أن الذي يعملونه، إنما هو من أجلِ تمجيدِ
الناس، لأن ضبطَ الهوى، يحتاجُ إلى تعبٍ كثيرٍ، أما تركُ الكذبِ واليمين، فلا
يحتاج إلا إلى تأملٍ فقط».

كان
شيخٌ

ببريةِ الإسقيط اسمه يوساب، وكان شيخاً كبيراً، متقدماً في الأيامِ، هذا قد فرغ
(أي ضمر) جسمُه وبقى يُظَنُ أنه خيالٌ، من كثرةِ الصومِ، والصلاةِ، والسهرِ،
والتعبِ، والصبرِ على حرِّ الصيفِ وبردِ الشتاءِ، وكان طعامُهُ من عقاقير البريةِ،
ولِباسُه الليفَ الخشن، وكان لا يفتر من التسابيح والقداديس، وتناهى في العبادةِ
حتى بقى يركبُ على السحابِ، ويغتذي من طعامٍ يأتيه من السماءِ، في أوقاتٍ معلومةٍ،
وحصل له من العبادةِ الربانيةِ قوةٌ تمنع عنه البردَ والحرَّ، وكان يزداد في
فضائلِهِ، مزدرياً بنفسِه متيقناً بأنه غيرُ مستحقٍ لِما صار إليه.

ومع
هذا، اشتهى من اللهِ فكراً طلع على قلبهِ، وهو أن يريه إنساناً يماثله في نعيمِ
الآخرةِ، وطلب من اللهِ بخشوعٍ وتضرعٍ كثيرٍ، فجاء إليه صوتٌ يقول له: «يا يوساب،
يا يوساب، الملكُ الذي في إنطاكية». واستجاب الربُّ طلبتَه واختطفته سحابةٌ،
وأنزلته خارج مدينة إنطاكية، وأخذ جريدته بيدهِ، وقصد باب المدينةِ، فلما انتهى
إلى البابِ وجد الملكَ قد ركبَ في ذلك اليوم، وهو خارجٌ من المدينةِ، وحوله عسكرٌ
كبيرٌ بالتبجيل العظيم، فبعضهم يمشي في ركابهِ، وبعضهم على خيلهم. فاستند الراهبُ
إلى باب المدينةِ حتى يشاهدَ الملك وجهاً لوجه، وإذا الملكُ قد أقبلَ راكباً،
وفرسُه مثقلٌ بالحلي والمجوهرات التي عليه، وكان شعاعُ الجواهر المختلفة الألوان
التي في التاج الذي على رأس الملكِ يضيءُ.

فحينئذ
ندم الشيخُ وحزن لما أبصر هذه العظمةَ التي للملكِ، وقال: «من يكون هذا الملك
العظيم، كيف يكون له إرثٌ في ملكوتِ السمواتِ»؟ وصار حزيناً باكياً، ووقع
الازدحامُ في البابِ وصار الشيخُ من الازدحام في بلبلةٍ وتعبٍ عظيم، ولما وصل
الملكُ إلى البابِ خفَّ الازدحامُ. حينئذ التفت الملكُ إلى الشيخِ وقال له: «يا
أنبا يوساب، لقد اشتهيتَ لنفسِك تعباً ما كان إليه حاجةٌ»، وأمر بأن يمضي به إلى
القصر، حتى يعود.

فلما
سمع الشيخُ قول الملكِ فرح جداً، وقال: «لولا أن اللهَ ساكنٌ في ذلك الإنسانِ، لما
عرفني، ولا عرف قصدي». فلما وصل الشيخُ إلى الدارِ، جلس في الدهليزِ، حتى نزل
الملكُ من الركوبةِ، فأخذ بيدِ الشيخِ ودخل إلى مجلسٍ عظيمٍ، وقد هيئ فيه طعامٌ
للعسكرِ، فجلس في ناحيةٍ من العسكرِ، ودخل العسكرُ جميعُهم، فلما أكلوا وشبعوا من
ذلك الطعامِ، انصرفوا.

حينئذ
قام الملكُ والشيخُ، ودخلا إلى ذلك القصر، وإذا بالملكةِ زوجة الملكِ، تلتقي بهما
وعليها من الحلي والجواهر، ما يفوق الوصف، وحولها من الجواري جمعٌ كبيرٌ، يفوق
الوصف في حسن الصورةِ وجمال اللِباس، والحلي. فلم يزالوا في خدمةِ الملكِ حتى جلس
على سريرهِ، وحينئذ انعزلت الملكةُ وجواريها عنهما، وبعد ساعةٍ عادت إليهما، وهي
لابسةٌ مِسحَ شعرٍ، وعند ذلك انعزل الملكُ أيضاً، ولبس مسح شعرٍ وعاد، ثم نهضا،
وخرجا من ذلك الموضعِ، والسائح معهما، وأتوا إلى مكانٍ في القصرِ، فيه راهبٌ
جالسٌ، يعمل في شغلِهِ.

فلما
رآهم الراهبُ، وقف وقبَّل السائحَ، وسلما بعضُهما على بعضٍ، وصلوا جميعهم، وقالوا
البركةَ، وجلسوا، وإذا خادمٌ صغيرٌ قد جاء إلى الملك والملكةِ بشغلِ أيديهما،
فتناول كلُّ واحدٍ فواحدٍ صنعتَه، ليعملَ فيها.

فقال
الراهبُ للسائحِ، من حيث لا يعرفه: «يا يوساب، إن الربَّ أراد بك خيراً عظيماً،
لأنه أوقفك على سيرةِ الملكِ والملكةِ»، وبدءوا يتحدثون بعظائمِ الله إلى وقتِ
الساعةِ التاسعةِ، حيث أتى خادمٌ بمائدةٍ عليها خبزٌ وطعامٌ يوافق الرهبانَ،
فصلوا، وأكلوا، ورُفعت المائدةُ.

فلما
عزم السائحُ على الانصرافِ، تباركوا منه، وقال له الراهبُ: «امضِ بسلامِ الربِّ،
وعظ بهذه السيرةِ، فإنها عظيمةٌ جداً، لأنك قد نظرتَ عظمةَ الملكِ وزوجته، وها أنت
ترى عيشتهما الآن، والتواضع الذي هما فيه، حتى إنهما لا يتناولان شيئاً من طعامِ
المملكةِ البتة، إلا من شغلِ أيديهما، وفي هذا كفايةٌ»، ثم إن السائح ودَّعهم وركب
على السحابةِ، وعاد إلى بريةِ الإسقيط، وهو متعجبٌ مما رأى من مجدِ الله، الذي له
التسبيح والعظمة والإكرامُ إلى الأبدِ، آمين.

أخبروا إنه كان في
البريةِ بالديارات، راهبٌ كبيرُ السنِ، طالت أيامُه، وكان له تلميذان، وكان
أحدُهما غافلاً عن نفسِه، عن الصلاةِ في أوقاتها، عاجزاً متوانياً فيما يُقرِّبه
إلى الله سبحانه، وكان الشيخُ معلَّمُه يعاتبه كثيراً ويعظه، ويوصيه أن لا يتركَ
الصلاةَ، قائلاً له: «يا ابني، ليس شيءٌ أضرَ بالراهبِ من تركِ الصلاةِ، وليس شيءٌ
يحبه المجرِّب مثلَ تركِ الصلاةِ، فاحذر يا ابني أن تُقوِّي الشيطانَ على هلاكِك».

بهذا
الكلامِ ومثلِه، كان الشيخُ يعظه، ويؤدبه، وهو لا يسمع، ولا يرجع عن التواني،
وأقام على ذلك مدةً.

ثم
إن الراهبَ تنيح، فأحبَّ الشيخُ أن يَعلمَ مصيرَ التلميذ، فقام وأغلق بابَ قلايته،
وأتعبَ نفسَه بالصومِ والصلاةِ والسهرِ الدائم، ولما طال تعبُه، أحبَّ اللهُ أن
يُظهرَه له، فطرح عليه سُباتاً، فنام، وبينما هو نائمٌ، رأى ملاكَ الربِّ أخذ
بيدِه، يدور به ويريه مواطنَ الأبرارِ، ومساكنَ الصديقين، وهو متعجبٌ من الراحةِ
التي هم فيها، وكان الملاكُ يقول له: «هؤلاء هم الذين أرضوا المسيحَ»، كما أراه الملاكُ
مواضعَ أصنافِ العذاب، وأهوالاً عظيمةً، ففزع مما رأى، فقال له الملاكُ: «لا تخف،
حتى تعلمَ ما أتعبتَ نفسَك بسببهِ»، فقويَ قلبُه، وبقيَ متفرساً.

وبينما
هو كذلك، إذ رأى بركةً عظيمةً شبه الموضع الواسع، وفيها نيرانٌ متقدة، ولهيبُها
يصعدُ، وإذا بجماعةٍ، قيام فيها، بعضُهم في النارِ إلى عنقِهِ، وبعضُهم إلى
صدرِهِ، وبعضُهم إلى بطنهِ، وبعضُهم إلى ركبتيه، فلما رآهم، جعل يتفرس فيهم،
وبينما هو كذلك، إذا به يرى تلميذَه المتواني قائماً في وسطِ النارِ، إلى
سُرَّتِه، فقال له: «أليس هذا ما كنتُ أخشى عليك منه؟ وقد كنتُ أحذَّرك يا ابني»،
وصار الشيخُ يبكي عليه، فقال له تلميذُه: «من شأنِ الله يا أبي، ارفع عني
القربانَ، واطلب من اللهِ بسببي. يا أبي، إنَّ تحت رجليَّ أقواماً آخرين، وأنا
واقفٌ على رؤوسِهم».

وبينما
الشيخُ كذلك، انتبه من نومِه وهو مرعوبٌ، فصنع الشيخُ عن تلميذِه قرابينَ كثيرةً،
وسأل الربَّ أن يريه حال التلميذِ، فخُطف عقلُه في نصفِ النهارِ بسهوٍ، فرأى تلك
البركةَ المنتنةَ، ورأى تلميذَه وقد تركته النيران، وبقيت فقط على أمشاطِ رجليه،
وهو يصرخُ، فناداه الشيخُ قائلاً،: «يا ابني، ويا نور عينّيَّ، ها قد صنعتُ عنك
القربانَ، فكيف حالُك الآن؟» فقال له: «يا أبي، قد زالت النارُ عني، ووجدتُ راحةً
ما خلا رجليَّ، فلا زالتا في الأتونِ، فتصدَّق عليَّ بقربانٍ آخر».

فلما
انتبه الشيخُ، صنع عنه القربانَ، وأَكثَرَ الطلبَ بسببهِ، وسأل أن ينظرَه دفعةً
أخرى، فرأى في الرؤيا، وقد زالت النارُ عنه، فسأله قائلاً: «يا ولدي، كيف حالُك
اليوم؟»، فقال: «يا أبي، قد زالت عني النارُ، ولستُ أريد شيئاً سوى أن أنظرَ لأني
أعمى».

وعندئذ
انتبه الشيخُ من نومِه، وسبَّح الله قائلاً: «يا رب، ما أكثر تحننك على جنسِ
البشرِ»، وهمَّ الشيخُ أن يطلبَ من الربِّ بسببِ التلميذِ كي ينظرَ، ولكن في
أثناءِ ذلك، تنيح الشيخُ بشيخوخةٍ حسنةٍ مُرضيةٍ.

قيل
إن إنساناً تاجراً
، خبيراً بالفصوصٍ والخرز، عارفاً بجوهر اللؤلؤ؛
هذا ركب في سفينةٍ مع غلمانِه، وكانت معه جواهر جزيلة الثمن، وأشياء أخرى ثمينة،
وكان في السفينةِ عدة نواتية. وكان بين النواتيةِ صبي، حسنٌ، هادئُ الحركةِ، هذا
شكا لذلك التاجرِ بأنه يبغضُ صناعةَ البحرِ، كما يبغض معاشرةَ رفقته، لما هم عليه
من العوائدِ الذميمةِ. ثم إن التاجرَ قال له: « لا يضيق عليك الأمرُ، فإذا
سَهُلَتْ طرقُنا بمعونةِ الربِّ، وصعدتُ من هذه السفينةِ، أخذتُك معي، واعتنيتُ
بمصالحك». فطاب قلبُ الصبي بالكلامِ.

وحدث
في بعضِ الأيامِ، أن تشاورَ النواتيةُ فيما بينهم على أن يقذفوا بالتاجرِ
وبغلمانِهِ إلى البحرِ، ومن أجلِ ما معه من المالِ، فلما أعلموا ذلك الصبيَ الذي
كان صديقاً لذلك التاجرِ، أسرع وأخبرَه بما تشاورا عليه، فقال له التاجرُ: «هل أنت
متحققٌ من ذلك»؟ قال له: «نعم».

حينئذ
قام الجواهري بسرعةٍ واستدعى غلمانَه، وقال لهم: «كلُّ ما آمركم به، افعلوه
بسرعةٍ، لأنه إن تهاونتم، فسوف أموتُ أنا، وسوف تموتون أنتم أيضاً». ثم بَسط
إزاراً في وسطِ المركبِ، وقال لهم: «هاتوا ربوات الجواهر كلِّها»، فقدموها إليه،
ففتحها وأفرغها قدام كلِّ من في المركبِ، وبدأ يقول: «هذا عدوي، وأنا أشفقُ عليه،
هذا قاتلي، وأنا أحبُه، هذا مبعدي من الحياتين، فما انتفاعي به؟ احملوا معي»،
فحملوا معه، وبسرعةٍ طرح جميعَ الجواهرِ في البحرِ، فلما رأى الملاحون ذلك تحيروا
في أمرهم، وانحلت مشورتهم، ثم أصبح يتصدق منهم الخبزَ، فالملاحون لما أبصروه على
تلك الحالِ، رحموه، وبدأ هو يقول: «أشكرك يا ربُّ، لأنك أنهضتني لخلاصِ نفسي
وجسدي، اليوم زالت عني قساوةُ القلبِ، وربحتُ تلك النفوسَ الهالكة، أولئك الذين
بعمى قلوبهم تشاوروا، وبسببي طلبوا أن يسكنوا الجحيمَ المخلدَ».

قال
شيخٌ
:
«حدث أني كنتُ دفعةً سائراً في الصعيدِ مع رجلٍ إسماعيلي، وأمسى علينا الوقتُ، ولم
نستطع أن نصلَ إلى مسكنٍ لنلتجئَ فيه إلى باكرٍ، وفيما نحن محتارون، خائفون من
الوحوشِ، صادفتنا بربا عتيقةٌ، فدخلناها لنستريحَ إلى باكرٍ. وإني وقفتُ ورشمتُ
علامةَ الصليبِ المقدسةِ من ناحيتي هذه، وهذه، ثم رشمتها أيضاً تحتي وفوق رأسي،
ورقدتُ.

وفي
نصفِ الليلِ، إذا بنا نسمعُ صهيلَ خيلٍ، وصياحاً، وخيالاً عظيماً، وقلقاً من
الجنونِ، ورأيتُ واحداً أجلسوه على كرسي مثل والٍ، وأمر القيامَ بين يديه، وهم
كالرقاصين، أن يدخلوا البربا حيث كنا راقدين، وأخرجوا الراقدَ معي، وضربوه حتى
شارف الموتَ، وكانوا يقولون له: «أين هو الراقدُ معك»؟ فيقول لهم: «إنه في الموضع
الذي كنتُ راقداً فيه».

أما
أنا فصرتُ كالميتِ من الخوفِ الذي لحقني، وهم كلما اقتربوا مني ونظروا علامةَ
الصليبِ، يهربون إلى خلفٍ، ويقعون على وجوههم. وكان الجالسُ على الكرسي يقول لهم:
«ما بالكم لا تحضرونه»؟ فكانوا يقولون له: «إذا نحن دنونا منه، ننظرُ علامةَ
الصليبِ، فلا نقدر أن نقفَ، بل نهرب إلى خلف، ونسقط على الأرضِ». فيقول لهم:
«اصعدوا إلى الهواءِ، وانزلوا عليه من فوق، وائتوني به». فكانوا لما يأتون إليَّ،
ينظرون العلامةَ على رأسي، فيهربون إلى خلف. ومكثتُ هكذا في هذا الانزعاج العظيمِ،
حتى أشرق النورُ، حيث ذهبوا خائبين، تاركين ذلك الرجلَ قريباً من الموتِ. وقد
عجبتُ إذ لم يقدروا الدنو مني وقلتُ: «سبحان السيد المسيح صاحب العلامة».

أما
ذلك الرجل الذي ضربوه، فقد تعجب مني لما رآني، وقال: «لماذا لم يقدروا أن يضربوك،
وقتلوني أنا (ضرباً)»؟، فأعلمتُه بعلامةِ الصليبِ المخلص الذي لسيدنا يسوع المسيح،
فعندما سمع مني هذا، مضى وتعمَّد، وصار مسيحياً مختاراً، وأكمل عمرَه وهو لابسٌ
السلاحَ، والمثال الذي لإلهنا يسوع المسيح».

أخبر
بعضُ الشيوخِ
عن رجلٍ كان يعملُ فاعلاً في البساتين، ويتصدق بجميعِ
أجرتهِ، خلا قُوتَه، هذا خطر له فكرٌ من العدوِ قائلاً له: «ها قد قضيتَ عمرَك
جميعَه وأنت تتصدق بأجرتِك، فهل ضمنتَ لنفسِك عوارضَ الزمان؟ اجمع أجرتَك واحفظها
تنفعك». فجمع ما استطاع جمعه من أجرتِهِ.

وحدث
بعد قليل، وهو في البستانِ يعملُ، أن ضربت شوكةٌ في رجلِهِ، وعمَّلت عليه، فأنفق
جميعَ ما كان معه، ولم ينتفع بشيءٍ منه، وبعد ذلك ابتدأ يسألُ ويتصدقُ من الذين
كان يتصدق عليهم، وأخيراً… أنتنت رجلُه جداً، فأشار عليه الأطباءُ بقطعِها، لئلا
يَسْوَدَّ الجلدُ جميعُه ويُسَوِّس، وأوصوا بسرعةِ قطعها سَحَراً.

وفي
تلك الليلةِ، بينما كان يبكي ويتنهد، رجع إلى نفسِه وندم، لأنه أخطأ بجمعهِ
الصدقةَ التي كان يتصدق بها، وكان يقول: «أخطأتُ يا ربُّ، اغفر لي من أجلِ محبتِك
لجنسِ البشرِ». فظهر له ملاكُ الربِّ قائلاً له: «أين هي الفضةُ التي ادخرتَها،
وتوكَّلتَ عليها، لتعينك في مرضِك، لقد راح ما جمعتَه باطلاً، والصدقةُ التي كنتَ
تصرفها، قد رجعتَ وأخذتها»؟ فبدأ يبكي ويقول: «أخطأتُ إليك، اغفر لي، وإن رجعتُ
معافى قوياً، عُدتُ إلى ما كنتُ عليه أولاً». ففي ساعتِها مسَّ الملاكُ رجلَه،
وشُفيت للوقتِ، وقام من ساعتِه، ومضى إلى البستانِ الذي كان يعمل فيه.

وباكراً
حضر إليه الطبيبُ، ومعه المنشار ليقطعَ رجلَه، فقالوا له: «لقد مضى إلى البستانِ
يعمل فيه»، فمضى إليه الطبيبُ، فوجده واقفاً يحفرُ في الأرضِ، وهو صحيحٌ، فتعجَّب
وسبَّح الله، وحينئذ عرَّفه سببَ مرضِ رجلِه وعافيتها، فمجَّد الله، وانصرف عنه.

قيل
عن أنبا لونجينوس
، إن أفكارَه قاتلته بالخروجِ إلى البريةِ الداخليةِ، لكي
يستريحَ، فجاء صوتٌ سمعه سماعاً بليغاً وهو يقول: «قلايتك أعظم من خروجِ البريةِ،
وهي صخرٌ أكثر من البريةِ».

فنهض
بسرعةٍ، وأخذ بيدِه عصا، وبدأ يمشي في القلاية ويقول: «من هذه الجهةِ الشرقيةِ،
يمضي الناسُ إلى القدسِ. والقدسُ هذه، هي المدينةُ المقدسةُ وفيها صُلبَ الربُّ،
وأيضاً قُتلَ فيها الأنبياءُ، وذُبح فيها زكريا بن برخيا بين الهيكلِ والمذبحِ،
فما أعظم ما في هذا المشرقِ، الذي منه المجوسُ أقبلوا كذلك». وانتقل إلى غربِ
قلايته، وهو يقول: «وأما هذا الغربُ، فهو الجبلُ المقدس، وهو المعروف بالإسقيط،
وأسماه أنبا بلاماي جبل شيهات، الذي هو ميزان القلوب، فما أعظمه من جبلٍ، فالربُ
وعد بالمغفرةِ لجميعِ من يسكنونه، ويموتون فيه، وبالراحةِ لهم يوم الدين. وأما
الجهة القبلية، فما أعظمها، فقد كان يسكن فيها رأسُ الآباءِ البطاركة إبراهيم أبو
الأممِ، وعلى رأس هذه الجهةِ القبليةِ، تكلم الله مع إبراهيم، واستضافه وملائكته،
وفي هذه الجهةِ القبليةِ، صعد إبراهيم على رأسِها، وربط ولدهَ إسحق بيديه ورجليه،
فقال له ولدُه إسحق: يا أبتاه، هوذا الرباط، وها هي النارُ والحطبُ والسكين، فأين
هو الحمل، ألعلي أنا هو الضحية اليوم؟ فنادى الربُّ إبراهيم قائلاً: لا تمد يدَك
إلى الغلامِ، قد قبلتُ ضحيتَك». ثم صار يمشي في القلايةِ إلى الجهةِ البحريةِ،
وفكَّر قليلاً: «هذا شرحٌ يطولُ، هذه القلايةُ أعظم وأوسع من البرية».

ولما
أعيى من الفكرِ والمشي، جلس، ثم أدركه المساءُ، وبدأ يقول لأفكارهِ: «لقد دخلنا في
البريةِ، ووصلنا إلى المشرقِ والمغربِ»، ثم قال لنفسِه: «إنّ الذين يبتغون سكنى
البريةِ، خبزاً لا يأكلون، وماءً لا يشربون، فافعل أنت هكذا».

وخرج
على بابِ قلايته، وأكل قليلاً من نباتِ الأرضِ، ثم قال لنفسِه: «والذين في
البريةِ، لا ينامون تحت سقفٍ، بل تحت السماءِ»، وفعل كذلك، بأن ألقى بنفسِه على
الصخرةِ ونام متعباً.

وأقام
على هذه الحال ثلاثةَ أيامٍ، يمشي من باكر إلى عشية في جوانب قلايته، ويأكل البقل
الأخضر، ويضطجعُ قليلاً تحت السماءِ، حتى أعيي وضجر، وبدأ يخاصمُ نفسَه بحردٍ،
ولطم على خديه قائلاً: «ادخل بعد إلى قلايتك، وابكِ على خطاياك، ولا يطيش عقلُك
بقولِك: البرية، قد دخلتَ البريةَ. أما سمعتَ داود يقول: عينُ الربِ على خائفيه،
وأذناه ينصتان إلى تضرعهم، ولا يخفى عنه شيءٌ من أفكارِنا»، فلما نظره المجرِّب
هكذا، خاف منه، وانصرف عنه.

أخبروا
عن شيخٍ قديسٍ
، إنه كان داخلاً إلى مدينةٍ لها أميرٌ كبير، وكانت له
ابنهٌ، قد قاربت الموتَ، فلما رأى القديسَ، أمسكه وأعاقه من السفرِ قائلاً له: «لن
أُطلقَك حتى تصلِّي على ابنتي فتعافى»، فتبعه الشيخُ إلى موضع الصبيةِ، ووقف فوق
رأسِها، وبسطَ يديه قائلاً: «أيها الربُّ العارف بخيرة النفوس، يا علام الغيوب، يا
من لا يشاء أن يَهلكَ أحدٌ من جنسِ البشر، أنت تعلم خيرة هذه الصبيةِ، إرادتك
افعلها معها». وللوقتِ أسلمت الصبيةُ روحَها، فصاح أبوها على الشيخِ قائلاً: «وا
ويلاه منك يا شيخُ، فإن كنتَ لم تقدر أن تقيمها، فلا أقل من أن تعطيها لي كما
كانت، وإلا فلن أطلقَ سبيلَك»، فطلب الشيخُ من اللهِ، فعادت نفسُها فيها بطلبةِ
الشيخ دفعةً أخرى.

ولما
عوفيت، لم تَلبَث أن سارت سيرةً رديئةً، فأفسدت جلالَ أبيها، فمضى إلى موضعِ
الشيخِ، وطلب منه قائلاً: «أريدُ أن تموتَ، فقد عاشت عيشةً رديئةً، وأنا أحتشمُ أن
أمشي بسببها»، فقال له الشيخُ: «أنا قد طلبتُ من اللهِ الخيرَ فيما يريد، وقد علم
الله أنَّ موتَها أصلح، لكنك لم تُرد، والآن لا شأن لي معك»، ومضى الشيخُ وتركه.

وقال
هذا القديس
:
«إني أعرفُ امرأةً بأورشليم اسمها ستروتين، هذه كانت خاطئةً، وتابت بحرقةِ قلبٍ،
ورجعت إلى الله، وتنسكت، وعملت فضائلَ كثيرةً، حتى إنها من كثرةِ الفضائل التي عملتها،
ونعمةِ الربِّ يسوع المسيح التي معها، صارت مدبرةً لدير عذارى.

ولما
صارت مدبرةً للديرِ، زادت على نسكِها وصبرِها، حتى إنها من كثرةِ نسكِها وصبرِها،
ضعفت قوَّتُها، فسألتها العذارى قائلات: يا أمنا كلي قليلاً من الطعامِ، كي يكونَ
في جسدِك غذاءٌ قليل، وتستطيعين أن تمشي إلى داخلِ الموضع المقدس. فقالت لهن: يا
بناتي، لا تتعبنني لأجلِ طعامِ قليل، بأكلِهِ أرجعُ إلى عاداتي القديمة، فلأجل هذا
أنا أخافُ من الأكلِ».

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى