علم الانسان

الخليقة الأولى والخليقة الثانية في الإيمان المسيحي ومراحلها من قبل تأسيس العالم حتى النهاية



الخليقة الأولى والخليقة الثانية في الإيمان المسيحي ومراحلها من قبل تأسيس<br /> العالم حتى النهاية

الخليقة
الأولى والخليقة الثانية
في الإيمان
المسيحي
ومراحلها من قبل تأسيس العالم حتى النهاية

vUVUv

أصل
خلقة الإنسان بحسب ما صرَّح به الوحي المقدَّس على لسان القديس بولس في رسالته إلى
أهل أفسس هو أن يصبح لله خليقة إنسانية تقف أمامه وتُسبِّح إنعاماته بحسب الآيات:

أ
مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة
روحية في السماويَّات في المسيح”
(أف 3: 1):

مقالات ذات صلة

من
هذه الآية يكشف الوحي عن أول سر من أسرار الخلق للإنسان، إذ تسجَّل في المقاصد
الإلهية أن يحظى الإنسان بكل بركة روحية في السماويات كخليقة باركها الرب بركة
مطلقة أي أبدية. فقوله: “بكل بركة روحية في السماويَّات” يعني بركة
سماوية كلِّية أي مطلقة كعمل من أعمال الله الفائقة والدائمة. وبها تنكشف لنا
خليقة الإنسان حائزة على كل المواهب والنِّعَم الإلهية السمائية. لاحِظ هنا الغياب
الكامل لمفهوم الأرض والخلقة الترابية.

ثم
أضاف الوحي “في المسيح”، وهكذا تحدَّد أن يكون هذا الامتياز الكبير لهذه البركات
ليس للإنسان في حدِّ ذاته مستقلاً؛ بل تكون البركات السماوية ممنوحة في شخص يسوع
المسيح. وواضح أنَّ تواجُد الإنسان في المسيح الذي هو ابن الله
متَّحداً به، يعطيه هذه الامتيازات السماوية.

ب
كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قدِّيسين وبلا لوم
قدَّامه في المحبة”:

هنا
توضيح قوي للآية السالفة، أي أن بركة الله للإنسان بالبركة الروحية السماوية في
المسيح، هي على أساس أن الله “اختارنا في المسيح”، أي أن اختيار الله للإنسان هو
أيضاً على أساس أن يكون متَّحداً بالمسيح، ولا يزال هذا كله في محيط مشورة الله
قبل تأسيس العالم أي قبل الزمن.

ولكن
قبل تأسيس العالم كان المسيح هو “الكلمة”. إذن، فخلقة الإنسان تحدَّدت في الابن
المبارك لتكون متَّحدة به، وبالتالي وريثة في البركة معه، وبالتالي مقدَّسة وبلا
لوم فيه.

ويحدِّد
الوحي مكان تواجُد هذه الخليقة، أنها “قدَّام الله”، أي في حضرته. وهذا يكشفه سفر
الرؤيا: “من أجل ذلك هم أمام عرش الله ويخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله”
(رؤ 15: 7). أما العلاقة الجوهرية التي تربط هذه الخليقة السماوية الواقفة أمام
الله بالله، فهي علاقة المحبة.

وهذا
تحصيل حاصل، فالعلاقة الجوهرية التي تربط الابن بالله الآب هي المحبة، والمعنى أن
هذه الخليقة بسبب اتحادها بالابن تدخل بالضرورة دائرة حب الله. كل هذا ولا يزال هو
تصوُّر خلقة الله للإنسان قبل تأسيس العالم.

ج
إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرَّة
مشيئته”:

وهذا
أيضاً توضيح ما بعده توضيح للآية السالفة في مفهومها الذي استنبطناه من واقع الآية،
إذ يقول هنا إن الله سبق فعيَّننا للتبنِّي قبل تأسيس العالم، أي حدَّد علاقتنا
الشخصية به لنكون أبناءً لله. ولكن إذ يستحيل على أي خليقة أن تأخذ درجة الابن لله
بالفعل وليس تجاوزاً، لذلك تحتَّم أن تأخذ درجة التبنِّي باتحادها بالابن، ليكون
التبنِّي بالوساطة وعلى حال الديمومة والقداسة والمحبة الإلهية. ولكي يؤكِّد
القديس بولس الرسول أنها حالة تبنٍّ لله نفسه، يقول الوحي إن هذا التبنِّي هو
“لنفسه”، بمعنى أنه تشوُّق إلهي عارم في ذات الله لكي يكون له أولاد يتبنَّاهم
لنفسه. وقد ترجم الوحي هذا الشوق بقوله: “حسب مسرة مشيئته”؛ وهو تعبير يكشف حالة
مسرَّة دفينة في قلب الله. فالله سُرَّ وشاء أن يتخذ من البشر أولاداً بالتبنِّي،
متَّحدين في المسيح ابنه، وواضح أنها مسرَّة أبوية.

د
لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب”:

وأخيراً
يكشف لنا الوحي عن عمل الإنسان الأساسي، أو الغرض الحقيقي عند الله من خلقته
ومباركته وتقديسه واتحاده بالابن وتبنِّيه لله حسب مسرَّة الآب؛ إذ يقول إن وظيفته
الأساسية لدى الله تكون في وقوفه أمامه “لمدح مجد نعمته”بشبه الملائكة، ولكن
في درجة أعلى بقدر ما يعلو البنون عن الخدم!

بهذا
يكون الوحي قد أعطانا صورة واضحة أشد الوضوح عن تصوُّر الله لخلقة الإنسان في
الأساس، وهو أن تكون خليقة سماوية ومباركة ومقدسة ومتَّحدة بالابن، ومخلوقة لتقف
أمام الله أي في حضرته لتسبِّح وتمدح مجد نعمته، وهي
حائزة على مسرَّة مشيئة الله؛ وأن موضوع التسبيح ومدح مجد نعمة الله هو ما سوف
يقوم به الابن من عمليات فدائية وخلاصية جبَّارة معنا وفينا، التي يسمِّيها الوحي
“النعمة التي أنعم بها علينا في المحبوب”، أي في الابن المسيح. هذه الصور البديعة
كلها هي تصوُّرات الله فيما قبل الخلق وقبل تأسيس العالم، وقد كشفها الوحي المقدس
لنكون على بيِّنة من أصل ومستوى خلقتنا العالي جداً الذي صحَّحه الله من عمق
مسرَّة مشيئته ومن عمق حبِّه للابن الوحيد، ليكون الإنسان بالنهاية أقرب وأحب
خليقة تقف أمامه وهي في حال الاتحاد مع الابن، لتسبِّحه وتمدح مجد نعمته.

بدء
خلقة الإنسان:

لم
يبدأ الله بخلقة الإنسان من طبيعة السماء وبركاتها، ولا على مستوى الاتحاد بالابن،
بل بدأ خلقة الإنسان من التراب ليرقى به على درجات، حتى بالنهاية ينقله النقلة
الأخيرة من الأرض إلى السماء. فهذا هو الله ومستوى حكمته وطول أناته وإتقانه،
ولابد أن خليقته بالنهاية تنطق بهذا وتشهد له من صميم كيانها وخبراتها.

الدرجة
الأولى:

كانت
خلقة الإنسان من التراب كما قصَّ الوحي بالتدقيق في سفر التكوين: نفخ فيها الله،
فصار الإنسان نفساً حيَّة.

وصمَّم
الله أن تكون خلقة الإنسان على صورته كشبهه، وذلك ليس على مستوى الظاهر، بل
باعتبار ما سيكون في صميم كيانه الذي يُستعلن في النهاية.

وكان الإنسان، بحسب تعليق الله في سفر التكوين، أنه “وجده
حسناً جداً”.

ولكن
للأسف الشديد نحن لا ندري أيَّ حُسنٍ كان للإنسان؟ ولماذا كلمة “جداً”؟ لأنها من
فم الله تساوي شيئاً كثيراً جداً، إذ عندما نعود إلى أنفسنا لا نجد ذلك
الحُسن ولا “جداً”. إذن، فقد كانت خلقة الله الأولى صورة قريبة الشبه فعلاً من
الله وذلك بسبب نفخة الله، لأنها منه، وبسبب هذه اللياقة أبقاه الله معه في جنة
الله التي يصفها القدَّاس الإلهي أنها كانت هي درجة من الحياة الأبدية: “سقطنا من
الحياة الأبدية، ونُفينا من فردوس النعيم”.

آدم
في الفردوس:

كانت
طبيعة آدم الترابية حائزة على صفات روحية ومميزات خاصة عالية تؤهِّله للتواجد مع
الله والحديث إليه والسمع له؛ بل وقبول المعرفة وانفتاح الوعي. واللغة التي كان
يخاطب بها الله لم تكن بالفم أو باللسان، والكلام الذي يسمعه من الله ليس بالأُذن
وحاسة السمع؛ بل كان هذا كله بالتخاطب الفكري والسماع الداخلي، وهي من المواهب
الراقية التي تنتمي إلى الروح أكثر منها إلى الجسد. كذلك المشاعر والعواطف، سواء
التي يُعبِّر بها الإنسان، أو التي يستقبلها لم تكن حسيَّة جسدية إلاَّ فيما
يلتقطه الجسد من انفعالات النفس الروحية.

أما
الضمير الذي تربَّى للإنسان في وجوده مع الله والتعلُّق به والتأثُّر بمحبته، فهو
مركز من المراكز السرِّية جداً في كيان الإنسان الذي هو صورة مصغَّرة لتقدير الحق
عند الله وميزان العدل الحسَّاس الذي انطبع في وجدان الإنسان من دوام قربه وسماعه
لله وشدة تأثير توجيهات الله التي تُرجمت عند الإنسان كقواعد للتفكير والتعبير
والسلوك.

وباختصار،
كان الضمير جزءًا من التخليق الذي ورثه الإنسان كأحد أعظم المواريث التي خرج بها
الإنسان من لدن الله، وما زال يعيش بها على الأرض في ارتفاع وهبوط وتجلٍّ وضياع،
لم تزده التعاليم أكثر مما كان في أصوله، ولكنه ضعف وتضعضع بطول الزمان والبعد عن
الله.

ولكن
يقف الضمير عند الإنسان عامة في مستواه الراقي دائماً وعلى ممر العصور، كأعظم شاهد
على ميراثه الروحي من الفردوس الضائع، وكصورة باهتة تشهد من داخله عن قُربٍ كان له
مع الله، وعن علاقة شديدة مع القدوس الأعلى، تقدِّم شهادتها في بعض النماذج
البشرية كأعظم ما تكون الشهادة في كل عصر وفي كل جنس بلا تفريق، توحي بذاتها للوعي
المفتوح عند الإنسان بعودة حتمية إلى ذات المنبع لاستئناف القصد؛ كما توحي بنوع
النهاية التي سيكون عليها هذا الضمير بل والخليقة كلها، حينما تُرفع عنها أسباب
هذا الانحدار المريع، وتستعيد جمال القصد وكماله.

وعلى
مستوى الضمير كأحد المواريث التي خرج بها الإنسان من الفردوس، الوعي الروحي، وهو
جهاز حسَّاس دقيق للغاية للتفكير والاختزان الروحي، يشتغل العقل على نمطه، ولكن لا
يُجاريه في القوة والعمق والدقة والاختزان الذي يفوق الزمن ويتخطَّى اللحم والدم.
وهو حينما ينشط في الإنسان بفعل الانشغال بالروحيات، يستطيع أن يستوعب الإدراكات
العُليا التي تأتيه أو التي يستشفها من العالم الآخر، أو حتى من ما وراء الطبيعة،
سواء كانت دينية أو موسيقية أو فنية. فهذه لغة الوعي الروحي للإنسان، ومن أعظم
مواريثه التي خرج بها من لدن الله. والوعي الروحي الديني أو الأدبي أو الموسيقي أو
الفني حقيقة تنطق من أين أتى الإنسان وإلى أين هو ذاهب. وهي تبلغ في مستواها عامة
فوق المعقول كطفل في الثامنة يعزف مقطوعات أعظم موسيقار في العالم، أو صبي في
العاشرة يقرض الشعر، أو فتاة قديسة تتكلَّم بالإلهيات وتحكي عن المستقبلات. هذه كلها
مذَّخرات من خزانة الوعي الروحي للإنسان كعنصر من عناصر خلقته التي احتفظت ببريقها
ولم يستطع الزمن أن يمحوها. وهذه أيضاً تحكي ليس عمَّا كانه الإنسان، بقدر ما تحكي
عمَّا سيكونه حينما يبلغ القصد من خلقته البديعة التي تُحاكي الله.

وسواء
الضمير والوعي الروحي، أو فيما سبق التخاطب الفكري مع
الله دون الكلام، والسماع الداخلي والمشاعر والعواطف الروحية؛ فهذه كلها من مواريث
خلقة الإنسان الأساسية التي حازتها من نفخة الله لتحاكيه في كل شيء ولا علاقة لها
بالتراب. فحينما يفقد الإنسان جسده الترابي بالموت، تبقى فيه هذه المذَّخرات
الروحية لتنضم إلى مكوِّنات الخليقة الروحية الجديدة للإنسان.

ولكن
كان بديهياً ألا تقوى خليقة ترابية على التوافق مع الله في حياة دائمة. فبعد
مُدَّة لا يُعرف مداها ثبت عجز الخليقة الترابية، فلم تستطع أن تحتفظ
بمستواها كخليقة شبه الله وعلى صورته؛ إذ استخدم آدم نفس حرية الإرادة والمعرفة
التي وهبها له الله على مستوى صورته كشبهه، استخدمها في التعدِّي على وصية الله،
أي على مشيئته وإرادته، بقصد أن يكون آدم وحواء كالله حاصلَيْن على معرفة الخير
والشر. وهكذا فَقَدَ كلاهما حالة الخضوع التي فيها كانا يستمدان من الله المشيئة
والمعرفة الخيِّرة دون اجتهاد، فسقطا من مستوى طبيعتهما الخيِّرة المطلقة، ودخلا
مجال المعرفة الشريرة ولم يخرجا منها.

ولكن
لم يحدث هذا كأنه كان غريباً عن معرفة الله، أو كأنَّ خلقة الله للإنسان كانت
خاطئة بحدِّ ذاتها أو معيبة حاشا ولكن الله خلقها من
تراب وآزرها بنفخته، لكي يكون الترقِّي من قِبَل الله وبإرادته وقوَّته، وإلاَّ
يصبح طموحاً لو جاء من ذات الإنسان. كما أن الترقِّي عندما يجيء بإرادة الله يكون
هو التحوُّل ممَّا للإنسان إلى ما هو لله. ولكن الذي حدث لآدم أنه بعصيانه انفصل
عن الله وسقط عنه؛ بل وسقط من مستوى طبيعته المتقنة المتزنة، فَفَقَدَ إمكانية
الترقِّي، وبالتالي استُهدِف إلى التدهور.

وبناءً
على ظهور هذا العجز والقصور في الخلقة الترابية لم تقوَ على البقاء في مستوى
الحياة مع الله، فكان يتحتَّم نزولها إلى ما دون مستوى طبيعتها التي أهَّلتها أن
تحيا في الفردوس مع الله، إذ فقدت امتياز وجودها معه.

الدرجة
الثانية في سُلَّم خلقة الإنسان:

كانت
عقوبة الموت واللعنة التي وقع فيها آدم نتيجة لعصيانه هي في الحقيقة على مستوى
خلقة التراب دون إجحاف من الله. فالموت هو في واقعه وحقيقته عودة إلى التراب. إذن،
فعقوبة الموت كانت هي بعينها النزول إلى التراب. وأما اللعنة فهي بعينها النزول من
مستوى الحياة مع الله أو الخروج من حضرة الله أو البُعد عنه، وهذا صنعه الإنسان
بيديه بعصيانه لله. فكان الموت بمفهوم العودة إلى التراب رحمة من الله حتى لا يبقى
الإنسان عائشاً عجزه وقصوره إلى الأبد. فالموت بحدِّ ذاته كان يحمل أملاً ورجاءً
أنه بعد أن يستنفد الإنسان عجزه وقصوره يمكن أن يرفعه الله إلى الدرجة التي ليس
فيها عجز أو قصور. علماً بأن العجز والقصور هو الذي حتَّم بالموت وبالبعد عن الله
أو اللعنة، وقد قَبِلَ كل هذا لكي بعد أن يستهلك عجزه وقصوره، أي يبلغ نهايتهما،
يمكن أن يرفعه الله ليعود إلى مستواه الأول، ويرفع عنه الموت واللعنة بالضرورة.

وقد
انقسمت الدرجة الثانية، وهي النزول إلى التراب إلى مرحلتين، ومنها يظهر كيف تدهورت
طبيعة الإنسان الترابية واستبدَّ بها العجز والقصور.

المرحلة
الأولى:

والتي
بدأت بآدم وحواء، وامتدَّت إلى نسلهما، ونسمع عن هذا النسل سمعاً عجيباً يتوه فيه
العقل. فنسمع عن آدم أنه عاش 930 سنة ومات، وعاش شيث بن آدم 912 سنة
ومات، وعاش آنوش بن شيث 905 سنة ومات، وعاش قينان بن آنوش 910 سنة
ومات، وعاش مهللئيل بن قينان 895 سنة ومات، وعاش يارد 962 سنة ومات،
وعاش أخنوخ 365 سنة ولم يمت بل إن الله أخذه، وكانت أيام متوشالح ابنه 969
سنة ومات.

وهكذا
سارت الأعمار على هذا المستوى حتى نوح، فجاء الطوفان وأهلك الله كل ذرية آدم بسبب
“شر الإنسان”، واستبقى الله نوحاً وامرأته وبنيه ونساء بنيه، وعاش نوح 950 سنة
ومات. وهكذا انتهى جيل الأجداد بني آدم العمالقة.

ويستوقفنا
هذا المستوى العجيب من أعمار هؤلاء الأجداد، فهي تدور حول التسعمائة سنة. فأيُّ
إنسان كان هذا الإنسان، ما طوله وما وزنه؟ وأيُّ مخٍّ له يقوى أن يعمل تسعمائة
سنة؟ وبأي خلايا يعيش، والقلب أي قلب هذا وأي عضلات له وأي شرايين هذه التي تظل
تضخ الدم تسعمائة سنة دون أن تبلى أو تمرض؟ نعم إن هذا الإنسان لعجيبٌ حقًّا.
ويلزم أن نعيد أفكارنا وحساباتنا بخصوص هذه الدرجة من الخليقة الترابية. كيف يعيش
الإنسان ما يقرب من ألف سنة، والعالم من الميلاد حتى الآن مجرد ألفي سنة!؟

نفهم من هذا أن الدرجة التي هبط إليها آدم فور خروجه من
حضرة الله كانت تحمل آثاراً واضحة غاية الوضوح من الصورة المتقنة والحسنة جداً التي
خلق الله الإنسانَ عليها في البدء. فمجرد أن يسمع أي عالم أنثروبولوجي اليوم عن
إنسان عاش 969 سنة يخرج عن وعيه، وأقل نعت ينعت به هذه الخلقة هي أنها فائقة جداً
على كل مستويات العقل وتصوُّراته وقادرة أن تنسف كل حسابات المستوى الطبي الذي
تعمل عليه وبه أجهزة الإنسان الآن، وأنها من طبيعة تفوق العقل. هذا حقٌّ، لأنها
كانت لا تزال تحمل بصمات خالقها قبل أن يبلوها الزمن ويستهلكها الإنسان بحماقاته.

المرحلة
الثانية:

وبدأت بإبراهيم، حيث تناقص العمر بدرجة منحدرة انحداراً
شديداً، إذ كان عمره 175 سنة ومات. وظلت بعد ذلك تتناقص الأعمار بغاية السرعة حتى
صارت في متوسطها أيام داود النبي 70 سنة، ومع الشدة فثمانون، أفخرها تعب وبليَّة
(مز 10: 90). وهكذا بدأت الطبيعة الترابية تتآكل، إذ استهلكتها السنون والأمراض
والجهالات، ولكن الزمن كان أقوى العوامل لبلوغ الإنسان آخر انحداره، حيث بلغت
الطبيعة الترابية للإنسان أضعف منتهاها، وأصبح العجز العام والقصور فيها يمنع
استمرارها في الحياة. وبلغ شخص الإنسان المرتبط بهذه الطبيعة الترابية في انحدارها
والذي يمثل العجز والقصور فيها إلى منتهى التدنِّي في الأخلاق والسلوك والبُعد عن
الله، أي اللعنة. وتآكلت كل صفاته الطبيعية، حتى تلقَّفه الله ليصنع فيه مشيئته
حسب تدبيره الأزلي، ويمدّه بآخر درجة من درجات ترقِّيه، وذلك بنقله نقلة كاملة من
الطبيعة الترابية إلى الطبيعة السماوية ببركاتها الأبدية في المسيح.

بدء
مراحل الصعود بالطبيعة البشرية من التراب إلى السماء،

أو
على الأصح خلقتها الجديدة

أصبح
الآن واضحاً أنه يتحتَّم أن تأتي قوة تغيير هذه الطبيعة أو تجديدها من خارجها ومن
الله نفسه، بحسب قصد الله الأزلي وحسب خطته التي وضعها من قبل تأسيس العالم؛ وذلك
بأن لا يقف الإنسان المختار والمعيَّن للحياة أمام الله وحده، بل أن يكون “في
المسيح يسوع”بحسب التدبير: “اختارنا فيه (في المسيح) قبل تأسيس
العالم” وهنا يتضح منذ البدء الارتباط الأساسي والدائم في خلقة الإنسان بشخص
المسيح حتى ينال القدرة والتأهيل أن يحيا أمام الله في السماء ويسبِّحه، على أساس
“النعمة”التي سينعم بها الله علينا في المسيح يسوع. فأساس الخلقة للإنسان هي
نعمة الله في المسيح.

البداية
“قبل تأسيس العالم”:

أول
شيء لكي يرتفع الإنسان بطبيعته من التراب إلى التواجد في السماء، يلزم أن يتخلَّى
نهائياً عن الطبيعة الترابية التي حملها وعاش بها مثقَّلاً قروناً طويلة من الزمان
بسبب عقوبة الموت واللعنة، لكي يمكنه أن يأخذ خلقة جديدة لطبيعة جديدة وذات بشرية
جديدة، ذلك في المسيح ومن طبيعته. ونحن قد سمعنا وتحقَّقنا أن الإنسان بُدئ في
التدبير لخلقته” قبل تأسيس العالم”، أي قبل الزمن، أي في الأزلية.
كما أننا سمعنا وتحقَّقنا أن خلقة الإنسان هي على أساس التواجد الدائم والأبدي في
المسيح في السماء: “باركنا بكل بركة روحية في السماويَّات في المسيح، كما
اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدَّامه في
المحبة” (أف 3: 1و4). لذلك أصبح من البديهي أن يبدأ تدبير الله “من
المسيح”و“قبل تأسيس العالم”، أي في الأزلية، حيث المسيح كان هو
“الكلمة”الذاتي لله (أي الناطق والفاعل لذات الله، حيث الكلمة هي نطق وفعل).
وهكذا تعيَّن قبل تأسيس العالم أن يكون “الكلمة”هو مسئول الخَلْق للإنسان،
وأن من طبيعته ومن ذاته يخلقه.

“ولما
جاء ملء الزمان”:

“جاء
ملء الزمان”معناها أن زمان الإنسان على الأرض في تغرُّبه عن الله، وهو في
طبيعته الترابية يشقى، قد بلغ المنتهى في تدبير الله دون أن يلحظه
الإنسان بمعنى أن الإنسان قد استوفى عقوبته ولعنته على الأرض، وجاءت
ساعة الرِّضا والخلاص ليبدأ الله عملية إصعاد الإنسان من التراب، أو خلقته الخلقة
الجديدة بحسب تدبيره الأزلي.

وهذا يفيد أن مقابل الحركات التي ستبدأ على الأرض كان
يتحتَّم بحسب التدبير أن تبدأ حركات مماثلة في السماء بالنسبة “للمسيح”أي مع
“الكلمة”، لأن لحظة البدء على الأرض يلزم أن تكون السماء قد أكملت ترتيبها ليحدث
البدء، أي بدء الخلقة في السماء والأرض معاً وبآنٍ واحد. لأنه كما
سبق وقلنا فإن خلقة الإنسان الروحية في السماء هي قائمة “في
المسيح”أي “في الكلمة”.

الذي
حدث في السماء إعداداً للخلقة الجديدة للإنسان:

أما
القائد والرائد الذي يدلُّنا على معرفة الذي حدث في السماء فهو بولس الرسول، إذ
يقول الوحي على لسانه في موضعين:

الأول:
“فليكن
فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً (يقصد هنا الكلمة في السماء) الذي إذ
كان في صورة الله
لم يحسب خُلسة أن يكون مُعادلاً لله. لكنه أخلى نفسه (
˜autÕn ™kšnwsen)، آخذاً صورة عبد، صائراً في شِبه الناس” (في 5: 2و6)

الثاني:
“ولكن
لَمَّا جاء ملءُ الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة” (غل 4: 4)

إذن،
واضح أمامنا أنه لكي يُرسِل الله ابنه أي الكلمة وهو قائم دائم في صورة الله،
لَزِمَ لهذا الابن لكي ينزل على الأرض ويأخذ صورة إنسان أن يُخلي ذاته. والإخلاء
هو تفريغ الذات، والقصد أنه أفرغ ذاته من مجد الألوهة (وليس ترك اللاهوت) حتى يستطيع
أن يلبس جسد إنسان ويظهر به أمام الناس فيروه ولا يرتعب منه أحد، ويستطيع أن يعيش
كإنسان دون أن يفقد جوهر لاهوته وفاعليته؛ أي يعمل أعمال الله ويُرَى كإنسان وهو
الإله. فكان إخلاء الابن لذاته هو أول حركات الخلقة للبشرية الجديدة التي تمَّت في
السماء.

الذي
حدث في الأرض إعداداً للخلقة الجديدة للإنسان:

أما
على الأرض، فقد أحدث الله حركات تاريخية كبيرة وعديدة إعداداً لنزول الابن وظهوره
على الأرض. ويستحيل علينا أن نجمعها هنا، ولكن نختصرها للغاية. فالله أقام
إمبراطوراً للرومان غزا جميع أقطار الأرض وأخضعها لروما، ونشر اللغة اليونانية
والرومانية بالإلزام، وأصلح الطرق في جميع البلاد والمدن حتى أن أي تاجر مسافر
يعبر جميع البلاد بأمواله آمناً حتى يصل روما، وأقام المحاكم الرومانية في جميع
أقطار الأرض، فكان أن ساد الأمن والعدل. وهكذا استعدَّت الأرض لاستقبال الملك
السمائي القادم من قِبَل الله.

بدء
ظهور الخلق السماوي: “أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة”:

كنَّا
قد عرفنا أن “الكلمة”ابن الله أخلى ذاته من مجد الألوهة استعداداً للنزول على
الأرض ليأخذ جسد إنسان يظهر به ليكمِّل فيه عملية خلقة الإنسان الجديد.

وبالفعل
أخذ الكلمة جسداً له مولوداً من الروح القدس ومن عذراء قديسة، ودعاه الملاك
قبل أن يولَد: “القدوس ابن الله”. وظهر كإنسان وعَبَرَ على جميع مراحل نمو الإنسان.
هنا، في الحقيقة، كان الابن الكلمة هو النموذج الأعلى والأسمى والأقدس للإنسان
الجديد منذ ولادته حتى صعوده إلى السماء. لذلك سُمِّي بآدم الثاني أو آدم الجديد
أبي الخليقة الجديدة للإنسان.

واضح
أنه يمكن أن تُحسب طبيعته طبيعة بشرية لأنها مأخوذة من الإنسان (من عذراء قديسة)،
ولكنها تُحسب بكل تأكيد ويقين أنها طبيعة إلهية بآنٍ واحد، فصاحبها هو ابن الله،
فهي سماوية وطاهرة وقدوسة. والذي يقيمها وإن كان يُرَى أن له صورة الإنسان؛ ولكنه،
في الحقيقة وفي غير المنظور، هو الكلمة ابن الله والقائم في صورة الله.

إلى
هنا يكون الله قد صنع عيِّنة سماوية للإنسان الجديد كنموذج أعلى وأكمل
وأقدس للبشرية الجديدة التي بدأت تنفصل عن تراب الأرض، وأُعِدَّتْ بقوة إلهية
سماوية للحياة مع الله في السماء متَّحدة بالابن القدوس.

ولكن
كان الفرق بين طبيعة الكلمة المتجسِّد وطبيعة الإنسان الترابي فرقاً شاسعاً جداً
كالفرق بين تراب الأرض وقداسة السماء والله، أو بين السالب والموجب. وهذا الفرق
يتضح حينما ندرك أن ابن الله طبيعته سمائية قدوسة؛ بينما طبيعة الإنسان قد بلغت
إلى درجة من العجز والقصور، وتراكم فوقها عَبْرَ آلاف السنين خبرات النجاسة
والفجور والشهوات الدنسة والولع بكل المُوبِقَات، بالإضافة إلى انحطاط الأخلاق
والسلوك من قتل وكذب وبغضة وعداوة وسلب ونهب وشراسة وكل دنايا الأخلاق والجهالات.
هذه كلها انعجنت بها الطبيعة البشرية وملكت على الشخصية الإنسانية. فكان لابد قبل
أن يلبس الإنسان طبيعته الجديدة القدوسة السمائية، أن تُفرَّغ الطبيعة البشرية من
عجزها وقصورها وكل ما آل إليها من خبرة التراب في العالم، كما يُفرَّغ الإنسان ذاته
أيضاً من هذه المواريث بكل خبراتها التي لحقت بشخصه، أي تُفرَّغ الطبيعة وصاحب
الطبيعة معاً وبآنٍ، لكي تأخذ الطبيعة الجديدة مِلْئها السماوي وكذلك تأخذ ذاتاً
سماوية يرث بها الإنسان السماويَّات.

فكان
على ابن الله المتجسِّد أن يعمل هذين العملين معاً للإنسان الترابي: يرفع عن
طبيعته الترابية وعن ذاته الترابية عجزها وقصورها الترابي وما اختزنه الإنسان في
نفسه من هذه الخبرات؛ حتى يستطيع أن يعطيه من جسده الجديد الإلهي ومن ذاته القدوسة
طبيعة جديدة وذاتاً جديدة لها كمالها السماوي الذي يمكن أن تقف به أمام الله.

وبالفعل
رَضِيَ الابن الكلمة المتجسد بتدبير الآب، أن يأخذ في طبيعته وفي نفسه كل مناقص
وفضائح وعيوب وقصور الطبيعة البشرية التي اقتنتها لنفسها طول غربتها عن الله وهي
على الأرض تحت العقوبة؛ كما يأخذ لنفسه نفس العقوبة بالموت واللعنة الواقعة على
الطبيعة البشرية الترابية وعلى الذات البشرية القائمة عليها والمسئولة عنها. وهكذا
تقرَّر في التدبير الإلهي أن يقف الابن بهذه الحال وعليه هذه العقوبة أمام الله،
لا نائباً عن البشرية أو ممثِّلاً لها، بل حاملاً إيَّاها في جسده وفي نفسه، لينال
معها (من أجلها) الحكم بالموت وجزاء اللعنة.

كيف
استطاع ابن الله المتجسِّد أن يأخذ في جسده وفي نفسه

خطايا
الإنسان وموته ولعنته؟

نعلم،
ومنذ أول خدمة المسيح، كيف ظهرت خطة الله في تقديم ابنه حاملاً جسد الإنسان وخطيته
ذبيحةً على الصليب. فقد كشف المعمدان خطة الله كأول استعلان عن عمل المسيح: “هوذا
حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 29: 1)، بمعنى أن يكون ذبيحة خطية عن
العالم. وقد صدَّق المسيح على ذلك مراراً بقوله إنه سيتألم ويُصلب ويموت وفي اليوم
الثالث يقوم، بمعنى أن المسيح بحسب تدبير الآب رَضِيَ أن يكون كفَّارة عن خطايا
وذنوب الإنسان ليفديه، بأن يأخذ معه عقوبة الموت واللعنة في جسده وفي نفسه على
الصليب، وبهذا يكمِّل فداء الإنسان. علماً بأن الخطة كانت جاهزة قبل تأسيس
العالم
كما رآها القديس بطرس بالروح:

+
“عالمين أنكم افتُديتم لا بأشياء تَفْنَى، بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة
التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم، كما من حَمَلٍ بلا عيب ولا دنس،
دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم،
ولكن قد أُظْهِرَ في الأزمنة
الأخيرة من أجلكم” (1بط 18: 120)

ولكن أهم ما يعنينا هنا في عملية الفداء العُظمى التي قام
بها المسيح ابن الله المتجسِّد، سواء بحمله خطايا الإنسان أو قبوله حكم الموت معها
(من أجلها) أن المسيح قام بها ليس عن الإنسان، بل في الإنسان ومن أجل الإنسان
الذي يحمل جسده ويحمل نفسه، لأن ابن الله لم يُصلب ولا قَبِل الموت عن نفسه

حاشا بل إن ابن الله، إذ قد أخذ جسد الإنسان وكان قدوساً وبلا
خطية،
ثم حمَّل هذا الجسد القدوس جميع خطايا وذنوب وعصيان الإنسان؛ فصار ابن
الله حاملاً الجسد العتيق الترابي للإنسان ذاته بكل معنى ويقين، ووقف أمام الله
مسئولاً عنه باعتباره أنه هو الإنسان صاحب الطبيعة الترابية بخطاياها، وبآن واحد
في اعتبار الله أبيه أنه هو هو الابن الذي نزل ليكمِّل خلقة الإنسان في ذاته، كيف؟

ما
حدث في جثسيماني:

ما
حدث في جثسيماني كان هو المرحلة الحاسمة من مراحل الفداء الخفية بين الآب والابن،
لأننا رأينا في الإخلاء الذي أجراه الكلمة الذاتي في نفسه أول عمل من أعمال
الفداء التي قام بها ابن الله لخلق طبيعة جديدة للإنسان سماوية، يحيا بها في
السماء. أما في العمل الثاني بلا منازع فكان التجسُّد، حيث إن الكلمة ابن
الله بعد أن أفرغ ذاته من مجد لاهوته (وليس من لاهوته)، اتَّخذ لنفسه جسد عبد، أي
إنسان، واتَّخذه لنفسه إلى الأبد. فكان التجسُّد أعظم حدث تمَّ على مستوى السماء
والأرض وربط الإنسان بالله إلى الأبد.

والآن
نأتي إلى المرحلة الحاسمة من الفداء: كيف يفدي المسيحُ الإنسانَ من الموت واللعنة؟
وهنا نسمع المسيح وهو يصلِّي في جثسيماني إلى الآب “بصراخ شديد ودموع”
كما يقول سفر العبرانيين (7: 5). وكما تصفه الأناجيل الثلاثة أنه كان يصلِّي
“بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض” (لو 44: 22)!
مصرِّحاً أمام تلاميذه أن نفسه قد بلغت من الحزن حدّ الموت! “نفسي حزينة جداً
حتى الموت” (مت 38: 26)، ثم انكشف السبب الذي زلزل هكذا نفسية المسيح ابن
الله الكلمة المتجسِّد؛ إذ ظهر أن محور طلبة المسيح وتوسُّله الشديد إلى ثلاث مرات
بصلاة وركوع هو لكي يُجيز الآب عنه” هذه الكأس”.

أما
ما هي هذه الكأس؟ فقد عجز علماء اللاهوت عن التعرُّف على “هذه الكأس” إذ
قالوا إنها كانت رعبة الموت، وأن المسيح جاء في النهاية وارتعب من الموت!! وهذا
التفسير معيب لا يتناسب قط مع المسيح. فالمسيح ليس أقل من الشهداء الذين كانوا
يسخرون من الموت ومن الجلادين ويقدِّمون أجسادهم للنار وللوحوش بفرح بسبب قوة
الرجاء والحياة التي فيهم. فهل يقشعر المسيح من الموت ويتخاذل ويصرخ بدموع إلى
الآب أن ينجيه من الموت؟ فلماذا، إذن، أخلى ذاته؟ ولماذا تجسَّد؟ وبحسب قوله: “لأجل
هذا أتيت إلى هذه الساعة!!” (يو 27: 12)

أما
الحقيقة فهي أن هذه الكأس تعبِّر عن كيف سيشرب المسيح خطايا البشرية وعارها، ويظهر
علناً على الصليب حاملاً فضيحتها من زنا وقتل وتجديف على الله. فأمام حَمْل الصليب
كان عليه أن يقرِّر: هل يقبل أن يكون صانع كل هذه الخطايا حتى يمكن أن يُصلب
ويموت؟ وإلا لو كان المسيح تقدَّم بجسده على أنه هو القدوس فكيف يُحكَم عليه
بالموت؟ بل وكيف يموت؟ ولا يموت إلاَّ مَنْ كان خاطئاً. وكيف يقبل اللعنة على
الصليب إلاَّ مَنْ كان مجدِّفاً على الله؟! والآن كيف يقبل ابن الله المتجسِّد
كلِّي القداسة والمجد أن يقف أمام أبيه كإنسان زانٍ ونجس وقاتل ومجدِّف، ناهيك عن
كل الخطايا الأخرى؟ كيف والعلاقة بين الآب والابن لا تسمح، فسمة الابن الأولى
والعُظمى هي الطاعة لأبيه. فكيف يقف أمامه كمجدِّف؟! والطبيعة الواحدة للآب والابن
تتَّسم بالقداسة، وكيف يقف الابن أمام الآب نجساً زانياً؟! إلى هنا ونعود إلى
الصلاة والركوع والصراخ والدموع، لماذا كانت؟ والتوسُّل لثلاث مرات أن يعبر عنه
هذه الكأس!

واضح
هنا أن طبيعة الابن وذاته القدوسة وَجَفَتْ وارتعبتْ بحكم قداستها من أن تقف أمام
الآب مجدِّفة. وظل الابن رافضاً كأس خطايا الإنسان وفضيحته أن تُنسب ذاتياً للابن،
فهذا يطال علاقته بالآب فكيف يقبل؟؟ ولكن يدخل هنا عنصر التجسُّد، أي وضع الابن
الجديد أمام الآب حاملاً أصلاً ما ليس له، وهو جسد الإنسان. فمشيئة الابن يدخلها
عنصر ما ليس له، إذ يدخل فيها حال الجسد البشري الذي يلبسه، الذي امتنع عليه قبول
هذه الخطايا وهو القدوس. وهنا بلغت المضادة أقصى توترها. وبعد رفض الآب لثلاث مرات
أيضاً وهو يرفض اعتذار الابن وتمنُّعه، سلَّم الابن المتجسِّد المشيئة للآب،
وقَبِلَ المسيح أن يشرب كأس خطايا البشرية طاعة للآب فقط: “لتكن
لا إرادتي بل إرادتك” (لو 42: 22). وكان هذا هو الفداء الأعظم، أو أعظم
ما في الفداء. إذن، فجثسيماني تقع في خريطة الفداء مكان البؤرة شديدة اللمعان.

هنا
تبدأ المضادة دخولها عملياً على حياة المسيح. كيف يمارِس المسيح حكم الموت واللعنة
مع (من أجل) البشرية كلها!! إلاَّ بحكم إدانة رسمية عالمية موثَّق عليه من الأرض
كلها بكل شعوبها. فأولاً من قضاة الناموس القوَّامين على الناموس الذي يقضي وحده
بالموت أمام الله، ثم يتحتَّم لكي يُنفَّذ حكم الموت أن يصدِّق عليه كل الأمم
ممثَّلين في محكمة عالمية لها قاضيها الرسمي، وبعد مناقشة واتهام وثبوت التهمة حتى
يموت أمام العالم. وهذا ما تمَّ، إذ بعد جثسيماني بل وأثناءها قُبض على المسيح،
وبعدها مباشرة بدأت المحاكمات. وكان أهم عنصر في المحاكمات الذي تاه عن عقول معظم
الشُّرَّاح والمفسرين، موقف المسيح الصامت وهو يسمع الاتهامات سواء أمام مجلس
السنهدرين في جلستين: واحدة مسائية والأخرى صباحية، أو أمام هيرودس، أو أمام
بيلاطس:

أمام
رئيس الكهنة:
“فقام رئيس الكهنة في الوسط وسأل يسوع قائلاً: أما
تُجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هؤلاء عليك؟ أما هو فكان ساكتاً ولم يُجِبْ
بشيء”
(مر 60: 14و61)

أمام
هيرودس:
“وسأله
بكلام كثير فلم يُجِبْه بشيء. ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليه
باشتداد” (لو 9: 23و10)

أمام
بيلاطس:
“فسأله
بيلاطس أيضاً قائلاً: أما تُجيب بشيء؟ انظر كم يشهدون عليك! فلم يُجِبْ يسوع
أيضاً بشيء حتى تعجَّب بيلاطس”
(مر 4: 15و5)

واضح
أن أمامنا هنا خطة المسيح التي تمسَّك بها أن لا يرد ولا يدافع عن نفسه قط أمام
كل الاتهامات، بل إنه لم يراجع القضاة، الأمر الذي تعجَّب منه بيلاطس، وتعجُّبه
كان لأنه قاضٍ ويُدرك أن صمت المتهم عن الدفاع عن نفسه لينفي عن نفسه جميع
الاتهامات معناه ثبوت التهمة أي ثبوت كل أنواع الخطايا التي نُسبت إليه أنه
اقترفها بالفعل ولم يرد عليها. وبناءً عليه يكون قد أصبح الحكم عليه بالعدل، لأنه
قَبِلَ أن تُنسب إليه هذه الخطايا.

والآن
يتضح أمام القارئ أن المسيح أخذ عملياً كل خطايا الإنسان: فهو مجدِّف على الله،
ومُفسد للأُمة، وصانع شر؛ ولكن أخطرها أنه يجدِّف على الله التي عقوبتها الصَّلْب
كملعون. ولذلك بارتفاع المسيح على الصليب راضياً وبإرادته أثبت بالفعل والحق ما
قاله القديس بطرس إنه: ” حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة”(1بط
24: 2)، وصُلِب بمقتضاها ومات! كذلك: “المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ
صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: ملعون كل مَنْ عُلِّق على خشبة” (غل 13: 3)

هنا
الفداء يأخذ أقوى معناه، بل أقوى فعله؛ إذ مات المسيح حاملاً خطايا الإنسان
واللعنة على الصليب، ونزل إلى القبر ودُفن وبَقِيَ في حالة الموت ثلاثة أيام
ليُحسب موته موتاً كاملاً، وذلك بجسده حاملاً البشرية بكل خطاياها ولعنتها وكل
عارها.

ولكن
يتحتَّم أن ينتبه كل إنسان أن الخطايا واللعنة التي حملها المسيح في جسده ومات بها،
ليست خطاياه، فهو بقِيَ كما هو القدوس الذي بلا خطية. لذلك تحتَّم أن يقوم من بين
الأموات بجسد بشريته نفسه الذي مات به، ولكن بعد أن أكمل في جسد بشريته عقوبة
الإنسان بالموت واللعنة. وهكذا قام بجسد البشرية وقد سقطت جميع الخطايا عنه، وسقط
الموت واللعنة أيضاً. فأصبح جسد بشريته جديداً طاهراً قدوساً غالباً الخطية والموت
والهاوية، وإذ ارتفع عن الأرض أوضح بالبرهان المنظور نوع القوة الإلهية الرافعة من
الموت والتراب، وقد انفصل نهائياً عن الأرض والتراب. ولَمَّا صعد المسيح بالجسد
الذي مات به وقام إلى السماء، برهن بالبرهان العملي المنظور كيف بعد
القيامة سيرتفع بنا المسيح لنستوطن السماء معه وفيه.

تسليم
المسيح جسد القيامة الجديد الذي غَلَبَ به الموت والهاوية

إلى
كل مَنْ يؤمن بالمسيح:

كان
هذا ختام العمليات الكبرى للفداء التي قام بها الكلمة ابن الله المتجسِّد، حينما
ارتفع بالجسد الذي أخذه من البشرية قائماً به من بين الأموات باعتباره جسد البشرية
الجديد، باعتباره النموذج الأعظم للبشرية الجديدة التي خلقها المسيح في جسده من
ذاته وشخصه وعلى صورته ولها كل علاقته بالآب: “أيها الآب البار، إن العالم لم
يعرفك، أما أنا فعرفتُك، وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني. وعرَّفتُهم اسمك
وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم” (يو 25: 17و26).
وهكذا أعدَّ المسيح البشرية الجديدة للصعود والحياة مع الله في السماء.

والآن جاء دور تسليم عيِّنة كاملة من جسد المسيح هذا القائم
من بين الأموات بمجد الله، وذلك في المعمودية بالسر الإلهي الذي هو “سر الخلق
الجديد”غير المنظور للإنسان أو “سر ميلاده الثاني من فوق بالروح من
المسيح”لكل مَنْ يعترف ويؤمن ويشهد بموت المسيح وقيامته على الصليب. ما معنى
هذا؟

معناه
أن المسيح بالتجسُّد والموت والقيامة، خلق في نفسه الإنسان الجديد كاملاً قديساً
طاهراً حائزاً على البنوَّة لله في الابن الكلمة الذي هو الابن الوحيد قبل
التجسُّد كما هو بعد التجسُّد. فأقنوم الابن تجسَّد بكل ما له، غير أنه أفرغ ذاته
من مجده الإلهي حتى يستطيع أن يتجسَّد وحتى يُرَى للناس كإنسان. وعلى الصليب أكمل
فدية الإنسان وهيَّأه بالسر الإلهي، لكي يتقبَّل الإنسان جسداً روحياً جديداً من
جسد المسيح القائم من الموت عِوَض جسده العتيق الترابي الذي أماته المسيح على
الصليب. وها هو في المعمودية يشترك الآب والابن والروح القدس في خلع الجسد العتيق
بطبيعته الترابية عن الإنسان وإلباسه الخليقة الجديدة:

+
“إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله (في المعمودية)، ولبستم الجديد (الإنسان
الجديد) الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه” (كو 9: 3و10)

أما
إذا استغرب الإنسان هذا العمل الفدائي كخلقة جديدة فعلية، فَعَلَيْه أن يسمع من
المسيح ما علَّم به نيقوديموس عندما استغرب استعلان الميلاد الثاني من فوق من
الماء والروح، فردّ عليه المسيح قائلاً: “المولود من الجسد جسد هو، والمولود
من الروح هو روح. لا تتعجَّب أني قلتُ لك: ينبغي أن تُولَدوا من فوق. الريح تهبُّ
حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كل مَنْ
وُلِدَ من الروح” (يو 6: 38). أي أن الخلقة الجديدة للإنسان، وهي
الميلاد الروحي الثاني للإنسان من الماء والروح في المعمودية، هي عمل فائق على
الطبيعة لا يُرَى لأنه يحدث بقوة الله الخالقة بالسر الإلهي في الخفاء شأن كل
أعمال الروح.

وكما يقول الوحي على لسان بولس الرسول إن الذي يحدث في
المعمودية بالنسبة للإنسان هو هو بعينه ما حدث على الصليب؛ فعندما مات المسيح
بالجسد، مات الإنسان العتيق بطبيعته العتيقة، أي الذات البشرية العتيقة المسئولة
عن الجسد العتيق. وكما قام المسيح بجسد البشرية الجديد الغالب الخطية والموت
والهاوية والعالم، هكذا أقام الله لنا بالروح الإنسان الجديد بطبيعة جديدة مأخوذة
سرًّا من قيامة المسيح بكل صفاتها الجديدة التي قام بها من بين الأموات، حيث
تتغيَّر الذات: “أنا الإنسان”الترابية التي كانت مربوطة بالجسد العتيق،
لتأخذ صورة ذات المسيح القائم من بين الأموات:

+
“ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغيَّر إلى تلك
الصورة عينها، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح” (2كو 18: 3)

+
“وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب (مثل) الله في البر وقداسة الحق”
(أف 24: 4)

+
“سيغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده” (في 21: 3)

ولكن يهمنا جداً أن لا يغيب عن بالنا قط أن هذه الخلقة
الجديدة للإنسان ليست حرَّة ولا مستقلة بذاتها، بل “مخلوقة في
المسيح”
ومتَّحدة به ولا تستطيع أن تنفصل عنه أو تفارقه قط. فاتحادها
بالمسيح هو أعظم عنصر فيها، وهو الضامن لخلاصها ودوامها وترائيها في السماء أمام
الله تسبِّحه كخليقة سماوية إلى الأبد:

+
“مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك
فيها” (أف 10: 2)

وبهذا نكون قد وصلنا إلى آخر مرحلة من مراحل الفداء، وبلغنا
الخلقة الجديدة للإنسان التي قصدها الله في نفسه قبل تأسيس العالم: “كما
اختارنا فيه (في المسيح) قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدَّامه
في المحبة، إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرَّة مشيئته”
(أف 4: 1و5). أما البركة الروحية التي باركنا الله بها في السماويَّات، فهي التي
نعيشها الآن جزئياً وننتظر كمالها بفارغ الصبر عندما ننفض عنَّا الجسد العتيق
النفضة الأخيرة(
[1])
بانتظار القيامة العتيدة أن تكون حينما يتجلَّى فينا الإنسان الجديد في بهاء نور
المسيح.

أما
تواجد الخليقة الجديدة للإنسان بصورة دائمة وأبدية في السموات مع المسيح وفيه حسب
قصد الله الأزلي الذي أعلنه، فتقول الآية بالحرف الواحد:

+
“أقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويَّات في المسيح يسوع، ليُظهر في
الدهور الآتية غِنَى نعمته الفائق، باللطف علينا في المسيح يسوع” (أف 6: 2)

ويضيف
إليها القديس يوحنا:

+
“أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله، ولم يُظهَر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم
أنه إذا أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو (فينا). وكل مَنْ عنده هذا
الرجاء به يُطهِّر نفسه كما هو طاهر” (1يو 2: 3و3)

انظر
الآن أيها القارئ، كيف أن خلقة الإنسان كانت منذ الأزل قبل تأسيس العالم ولا زالت
ولا تزال شغل الله الشاغل. وانظر وتأمل، كم تنازل، كم بذل، كم ضحَّى ليخلق
الإنسان بالنهاية خلقة سماوية مباركة بكل بركة روحية في السماويَّات. وانظر مدى
الدقة في الخطوات التي تمَّت في الخلق وبعد الخلق هذه الألوف من السنين. وكيف
أدَّت كل مرحلة إلى المرحلة التي تليها بكل قصد وحكمة، لتبلغ في النهاية إلى
مقصدها المحفوظ في السموات قبل تأسيس العالم، لتحيا مع الله بحالٍ من القداسة
والمحبة يليق بخليقة روحانية تقف أمام الله تسبِّحه وتمدح مجد نعمته إلى أبد
الآبدين.

(فبراير
1997)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى