علم الانسان

الإنسان الجديد ومدح مجد نعمة الله



الإنسان الجديد ومدح مجد نعمة الله

الإنسان
الجديد
ومدح مجد نعمة الله

واضح
من استعلان بولس الرسول من جهة تدبير الله الأزلي قبل تأسيس العالم، كيف باركنا
الله كخليقة جديدة في المسيح بكل بركة روحية في السماويَّات (أف 3: 1). ولكن وَضَع
علينا خدمة سماوية كخدمة الخلائق الروحية العُليا، إذ جعل غاية خلقتنا الجديدة
التي نالت كل بركة روحية في السماويَّات أن تقف أمام الله بحالة قداسة وبلا لوم في
مفاعيل المحبة التي رفعت عن خلقتنا الأولى كل عوائق القداسة وكل ملامة (أف 4: 1).

ولكن
الأكثر تركيزاً في تعيين حدود ونوع الخدمة هو ما أوضحه بولس الرسول بقوله إن الله
وهبنا حسب سَبْق تدبيره حالة تبنِّي لله في المسيح: “إذ سَبَقَ فعيَّننا
للتبنِّي بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئته” (أف 5: 1). وكان القصد من هذا
التبنِّي السعيد لله الذي نلناه بواسطة يسوع المسيح هو لكي يكون لنا قدرة وسلطان
ودالة أمام الله لمدح مجد نعمته؛ لأنه بأي كيفية وبأي استحقاق نستطيع أن نقف أمام
الله لنمدح مجد نعمته إن لم يهبنا حالة البنين ليكون نطقنا بالمدح عن وعي وصدق
الأبناء!؟

وهنا
نرجع لنفحص حالة التبنِّي التي أنعم الله بها علينا، فنكتشف أنها هي بعينها حالة
الخلقة الجديدة التي وهبها لنا الابن الوحيد المتجسِّد، يسوع المسيح، من جسده وفي
جسده القائم من بين الأموات!

مقالات ذات صلة

هذه
الخليقة الجديدة التي نالت في المسيح وبالمسيح حالة التبنِّي للآب صارت مقدَّسة
حقًّا وبلا لوم في المحبة، وهي القادرة كونها ملتحمة بالمسيح وناطقة بفمه أن تمدح
عن جدارة مجد نعمة الله هذه التي أنعم بها علينا في المحبوب.

وهنا
لا يقتصر الحمد على “نعمة الله”، بل يزيد ليكون الحمد على “مجد نعمة الله”، لأنها
نعمة متفوقة جداً في المجد، إذ اعتبرتنا نحن أنفسنا لا
متبنِّين فقط، بل متبنِّين في المسيح الابن المحبوب؛ أي صارت لنا نفس دالة الابن
المحبوب التي عبَّر عنها المسيح من جهته قائلاً: “وأنا قد أعطيتهم المجد الذي
أعطيتني” (يو 22: 17). وهذه إحدى أسرار الخلقة الجديدة التي نلناها، كونها
حائزة على “شركة في مجد الابن”.

ولكي
نفهم القصد المبارك من هذه الشركة يقول المسيح: “وأنا قد أعطيتهم المجد الذي
أعطيتني، ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا
مُكمَّلين إلى واحد” (يو 22: 17و23). هنا يضمُّنا الابن بحالة سريَّة جداً
إلى شركة في المجد الخاص به توطئة إلى تكميل الوحدة معه بحال لا يعطِّل الوحدة
القائمة بينه وبين الآب. وطبعاً القصد من ذلك هو نيل مخصَّصات الابن التي تؤهِّلنا
للحياة الأبدية أمام الله، وأهمها المحبة التي ركَّز عليها المسيح في صلاته
الأخيرة للآب في إنجيل القديس يوحنا: “وعرَّفتهم اسمك وسأُعرِّفهم، ليكون
فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم” (يو 26: 17)

لاحِظ
هنا كيف يربط المسيح بين أن يكون في خليقته الجديدة حب الآب له، وبين أن يكون
المسيح فينا. فهو قد سبق وأعطانا المجد الذي أعطاه له الله الآب لنكون واحداً فيه،
والآن يلح على الآب أن يكون لنا أيضاً حب الآب الذي أحبَّ به الآبُ الابنَ.

واضح
هنا جداً الذخيرة الإلهية التي احتوتها الخليقة الجديدة في المسيح، إذ حازت بنوع
فائق الوصف على “المجد الذي للمسيح”و“الحب الذي للمسيح”. من هنا أصبح من
واجبات الخليقة الجديدة للإنسان كما يذكر بولس الرسول بحسب استعلان
الله الأزلي مدح مجد نعمة الله التي أنعم بها علينا في المحبوب، من
واقع التبنِّي الذي سبق الله فعيَّننا له بيسوع المسيح، لا كعطية وإنعام خارجاً عن
نفسه، بل كما حدَّدها بولس الرسول أنها لنفس الله ولمسرَّة مشيئته.

فنحن
كأبناء متبنِّين، لنا في نفس الله مكانة خاصة؛ بل وفي دائرة مسرَّة مشيئته نعيش.
من هنا تصبح قدرتنا في مدح مجد نعمة الله التي أنعم بها علينا في المحبوب مستمدة
من الله كأخصاء، لنا في الله موضع مسرَّة، وتجعل لمديحنا واقعاً وكياناً في دائرة
ما لله.

والذي
يزيد من قيمة مديحنا لمجد نعمة الله أنه مطلب الله لنفسه ولمسرَّته الذي من أجله
وهبنا نعمة التبنِّي بيسوع المسيح. فنحن الخليقة الجديدة في المسيح ذات وجود مطلوب
أمام الله، وذات اعتبار، ومديحنا هو لمسرَّة مشيئته. والمجد الذي أعطانا المسيح هو
عينه المجد الذي أعطاه له الآب، وقد أعطاه لنا، لا ليزيد من قدرنا، بل ليزيد من
قدرتنا على الالتحام به، وهو نفسه الذي يُنشئ فينا قدرة المديح لمجد الآب. فنحن لا
نمدح من فراغ ولا من أنفسنا، فإن كان لائقاً وواجباً أن نمجِّد الآب، فهذا من فيض
نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب، ومن شركة المجد الذي أعطانا المسيح؛ فإذا
امتنعنا نكون قد عطَّلنا نعمة الله وخذلنا مجد المسيح.

هذا
ما سُرَّ الله أن يعمله لنا منذ الأزل وقبل تأسيس العالم، واستطاع المسيح الابن
المحبوب أن يكمِّل كل مسرة مشيئة الآب من نحونا، فكلَّفه ذلك طاعةً حتى الموت، موت
الصليب؛ فكان رد الآب أن أقامه وأقامنا معه وتمَّت كل مشيئة الآب ومسرته نحونا.

نعم لقد صار، وصار في يدك، ومسرَّة مشيئة الله فيك، إذ قد
وهبك التبنِّي لنفسه شخصياً حتى يسمع منك مديح مجد نعمته التي أنعم بها عليك في
المحبوب، الذي طالب إسرائيل في القديم أن تسمع له ولم تسمع؛ هو نفسه يترجَّى أن
يسمع منك، لا لأنه كان محتاجاً لإسرائيل قديماً ولا هو محتاج لك الآن. ولكن وضح
وضوح الشمس أن إسرائيل هي التي كانت محتاجة إليه وكان ذلك هيِّناً عليها، فرَفضت؛
فرُفضت ونزلت إلى المذلة والتراب. فالآن انظر، فأنت المحتاج أن تُسْمِعه صوت مديحك،
وهذا هيِّن عليك لو أردتَ. تسبِّحه تسبحة مجد يدوم، لا عن تفضُّل، بل عن حاجة
تُفصح بها عن هويَّتك الجديدة.

نعم،
لقد صار هذا وصار لنا ما سُرَّ الآب أن يكون لنا. نعم، صرنا أبناء الله الآب
بالتبنِّي في المسيح يسوع، أي أننا اشتركنا في بنوَّة المسيح للآب. فكما أخذ جسدنا
أخذنا جسده، وأصبح يحيا فينا ونحن نحيا فيه. والمسألة مسألة إيمان حيّ، لأن الأمر
قد صار وانتهى على الصليب وبالقيامة. فعطية الآب عطية عامة لأن المسيح ذاق الموت
بنعمة الله من أجل كل واحد (عب 9: 2)، فنفض عن كل واحد فينا الإنسان
العتيق الترابي، وخلق لنا في جسده القائم من بين الأموات خليقة جديدة لإنسان جديد لكل
واحد فينا
أيضاً. فالمسألة مسألة إيمان حيّ بالذي تمّ من أجل كل واحد.

وفي
هذا يقول المسيح (ونرجو تصحيح الآية على الأصل اليوناني):

+
“لذلك أقول لكم: كل ما تطلبونه حينما تُصلُّون، فآمنوا أنكم نلتموه
Óti ™l£bete = that you
have received it
، فيكون لكم.« (مر 24: 11)

هنا
الإيمان بعمل الله باعتبار أنه تمّ، لأن الإيمان هو الثقة بما يُرجى، فإذا وثقنا
بكلام المسيح وفِعْل الآب ننال ما صنعه الآب والمسيح من أجلنا.

وهكذا
نستطيع أن نقول بملء الثقة إننا خليقة جديدة، وإننا أبناء الله الحيّ في المسيح؛
وهذا يقتضي منَّا كأبناء أن نقدِّم تسبيح الحمد لمجد نعمة الآب التي أنعم بها علينا
في المحبوب.

نقول:
كيف وبماذا أمدح مجد نعمة الله؟ أقول لك: إنها طبيعة الخليقة الجديدة، وقد صار لك
لسان الابن الذي وُلِد جديداً لله من جسد المسيح. والمسيح يقول: “أنا قد
أعطيتهم المجد الذي أعطيتني” فعطية المسيح لنا قائمة فينا، لأن مجد الابن صار
من صميم طبيعتنا. فكما يقول سفر العبرانيين: “فإذ لنا أيها الإخوة ثقة
بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع.. لنتقدَّم بقلب صادق في يقين الإيمان، مرشوشة
قلوبنا من ضمير شرير، ومُغتسلة أجسادنا بماء نقي.. فلنقدِّم به في كل حين
لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه مُعترفة باسمه” (عب 19: 10و22؛ 15: 13)،
وكما يقول المزمور: “أَفْغِرْ فاك فأملأه” (مز 10: 81). فتسبيح الله هو
عمل الله، ومدح مجد نعمته هو من عمل النعمة. يكفي أنك أصبحت شريك الابن في ما له
لتُسبِّح الله أباه وتعطيه ما له.

لقد
شاركنا السمائيين لَمَّا أقامنا المسيح وأجلسنا في السماويات معه، فأصبحت السموات
موطننا، ولغتها لغتنا، وتسبيحها تسبيحنا. والكنيسة تعيش حقيقة السماء وتسبيحها
حينما تهتف هتاف الحياة والنصرة حينما تقول:

[الذي
أعطى الذين على الأرض تسبيح السيرافيم،
اقبل منَّا نحن أيضاً أصواتنا مع غير
المرئيين، احسبنا مع القوات السمائية. ولنقل نحن أيضاً مع أولئك إذ قد طرحنا عنَّا
كل أفكار الخواطر الشريرة، ونصرخ بما يُرسله أولئك بأصواتٍ لا تسكت وأفواهٍ لا
تفتر، ونبارك عظمتك.]

(القداس
الغريغوري)

هكذا لَمَّا لَبِسَ ملك السماء جسدنا وقام بنا صاعداً
وافتتح لنا السموات وأدخلنا إلى أبيه، لم نَعُدْ غرباء عن تسبيح السمائيين إذ قد
صرنا ضمن صفوفهم. فقد تحقَّق عمل الله الآب فينا الذي وضعه في الأزمنة الأزلية أن
نكون حقًّا قدِّيسين وبلا لوم أمامه، إذ عيَّننا سابقاً للتبنِّي في المسيح لنفسه
حسب مسرَّة مشيئته. وها الكنيسة تحقِّق هذا الوعد وتمدح مجد نعمته
كمطلب الآب تلك النعمة التي أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة في المحبوب.

والقديس
بولس يسبق هو أيضاً ويستعلن سر الكنيسة وما أدركته في المسيح كما وضعه الله منذ
الأزل ويقول: “لكي يُعرَّف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات، بواسطة
الكنيسة، بحكمة الله المتنوعة، حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع
ربنا” (أف 10: 3و11). إذن، فهي حقائق لخليقة سماوية.

فليس
سرًّا بعد أننا نعيش خليقة جديدة لها السموات موطناً، وتسابيحها تسابيح السيرافيم
لمدح مجد نعمة الله التي أنعم بها علينا في المحبوب. فكل ما أراده الله كان.

(19
سبتمبر 1998)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى