اللاهوت العقيدي

أولاً: كيف بدخول الأُمم حتَّمت الضرورة بإقامة إفخارستيا مشروحة؟



أولاً: كيف بدخول الأُمم حتَّمت الضرورة بإقامة إفخارستيا مشروحة؟

أولاً:
كيف بدخول الأُمم حتَّمت الضرورة بإقامة إفخارستيا مشروحة؟

يلزمنا
هنا أن نستعيد في ذهن القارئ الأعمال والأقوال التي تمَّت في “إفخارستيا”
عشاء الخميس التي أقامها الرب مع تلاميذه، فصارت أساساً تلقائياً محتَّماً لكل
إفخارستيا.

في
عشاء الخميس أكمل الرب ثلاثة أعمال أساسية هامة جدًّا تعتبر الهيكل البنائي العام
للإفخارستيا، هذه الثلاثة الأعمال مركَّبة على بعضها ومتداخلة وتكوِّن عملاً
واحداً هو “ذبيحة شكر” = إفخارستيا.

العمل
الأول: وهو طقسي:

مقالات ذات صلة

وفيه
مارس المسيح الطقس التقليدي المتعارف عليه في أيام المسيح في إقامة “وليمة المحبة”([1])،
وهو عبارة عن كسر خبز ثمَّ عشاء ثمَّ بركة (شكر) على الكأس، ثمَّ
تسبيح ثمَّ انصراف.

العمل
الثاني: وهو سرائري:

وفيه
أعلن المسيح بعد البركة على الخبز وكسره وتوزيعه عن تحوُّل هذا الخبز إلى جسده.
كذلك بعد أن شكر على الكأس أعلن عن تحوّل الخمر الممزوج في الكأس إلى دمه. ثمَّ
أعطى لتلاميذه أمراً أو وصية أن يصنع التلاميذ هذا الإجراء السرائري في كل وليمة
محبة ليكون “ذكراً” = “ذكارون” له. فاعتُبرت هذه الوصية تسليماً أبدياً لسرِّ
المسيح.

العمل
الثالث: وهو شرحي:

وفيه
شرح المسيح لتلاميذه ليلة العشاء السرَّ الجديد القائم في الخبز المكسور المتحوِّل
إلى جسده وسرّ الكأس الممزوج المتحوِّل إلى دمه، لا كأنه مجرَّد حديث على العشاء
أو حديث ما بعد العشاء، ولكنه حديث يشرح صميم السرّ الذي استودعه الرب في الخبز
والكأس.

وهذا
“الشرح” اعتنى القديس يوحنا بتسجيله بدقة أكثر من تسجيل طقس العشاء نفسه،
وذلك من بداية الأصحاح الثالث عشر حتى الأصحاح السابع عشر أي منذ بدء
الوليمة حتى القبض عليه! بالإضافة إلى أصحاح كامل سابق على ذكر العشاء وهو الأصحاح
السادس.

ونحن
لو تعمَّقنا في مراجعة ما قاله القديس يوحنا الرسول في هذه الأصحاحات تتضح أمامنا
صورة أول صورة لشرح الإفخارستيا تصلح أن تكون قدَّاساً
بالفعل، بل وربما أن تكون هي عناصر الإفخارستيا التي كان يمارسها يوحنا الرسول
بالفعل.

ونحن
نقدِّم هنا ملخَّصاً لكلمات هي من صميم الجزء المعروف بالتأسيس:

هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه
الإنسان ولا يموت.

أنا هو الخبز الحي النازل من السماء.

إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد.

الخبز الذي أنا “أُعطي” هو جسدي الذي “أبذله”
عن حياة العالم.

إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس
لكم حياة فيكم.

مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي، فله حياة أبدية وأنا
أُقيمه في اليوم الأخير.

جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق!

مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه.

هذا
الكلام هو بحد ذاته ليتورجية وصفية يشرح فيها الرسول يوحنا بفم المسيح دقائق العمل
الإفخارستي الذي تمَّ في عشاء يوم الخميس.

ويُلاحَظ
أن هذا الشرح الإفخارستي لسرّ العشاء، ولو أنه قُدِّم للتلاميذ، لكنه في حقيقته
موجَّه لكل العالم:
» الخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله عن
حياة العالم
« إذن، فهذا الكلام موجَّه بالفعل إلى كل الأُمم ليفهموا السر الذي به
يتحدون بالمسيح بالأكل من الجسد والشرب من الدم!

ثمَّ
لا يمكن أن يفلت منا الأساس الذي وضعه يوحنا الرسول بفم المسيح الذي يقوم عليه سرّ
الإفخارستيا كله: وهو موت الرب الإرادي
» الخبز الذي
أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله
«

فيوحنا
يسجِّل تسجيلاً إنجيلياً واضحاً أن الإفخارستيا تقوم بالأساس على موت الرب، فتقديم
الخبز والكأس هو هو تقديم ذبيحة الصليب
= موت الرب.

وموت
المسيح هو هنا بالسر تقديم الخبز والكأس أو هو التناول من “الخبز الحي”
و“الدم المحيي”.

وواضح
غاية الوضوح من كلام يوحنا الرسول بفم المسيح:

1
العلاقة بين [الأكل والشرب] وبين [الجسد والدم].

2
العلاقة بين [الأكل والشرب من الجسد والدم] و [الثبوت في المسيح].

3 العلاقة بين [الأكل والشرب من الجسد والدم
والثبوت في المسيح] و [الحصول على الحياة الأبدية].

4 العلاقة بين [الأكل والشرب من الجسد والدم
والثبوت في المسيح] و [الحصول على عدم الموت].

هذه
المسلسلة تشكِّل كل العناصر الأساسية في الإفخارستيا.

هذا
الشرح بكل كلماته وبخبر حلول الروح القدس أصبح في ذهن التلاميذ جزءًا لا يتجزَّأ
من طقس إقامة وليمة العشاء بعد ذلك أي أن “الشرح التفصيلي لمعنى
السرّ الإلهي”
القائم في الخبز المكسور
المتحوِّل إلى جسد المسيح المكسور على الصليب، والسرّ الإلهي القائم في الخمر
الممزوج
المتحوِّل إلى دم
المسيح المسفوك على الصليب، أصبح جزءاً طقسياً هاماً وأساسياً لا يتجزَّأ من وليمة
العشاء.

ونحن
الآن، وبإزاء بدء الدخول في الليتورجيا الوصفية التي بنيت على أساس سر العشاء الأخير
وبأوصاف من الرسل أنفسهم مستمدَّة من المسيح رأساً، نلفت نظر الباحث إلى العلاقة
الوثيقة بين إنجيل يوحنا والعبارات الإفخارستية المدوَّنة في “الديداخي”([2])،
لأنه يبدو من البحث الجاد، أن كلاًّ من إنجيل يوحنا ووثيقة “الديداخي” من عصر زمني
واحد، بل وربما تكون اليد التي كتبت الإنجيل اشتركت أيضاً في صياغة “الديداخي”!!
بل ويقول العالِم([3])
C.H. Dodd إن يوحنا يشرح الديداخي في إنجيله، معتبراً أن كتابة الديداخي
متقدِّمة على كتابة يوحنا لإنجيله.

ولكن
على أي حال لا يصعب على الإنسان المدقِّق أن يلمح الصلة الوثيقة بين الديداخي التي
ترى في “كأس العشاء” سر “كرمة داود”، وبين إنجيل يوحنا الذي يعتني
جدًّا أن يثبت الصلة بين “كأس العشاء” وقول المسيح: «أنا الكرمة
الحقيقية»
على العشاء!! وأن عن طريق عصير الكرمة يثبت المؤمنون في
المسيح والمسيح فيهم ويثمرون!!

علماً
بأن أول مَنْ شرح القول الذي جاء في الديداخي عن كرمة داود المقدَّسة أنها هي كأس
الإفخارستيا هو القديس كليمندس الإسكندري
([4]).

كيف
التزم التلاميذ بهذه العوامل الثلاثة عند تسليم سر الإفخارستيا للكنيسة؟

كان
ذلك بعد حلول الروح القدس يوم الخمسين، حيث بدأ التلاميذ ترتيب اجتماعهم الأسبوعي
معاً حسب الوصية، ليقيموا وليمة عشاء المحبة “لذكر” الرب كعمل طقسي أساسي
في حياتهم الجديدة، حيث اعتاد التلاميذ على حضور الرب نفسه بصورة مرئية أثناء
كسر الخبز:
» الذين أراهم أيضاً نفسه حيًّا ببراهين كثيرة بعدما
تألَّم وهو يظهر لهم أربعين يوماً ويتكلَّم عن الأمور المختصة بملكوت الله،
وفيما هو مجتمع
([5]) معهم
أوصاهم …
« » وأَعطى أن
يصير ظاهراً، ليس لجميع الشعب، بل لشهودٍ سبق الله فانتخبهم. لنا نحن الذين أكلنا
وشربنا “معه” بعد قيامته من الأموات.
«(أع 40: 10و41)

1
كيف أكمل
التلاميذ العمل الأول (أي الطقسي)؟

بدأ
التلاميذ في إقامة “عشاء الرب” ولم يجدوا في ذلك أية صعوبة من جهة الطقس، فهو بحسب
التقليد القديم الذي استلموه والذي مارسه المسيح أمامهم بركة على الخبز ثمَّ كسر
الخبز ثمَّ توزيعه، وعشاء. ثمَّ بركة على الكأس ثمَّ توزيعه، ثمَّ تسبيح، وانصراف.
وبدأوا بإقامته في العلية ثمَّ في البيوت بعد ازدياد التلاميذ الذين ارتفع عددهم
في يوم الخمسين من 120 تلميذاً إلى ثلاثة آلاف نفس بعد خطاب القديس بطرس.

2
كيف أكمل
التلاميذ العمل الثاني (أي السرائري)؟

واجهت
التلاميذ صعوبة بالغة منذ أول إفخارستيا أقاموها من جهة كيفية التعبير عن سريَّة
الخبز المكسور باعتباره “جسد المسيح” والخمر الممزوج باعتباره “دم
المسيح”،
لأن المسيح في ليلة العشاء الأخير أكمل ذلك بسلطانه وحده، بدون
أيَّة صلاة خاصة، إذ قال فجأة:
» خذوا كلوا هذا جسدي خذوا اشربوا
هذا دمي
« فالتحوُّل ليلة
العشاء تمَّ “بكلمة الرب” نفسه، أو على وجه الأصح تمَّ “مع كلمة الرب” بدون صلاة،
بدون دعاء، بدون شرح، بدون تعليل كيفية حدوث ذلك السر العميق والخطير، فقد تمَّ بسلطان
المسيح
الخاص، قال فكان.

ولكن
ماذا يفعل التلاميذ ليحقِّقوا للشعب المتناول أن الخبزة الواحدة المكسورة هي جسد
المسيح وأن كأس البركة التي يباركونها هي دم المسيح؟ (1كو 10: 16
و17)
علماً بأن التقليد يحدِّد ما يقوله المترئِّس على الخبز والكأس بكلمات محدودة
مسلَّمة يستحيل على أي إنسان تغييرها أو إضافة كلمة واحدة أو حرف واحد عليها!

هنا
أصبح من المحتَّم على التلاميذ بعد أن يكمِّلوا كلمات الطقس أن يتوسَّلوا بصلاة
خاصة من عندهم: “لحضور المسيح” حتى يجري هذا التحوُّل نفسه، وهذا الأمر قد اعتادوا
عليه بالفعل عندما كان الرب يحضر في وسطهم عند اجتماعهم معاً لكسر الخبز في بداية
خدمتهم على مدى أربعين يوماً، لذلك ليس غريباً ولا مستحدثاً أن يطلبوا حضوره في
اللحظات نفسها التي كان قد اعتاد الظهور فيها معهم أثناء كسر الخبز وذلك لكي يجري
بنفسه
([6]) أو بكلمته هذا
التحوُّل بسلطانه الخاص حسب وعده أيضاً
([7]).

ومن
الأمور المحتملة جدًّا أن يكون الرب قد استجاب بالفعل وتراءى لهم عدة مرَّات في
هذه اللحظات
([8])، أي عند
كسر الخبز
كما حدث لتلميذي عمواس فكانوا
يستجيبون لهذا الظهور بالسجود له في هذه اللحظة بخوف ورهبة، مما جعلهم يلتهبون
جدًّا أثناء هذا الدعاء أو الاستدعاء
Invocation
= Epiclesis
، ويعتبرون هذه اللحظة
التي يحل فيها المسيح، إن ظاهراً أو سرًّا، لحظة رهيبة وحاسمة من جهة تقديس
الإفخارستيا، حيث ظل السجود والخوف مقترنين بصلاة الدعاء هذه في التقليد المتوارث
بعد ذلك على ممر مئات السنين حتى اليوم، حيث يهتف الشعب بأجمعه في هذه اللحظة
قائلاً: [نسبِّحك. نباركك. نخدمك. نسجد لك] (القداس الباسيلي). أمَّا في القداس
الغريغوري القبطي، فيقول الشماس: [اسجدوا للحمل كلمة الله] معلناً صدق الإيمان
بحضور الرب في هذه اللحظة.

ومن
الملاحَظ في الكنيسة القبطية أن طقس “كسر الخبز” المدعو ب“قسمة” الجسد لا يزال حتى
الآن ذا مكانة عالية جدًّا وسرية للغاية باعتباره ملازماً لحضور الرب (وإن كانت
الأواشي قد باعدت بين القسمة وبين الاستدعاء والحلول)، ولا تزال إحدى صلوات القسمة
تحمل معنى وحقيقة حضور الرب بهتاف وتهليل مبدع أثناء التقسيم حيث مطلعها كالآتي: [هوذا
كائن معنا اليوم على هذه المائدة عمانوئيل إلهنا] (الخولاجي المقدَّس). وهذا
يوضِّح الترابط العقائدي بين عمل القسمة (كسر الخبز) ولحظة حضور الرب، هذا الترابط
الذي يضرب جذوره في التاريخ إلى حادثة تلميذي عمواس واستعلان حضرة الرب أثناء كسر
الخبز وما ماثلها بعد ذلك من حضورات للرب مماثلة
([9]).

3 كيف أكمل التلاميذ العمل الثالث، أي كيف نجحوا في شرح الإفخارستيا من داخل
الطقس؟

واجه
التلاميذ صعوبة تقديم شرح مناسب للشعب أثناء العشاء، بحيث يكون شرحاً حرًّا أثناء
العشاء
أي بين كسر
الخبز في أول الوليمة والبركة على الكأس في آخر الوليمة
وذلك بسبب
انفصال الإفخارستيا عن وليمة الأغابي (العشاء)، حيث أخذت الإفخارستيا وضعاً سريًّا
خالصاً مستقلاً (بدأ الرسل ممارستها في المساء مع خدمة جمهورية، ثمَّ تحوَّلت بعد
ذلك إلى الصباح).

كذلك
واجهوا صعوبة أخرى بسبب انتقال الإفخارستيا من وضعها المسائي (عشية السبت) الذي
كانت تقام فيه مع العشاء، إلى وضعها الصباحي الملتحم بخدمة الصباح يوم الأحد، وذلك
بسبب اتساع خدمة الصباح جدًّا مع دخول أفواج كبيرة من المؤمنين من الأُمم ونساء
وأطفال، فلم تعد الإفخارستيا وليمة لعدد محدود من الأخصاء تُقام مساءً في جو عائلي
يمكن فيه الشرح والتوضيح، بل أصبحت داخل خدمة الصباح في وسط جمهور كبير خليط من
الأُمم لا يعلمون شيئاً بالمرَّة عن التقليد القديم ولا ما هو أصل هذا العشاء
السرِّي.

هذا
كله اضطر التلاميذ إلى وضع صيغة جديدة للإفخارستيا تشرح ما يتم داخل الإفخارستيا
حركة حركة، أي كل حركة صنعها المسيح في صمت حسب التقليد قديماً وضعوا لها شرحها
الوصفي ليسمعها الشعب كله حتى يفهم الشعب ماذا يتم أمام عيونهم. فبدل أن كان في
طقس العشاء يمسك الرئيس
([10]) الخبزة
بيده اليمنى ويضعها مردِّداً إيَّاها على يده اليسرى في صمت حسب الطقس القديم، بدأ
الرسل يصفون هذا الإجراء بكلمات تشرح الطقس هكذا [وأخذ خبزاً على يديه …]، حيث
يلاحظ أنه لم يقل “على يده” بل “على يديه” حتى يوضِّح عملية الترديد
الطقسية (الذبائحية) من يدٍ ليد
([11]).

كذلك
بدأوا يضعون الجمل التي تشرح ملابسات وزمن العشاء السري هكذا: [لأنه في الليلة
التي أُسلم فيها …]
.

كذلك
بدأوا يشرحون الدقائق اللاهوتية الملازمة للعمل الطقسي مثل [وهو مزمع أن يسلِّم
نفسه عن حياة العالم[بإرادته وسلطانه وحده]، [يديه الطاهرتين
النقيتين اللتين بلا عيب]. [يُعطي لمغفرة الخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه]
… إلخ

وواضح
أن هذه الأوصاف والشروحات لم تكن موجودة قط في الطقس الأصلي لسر عشاء الخميس الذي
أجراه الرب.

ولكن
هذه الظروف التي حتَّمت على الرسل بوضع إفخارستيا مشروحة وموصوفة ليفهم الشعب
الأُممي ما تمَّ ليلة الخميس وما يتم أمامهم الآن، هذه الظروف لم تأتِ مرَّة واحدة
ولا بقدر واحد ولا في كرازة رسول واحد، بل جاءت على مراحل إنما في أزمنة متقاربة
في أيام الرسل كلاًّ في مكان بشارته في أُورشليم ومصر وأنطاكية وروما، لذلك وصلتنا
هذه الشروحات في صور ونمازج إفخارستية ومنذ العصر الأول متعدِّدة كل منها يحمل
طابع ظروف وطنها وبيئتها التي نشأت فيه، ولكنها تحتفظ بوحدة الأصل والأساس الذي
انبثقت منه
أي “سر العشاء الأخير”. كما أنها تحتفظ
بوحدة الهدف التي تهدف إليه
أي توصيل المفهومات
التقليدية السرائرية في عشاء الخميس، التي كانت خاصة جدًّا بالبيئة اليهودية،
لتكون في متناول فهم وممارسة كل الأُمم على مختلف بيئاتهم. فجاءت كل الإفخارستيات
المبكِّرة ذات هيكل عام موحَّد وإن اختلفت بعض الطرق والجمل في الشرح والتعبير.

وبذلك
صارت الإفخارستيا الجديدة الرسولية التي تجرى أمام الشعب المجتمع معاً (سواء كان
في المساء أو الصباح) عبارة عن تسجيل وصفي تاريخي مشروح لِمَا أتمَّه الرب
في العشاء الأخير إنما وُضعت بصيغة الماضي [أخذ خبزاً، وبارك، وكسر، وأعطى، وقال …]،
وفي صيغة الغائب: [لأنه في ما هو راسم أن يسلِّم نفسه …].

وهكذا
نرى أن الظروف نفسها هي التي حتَّمت وضع إفخارستيا وصفية مشروحة على أساس الإفخارستية العملية التي أجراها الرب في العشاء
الأخير تشرحها كلمة كلمة إزاء كل حركة
فحركة.
فجاءت الإفخارستيا الوصفية شاملة لكل العناصر الأساسية والضرورية للإفخارستيا.
لذلك
انتشرت وسادت، وبقدر ما سادت
الإفخارستيا الوصفية ضعفت وانكمشت إفخارستية عشاء الرب الصامتة.

ولكي
تميِّز الكنيسة الإفخارستيا الوصفية عن إفخارستيا العشاء الأخير، أعطت الكنيسة
للإفخارستيا الوصفية أسماء الرسل الذين صاغوها بحسب حاجة بيئة بلادهم. وهذا هو سرّ
تسمية الإفخارستيا بأسماء القديس يعقوب والقديس مرقس والقديس تداوس (أداي وماري) …
إلخ، وبعد ذلك أعاد صياغتها الأساقفة بحسب ما جدَّ من المنازعات اللاهوتية،
فسمِّيت بأسماء الأساقفة كيرلس (أُورشليم)، وكيرلس (مصر)، وباسيليوس (كبادوكيا)،
ويوحنا ذهبي الفم (أنطاكية) وهكذا.

أمَّا
إفخارستيا “عشاء الرب” فظلَّت كما هي إجراءً صامتاً بحسب التقليد موجَّها
للابن
بصورة المخاطب؛ ليس فيها شرح أو تعليق قط ولكن ظلَّت هذه الإفخارستيا
التي للرب مختفية عن عين الكنيسة، غائبة عن ذهن العلماء حتى كشفها الرب لنا وسيأتي
بيان ذلك.



([9]) [لقد لفت نظرنا العالِم دالمان Dalman ومن بعده العالِم J.P. Audet إلى أن الرب كان يجري البركة على الخبز بحسب التقليد القديم
اليهودي، ولكن بصورة خاصة تميِّزه، ولابد أن تكون صلاة الإفخارستيا أي الشكر لها
صلة أكيدة بذلك، ولكن قصة عمواس توجِّه نظرنا إلى مفهوم آخر، فبالرغم من أنه قيل:
«فلمَّا اتكأ معهما أخذ خبزاً
وبارك وكسر
وناولهما فانفتحت أعينهما وعرفاه ثمَّ اختفى عنهما» (لو 24: 30و31)، إلاَّ أنه
علينا أن لا نضع فكرنا على هيئة الرب الجسدية أو لهجة كلامه، لأن التلميذين ظلاَّ
يرافقان الرب عن قرب أكثر من ساعة وهما يتحادثان معه وهو يتحدَّث إليهما وأخفقا في
معرفته بالرغم من كل ذلك. إذن فمعرفة الرب كانت كومضة برؤيا داخلية، ولكن كيف
ومتى؟ صحيح أن حادثة
“كسر الخبز” كعمل ملموس تمَّت في لحظة
معيَّنة، ولكنها كحدث تبقى كجزء منفصل ومتكامل مع الحالة التي قادت إليه، لأن هذا
يعطيها قيمتها وأهميتها، أمَّا هذه الحالة فيمكن أن نلحظها من قصة عمواس في قول
الرب: «لأنه
كان
يليق بالمسيح أن يتألَّم
ثمَّ يدخل إلى مجده». القصة
كلها تنتهي وتتركَّز عند هذه الحقيقة التي تثير اليقظة والتقوى، ولو لاحظنا لوجدنا
أن التلميذين كانا بالفعل يتقدَّمان نحو هذه
اليقظة قليلاً قليلاً على مدى تعليم الرب لهما وهو مقترب إليهما ويسير معهما مما
جعلهما يشتعلان ويستنيران من وراء كل كلمة: «ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا إذ كان
يكلِّمنا في الطريق ويوضِّح لنا الكتب.» (لو
32:24)

وهنا يأتي “كسر الخبز” كطقس
هام جدًّا استطاع بحد ذاته بعد التأثير المناسب من
تعليم الكتب (لاحظ هنا الترتيب الإفخارستي: قداس الكلمة ثمَّ كسر الخبز) أن ينقل
التلاميذ مرَّة واحدة وبصورة فائقة من عالم الحواس إلى عالم الروح]

Richardson, op.
cit., p. 310.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى