علم المسيح

الفصل السادس عشر



الفصل السادس عشر

الفصل
السادس عشر

رحلة المسيح
الأخيرة لأُورشليم للفصح

107- نحو
أريحا

اتجه
المسيح من أفرايم إلى أريحا، وهي مدينة صغيرة على بعد 6 ساعات سيراً على الأقدام
من أُورشليم. وهناك كان يمكنه أن يرى قوافل الحُجَّاج المتجهة إلى أُورشليم. وفي
الطريق كشف لتلاميذه ما ينتظره في أُورشليم: “وأخذ الاثني عشر وقال لهم: ها
نحن صاعدون إلى أُورشليم، وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان، لأنه
يُسلَّم إلى الأُمم، ويُستهزأ به، ويُشتم ويُتفل عليه، ويجلدونه، ويقتلونه، وفي
اليوم الثالث يقوم.” (لو 18: 31-34)

وبحسب
رواية ق. مرقس يقول: “وفيما هو خارج من أريحا مع تلاميذه وجمع غفير، كان
بارتيماوس الأعمى ابن تيماوس جالساً على الطريق يستعطي. فلمَّا سمع أنه يسوع
الناصري، ابتدأ يصرخ ويقول: يا يسوع ابن داود، ارحمني!” (مر 10: 46و47).
ويبدو أن لقب ابن داود كان اللقب المحبوب الذي شاع بين أوساط المرضى، لأنهم كانوا
يرون في هذا اللقب قرباً ونسباً. فهو ملك اليهودية المحبوب، وكان هذا اللقب أيضاً
يصيب هوى في قلب المسيح. فوقف المسيح واستدعاه، فما أن علم أن المسيح دعاه حتى
ألقى بعكازه وألقى بردائه من على ظهره، وفرد ذراعيه كقرني استشعار يتحسَّس بهما الطريق،
وحِس الأعمى لا يخيب، حتى جاء إلى المسيح ووقف أمامه وقلبه يطفر من الفرح. فلمَّا
سأله المسيح ماذا تريد أن أعمل بك؟ صاح: “يا سيدي، أن أبصر. فقال له يسوع:
اذهب إيمانك قد شفاك. فللوقت أبصر، وتبع يسوع في الطريق” (مر 10: 51و52).
وبحسب ظني أن المسيح لم يدخل مدينة إلاَّ وخرج منها بأعمى يسير وراءه يتفرَّس في
الناس مشيراً إلى عينيه. ودخل الأعمى في موكب “أوصنا” شهادة على المسيح
الذي رفضوه!!

108- المسيح
يدخل بيت زكَّا

يرتبط
اسم زكَّا بأريحا تذكاراً أبدياً، إذ لمَّا دخل المسيح أريحا واجتاز فيها والجمع
يسير حول المسيح، وإذا بإنسان اسمه زكَّا، وكان قصير القامة، وقد اشتهى أن يرى
المسيح عن قرب ويتفرَّس فيه دون زحمة الناس، فتسلَّق جميزة، وهي شجرة طيبة سهلة
التسلُّق على فروعها، وجلس على فرع مستعرض فيها؛ وإذا بموكب المسيح مقبلٌ نحوه،
وما كان ممكناً أن يتحاشى المسيح رؤية زكَّا وهو فوق الشجرة. فلمَّا اقترب نحوه
رفع المسيح بصره وناداه بالاسم: “يا زكَّا، أسرع وانزل، لأنه ينبغي أن
أمكث اليوم في بيتك.
فأسرع ونزل وقَبِلَه فرحاً.” (لو 19: 5و6)

زكَّا
عشَّار ومرابي، رجل في عرف اليهود خاطئ يتعامل مع الأُمم ويوالس في الصرافة ويربح
من الحرام كثيراً. لذلك لمَّا رأوا المسيح يقبل ضيافة زكَّا تذمَّر الجميع:
“إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ!” (لو 7: 19). أمَّا زكا، فكانت لمناداته
بالاسم من فوق الشجرة فرحة غامرة ملأت كيانه، وبدا منفعلاً. فلمَّا دخل المسيح
بيته وجلس، قام زكَّا وكأنه يخطب في الجمع موجِّهاً كلامه إلى المسيح: “ها
أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد وشيت بأحد أرُدُّ أربعة
أضعاف” (لو 8: 19). وكان اعترافاً مؤثِّراً للغاية، وتوبة صادقة حاضرة،
وتعهُّداً فاق الحد. فما كان من المسيح إلاَّ أن ردّ عليه بأحسن مما قدَّم: “اليوم
حصل خلاصٌ لهذا البيت، إذ هو أيضاً ابن إبراهيم” (لو 9: 19). وهكذا بإشارة
محبة على الطريق، جذب المسيح الخاطئ إلى التوبة وإلى الخلاص! عيَّروه بمحبته
للعشَّارين والخطاة، وكيف لا يحبّهم وقد جاء ليسفك دمه ثمناً لحبهم!

109- هل
يتحقَّق حلم سالومة أن يجلس ابناها على جانبي المسيح

كان
منظر المسيح مهيباً وهو يُستقبل من جمهور قوافل الحجاج الآتية من الجليل مارة
بأريحا، وكلهم أحباؤه وكلهم شفى مرضاهم وأكل في بيوتهم وعزَّى قلوبهم، فحيُّوه
تحية ملك وأعظم من ملك. كانت سالومة امرأة زبدي أم يعقوب ويوحنا ضمن الآتين من
بعيد، هالها منظر المسيح وهو يُتوَّج من قلوب محبيه، فاشتهت من قلبها أن ترى
ابنيها واحداً عن يمينه والآخر عن يساره في المجد الوشيك أن يُستعلن بإعلان
ملوكيته في أُورشليم! فتجرَّأت، وليس بدون علم ولديها، جاءت وسجدت أمامه وطرحت
أمنية قلبها كأم، وربما تحتفظ بنسب قريب مع العذراء. فتعجَّب المسيح أن كل حديثه
عن آلامه وصليبه القادم كيف استطاع الشعب أن يصرف نظره عنه جملة، ويرى مجد
الملوكية قائماً عِوَض الصليب المنصوب! فعاد المسيح يستقرئ يعقوب ويوحنا الدرس،
لأنهما كانا على نفس اشتياق أمهما: هل تستطيعان أن تشربا كأس عاري مع صليبي؟ قالا
وكأنهما في غيبوبة عن الحق والحقيقة: نعم نستطيع! ثم عاد يستجوبهما: وتستطيعان أن
تصطبغا بالدم؟ وفي نشوة المجد المرتقب تجاوزا معنى الكأس ومعنى صبغة الدم وقالا
أيضاً: نعم! فإن كان المسيح سيجوزهما كيف لا نحتملهما؟ كل شيء يُحتمل من أجل
الملكوت!! عاد المسيح ليرفع أعينهما إلى عمل الآب السماوي في تدبير ملكوته وقال:
أمَّا شركة آلامي وموتي فيمكن أن توهبا نعمتها، أمَّا الجلوس عن يميني وعن يساري
في ملكوت أبي فهذا للذي يعطيه أبي.

استشاط
غضب التلاميذ، وكأن يوحنا ويعقوب أخاه قسَّما الأنصبة من دونهم، فبدأوا يصادرون
الأخين فيما نزعا إليه؟ كيف وأين نحن؟ التفت إليهم المسيح ونبَّه قلوبهم أن
منازعات الأفضل والأعظم هي عند أهل العالم في الأنصبة الترابية، أمَّا تلاميذ الرب
فلا يليق بهم إلاَّ وحدة الرأي والقلب بالمحبة. فشركة الملكوت لا يَقْرُبها
متنازعان! فعليهم فقط أن يحملوا نير الأُخوَّة الباذلة والمحبّة المضحِّية في خدمة
بعضهم والملكوت بالحب الأخوي الصادق. ولفت نظرهم: انظروا هل جئت ليخدمني الناس أم
أخدمهم أنا؟ هل ليبذل أحد دمه عنِّي أم أبذل أنا دمي عن الجميع فدية وخلاصاً؟ في
هذا تناظروا وفي هذا تنازعوا: مَنْ يحمل الأكثر ومَنْ يخدم الجميع! فابن الإنسان
لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدُم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين. تفكَّروا في معلِّمكم!!

110- منهج
المسيح في العمل والجزاء

(أ)
مَثَل الوزنات كمجال للتنافس، ولا مجال في الملكوت للكسلان

+”
وإذ كانوا يسمعون هذا عاد فقال مثلاً لأنه كان قريباً من أُورشليم، وكانوا يظنون أن ملكوت الله عتيد أن يظهر في
الحال”
(لو 11: 19)

وبدأ
القصة في وصف “إنسان شريف الجنس” وفي الحقيقة لا يوجد ولن يوجد إنسان
شريف الجنس إلاَّ ابن الله الذي تجنَّس بجنس البشر وهو صاحب جنسه الإلهي!! هذا
الشريف الجنس ذهب في القصة إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه مُلكاً! وكأنه من روما- وهو
من السماء التي يُنصَّب فيها الملوك بالحق، على أنه بعد أن ينال المُلك يرجع- هذا
دعا عشرة من عبيده وأعطاهم عشرة أَمْناء وقال لهم تاجروا حتى آتي!- وتجارة الملكوت
بذل وعطاء: “وأمَّا أهل مدينته فكانوا يبغضونه فأرسلوا وراءه سفارة قائلين:
لا نريد أن هذا يملك علينا” (لو 14: 19)، وطبعاً يقصد الكتبة والفرِّيسيين
ورؤساء الكهنة. “ولمَّا رجع بعد ما أخذ المُلك”- وهنا يؤكِّد المسيح
تأكيداً على مجيئه الثاني الظافر المجيد- “أمر أن يُدعى إليه أُولئك العبيد
الذين أعطاهم الفضة، ليعرف بما تاجر كل واحد! فجاء الأول قائلاً يا سيد مناك- (ولا
يقصد العبد إلاَّ موهبة الرسولية الثمينة)- ربح عشرة أمناء” (لو 19: 15و16)،
ولا يقصد إلاَّ ما يساويها تماماً من النفوس التي ربحها لحساب الملكوت. فقال له
ذلك السيد الشريف الجنس الذي صار ملكاً متوَّجاً: “نِعِمَّا أيها العبد
الصالح، لأنك كنت أميناً في القليل”- ولا يقصد إلاَّ المتاجرة بموهبة
الرسولية- “فليكن لك سلطان على عشر مدن” ولا يقصد إلاَّ الأمانة العظمى
في الملكوت حيث المواهب الفائقة والعمل الفائق. وهكذا لمَّا جاء الثاني أخذ سلطانه
على خمس مدن، ثم جاء الآخر فلمَّا استجوبه قال له: “هوذا مناك الذي
كان عندي موضوعاً في منديل”- ولا يعني إلاَّ الموهبة التي أخذها كيف عطَّلها
وأخفاها- ولمَّا طلب منه التفسير، قال: إنه كان يخافه إذ رآه صارماً يحصد ما لم
يزرع، فراجعه الملك قائلاً: إن كنت قد خفت مني واعتقدت أني أحصد ما لم أزرع،
فلماذا لم تعطِ فضتي للصيارفة يتاجرون بها فتحفظها مع الأرباح؟ ويقصد الكنيسة التي
تعمل بمواهبه وتربح لحساب سيدها. ثم قال للحاضرين: “خذوا منه المنا وأعطوه
للذي عنده العشرة الأمناء” فلمَّا استفسروا قال لهم مَثَلَه المشهور:
“إن كل مَنْ له يُعطى، ومَنْ ليس له فالذي عنده يؤخذ منه” (لو 26: 19).
ومحور هذه القصة في هذا القانون الإلهي أن الذي عنده القدرة على المتاجرة والربح،
يُعْطَى مزيداً، والذي ليس عنده القدرة على المتاجرة والربح فما استؤمن عليه يؤخذ
منه ويُعطى لمَنْ له القدرة على الربح الأوفر.

هذا
المَثَل أعطاه المسيح ردًّا على التوسُّط في تنصيب يعقوب ويوحنا على جانبي الملك
في مُلكه. فالتملُّك فوق هو وفق قانون القدرة على التجارة والربح في الأرض لحساب
الملكوت. وفي ظننا أن الربح لحساب الملكوت في العمل على الأرض لا يُحسب بالكم ولا
بالمظهر، بل بمستوى التجرُّد الذاتي والإيمان
بالاسم! “مَنْ لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله”! (لو 17:
18)، “ومَنْ
قَبِلَ ولداً واحداً
مثل هذا باسمي فقد قبلني” (مت 5: 18)، “والذي يقبلني يقبل الذي
أرسلني.” (يو
20: 13)

واضح
من هذا أن المسيح يضع ميزان التأهُّل لقبول الملكوت أو قبول المسيح والآب
على أساس قبول ولد، أي من منطلق الأقل والأصغر والأضعف وغير الموجود عند ذاته، وهو
المَثَل الذي قدَّمه المسيح للتلاميذ الذين كانوا يتعاركون فيمن هو الأعظم بينهم
في ملكوت الله. العراك الذي تمخَّض عنه طلب يعقوب ويوحنا أن يجلسا عن يمين المسيح
ويساره في مُلكه. وهكذا يكون المسيح قد قدَّم قصة الولد وقبوله كأساس لدخول
الملكوت، ثم قصة الملك والمتاجرة بالمواهب الرسولية للحصول على مراكز مرموقة في
الملكوت. ويمكن تلخيص النتيجة التي نخرج بها من القصتين أو المثلين في أن الذي
عنده هنا مواهب التجارة والربح في الروحيات توزن بقبول الأقل والأصغر والأضعف وغير
الموجود عند ذاته. وهذا يلفت نظرنا إلى الرد على هذه الأسئلة: لماذا تعمل؟ وبأي
روح تعمل؟ ولمن تعمل؟ علماً بأن جميع الأعمال تُحسب بالروح التي عُملت بها وليس
بكميتها، ويُجازَى عنها، ليس بأهميتها، ولكن بروح إنكار الذات وقوة الإيمان بالاسم
الذي عُملت بها.

(ب)
قصة عمال الكَرْم والدينار الواحد للجميع

في
ذات الموضوع الذي كان يشغل التلاميذ، وهو موضوع مَنْ هو الأعظم في الملكوت؟ ومَنْ
هو الذي يجلس عن يمين الملك وعن يساره؟ وكيف توزَّع الأنصبة فوق؟ يجيء هذا المَثَل
عن الكرم والفعلة والدينار الواحد.

وتتلخَّص
القصة في أن رجلاً رب بيت له كَرْم، خرج مع الصبح ليستأجر فعلة لكرمه، فاتفق معهم
على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه. ثم خرج نحو الساعة الثالثة ورأى آخرين
قياماً في السوق بطَّالين فقال لهم: اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فأعطيكم ما يحق
لكم، فمضوا. وخرج نحو الساعة السادسة والساعة التاسعة وفعل كذلك. ثم نحو الساعة
الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قياماً بطَّالين، فسألهم لماذا وقفتم هنا طول النهار
بطَّالين؟ فردُّوا: إنهم لم يستأجرهم أحد. فقال لهم: اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم
فتأخذوا ما يحق لكم. فلما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله: “ادْعُ
الفَعَلَة وأعطهم الأُجرة مبتدئاً من الآخِرين إلى الأولين. فجاء أصحاب الساعة
الحادية عشرة وأخذوا ديناراً ديناراً. فلمَّا جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر.
فأخذوا هم أيضاً ديناراً ديناراً. وفيما هم يأخذون تذمَّروا على رب البيت قائلين:
هؤلاء الآخِرون عملوا ساعة واحدة، وقد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثِقَل النهار
والحر” فأجاب رب البيت وقال لواحد منهم: “يا صاحب، ما ظلمتك! أما اتفقت
معي على دينار؟ فخُذ الذي لك واذهب، فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك، أَوَ مَا
يحل لي أن أفعل ما أريد بما لي؟ أم عينك شريرة لأني أنا صالح؟ هكذا يكون الآخِرون
أوَّلين والأوَّلون آخِرين، لأن كثيرين يُدعون وقليلين يُنتخبون!” (انظر: مت
20: 116)

واضح
أن قصد المسيح هنا من القصة يكمِّل قوله في الأمثلة السابقة عن العمل والاستحقاق،
وتجيء هذه القصة لتؤكِّد أنه ليس هناك في الملكوت استحقاق على عمل! وبالتالي لا كرامة ولا تعويض عن عمل سابق كان ما
كان.

ولكي
نلقي ضوءاً على مضمون هذه القصة المثيرة يلزمنا أن نرفعها إلى منظرين: منظر أثناء
العمل على الأرض، ومنظر أعلى في السماء. ولنبدأ بالمنظر العلوي حيث نجد جميع الذين
أطاعوا الإيمان وقد قبلوا التجديد الروحي وكانوا حارين عاملين بالروح، سواء
منهم مَنْ جاءوا في الزمان المبكِّر جداً أو الذين اختتم بهم المسيح أعماله على
الأرض، نجدهم كلهم شركاء في نعمة الله وسعادة الحياة الأبدية.

فإذا
عدنا إلى صورتهم وهم يعملون جاهدين في حياتهم السابقة نجد التفاوت هائلاً بين
القامات والأعمال والجهد المبذول وأنواع الألقاب والضيقات. كما نجد تفاوتاً هائلاً
في الظن بالأجرة، فمنهم مَنْ يطلب حقه بالمزيد، ومنهم مَنْ يُسْتَكثر عليه الحق
الذي ناله كأصحاب الساعة الحادية عشرة، ومنهم مَنْ يطلب بالتعويض عمَّا ترك كقول
بطرس الرسول: “ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا؟” (مت
27: 19)

ولكن
عودة مرَّة أخرى إلى الصورة العليا، فإذا عبرنا عليهم جميعاً نجد أن لا أحداً يطلب
شيئاً له، فالكل يحسب نفسه أنه أخذ ما لا يحق له، فالنعمة فوق قد غمرتهم جميعاً،
ولم يعد مجال لاحتياج، وبالتالي إلى سؤال. فالفداء الذي نالوه والرحمة والنعمة
فاقت حد العقل. أمَّا الزيادة التي تبدو بين واحد وآخر فهنا المسيح يعزوها لا إلى
استحقاق الفاعل، بل إلى صلاحه هو وجوده الإلهي.

ولكن
إذا عُدنا إلى مَثَل المواهب والوزنات نجد أن صاحب العشر وزنات ربح عَشْراً، وصاحب
الخمس وزنات ربح خَمْساً. فصاحب العشر وزنات استؤمن على عشر مُدن فوق؛ وأمَّا صاحب
الخمس وزنات على خَمْساً، حيث تفاوت المواهب الممنوحة أصلاً هو الذي أحدث تفاوتاً
في الربح. فاستخدم الله هذا التفاوت في المواهب وتوزيعها لحساب العمل فوق وليس عن
استحقاق أو تكريم للعمل تحت. لهذا يُعتبر مَثَل الوزنات مكمِّلاً تعليمياً بديعاً
لمَثَل الدينار الواحد في مَثَل فعلة الكرم.

أمَّا
القصد من القول إن الآخِرين أولون والأولين آخِرون، فهو بسب التساوي فوق بين
الأولين والآخِرين سواءً بسواء، فليس ثمة تمييزٍ بين الأولين والآخرين. فالامتياز
متساوٍ.

وينبغي
هنا أن نشير إلى أن هذا المَثَل- مَثَل الدينار للجميع الذي يشير إلى النعمة
للجميع- يعطي للمبدأ اللاهوتي الذي انشغل به بولس الرسول انشغالاً كبيراً جداً ملأ
منهجه الروحي من أوله إلى آخره: “بالنعمة أنتم مخلَّصون” (أف 5: 2) قوة
السند والدفع!!

 (ج)
لا فضل على واجب

“متى
فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا: إننا عبيد بطَّالون”:

لقد
ظن التلاميذ خطأً أن ظهور الملكوت وشيكٌ يحمل ضمناً جزاءً ومكافأة لسيرهم وراء
المسيح وعمل مشيئته، أو بلغة فعلة الكرم الأوائل: “احتملنا ثقل النهار
والحر!” (مت 12: 20). وإذ كان يتحتَّم أن يدخل المسيح أولاً إلى مجده ويترك التلاميذ يخدمون الملكوت الذي دُعُوا إليه،
فإن
خدموا بالحب دُعوا أحبَّاءَ
ونالوا شركة معه في ملكوته، لا كخدام بعد بل كأحباءَ.

فرق
بين خادم يعمل ما أُمر به، وابن يعمل لمحبة أبيه. لذلك فعمل الواجب لا يزكِّي عند
المسيح. الذي يزكِّي فقط هو عمل المحبة مع إنكار الذات. لذلك فالعبد الذي يعمل
بأوامر سيده ليس عنده سبب ولا رصيد أن ينتظر من سيده الشكر على ما عمل، لأنه عمل
ما أُمر به وما هو واجب عليه. ولكن إن كان دافع العمل ليس لطاعة الأمر فقط، بل عن
حب شديد حتى إلى الموت، فهنا لا يكون العمل واجباً بل صار حبًّا، ولا هو على قدر
الأمر وتنفيذه، بل زاد حتى صار أكثر من الأمر وأكثر من المطلوب. حينئذ يصير العمل،
ليس عمل عبد بل عمل ابن؛ ويصير الاستحقاق هو استحقاق حُبٍّ، وليس استحقاق جُهد.

هذا
هو مضمون التعليم الذي قدَّمه المسيح في هذا المَثَل:

+
“ومَنْ منكم له عبدٌ يحرث أو يرعَى، يقول له إذا دخل من الحقل: تقدَّم سريعاً
واتَّكئ. بل ألا يقول له: (هوذا أنت جئت..) أَعْدِدْ ما أتعشَّى به، وتمنطق
واخدمني حتى آكل وأشرب، وبعد ذلك تأكل وتشرب أنت. فهل لذلك العبد فضلٌ لأنه فعل ما
أُمر به؟ لا أظن. كذلك أنتم أيضاً، متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا: إننا
عبيدٌ بطَّالون
(
[1]). لأننا إنما عملنا ما كان
يجب علينا.

(لو 17: 710)

هذا
الدرس المفيد والبليغ أعطاه المسيح لتلاميذه خاصة، بعد ما بدر منهم ما بدر من عراك
على مَنْ هو أعظم في ملكوت الله؟ وعلى مَنْ أراد الجلوس عن يمينه ويساره في ملكه.
فإذا أُضيف هذا المَثَل للأمثال السابقة عن العمل: مَثَل الوزنات والمتاجرة الروحية بها، ومَثَل عمال الكرم أصحاب الدينار
الواحد، يُضاف لهما هذا المثل للعبد الذي ليس
له فضل فيما عمل من الواجب
الذي أُمر به؛
يكون عندنا منهج عجيب لفلسفة المسيح في العمل والجزاء في المسيحية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى