اللاهوت الدفاعي

الفصل الثاني والثلاثون



الفصل الثاني والثلاثون

الفصل
الثاني والثلاثون

الوعد
والعهد والخلاص بالمسيح يسوع

مقدمة

يستحق
موضوع “الخلاص بالمسيح يسوع بين الوعد والعهد”، ليس محاضرة أو اثنتين أو
ثلاثة فقط، بل وقتاً حدودُه حدودُ مؤتمرنا بكامله على الأقل، كون الوعد والعهد
رُكنَين من أركان البيبليا، أو بالأحرى من أسس تاريخ الخلاص. لذا، فإن ما سَيَرِدُ
في المداخلة ما هو إلا جولة “جويّة” سريعة، تبقى معلّقةً ويتيمة إن لم
نستتبعها بعد هذا المؤتمر بما يواصلها ويكملها من أبحاث وتعمق وتأملات.

مقالات ذات صلة

قد
يقع الباحث لدى القديس بولس في موضوعَي الوعد والعهد، ومعهما الشريعة بطبيعة الحال،
في نشوةِ حماسٍ (غل 1: 14؛ فيل 3: 6) كالتي عند هذا الرسول، المثيرِ للمتاعب
لأمّةٍ غفا معظم أبنائها “وناموا واستراحوا” (مت 26: 45) على اطمئنان
كاذب، لم يوفّر لهم سوى قضِّ المضجع، والفراغِ العدميّ (رج تك 1: 2)، وتركِ
“اللصوص ينقبون” (رج مت 6: 19) ويعبثون، وخلوِّ الساحة ل”فريسي
مُراءً” (رج مت 6: 2 و5 و16؛ 15: 7؛ 16: 3؛ 22: 18؛ 23: 13؛ لو 11: 44؛ 12:
56؛ الخ)، وصادوقيٍ متعالٍ مخادعٍ (مت 3: 7/لو 3: 7؛ مت 16: 1/مر 8: 11/لو 11: 16؛
مت 12: 38)، وغيورٍ (أع 21: 20؛ روم 10: 2) لا يتردد في الإبادة والإفناء باسم الدين
(فيل 1: 18)، وانطلاقاً من الاعتقاد الواهم بواجب الحفاظ على الله، كما فعل شاول
بالذات!

فبولس
هذا المشاكس، كان قبلاً يغار لشريعة إلهه غَيرةً أصوليةً (أع 22: 1-5؛ 26: 9-11)
تستأصل حتى إنساناً “وجهُه وجهُ ملاكٍ” (أع 6: 15)، كإسطفانوس مثلاً،
وكل ذلك لأنه، في شريعة الرب على هواهُ هو هامَ، وبه وبها على طريقته هو أُخِذَ،
فإذا بحماسه هذا يتحول إلى جنونٍ أعوج، لم يبدّل مضمونه إلاّ مَن جذبه على طريق
دمشق (أع 9: 1-9؛ 22: 6-16؛ 26: 12-18)، ونزع البرقع عن عينيه (أع 9: 18؛ رج خر
34: 33 و34؛ 2 كو 3: 13، عندها فقط “رأى وآمن” (رج يو 20: 25 ثم 29)،
بعد أن أدرك بوحيٍ أن الموعود الذي “به تتبارك جميع الأمم” (تك 12: 4؛
أع 3: 25؛ غل 3: 8) هو يسوع المسيح، الذي صلبه أولئك الذين “لم يعرفوا رب
المجد” (1 كو 2: 8)، وأن العهد الحقيقي هو ذاك الذي ختمه بدمه الذي سفك على
الجلجلة (رج لو 22: 20؛ 1 كو 11: 25).

إذاً،
من أجل إدراك أفضل لما حققه المسيح يسوع من أجل خلاصنا، لا بد من أن ندرك المعاني
العميقة لمواضيع الوعد، والشريعة، والعهد.

 

1
– المعضلة اللغوية ومفاعيلها

لا
بدّ من الانطلاق في بحثنا من المعطيات اللغوية أولاً، ولو سريعاً كمرور الطير،
خاصة من كلمتَي “وعد” و”عهد”، مع بعض الاستطرادات حول
“الشريعة”، لنتمكن من بلوغ كُنْهَ المعطيات البيبلية المتعلقة بالخلاص
الذي بالمسيح يسوع قد تحقق، خاصة عند رسول الأمم، ولو جزئياً.

1/1
– الوعد

 

أ
– استعمال الكلمة

ترد
كلمة “وعد” (
epaggelia)(1) في رسائل القديس بولس مرات عدة(2)، مركِّزةً، بالدرجة الأولى،
على أن الله هو صاحب المبادرة، أي أنه هو الذي يَعِدُ ويلتزم. ما نجده بشكل حصري
من وعود في رسائل القديس بولس هو ما يلي: وعد الله للآباء، لشعبه، ولداود؛ الوعد
المشروط؛ التأكيد على أن ما يعد به الله يتممه لأنه أمين لوعده، لا بل لشعبه
ولمختاريه، أي لداود وللآباء؛ الوعود الأسكاتولوجية؛ مضمون وعود المسيح؛ الروح
القدس الموعود؛ الخ.

أ/1
– الله يَعِدُ:


وعد مشروط: “تلك أول وصية مرتبطة بوعد” (أف 6: 2؛ رج تث 5: 16).


الله الأمين يتمم وعده: “فجميع وعود الله كانت فيه نعم!” (2 كو 1: 20).


وعد الله للآباء (روم 4: 20؛ 15: 8؛ غل 3: 16؛ أف 2: 12؛ 6: 2؛ رج خر 20: 12؛ تث
5: 16؛ مت 15: 4).


وعد الله لشعبه (روم 3: 2؛ 4: 13-25؛ 9: 4 و8؛ 2 كو 1: 20؛ 7: 1؛ غل 3: 19؛ 4: 23ي).


وعد الله لداود (روم 4: 13-25؛ 9: 8؛ 2 كو 7: 1؛ غل 3: 19؛ 3: 22 و29؛ 4: 23ي؛ أف
2: 12؛ 3: 6).

أ/2
– وعود الله:


مضمون وعود المسيح الأخرى: “وفقاً لوعد الحياة التي في المسيح يسوع” (2
تيم 1: 1).


الوعود الأسكاتولوجية: “وعندما يظهر المسيح، الذي هو حياتنا، فأنتم أيضاً
ستظهرون معه في المجد” (كول 3: 4)؛ “أما التقوى فهي نافعة لكل شيء، لأن
لها وعد الحية الحاضرة والآتية” (1 تيم 4: 8).

أ/3-
وَعَدَ:


المؤمنون يعدون: “.. تقدمات بركتكم التي وعدتم بها” (2 كو 9: 5).


الله يعد: “.. على رجاء الحياة الأبدية التي وعد بها الله” (تيط 1: 2).


ما يعد به الله يتممه: “هذا الإنجيل الذي وعد به الله من قبلُ” (روم 1:
2)؛ “الله قادر أن ينجز ما وعد به” (4: 21).


الروح القدس الموعود: “فننال بالإيمان الروح الموعود به” (غل 3: 14)؛
“ختمتم بالروح القدس الموعود به” (أف 1: 13).

أ/د
– صِيغ الوعد الأدبية عند بولس:

يستعمل
الرسول كلمةَ “وعد” في صِيغ أدبية مختلفة، هي التالية:

(1)
مُضافة:

“فإنّ
كلمة الوعدِ هي هذه
..”(logoV
epaggeliaV)
: روم 9: 9؛
أنظر أيضاً 4: 13ي و16؛ أع 2: 39).

(2)
يَستعمل بولس المضاف مع كلمة “وعد” لأسباب مختلفة:


ليُبرِزَ مَن الذي منه يأتي الوعد: “وبناءً على وعد الله..”
(epaggelia tou Qeou:
روم
4: 20)؛ “فجميع وعود الله كانت فيه نعم” (2 كو 1: 20)؛ “فهل تنقض
الشريعة وعود الله؟” (غل 3: 21)؛


ليُبرِزَ الأمر الموعود: “أما التقوى فإنها النفع كله، لأن لها وعدَ الحياة
الحاضرة والآتية”
(epaggelia thV
zwhV:
1 تيم 4: 8)؛


ليبرز مَن إليهم الوعد هو موَجَّه: “أقول إن المسيح صار خادماً للختانة،
تصديقاً لله، لكي يوطد وعود الآباء”
(epaggelia
twn paterwn
: روم 15: 8).

من
ناحية ثانية، غالباً ما تُستعمل كلمة “الوعد”، كمضافِ صفةٍ، للدلالة على
علاقة اسمٍ ما بالوعد، مثلاً: “أرض الوعد”
(gh thV
epaggeliaV
: عب 11: 9)؛
“أبناء الوعد”، أي أولئك الذين ولدوا بفضل الوعد
(tekna thV epaggeliaV: روم 9: 8؛ غل 4: 28)؛ “روح الوعد” (pneuma thV epaggeliaV: أف 1: 13)؛ الخ.

(3)
مع حرف الجر:


“أما الذي من الأمة فقد ولد على حسب الجسد، وأما الذي من الحرة فبالوعد”
(di epaggeliaV:
غل
4: 23؛ أنظر 3: 18ب)؛


“إذا كان الميراث من الشريعة، فلم يعد من الوعد”
(ex epaggeliaV:
غل
4: 18أ)؛


“أكرم أباك وأمك، أول وصية معقودة بوعد”
(en
epaggelia
: أف 6: 2)؛


“إن كنتم للمسيح، فأنتم إذاً نسل إبراهيم، بحسب العد وارثون”
(kata thV epaggeliaV autou: غل 3: 29؛ رج أع 13: 23؛ 2 تيم 1: 1).

 

1/2
– العهد

 

أ
– استعمال الكلمة

ترد
كلمة “دياتيقي
“(diaqhkh) في رسائل القديس بولس أيضاً مرات عدة(3)، وتتضمن بالإيجاز
المواضيع التالية: عهد الله مع الآباء، ومع داود؛ العهد القديم (
ancienne alliance)؛ العهد الجديد (nuvelle
alliance
(الخ.

بالنسبة
إلى معنى كلمة “دياتيقي” في اليونانيّة، لدينا ثلاث معطيات:


المعنى العام للكلمة، أي “ترتيب” (من فعل
diatiqhmi)(4


المعنى التقني للكلمة، أي “وصيّة”(
testament)(5


معنى الكلمة العبريّة “ب رِي تْ” (
tyrB)(6
الذي يُترجم بكلمة “دياتيقي” في السبعينيّة. هذا المعنى الأخير ليس
بسيطاً بل مركّب، لأنّ معنى كلمة “برِيتْ” ليس هو ذاته في مختلف النصوص،
ويمكن بالتالي إعطاؤه تفسيرات عدة.

تعني
كلمة “دياتيقي” أساساً “الإرادة الأخيرة” أو
“الوصية”(7) (قبل الموت)، كما ورد عند بولس: “إن وصية
(diaqhkh وإن كانت
من إنسان، إذا أُقِرَّت
(kekurwmenh لا أحد يبطلها أو يزيد عليها” (غل 3: 15)؛ “إن
وصيةً سبق الله فأقرّها، لا تلغيها شريعة” (غل 3: 17).

كترجمة
لكلمة “برِيتْ” في السبعينية، فقدت كلمة “دياتيقي” معنى
“الإرادة” أو “الوصية”، من حيث أن ال”دياتيقي” التي
من الله لا يمكنها أن تتطلب موت الموصي لكي تصبح الوصية نافذة. مع ذلك، هناك ميزة
جوهرية أخرى لوصيةٍ ما ينبغي الانتباه إليها، هي أنها حصراً إعلان إرادة شخص ما،
وليس نتيجة اتفاق بين فريقين، كعقدٍ مثلاً. هذا هو بدون شك أحد الأسباب الذي لأجله
ترجمت السبعينيةُ كلمة “بريت” بكلمة “دياتيقي”. في
“عهود” الله، هو الله وحده مَن يضع شروطاً؛ من هنا، يمكن استعمال كلمة
“عهد” لترجمة كلمة “دياتيقي”، فقط عندما يكون هذا الأمر
حاضراً في الذهن. لقد أعطى اللهُ “إعلاناً عن إرادته” (روم 11: 27؛ رج
أش 59: 21)، يحمله في خاطره (رج مز 104: 8ي).

إن
“قرار” الله أو “عهده” الموجَّه نحو المؤمنين بابنه يسوع هو
“عهد جديد”
(kainh diaqhkh: 1 كو 11: 25؛ 2 كو 3: 6)؛ هناك بالمقابل “العهد القديم” (palaia diaqhkh: 2 كو 3: 14)، أو “العهد الأول” (prwth
diaqhkh
: عب 9: 15ب)،
الذي هو على نقيض السابق (غل 4: 24؛ رج خر 34: 28؛ 31: 18).

لا
بد من الانتباه إلى أن إعلان العهد القديم أو الأول في سيناء قد خُتِمَ بالدم (عب
9: 20؛ رج 24: 8)، وكذلك العهد الجديد (عب 10: 29)؛ هذا يساعد على فهم عبارة
“دمي الذي للعهد”
(to aima mou
thV diaqhkhV
: مت 26: 28؛
مر 14: 24)، وسبب ارتباط العهد بالدم.

 

ب
– أهمية موضوع “العهد” في كتب العهد القديم

يحتلّ
موضوع “العهد” مكاناً مميّزاً في الكتاب المقدّس، وهذا ما حدا بمفسّري
الأسفار المقدّسة وباللاّهوتيّين إلى اعتبار “العهد” أحدَ المواضيعِ
الرئيسيّة في العهد القديم(8)، لا بل الموضوع المركزي الذي حوله تتمحور باقي
المواضيع، والذي يتضمّن تفاصيل ووجوهاً عدّة، إلى حدّ أنّ كلمة “عهد”،
المستعملة لترجمة الكلمة العبريّة “بِ رِي تْ” (
tyrb
لا تفي بالغرض إلاّ جزئيّاً(9). السبب في ذلك يعود إلى أن مضمون الكلمة متنوعٌ وفق
الظروف والأحكام:


ففي العهد بين الله ونوح (تك 9: 8-18)، هو الله مَن يلتزم تجاه نوح، دون أن يطلب
أي التزام من هذا الأخير.


وفي العهد بين الله وإبراهيم (تك 15: 18)، هو الله أيضاً مَن يلتزم تجاه إبراهيم،
دون أن يطلب بالمقابل أي التزام منه.


كذلك في العهد بين الله وفنحاس (عد 25: 11-13)، هو الله مَن يلتزم تجاه هذا
الأخير.


أما في العهد المبرم في خر 24: 4-،8 فالعنصر الصريح هو الالتزام الذي يفرضه الله
على الشعب (رج 24: 3 و7).


بالنسبة إلى العهد المدرَج في تث 29: ،8 فإنه نوع من الالتزام المفروض(10)، لكن
المبني على ما صنعه الله لأجل الشعب(11).


وفي عهد تك 17، يلتزم الله تجاه إبراهيم، وفي الوقت عينه يفرض عليه التزاماً، ألا
وهو الختان، الذي يشكل علامة العهد.


هناك أخيراً لا آخراً، عهد بين الناس: اتفاق متبادل بين أبيملك وإبراهيم (تك 21:
22-34)، بين أبيملك وإسحق (تك 26: 27-31)، بين لابان ويعقوب (تك 31: 44-54).

نستنتج
أن كلمة “عهد” تناسب فقط بعض الحالات الواردة في النموذج الأخير،
وبالتالي لا تترجم بدقة كلمة “بريت”، لأنها لا تناسب المعنى الأساسي، أي
“الإلتزام”.

 

ج
– أهمية موضوع “العهد” في كتب العهد الجديد

إذا
انتقلنا من العهد القديم إلى العهد الجديد، يصبح الموضوع أكثرَ أهميّة، لأنّه،
بالإضافة إلى غناه الذي كدّسه في العهد القديم، يتضمّن كلَّ الجديد الذي جاء به
الربُّ يسوعُ وكنيستُه. فلقد حمل العهدُ بين اللّه وشعبِه أبعاداً غير متوقّعة،
بعد تحقيق سرّ التّجسّد، وعلى أثر حدث موت يسوع وقيامته، فأصبح عمقُ الاتّحاد
عظيماً بين اللّه والإنسان، والعهدُ حميماً إلى حدّ كبير، وأكثرَ انفتاحاً، وذا
بُعْدٍ هامٍّ جدّاً بالنسبة إلى الحريّة، من جهة، وإلى متطلّباته القويّة، من جهة
ثانية.

لقد
اغتنى موضوع العهد إذاً، وأصبح أكثرَ تشعّباً، مع الملاحظة أنّ هذا التّشعّب، من
الناحية اللّغويّة، هو أكبر وأوسع، لأنّ ترجمة الكلمة العبريّة “ب ري ت”
(
tyrb) بكلمة “دِياتِيقِي” (diaqhkh) اليونانيّة، جعلت المفاهيمَ الجديدة تتراكم فوق أصلِ
الكلمة، مع ما في كلّ لغةٍ من صعوبات في تحديد المعنى الأساسي لكلّ من الكلمتَين:


فماذا تعني كلمة “ب ري ت” (
tyrb) في أطرها المختلفة؟ هل هي “عهد” أم “ميثاق”؟
لكنَّ هذَين ليسَا مترادفَين بالتمام. هل هي “قَسَمٌ”؟ لكنَّ هذا مختلف
تماماً. هل هي “واجب”؟ الخ.


ماذا تعني كلمة “دياتيقي”، عندما تكون ترجمةً لكلمة “بِ رِي
ت” (
tyrb)؟ هل تحتفظ بذات المعنى، أم إنّها تأخذ معاني إضافيّة؟ لماذا
اعتمد المترجمون هذه الكلمة وليس أخرى؟ أية فكرة كانت لديهم عن كلمة “بِ رِي
ت” (
tyrb)؟ إلى أيّ حدّ أرادوا أن يتبنّوا المعنى المعتاد لكلمة
“دياتيقي” اليونانيّة، أي “وصيّة”(
testament
وفي النصوص المسيحيّة، هل علينا أن نترجم بعبارة “عهد جديد”(
nouvelle alliance)، أم بعبارة “وصيّة جديدة” (nouveau testament)؟ أم أحياناً بطريقة، وأحياناً بأخرى؟

المعضلة
اللّغويّة هي إذن متشعّبة جدّاً، وليست دون أهميّة بالنسبة إلى الإيمان. ليس الأمر
سيّان القولُ بأنّ يسوع قد ترك لنا “وصيّة” (
testament
أو القول بأنّه قد أقام معنا “عهداً” (
alliance).

لكن
ينبغي ألاّ نخلط بين المعضلة اللّغويّة لمعنى كلمة “دياتيقي”،
“العهد”، وبين المعضلة العقائديّة لوجود “العهد الجديد” (
nouvelle alliance), لأنّهما مختلفتان، بالرغم من كونهما مترابطتين، وتستحيل معالجة
الواحدة ودراستها دون الأخرى. من شاء أن يبحث في مسألة “العهد الجديد” (
nouvelle alliance)، عليه أن يحلّل النصوص التي تتكلّم على “الدياتيقي”؛
ستكون نتائج البحث في المسألة اللّغويّة هامّة لدراسة الموضوع العقائدي، لكن هذا
أيضاً لن يكفي لحلّ كلّ هذه المسائل.

من
الضروري التمييز دوماً بين المصطلح وبين الحقيقة في دراسة موضوع
“العهد”. فلقد “كان العهد عملاً وحالة، وليس كلمة”(12). في
العهد الجديد، نستنتج من فهارس المرادفات أنّ كلمة “دياتيقي”، والفعل
الذي من ذات الإشتقاق “دِيَاتِيثِمَايْ”
(diatiqemai هما غير موجودين إطلاقاً في إنجيل يوحنّا ولا في رسائله.
مَن يمزج بين الحقيقة وبين المصطلح سيستنتج بأنّ يوحنّا غير مهتمّ إطلاقاً بوجود
العهد الجديد، ولا يكترث أبداً لِوَحْيِ العلاقات المتبادلة بين اللّه والناس.
سيكون هذا خطأً فادحاً. في الواقع لا يوجد أيّ كتاب في العهد الجديد أكثر انتباهاً
إلى العلاقات المتبادلة، ويعبّر عنها بتشديد، مثلما يفعل يوحنّا. إنّ جملة كتلك
التي في يو 14: 23: “إذا أحبّني أحدٌ يحفظ كلمتي، وأبي يحبّه، وإليه نأتي،
ونصنع لنا عنده مقاماً”، تعبّر عن عقيدة العهد بالتمام، حتى ولو كانت لا تتكلّم
على ال “دياتيقي” حرفياً. ينبغي قولُ الشيءِ ذاتِه بالنسبة إلى التعابير
التي تحكي على الأمور الحميمة المتبادلة: “أنتم فيّ وأنا فيكم” (يو 14:
20: “في ذاك اليوم تعرفون أنّني في الآب، وأنتم فيّ، وأنا فيكم”؛ أو 15:
4: “إثبتوا فيّ وأنا فيكم”؛ و17: 21-23). لماذا لا يستعمل يوحنّا كلمة
“دياتيقي”؟ قد يكون أحد الأسباب حصراً أنّ هذا المصطلح لم يكن يعبّر
بطريقة واضحة بما فيه الكفاية عن التبادل في العلاقات. في كلّ حال يستحيل حصر
حقيقة العهد في استعمال كلمةٍ.

في
ما يتعلّق بالرسالة إلى العبرانيّين المعضلة الأكثر نقاشاً هي تلك التي تدور حول
المعنى الذي يعطيه المؤلّف لكلمة “دياتيقي”: “عهد”، أو
“ميثاق”، أو “ترتيب”؟ ينبغي معالجة هذا الأمر مع تحاشي حصر
كلّ شيء بمسألة اللّغة، والعمل على تعميق كلّ عقيدة المؤلّف، أي كلّ الحقيقة
الموحاة.

 

د
– التعليم الذي لم يعد ضرورياً والعهد

إذا
أخذنا أقدمَ نصَّ في العهد الجديد، أي 1 تس، الذي كُتِب حوالي السنة 50، لا نجد
فيه كلمة “دياتيقي”، ولا عبارة “عهد جديد”
(kainh diaqhkh). لكنّ غياب
الكلمة لا يعني غياب الحقيقة.

في
الواقع يمكننا أن نميّز في الرسالة تلميحات واضحة إلى حالة عهد جديد. يكتب بولس
إلى التسالونيكيّين المرتدّين حديثاً ما يلي: “في ما يتعلّق بالمحبّة
الأخويّة، لستم بحاجة إلى أن أكتب إليكم؛ فأنتم ذاتكم في الواقع معلَّمين على يد
اللّه أن تحبّوا بعضكم بعضاً” (1 تس 4: 9). هذا ما ورد في إر 31: 31-34 الذي
يتكلم على العهد الجديد، ويضيف بأنه “لن تعود هناك حاجة إلى أن يعلم الواحد
الآخر قائلاً له: إعرفِ الرب، لأنهم كلهم سيعرفونني، من صغيرهم إلى كبيرهم”.
بالطبع، هكذا سيكون، لأنهم أبناء العهد الجديد، الذي ستكتب شريعته على قلوب من
لحم. أثر هذا النص في نفس بولس، فضمّنه رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، كما فعل أيضاً
كاتب الرسالة إلى العبرانيين.

ه
– ارتباط السلام بالوعد وبالعهد

في
هذا المجال، وانطلاقاً مما تقدم، نؤكد أن العهد مرتبط بالسلام؛ ف”العهد له
السلامُ حصراً عنصر مكوِّن، يصدّق على الاتفاقية أو يدشنها (يش 9: 15). في سفر
عوبديا (آ 7)، العبارة “رجال العهد” (أي الحلفاء) هي معادلة مباشرة
لعبارة “رجال السلام” (أي أصدقاء). ولكن هو يهوه خاصة مَن يعلن على لسان
الأنبياء “عهد سلام” (“بريت شَلُوم”): “وأبتّ معهم عهدَ
سلام، فيكون عهداً أبدياً” (حز 37: 26؛ رج 34: 25)؛ “فالجبال يمكنها أن
تتباعد، والتلال أن تتأرجح، لكن محبتي لا تتباعد عنك، وعهدي السلامي لا يتأرجح،
يقول يهوه الذي يعزّيك” (أش 54: 10). كما نرى استناداً الى هذه النصوص،
“السلام” هو وحدة مكثّفة جدّاً من الناحية اللاّهوتيّة، ليس فقط لأنّه
عطيّة من الرب، بل لأنّه مرتبط بالحب، وبالرحمة، وبنوع خاص بثبات اللّه الذي لا يتزعزع
وبوعوده. يمثّل السلام إذاً انتصار العلاقات الشخصيّة المتبادلة، إن بالمعنى
الديني (حز 37: 27: “أكون لهم إلهاً ويكونون لي شعباً”)، وإن بالمعنى
البشري (حز 34: 25: “يسكنون في الصحراء بأمان”). في إطار العهد هذا، في
الحقيقة، تظهر المقوّمات الروحيّة والخلقيّة للسلام.”(13)

 

2
– نماذج عن الوعد والعهد من رسائل بولس

من
أجل القيام بدراسة متكاملة لموضوعنا، قد يكون من الضروري، بعد دراسة نصوص العهد
القديم، البحث في الأدب الوسيط الذي ما بين العهدين القديم والجديد (
Littérature intertestamentaire)، لنرى كيف فَسّرَ أدباؤها موضوع ال”بْ رِي ت” (tyrb) أو ال”دياتيقي” (diaqhkh
وبأيّة طريقة تمّ عيش حقيقة العهد بين الشعب وبين اللّه. ولكن بما أنّ المكان يضيق
الآن، لذلك فإنّنا نتوجّه مباشرة إلى نماذج مختارة من نصوص العهد الجديد،
وبالتحديد من بعض رسائل مار بولس وما يوازيها أحياناً.

 

2/1
– الوعد والعهد لإبراهيم (غل 3: 15 و17)

إنّ
نصوص رسالة بولس الى أهل غلاطية هي هامة في دراسة موضوع العهد، إن من حيث
الاستعمال اللّغوي وإن من حيث المضمون، لأنّ هذه النصوص تتكلّم على أنواع مختلفة
من ال”دياتيقي”، وتُؤمّن عدّة مجالات للتنقيب في هذا المضمار. تقدّم لنا
غل 3: 15 نموذجاً أو مثلاً عن ال”دياتيقي” التي يقيمها إنسان ٌ ما مع
ابنه؛ يقول الرسول:

“أيّها
الإخوة، كبشر أقول: إنّ الوصية، وإن كانت من إنسان، إذا أُقِرَّت، لا أحد يبطلها،
أو يزيد عليها”.

بالطبع،
المعنى الدقيق لكلمة “دياتيقي” في هذه العبارة هو موضوع نقاش، ليس بسبب
الجملة بالذات، بل بسبب التطبيق في آ 17 على د”ياتيقي” بيبليّة. بمعزل
عن الإطار الذي يلي، إنّ معنى آ 15، الواضح بالنسبة إلى قارىءٍ يوناني، كان معنى
“الوصيّة”، وليس أي أمر آخر (قارن مع عب 9: 16-17).

نجد
تطبيقَ المثل في آ 17. في ما يتعلّق ب”دياتيقي” مصدَّقة مسبقاً، ليس من
قبل إنسان بل بالأحرى من اللّه بالذات، يُلاحظ بولس أنّ هذه ال”دياتيقي”
لا يمكن إبطالها بتدبير لاحق. يدلّ إطار النص على أنّه، في ذهن بولس،
ال”دياتيقي” المتعلّقة بإبراهيم في تك،15 هي مصدّقة علناً من قبل اللّه (رج
تك 15: 17). تنحصر ال”دياتيقي” بموضوع الوعد (تك 15: 18؛ رج 15: 5 و7).
يُبرز بولس هذه الناحية في آ 16، كما أيضاً وأكثر في آ 18: “إنَّ اللّه بوعد
أنعم بالميراث على إبرهيم”. يُلاحظ أنّ هذا الوعد قد أُعطي للنسل، وهذا ما
يتوافق مع المعنى المعتاد لكلمة “دياتيقي” في اليونانيّة، عنيتُ
“وصيّة”. يَظهر الارتباطُ بصورة أدق في تك 15 حيث اهتمام إبراهيم حصراً
هو أن يكون له وريث. يشكو إبراهيمُ همّه للّه قائلاً: “لم تُعطني نسلاً،
وخادمي سيكون وريثي؛ لكنّ اللّه يجيبه: ليس هذا من يكون وريثك، بل آخرُ مولودٌ منك
هو يكون وريثَكَ” (تك 15: 3-4). في هذا الاطار، تحتفظ كلمة
“دياتيقي” برباط قويّ مع كلمة “وصيّة”. في ذهن بولس هناك إذاً
حتى مسألة الوراثة؛ هو يتكلّم عليها في غل 3: 18.

إنّ
موضوع النقاش هو حصراً بلوغ الوراثة. كان المتهوّدون يعتبرون أنّه، من أجل الحصول
على الميراث الإلهيّ، قد يكون من الضروري الخضوع لشريعة موسى. يُبرهن بولس في وجه
ذلك أنّ الشريعة لا دخل لها.

يتعلّق
الميراث بالوعد المُعطى لابراهيم، وهذا يكفي؛ من المستحيل جعله يتعلّق أيضاً
بالشريعة: “إذا كان الميراث من الشريعة، فهو لم يعد من الوعد” (غل 3: 18).

ما
هو مهمّ بالنسبة إلى بحثنا هو أنّ بولس يضع هنا في حالة تعارض عهدين بيبليَّين،
عهد الله لإبراهيم (تك 15)، وعهد الله في سيناء مع شعبه على يد موسى (خر 19-24)،
فيبرهن أنّ هذين الترتيبين مختلفان جدّاً، ليس فقط بأحد بنودهما الخاصّة، بل
بتركيبتهما الأساسيّة: الأوّل هو وعد، والثاني مطلب. يستعمل بولس هنا كلمة
“دياتيقي
“(diaqhkh) فقط ليعبّر
عن العهد المرتبط بالوعد؛ بالنسبة الى الثاني، يتكلّم على “الشريعة”
(nomoV). إنّ موقفه
هو أنّ “دياتيقي” الوعد كان لها قيمة نهائيّة، ووجدت تمامها في المسيح.
بالمقابل، الترتيب السينائي
(diaqhkh – disposition sinaïtique) لم يكن له قيمة نهائيّة، بل كان موقّتاً: “إذاً فالشريعة
كانت لنا مؤدِّباً يقودنا إلى المسيح، لكي نُبَرَّر بالإيمان؛ فلما أتى الإيمان،
لم نعد تحتَ مؤدِّب” (غل 3: 24-25)؛ “فأنت إذاً لم تَعُدْ عبداً، بل أنت
ابنٌ، وإذا كنتَ ابناً، فأنت أيضاً وارثٌ بنعمة الله” (4: 7). ينبغي ألاّ
يغيب هذا الأمر عن البال عند البحث عن مسألة ابراهيم.

إذا
كانت غل 3: 15 التي تتكلم على “عدم جواز نقض أو إبطال وصية قد أُقِرَّت”
هي المبدأ الذي يستخدمه الرسول في حِجاجِهِ مع المتهوّدين، فإن غل 3: 17 التي
تتكلم على “عدم إمكانية الشريعة الموسوية أن تلغي الوصيةَ، وبالتالي الوعدَ
لإبراهيم”، هي تطبيقٌ للمبدأِ المذكور. يبغي بولسُ من وراء هذا كلِّه أن
يُفهم أصحاب العلاقة أن الوعد الذي لإبراهيم كان، هو عينه للمسيح يسوع، لأنه بيسوع
تحقق الوعد لإبراهيم، وبه يُقيم الله معنا وبيننا.

ويستنتج
الرسول أيضاً موقفاً وتعليماً للمسيحيين المعتَبَرين “أمماً” أو وثنيين،
وهو أنه، استناداً إلى وعد الله لأب الآباء بأنه “به وبنسله ستتبارك جميع
الأمم”، فإنّ البركة تشمل هؤلاء أيضاً، لأنهم ينتمون إلى الوعد عينه، ولأن
لهم بالمسيح الإيمان الواحد. فحين بارك الله إبراهيم، أعلمه بأنه يشمل برحمته
أيضاً الوثنيين الذين سينالون، هم أيضاً، الخلاص بالمسيح الذي من نسل إبراهيم (تك
12: 3؛ 18: 18؛ سي 44: 21؛ أع 3: 25؛ غل 3: 8).

ترتبط
غل 3: 17 ب3: 15 مباشرة من حيث الموضوع والمضمون والتطبيق؛ لذا تُعتَبَر غل 3: 16
التي تتكلم على “إبراهيم ونسله الذي يعني المسيح”، وكأنها بين الاثنتين
استطراد، لكنها ذو دور توضيحي ومكمِّل، حتى لو قَطَعَتْ سيرَ البرهان بين الآيتَين
المذكورتَين. كما في آ،15 كذلك في آ 17، يتكلم بولس على مسألة “الوصية” (“دياتيقي”)،
لكن هناك عنصر اختلاف أساسي في هذه المقارنة، ألا وهو أن الموصي يموت، أما الله
فلا، لكن هذا الاختلاف لا يلغي المقارنة؛ ف”شريعة” سيناء التي أتت
متأخرة جداً عن “الوصية”، والتي لعبت دوراً حاسماً وحازماً في حياة شعب
الله، لا تستطيع أن تلغي هذ الأخيرة المؤسسة على “الوعد” (3: 16)، والتي
وجدت تمامها في يسوع المسيح الذي من نسل إبراهيم.

أما
غل 3: 18، فإنها تميز بين “الميراث” من “الشريعة”،
و”الميراث” من “الوعد”: “إذا كان الميراث من الشريعة،
فهو لم يعدْ من الوعد؛ والحال أن الله بوعدٍ أنعم بالميراث على إبراهيم”.
“الميراث”، وهو “الخلاص” الذي “وعد” اللهُ به
إبراهيم مجاناً، وليس وفق “الشريعة”. لا يمكن أن يعطيَ اللهُ ميراثاً
يرتبط باستحقاق بشري؛ هذا ما يؤكده بولس عندما يوضح أن المؤمن يحصل على الميراث
بمنَّةٍ من الله، وليس بأعمال الشريعة، وبالتالي، لا يمكن أن يكون الميراث مرةً
عطيةً من الله، ومرة أخرى نتيجة أعمال الشريعة. الميراث هو أولاً فيض الخير الذي
يسوع مصدره، ولكنه على الأكثر هو “الخلاص” الذي سبقَ فوعد اللهُ به
إبراهيم، وتحقق “بالمسيح يسوع”، وصار حقاً معطى من فوق إلى الجميع بدون
استثناء(14).

 

2/2
– الوعد والشريعة (غل 3: 16)

“فالوعود
كانت لإبراهيم ونسله..” (حرفياً “زرعه”؛ هو مفرد ذات مدلول جماعي).

رج
تك 12: 7؛ 13: 15؛ 15: 18؛ 17: 7-8؛ 22: 16-18؛ غل 3: 29.

في
العبرية، لا تُستَعمَل كلمة “زِرَعْ”
(rz) بصيغة الجمع للدلالة على الأنسال البشرية، على عكس
اليونانية حيث تُستَعمَل صيغة الجمع”زروع”
spermata).
بالتالي، يلعب بولس على الفرق، ويفسر الكلمة العبرية “زِرَعْ” ([
rz) التي بصيغة المفرد، كإشارة إلى المسيح التاريخي. تقطع هذه الآية
الموضوع الذي كان قد ابتدأ به الرسول في غل 3: 15، ولكنها تُعِدُّ ل غل 3: 19ب،
مُضَمِّنَةً فكرةَ أن وعود العهد هي الأساس الحقيقي لعلاقة البشر مع الله(15).

حول
الوعد وتفوّقه على الشريعة، وحول تتمّته في المسيح يسوع، يكتب بولس مبيِّناً أن
المشاركة في الوعد المذكور ممكنٌ فقط بالإيمان الذي يشكّل السبيل الوحيد لبلوغ هذا
الهدف. ولكنه سيركّز من جديد على نواحيَ من برهانه.

في
غل 3: 15-20(16)، يُبرز الرسولُ الوعدَ في علاقته التاريخية مع مختلف مقومات تاريخ
الخلاص، أي الشريعة، والتتمّةِ في المسيح، والإيمانِ بيسوع المسيح؛

وفي
غل 3: 21-29(17)، يبىّن أن الشريعة هي غير كاملة، لأنها من الوعد أدنى، ثم يرتد من
جديد إلى الكلام على المعطيات التاريخية المعروفة، محدِّداً دور الشريعة في تاريخ
الخلاص، ومحدوديتها من حيث أنها مؤقتة، وبالتالي يكون طابعها طابع الانتظار
والإعداد، انتظار المسيح يسوع، والإعداد لمجيئه، وموضحاً دورَ كلٍّ من الشريعة
والإيمان في تصميم الله الخلاصي.

في
غل 3: 15، يَرُدُّ بولس على اعتراض المتهوّدين الغلاطيين الذين ينحون باللائمة على
الرسول لعدم تأديته المجدَ لشريعتهم، مذكِّرينه بأنها عطيةٌ نهائية من الله على
جبل سيناء لكل الناس، وأنها هي “النور الذي لا يفنى”، كما جاء في حك 18:
4. بولس الذي يصف نفسه بأنه “أب” في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس (“أنا
ولدتكم ببشارة الإنجيل في المسيح يسوع”: 1 كو 4: 15)، يشنّ في غل هجوماً
تأديبيَّ الطابع والوسائل، من دون أي تردد، على عكس ما سيفعل في روم حيث سيلجأ إلى
الدبلوماسية والليونة أكثر. مع هذا، فهو يعترف “بأن الشريعة كانت لنا
مؤدِّباً يقودنا إلى المسيح” (غل 3: 24)، ولكن لا هذا لا يعني أنه يجوز لها
أن تصبح عائقاً في وجه البلوغ إلى الإيمان بالمسيح، كونه هو الهدف وليست هي. فباسم
هذه الشريعة كان المتهودون يقاومون الإنجيل، ويرفضون أن يروا العصر المسيحاني الذي
صار حقيقة محسوسة مع المسيح يسوع، والذي به صارت “العجنةُ الجديدة” (1
كو 5: 7)، و”الخلقُ الجديد” (غل 6: 15)؛ فهذا الخلق هو الأهم وليس
“الختانة ولا القلفة” (غل 6: 15).

ومن
أجل تبيان أن الشريعة هي عاجزة عن أن تلغي الوعد الذي كان لإبراهيم فكوّنه، استعان
الرسول بما هو قائم في العالم اليوناني في القانون والتقليد المتعلقَين
ب”الوصية” البشرية التي بها يورث الأب ابنه – أو بنيه – ما يملك،
ويأتمنه على رغبته وإرادته قبل رحيله من هذه الدنيا، فيقول بأنه ممنوع على المؤتمن
على الوصية وعلى تنفيذها أن يحوّر شيئاً منها، وبالأحرى أن يلغيها. بالتالي، لا
يمكن لأحد أن يُحوِّر أو أن يُلغي الوعد لإبراهيم، لأنه له هوية
“الوصية” وقيمتها ومفعولها، مما يعني أن هذا الوعد يحتفظ بقيمته لنسل
إبراهيم الذي منه ظهر المسيح.

من
الناحية الزمنية، أُعلنَتِ الشريعةُ بعد الوعد بأربعمائة وثلاثين سنة (غل 3: 17)،
فليست هي إذاً السابقة بل اللاحقة، وليست هي الأهم بل الوعد الذي تبقى له
الأسبقيةُ والأوّلويةُ، الأمرُ الذي يحول دونَ إلغائه أو حتى تحويره.

من
حيث المصدر، “أعلن ملائكةٌ الشريعةَ على يد وسيط، هو موسى” (غل 3: 19).
يرى التقليد اليهودي في حضور الملائكة على جبل سيناء وساطة بين الله وموسى (أع 7:
38 و53؛ عب 2: 2)، لذلك يرى اليهودي المؤمن أن للشريعة سلطةً إلهية. أما بولس فيرى
أن الشريعة تستعبدنا للملائكة، لأن المسيح هو الذي حررنا من تلك العبودية (كول 2:
15)، وهو الوسيط الأوحد (1 تيم 2: 5)(18). فهي تضع في خطر حقيقي المبدأ القائل بأن
التبرير يتم بالإيمان، كما أنها عاجزة عن أن تهب الحياة لمن يبتغيها بواسطتها.
دورها إذاً هو التوجيه نحو المسيح، وعندها يتم بالتأكيد الاستغناء عنها. هذا ما
يؤمن به الرسول الشجاع وصاحب المواقف التي تضج بالجرأة والتحدي والإثارة.

بيّن
بولس إذاً سموَّ الوعد على الشريعة، واختار مثلاً قانونياً وتقليدياً معروفاً لدى
قارئيه وسامعيه، هو مَثَلُ وصيّةِ الأبِ لابنِه، ليستخرج منه للذين ولدهم تعليماً
حاسماً، ولآراء أهل البرقع وضلالهم قاصماً، وبرهن للجميع “أن عهداً سبق اللهُ
فأبرمه، لا تلغيه شريعة جاءت بعده..، فتُبطِلَ الوعد” (غل 3: 17).

تعني
كلمة “دياتيقي” اليونانية التي يستعملها بولس “العهد”، أو
“الميثاق”، أو “الاتفاق”؛ أما هنا، في غل 3: 17 و4: 24، فهي
تعني “الوصية”، أي أننا نحن أمام فعلٍ قانونيٍ يعبّر به صاحبُه عن
إرادته التي يجب أن تُنَفَّذَ بحرفيَّتِها. نحن هنا إذاً أمام ترتيب قانوني، ليس
بين اثنين غير متكافئين وغير متساويين فقط، بل أيضاً أمام وصيةٍ من الله، تصبح
نافذة حين يبلغ الوارث سن الرشد المعترف به شرعاً.

 

2/3
– الدياتيقي السينائي ودياتيقي الوعد (غل 4: 24)

في
غل 4: 24 يستعمل بولس كلمة “دياتيقي” للكلام على عهد سيناء، الذي يضعه
من جديد في مقابل عهد إلهي آخر. نرى إذاً أنّ كلمة “دياتيقي”، ليس
بطريقة منتظمة، محفوظة للعهد المرتبط بالوعد فقط. يقترح بولس تفسيراً نموذجياً (تِيبُولوجيّاً)،
كون ابراهيم “وُلد له ابنان، واحد من الأمة، وآخر من الحرّة” (غل 4: 22).
يقول بولس إنّ المرأتين تمثّلان عهدين، “واحدة من جبل سيناء تلد
للعبوديّة” (غل 4: 24). مع هذا التحديد يصعب ترجمة كلمة “دياتيقي”
بكلمة “عهد”. أيّ نسلِ “عهدٍ” هو هذا، إذا كان مفعوله أن يضع
في العبوديّة؟ كذلك كلمة “وصيّة” هي أيضاً لا تناسب، لأنّ وصيّةً يعطيها
أبٌ لابنه لا تضع في العبوديّة. ينبغي إذاً اعتماد معنىً عامّاً للكلمة اليونانيّة
“دياتيقي”، أي “ترتيب”؛ من وجهة نظر بولس، لا يتميّز عهد
سيناء بأنّه “عهد”، بل بأنّّه “ترتيبٌ” يستعبد، و”نيرُ
عبوديّة”: “إن المسيح قد حررنا لنبقى أحراراً، فاثبتوا إذاً ولا تعودوا
تخضعون لنير العبودية” (غل 5: 1).

بعد
تحديد “الدياتيقي” الأولى (غل 4: 24)، أي أن “هاجر عهدٌ من جبل
سيناء يلد للعبودية”، نتوقع تحديد “الدياتيقي” الثانية، لكنّ بولس
يُدخل فجأة بعض التفسيرات، ولا يعود يفكّر في تحديد هذه الأخيرة. مع هذا، نفهم من
النص أنّ الثانية، تناسب “أورشليم العليا، التي هي حرّة وهي أمّنا” (غل
4: 26). سيطول الأمر إذا ما حلّلنا كلّ النص المعقد جدّاً. بشكل عام، إنّ له ذات
التوجّه الذي لمعنى النص السابق (غل 3: 15-17)، أي أنّ الرسول يضع المسيحيّين في
تواصل مع “دياتيقي الوعد” لإبراهيم: “أنتم، أيّها الاخوة، أولاد
الوعد مثل اسحق” (غل 4: 28)، وعلى نقيض قوي مع “دياتيقي سيناء”
التي تُعتبر عبوديّة.

 

2/4
– ال”دياتيقي” في روايات العشاء الأخير (1 كور 11: 23-25 والنصوص
الموازية)(19)

هناك
العديد من النصوص في العهد الجديد التي تعبّر عن حقيقة “العهد الجديد”،
لكنّنا سنحصر بحثنا ببعض نصوص تتضمّن كلمة “دياتيقي”.

إذا
بحثنا عن الاستعمال الأقدم لهذه الكلمة في أسفار العهد الجديد، فعلينا بالتأكيد
أخذ نص 1 كو 11: 25 أولاً، لأنّه ليس فقط قديماً جدّاً (حوالي العام 55) بل لأنّه
ينقل صراحة تقليداً تلقّاه بولس قبل عدّة سنوات من ذلك.

نجد
هذا التقليد في الأناجيل الإزائيّة التي يعود تاريخ تحريرها النهائي إلى ما بعد 1
كو، علماً أنّ الأصل هو بالمقابل أقدم بكثير. لنأخذ إذاً الروايات الأربع معاً حول
تأسيس الإفخارستيّا، حيث توجد كلمة “دياتيقي” في الجملة التي فاه بها
يسوع على كأس الخمر (مت 26: 28؛ مر 14: 24؛ لو 22: .2؛ 1 كور 11: 25).

في
مت وفي مر هذا النص هو الوحيد الذي فيه توجد كلمة “دياتيقي”؛ في لو، هو
تقريباً النص الوحيد (باستثناء آخَر في إنجيل الطفولة، في لو 1: 72). من وجهة
النظر الكمّي، تحتلّ كلمة “دياتيقي” إذاً مكاناً محدوداً جدّاً في
الأناجيل؛ أما من وجهة النظر النوعي، بالمقابل، فإنّها تحتلّ أهميّة رئيسيّة، لأنّ
تأسيس الإفخارستيّا يحدّد معنى حدث الجلجلة، وكلمةَ “دياتيقي” تحدّد
معنى الأفخارستيّا.

يلقي
تأسيس الإفخارستيّا الضوء على حدث الجلجلة ويكشف لنا معناه العميق. بحدّ ذاته حدث
الجلجلة هو معتم، لا بل ظلاميّ. ماذا يعني موت المسيح على الصليب؟ كان موتَ محكوم
عليه! “أصبح يسوع لعنة”، يقول بولس في غل 3: 23. نحن نعلم أنّ الحكم كان
ظالماً. إنّه أمر محال، مسبّب للعثار ومأساويّ. انتهت حياة يسوع العلنيّة بهذه
النهاية المأساويّة، لنقلْ بهذه الهزيمة. من يسيّر الفعل ليس هو بل أعداؤه. لكن
صحيحٌ أنّ موقف يسوع لم يكن استسلاماً؛ فهو يُحدَّد أنّه بالأحرى طاعة؛ هذا الأمر
كان يتكشف في الإعلان المتكرّر عن الآلام: “ينبغي أن يتألّم ابن الإنسان
كثيراً” (مر 8: 31)؛ كذلك في مت 16: 21؛ لو 17: 25؛ 22: 37؛ 24: 7 و44). ذات
الأمر تأكّد عند النزاع من خلال أقوال يسوع عند توقيفه: “إنّما الساعة هي
ساعتكم، والسلطان سلطان الظلام” (لو 22: 53)؛ “إنّما على الكتاب أن
يتمّ” (مر 14: 49؛ رج مت 26: 54 و56). هذا يعني أن يسوع يقبل قصد الله
السرّي، وهذا بالتأكيد هو عنصر حاسم يغيّر النظرة ويضفي على الحدث قيمة عميقة. لكن
لا يمكننا أن نقول بأنّ هذا يكفي لكشف معناه، إذ يبقى السؤال: لماذا هذه النهاية
المأساويّة كانت جزءًا من تصميم اللّه؟ بأيّة طريقة كان هذا الموت قادراً على أن
يفيد في تفعيل عمل الله؟ في روايات الآلام لا تجد هذه التساؤلات جواباً. لا يعبّر
يسوع ولا الإنجيلي أبداً عن معنى الحدث. لو كانت لنا فقط الروايات ذاتها عن الآلام
قد لا يكون لنا أي أساس صريح للتأكيدات الأساسيّة المتعلّقة بالإيمان:
“المسيح مات لأجلنا” (روم 5: 8)؛ “بذل نفسه عن خطايانا” (غل
1: 4)؛ “أحبّنا فأسلم نفسه عنّا” (أف 5: 2)؛ “به نلنا
المصالحة” (روم 5: 10)، إلخ.

بالمقابل
يلقي كلام يسوع عند تأسيس الإفخارستيّا الضوء على الحدث، ويعطي أساساً صريحاً لكلّ
هذه التأكيدات، لأنّ يسوع أوضح معنى الحدث بفعلٍ وبكلمات. الفعل كان عطاءً: أعطى
يسوع تلاميذه الخبز الذي كسر والخمر الذي سكب. أما الكلمات: “هذا هو جسدي المبذول
عنكم” (لو 22: 19)؛ “هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي المسفوك عنكم”
(22: 20)، فتكشف أنّ الفعل كان يجعل، وبطريقة مسبقة، حدثَ الجلجلة حاضراً، ومضمونه
واضحاً.

لكنّ
الكلمة التي تلقي الضوء أكثر هي “دياتيقي
“(diaqhkh لأنّها
تحدّد مضمون كلّ الحدث وتكشف ما شاء يسوع أن يحقّق – وحقّق – بموته. بفضل الكلمة
التي قالها يسوع على الكأس نعرف ما هو التفسير الصحيح. بسفكه دمه، أراد يسوع أن
يؤسّس “دياتيقي”/”بريت”.

لنُبرز
المعطيات الرئيسيّة المتعلّقة بمختلف روايات تأسيس الإفخارستيّا.

أ
– تعبّر صيغة تأسيس الإفخارستيّا عن علاقة وثيقة بين “دياتيقي” ودم،
ولهذا فهي في علاقة مع نص الخروج الذي يذكر تأسيس ال”بريت” السينائيّة (خر
24: 3-8)، ويتكلّم على “دم العهد”. يرد ذكر هذا المقطع في عب 9: 19-21.

ب
– عندما يتكلّم التقليد الإنجيلي على “الدم المسفوك”، فإنّه يذكّر بموت
يسوع(20)، ويضع بالتالي علاقة بين “دياتيقي” وموت، الأمر الذي يُضفي على
كلمة “دياتيقي” معنى “الوصيّة”؛ يدعم إطار العشاء الأخير
أيضاً المعنى(21).

ج
– من ناحية أخرى، في كلمة “دياتيقي” يضع تأسيس الأفخارستيّا في الواجهة
جانبَ العلاقة بين أشخاص، أي الجانب الجماعي:


على الجلجلة لا يظهر هذا الأمر؛ يموت يسوع وحيداً. يكشف موته فقط عن مظهر انفصال
كامل، يبدو أكثر فأكثر جذريّاً، بسبب أنّه يموت محكوماً عليه ومنبوذًا.


في العليّة، بالمقابل، يسوع هو مع تلاميذه في إطار وليمة مشتركة. لكلّ وليمة معنى
شراكة بين الأشخاص، واستقبال متبادل، وعلاقات صداقة وأخوّة.

في
هذا الإطار، يحوّل يسوع موته إلى مناسبة لإعطاء ذاته. هكذا، تأخذ كلمة
“دياتيقي” معنى قويّاً، هو “العهد” (
alliance).
يُعطى دم العهد كي يُشرب؛ تأسيس الإفخارستيّا يشكّل وليمةَ “عهد” (
alliance). لدينا أمثلة عدة على هذا الموضوع، نورد بعضها:


في تك 36: 30-31، و31: 54، تُعتَبَر الوليمةُ المُتناولة معاً علامةَ بتِّ ميثاقٍ
بين إسحق وأبيملك، وبين يعقوب ولابان.


في خر 24: ،11 نجد أيضاً التلميحَ إلى وليمة لإبرامِ الميثاق السينائي.


في سفر اللاّويين تلحظ رتبةُ “ذبيحة الشراكة” (أو “السلامة”)
تقديمَ قسم من الضحيّة ك”ذبيحة تلتهمها النار إكراماً للربّ” (لا 3: 3-5)،
والقسم الآخر يتناوله المشتركون (لا 7: 15؛ رج خر 18: 12). هناك تلميح إلى وليمة
الذبيحة في 1 كور 10: 14-12 وفي عب 13: 10.

د
– على موضوع العهد يضيف مت 26: 28 موضوع “مغفرة الخطايا”. تشكّلا لمسامحة
أحد عناصر نبوءة العهد الجديد في إر 31: 34. يُعبَّر عن ذات الرباط بين “عهد
جديد” وبين “مغفرة الخطايا”، مع تشديد أكبر، في عب 9: 15-28.

ينبغي
لفت الانتباه إلى أنّه، بين كلّ الأقوال التفسيريّة المتضمّنة في الروايات الأربع،
كلمة “دياتيقي” هي الكلمة الأكثر تجذّراً، ولها وضع قويّ جدّاً. هذا ما
أدركه بولس في العمق، ولذلك استلّ من سلفِه إرميا النصَ، والفكرةَ وأبعادَها، وختم
“العهدَ الجديد” الذي عند النبي العظيم إرميا بما سبق وختمه به يسوعُ،
أي دمُه المسفوك لأجل أن يجعلنا أبناء العهد.

 

2/5
– نصوص أخرى حول الوعد عند بولس

لن
يُتاح لنا في هذه العجالة أن ندرس كل النصوص التي يجري فيها الكلام لدى القديس
بولس على موضوعَي الوعد والعهد، ومعهما الشريعة، ثم الخلاص بالمسيح يسوع، لذا نورد
بعض النصوص المختارة التي سنوجز مضمونها، والتي ينبغي التعمق فيها لاحقاً كي يكتمل
البحث، وبنوع خاص هنا، النصوص المتعلقة بالوعد، هي التالية:

أ)
روم 4: 20-21:

“وبناء
على وعد الله، ما شكَّ من عدم إيمان، بل تقوّى بالإيمان، ومجّد الله، وأيقن ملء
اليقين أنه قادر أن ينجز ما وعد به”(22).

لم
يشك إبراهيم في وعد الله، لا بل أصبح قوياً (أو أن الله قوّاه) في إيمانه. يبين تك
15: 5-6 أن إيمان إبراهيم لم يكن سوى إيمان بوعد الله. إن قوة إيمان إبراهيم كانت
حصراً أنه لم يكن مدعوماً بأي شيء آخر؛ لم يكن شيئاً باستطاعة إبراهيم أن يقوم به؛
كان فقط إيماناً، ولا شيء غير ذلك، وبهذا “مجّد الله” (روم 4: 20).

تكرر
آ 21 ذات العوامل تقريباً: إيمان إبراهيم، وقدرة الله على إنجاز وعده. موقف
إبراهيم هنا هو موقف الواثق من كلام الله، ومن وعده، ومن أمانته، وهذا كافٍ ليصبح
الوعد حقيقة متجسدة.

ب)
– روم 15: 8:

“أقول
إن المسيح صار خادماً للختانة، تصديقاً لله، لكي يثبّت وعودَ الآباء”.

“صار
خادماً لليهود” (حرفياً: للختانة”؛ رج غل 2: 8-9، حيث نجد التعبير ذاته
للدلالة على الشعب اليهودي)(23).

كان
على يسوع أن يكون يهودياً وخادماً لليهود “لكي يثبت وعود الله للآبا”ء،
ويعطي بالتالي تأكيداً على “الحقيقة” الإلهية (أي على أمانة الله)(24).
ولكن، كما فهم بولس هذه الوعود، كذلك يتقاسمها اليهود والأمم. في هذا يجد بولس
وحدةَ الجماعة المسيحية، مهما كان أساسها العرقي(25).

ينبغي
الملاحظة أن الفعل اليوناني
bebaiow الذي يُتَرجم بالفعل “وطّد” أو “ثبّت”(26)،
يتضمن أيضاً معنى “إعطاء الضمانة”(27)، وهذا ما يمكن تأكيده بالمقارنة
مع روم 4: 16 (“حتى يُثَبَّت الوعد”)، ومع 11: 29 (“لأن الله لا
يتراجع عن مواهبه ودعوته”)، حيث المعنى غير المباشر هو “الضمانة”
أن الوعد أكيد وسيُنجَز. ترتبط المسألة هنا بكيفية ارتباط روم 15: 9 بالآية
السابقة (15: 8): هل ينظر بولس إلى الوعود على أنها “مُنجَزَة”،
كامتدادٍ لبركة إبراهيم التي وعَدَ اللهُ أن يهبها به للأمم (غل 3: 14 و22)، أم
على أنها “مضمونة” لأجل عظمة اليهود بالرغم من قلة إيمانهم المعتادة؟(28).
يحتاج الجواب على هذا السؤال إلى المزيد من البحث، ولكن ليس في بحثنا الآن.

ج)
2 كو 1: 20:

“فجميع
وعود الله كانت فيه نعم!”

بما
أن الله أمين لوعوده، فقد حققها كاملة في المسيح يسوع، وهذا ما يبيّنه بولس.
وبالفعل، لقد تمم المسيح في التاريخ مختلفَ الأشكال التي بها كان الله قد وعد
بالخلاص. إنه زرع إبراهيم (غل 3: 16)، المسيح الداودي (روم 1: 4)، آدم الأخير (1
كو 15: 45)، الحياة، والحكمة، والبر، والتقديس (1 كو 1: 30).

كل
مواعيد الله، تلك التي نقرأها في التوراة، بل الميثاق القديم الذي يعبّر عن هذه
المواعيد، كل هذا وجد “نَعَمَهُ” في شخص ابن الله؛ وعلى نَعَمِ الله
الفريد والنهائي والعلني، يجيب المؤمنون: نَعَم!(29). إن “آمين” الجماعة
الليتورجية (1 كو 14: 16)(30) يواصل قبول الابن الذي يعلن أمانة الآب(31). لم يكن
الإعلان “نعم ولا”؛ فلم يكن في المسيح يوماً إلا “نعم”. إذا
كان المسيح هو نعم، فعلى الجماعة أن تقول: “آمين: ليكن كما تقول، يا
رب”. في رؤ 14: 13؛ 16: 7؛ 22: 20، يأتي “نَعَمٌ” من الله، وتطلق
الجماعة صوتَ القبول والتأكيد من خلال كلمة “آمين”(32).فتدل هكذا على
رجائها بأن مواعيد الله ستتحقق باستمرار.

د)
أف 6: 2:

“أكرم
أباك وأمَّك”، هي أول وصية التي يواكبها وعد” (رج تث 5: 16).

رج
خر 20: 12؛ تث 5: 16؛ مت 15: 4.

 

خاتمة

هكذا،
ينبغي أن نقرأ تاريخ الخلاص على أنه انطلاق وبلوغٌ، على أنه تجسيد في الزمان
والمكان لعطية الله التي كانت في الوعد لإبراهيم، ولا يمكن أن يكون أبداً ثمرة
الشريعة الموسوية. أن نبلغ هذا الاستنتاج، وبفضل إنسان كان يتعبد للشريعة،
ويقدسها، ويفتخر بها، ويقاتل ويقتل لأجلها، فهذا برهان تتحول أمامه البراهين
هباءً، وحجةٌ تستسلم أمامها الحجج؛ فبولس المرتدُّ عن الشريعة الموسوية إلى
الإيمان الجديد قد تأكد أن “المسيح قد افتدانا من لعنة الشريعة” (غل 3:
13)، وحررنا من عبوديتها.

لذلك،
لن يكون بمقدور أحد أن يترك قدورَ مصرَ التي تملأ فراغ البطن، ولا الجريَ السريعَ
إلى دمشقَ للاعتقال والاقتياد اللذَين يسدّان فراغاً أساسه العمى والضلال، ولا
عبادة الآلهة الغريبة التي تخرب العقول والأذهان، من أجل أن نلحق، كما بولس،
بالمسيح يسوع، ما لم ننزع البرقع وننظر إلى كلمة الله وجهاً لوجه.

لذلك،
عندما يتحوّل المؤمنون للروح القدس هيكلاً، وللمسيح يسوع مكان إقامة، وللآب ابناء
وعدٍ، فإنَّ “الشريعةُ التي لا تحيي” (غل 3: 21)، والتي “تحبس تحت
الخطيئة” (غل 3: 22) لن تقوى من بعد أن تمدِّد إقامتها فيهم، ولن تطول
إقامتُهم خارج الفردوس، بل ستصبح العودة إلى بيت الآب حقيقةً، لأنهم يُمسون للوعد
مستودعاً، وفي العهد شركاء، وللخلاص بالمسيح يسوع عاملين ومبشرين.

 

مراجع


أونجليون – الكتاب المقدس، العهد الجديد (كلية اللاهوت الحبرية، جامعة الروح
القدس، الكسليك: لبنان 1992).


ضرغام، الخوري يوسف، “في الروح يصبح العهد حقيقة داخليّة”، المجلّة
الكهنوتيّة، العدد 3، حزيران (1987) 103-108.


الفغالي الخوري بولس، رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنتس (كلام الله 1؛
منشورات الرسل: لبنان 1993) 93-94.


الفغالي الخوري بولس، رسالة القديس بولس إلى هل غلاطية (كلام الله 3؛ الرابطة
الكتابية: لبنان 1996) 138-143.


مهنا الأب أغسطين، “الاجتماع الأفخرستي” (1 كو 11: 17-34)”، بيبليا
4 (1999) 9-13.

Bailly A., Dictionnaire grec-français (Hachette: Paris
1950)
.

Bauer W., A Greek-English Lexicon of the New Testament
and Other Early Christian Literature (The University of Chicago Press: Chicago
1979)
.

Beauchamp P., “Vous êtes tous les invités de
l’alliance (Is 55)”, AssSeig, 49 (1971) 6-11
.

Brown F. at al., A Hebrew and English Lexicon of the
Old Testament (Oxford University Press 1979)
.

Brown R. E. et al., Jerome (The New) Biblical
Commentary (NY 1990)
.

Buis P., La notion d’alliance dans l’Ancien Testament (Lectio
Divina 88; Cerf: Paris 1976)
.

Delling G., Worship in the NT (Phl, 1962) 71-75.

De Surgy P., “Le ministère apostolique de la
nouvelle alliance (2 Co 3)”, AssSeig, 39 (1972) 36-43
.

Dunn James D. G., Romans 1-8.9-16 (Word Biblical
Commentary; vols. 38a. 38b; Word Books, Publisher: Dallas, Texas, 1988)
.

Füglister, “La nouvelle alliance (Jr 31)”,
AssSeig, 18 (1971) 28-35
.

Jacob E., “Alliance et engagement (Ex 24)”, AssSeig, 32 (1971) 36-39.

Jaubert A., La notion de l’alliance dans le judaïsme
aux abords de l’ère chrétienne (Seuil, Paris 1963)
.

Kittel G. and Friedrich G. (eds.), Theological Dictionary
of the New Testament (10 vols.;
Grand
Rapids
: Eerdmans, 1964-76).

McCarthy P., Treaty and Covenant (Roma 1978).

Moulton J. H. and Milligan G., The Vocabulary of the
Greek Testament (London: Hodder, 1930)
.

Passelecq G. لله Poswick F. , Table
pastorale de la Bible. Index analytique et analogique (P. Lethielleux, éd.:
Paris 1994)
.

Penna R., “L’évangile de la paix”, in
Lorenzo De Lorenzi (par le soin de), Paul de Tarse apôtre de notre temps (Abbaye
de S. Paul h. l. m.: Rome 1979) 179ss
.

Antonio Pitta, Disposizione e messaggio della lettera
ai Galati. Analisi retorico-letteraria (Analecta biblica, 131; ed. PIB: Roma
1992)
.

Sander N. Ph. لله Trenel I., Dictionnaire hébreu-français (Slatkine Reprints:
Genève 1979)
.

Vanhoye A., La nuova alleanza nel Nuovo Testamento (PIB:
Roma 1990)
.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى