علم المسيح

البذار وسط الصخور: لما تمت الأيام



البذار وسط الصخور: لما تمت الأيام

البذار وسط الصخور:
لما تمت الأيام

. في
خريف سنة 29 – إذا تقيدنا بالتوقيت الأرجح – غادر يسوع الجليل، ولن يعود إليه. ومذ
ذاك كان لا بدّ أن يتخذ اليهودية ميداناً يُسجّل فيه خلاصة عمله، تلك اليهودية
الشديدة المعروفة بولائها الدهري، وحمايتها لإيمان أجدادها؛ وهل كَان من المعقول
أن ينجز نبيّ مصيره من غير أن يتمّ إلى أورشليم ويموت فيها؟ (لوقا13: 23)

 

.
وذاك هو السبب الأعمق – ولا شك – في تحوّل المسيح عن الجليل إلى اليهودية. فمنذ أن
أقام داود عاصمته –حوالي ألف سنة قبل المسيح – في تلك البقعة المرموقة، عند ملتقى
الطرق، وفي قلب المشارف، وأكرمها بالتابوت، رمز العهد الذي قطعه الله مع شعبه؛
ومنذ أن شيّد فيها سليمان فوق هضبة ” المورياّ “، أفخم الهياكل، لمجد
الله ثم لإعلان سطوته الذاتية، كانت أورشليم لم تزل هي ” العاصمة “؛ ولم
تكن العاصمة السياسية فحسب، بل القلب الذي ينطلق منه دم إسرائيل النابض. لقد كانت
أورشليم لليهود ما هي اليوم باريس لفرنسا. وما هي روما للكاثوليك: المدينة المقسة
التي كان أصغر يهوديّ من اليهود المنتشرين في العالم يحمل في قلبه حبهّا الخالد.
” على أنهار بابل!.. “: لحن حزين أنشده شعب الموعد في الأيام السود التي
قضاها في أرض السبي.. ” إن نسيتكُ، يا أورشليم، فلتنسني يميني. ليلتصق لساني
بحنكي، إن لم أذكرْك! إنْ لم أعلِ أورشليم على ذروة فرحي! ” (مز 136: 5 – 6).
لا، لم يكن يسوع ليجهل أن رسالته لن تستوفي معناها إلاّ إذا شخص إلى مشارف صهيون،
وأفرغ فيها على صيغة العهد القديم معنىً جديداً

مقالات ذات صلة

 

.
أمّا الدواعي الأخرى التي دعت يسوع إلى مغادرة بلده فهي لاحقة. هل كان من بين تلك
الدواعي خوفه من الدسائس الخفية التي بات يدبرّها له الفقهاء والفريسيون؟.. ولكن
هل كان كيدهم أقلّ شرّاً فيَ هذه البلاد، حيث باتوا، في الواقع، أصحاب الأمر
والنهي؟.. أم لعلّ فشله في تقويم قلوب الجليليين قد أفضى به إلى اليأس والقنوط؟
ولكن هل كان من السذاجة وقلة الدراية بالنفوس، بحيث بات يتوقعّ منها اصطلاحاً
سريعاً؟.. وعلى كل، فإنّ ما آل إلى نصف فشل في الشمال لم يكن ليؤول إلى نجاح أعظم
في الجنوب.. أم هو ذاك الاقتراح الهجين الختاّل الذي تقدّ م به ” إخوته
” وذووه، بقولهم: ” تحوّل من ههنا، وأمضِ إلى اليهودية، لكي يرى تلاميذك
أيضاً الأعمال التي تعمل! إذ ما من أحد يعمل في الخفية، وهو يسعى ليكون من ذوي
الشهرة. فبما أنك تعمل هذه الأشياء، أظهر ذاتك للعالم! ” (يوحنا 7: 1 – 6)!
ولكنهم إنما كاشفوه بذلك ” لأنهم لم يكونوا يؤمنون به “. وعلى كلّ، فلم
تكن تلك الدوافع الحقيرة لتستفزّه كثيراً. وأمّا السبب الجوهري، فإًننا نقع عليه
في هذه الآيات من الانجيل: فقد أجاب يسوع أنسباءه المستعجلين، بقوله: ” إن
وقتي لم يحن بعد! ” (يوحنا 7: 6)؛ وبالإمكان أيضاً أن نقرأ، في مستهلّ النصوص
التي روى فيها البشير لوقا أحداث الحقبة ” اليهودية “، هذه الكلمات
الحاسمة: ” وإذ كان زمن ارتفاعه من هذا العالم قد اقترب، صمّم أن ينطلق إلى
أورشليم ” (لوقا 9: 51). زمن ارتفاعه!.. منذ تلك الفترة، أخذت الفكرة القربانية
تسود كل شيء! فجميع ما قاله يسوع، حتى ذاك، وما كان مزمعاً أن يقوله، بأساليب
جديدة، وكل ما صنعه، وما كان مزمعاً أن يصنعه، كل ذلك أخذ يستضيء، منذ تلك اللحظة،
بأضواءٍ فاجعة

 

!
هناك رموز واضحة تربط ما بين الأحداث الأليمة التي انتهت بها حياة المسيح، والأرض
التي جرت فيها تلك الأحداث. فبلاد اليهودية تختلف اختلافا عظيماً عن الجليل
السعيد. فهي صخرية مضرّسة تكثر فوق رقعتها البقاع الكلسيّة القاحلة، فتبدو من
القسوة بحيث يستغرب المرء أن يقع، في وسط مشارفها المتوعّدة، على ذكريات أرقّ
أحداث عرفها التاريخ، وعلى معالم حنان الله.. وتنتظم هضابها وجبالها، انتظًاماً
مهلهلاً، قي ثلاث سلاسل متوازية، مضرسة في جميع جنباتها، قد حفرت فيها السيول
شعاباً موحشة، وانتصبت ذؤاباتها عارية تقرضها عوامل الائتكال. وتمتد الأَرض تحت
زرقة سماء قاسية، تلهث عطشا، وتأبى، في معظمها، كل زراعة. وأمّا الأمطار الشتوية
فعنيفة، وعوض أن تروي قشرة الأرض الرقيقة، تعمل فيها حفراً وتخديداً. في آذار،
ينبت، على حفافي الطرق، بصورة عفوية، خُصَلٌ من السوسن البنفسجي، ومن تلك الشقائق
الأرجوانية الكبيرة التي يطلق عليها الانجيل اسم ” زنابق الحقل “، وهي، من
بين الزهر، نموذج من نماذج البراعة اللاهبة. ومع أيار، كل شئ يصير إلى جفاف
واصفرار؛ ويبقى البروق وحده، ما بين الحصباء التي تضاهيه، منتصباً بأوراقه الشاحبة
وعناقيده البلقاء. ويخيم الحزن، ولا يبقى من الألوان فوق رقعة الأرض، سوى
البنفسجيّ والمغري، يتقاسمان المشهد في رونق يستهوي النظر؛ بيد أن تلك الروعة
نفسها يكسوها شيء من الحزن اليائس. ومن مسافة إلى أخرى، تقوم حول الآبار قرئً
بيضاء، تحمل من الأسماء ما يزهو بأمجاد السلف، وتبرز بخضرتها الطريةّ، وتينها
وجُمّيزها. وأصلح ما هنالك من تلال يحمل فوق سفوحه الغربيّة كروما من الزيتون
الفضّي. وفي أعلى بقعة من تلك الأرض، تنتصب أورشليم بسوار جدرانها، وحراب أبراجها،
وعظمة أحجامها: أورشليم، المدينة الصهباء الذهبيّة المغشّاة بجنزار الدهور، ”
الصخرة والقلعة “، -على حدّ تعبير المزامير- حيثما يترقب المؤمنَ ربه

 

. كان
المسيح قد ذكر، في مثل الزارع، ذاك البذار الذي ينبت ما بين الصخور، ويبلى قبل
نضوجه. ولقد كانت اليهودية من تلك الأتربة التي لا تصلح للإنبات؛ فكان لا بدّ،
والحالة هذه، من أن يعمد المسيح إلى غير البذار الذي ألقاه في أرض الجليل، وأن
يسكب الدم، بدل الماء، لريّ تلك التربة القاحلة!..

 

. هنا
تتوقف الروايتان المتوازيتان اللتان اتخذناهما، حتى الآن، إماماً رئيسياً: أعني
روايي متى ومرقس. ولا بدّ من اعتماد الإنجيلين الآخرين لالتماس حاجتنا من الوثائق.
لماذا أغفل الإنجيلياّن الأوّلان تدوين أحداثٍ بات لها النصيب الأوفر في تعليل
الفاجعة الأخيرة؟ ذاك ما نجهله. وأمّا يوحنا، فلا شك أنه قد اطلع على وقائع هذه
الفترة اطلاعاً مباشراً، فسردها سرداً مسهبة، غايةً في الدقة والطبعيةّ. وأمّا
لوقا فقد جاء وصفه للأشخاص والمشاهد أكثر إبهاماً، وأقلّ واقعيةّ ممّا عهدناه في
الحقبة الجليلية؛ وكأني به قد استولت عليه فكرة المأساة المتحفزة، واستغرقه ترقّب
الوحي الأخير! وقد كتب هذان الإنجيليان مستقلين أحدهما عن الآخر، استقلاً تامّاً،
قد لا يسهل معه التوفيق بينهما. فإذا أخذنا بالتوقيت الوارد في إنجيل يوحنا، ترتب
أن يكون المسيح قد شخص إلى أورشليم، لعيد المظالّ، في تشرين الأول، ثم نراه فيها
ثانية، بمناسبة حفلات عيد التدشين، في كانون الأو ل. ثم نتبعه، بعد ذلك، خطوة
خطوة، في تنقلاته من عبر الأردن، إلى بيت عنيا، إلى أفرائيم، وهكذا حتى طلائع
نيسان، حيث عاد إلى أورشليم للاحتفال بالفصح الذي انقضى فيه مصيره. فهل ينبغي أن
نحصر الأحداث المرويةّ في إنجيل لوقا، ما بين تشرين الأوّل وكانون الأول؟ أم إنّ
رحلات يسوع إلى أورشليم، كما وردت في الانجيل الثالث، هي نفس تلك التنقّلات
المثبتة في الانجيل الرابع؟ قضية قد أثارت تساؤلاً وجدلاً كثيراَ. وإنما يبدو من
العبث أن نبحث في هذه النزاعات والافتراضات التي لا تجدي عن جوهر الأمور جَداء.
فالحقبة ” اليهودية ” تبدو، في جملة أحداثها، متماسكة في وحدة صامدة،
نرى المسيح، خلالها، شبيهاً بذاته، يلقي في الجموع بذار تعليمه، ولعله، في تلك
الأشهر الستّة، قد جاد بأروع أقواله، وأبلغ أمثاله وقعاً في القلوب. ولكن ألا يبدو
أن المسيح قد أصبح، في اليهودية، أكثر جلالاً منه في الجليل؟ ربما! فهو، مثلاً، قد
عدل عن مثل ” تكثير الخبز ” و” تكثير الصيد ” من المعجزات
الناطقة بحلمه وبساطته. وكأنما الإله، فيه، قد أخذ يبرز شيئاً فشيئاً. ولعلّه
لأمرِ راح يعلن للجموع، المرة تلو المرّة، بلهجة حازمة: ” أنا نور العالم!
“. وأما عطفه، فقد لبث فوق الحدود، كا لبثت قدرته فوق اخترامات المنون. وراح
كلامه يسقط بذاراً مهدوراَ على جلمود ذاك الشعب المضعضع، حيث بات نفُوذُ الفريسيين
المتشبثين بشعائرهم أعمق أثراً منه في الجليل. أجل، لقد انتصرت له بعض النفوس؛ بيد
أن المناوئين أيضاً راحوا يحزمون عليه حبائلهم!.. إن مأساة هذه الحقبة قد نشأت من
التعارض القائم بين ذاك الوجه السماويّ الجليل، وذاك المعترك من الأحقاد والمحاسد
والجبانات الخبيثة التي نقع عليها في كل منعطف من منعطفات النص الإنجيلي. ولسوف
يظفر العدوّ أخيراً – أو يتوهم الظفر- بذاك الذي ما رضي يومأ أن يسخرّ قدرته
لاستنقاذ حياته.. وتتفجرّ الكارثة، وتتم الذبيحة، ويمتدّ فوق الأكمة الجرداء،
الجاثمة عند أبواب المدينة، ظلّ الصليب

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى