اللاهوت الروحي

الفصل التاسع



الفصل التاسع

الفصل التاسع

الصوم

مقالات ذات صلة

31- فوائد الصوم وأهميته

الصوم من الوسائط الروحية الأساسية. فلماذا؟

لأنه أولاً يفيد في ضبط النفس.

من حيث أن الصائم يمنع نفسه عن تناول الطعام
والشراب بصفة عامة خلال فترة الإنقطاع. ويمنع نفسه عن كل ما يتعلق بالاسم الحيوانى.
وهكذا يدخل في حياته عنصر المنع. يستطيع أن يقول لنفسه كلمة (لا)، وينفذ ذلك. وكما
يمنع جسده عن الطعام والشراب، يتدرج حتى يمنع نفسه عن كثير من الأخطاء.

 

عنصر المنع هذا، وضعه الله منذ البدء.

و ذلك حينما أمر ابوينا الأولين آدم وحواء أن
يمتنعا عن الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. فوضع بذلك مبدأ ضبط النفس من أول
تاريخ البشرية. لكى ندرك تماماً أن الحرية ليس معناها التسيب. فعلى الرغم من أن
الله كان كريماً جداً مع آدم وحواء، وصرح لهما أن يأكلا ” من كل شجر الجنة
“، إلا أنه وضع ضابطاً هو المنع من شجرة واحدة (تك 2: 16، 17) (تك 3: 3).

 

لعلنا هنا ندرك تماماً خطورة العبارة التي قالها
سليمان الحكيم في التعبير عن تسيبه في المتعة، إذ قال ” ومهما اشتهته عيناى
لم أمنعة عنهما ” (جا 2: 10). فلما وصل إلى هذا الوضع، تطور حتى أخطأ وفقد
حكمته. ” ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه ” (1مل 11: 4).
وعصفت به الشهوات الكثيرة.

 

و الصوم أيضاً دليل على الارتفاع فوق مستوى
الجسد.

ففيه لا نعطى الجسد كل ما يطلبه من الطعام، أو
كل ما يشتهيه من الطعام. وبهذا نرتفع فوق مستواه. بل نرتفع فوق مستوى المادة بصفة
عامة. وهكذا نعطى الفرصة للروح، لكى تأخذ مجالها، متذكرين قول الرب ” اعملوا
لا للطعام البائد، بل للطعام الباقى للحياة الأبدية ” (يو 6: 27). وقول
الرسول ” لأن اهتمام الجسد هو موت. ولكن اهتمام الروح هو الحياة وسلام ”
(رو 8: 6).

 

إن الروح تكون في حالة أقوى في وقت الصوم.

فى الصوم تكون صلواتنا أعمق، وتأملاتنا أعمق.
وتكون صلتنا بالله أقوى. وحتى ألحاننا أيضاً. فوق كبير بين أن نسجل لحناً من ألحان
البصخة في نفس أسبوع الآلام، وأن نسجل نفس اللحن في غير فترة الصوم (. وليس أثر
الصوم في تقوية الروح قاصراً على المسيحيين فقط، بل إن الهندوس واليوجا والبوذيين
يجدون قوة للروح بتداريب الصوم والنسك، وتصفوا أرواحهم أكثر.

 

إذن فالصوم ليس نافعاً فقط من جهة محاربة
الأخطاء محاربة الأخطاء ة السلبيات، إنما يفيد إيجابياً في تقوية الروح.

 

لذلك نجد غالبية المناسبات الروحية تسبقها أصوام.

فأسرار الكنيسة مثلاً، كالمعمودية والميرون والتناول
والكهنوت، لابد أن يسبقها الصوم. وكذلك نوال بركة الأعياد يسبقة الصوم. فنصوم
أسابيع طويلة قبل عيدى الميلاد والقيامة، وقبل عيد الرسل وعيد والعذراء وقبل عيد
الغطاس نصوم يوم البرامون. وما أجمل قول سفر أعمال الرسل (قبل وضع الأيدى على
برنابا شاول): ” وفيما هم يخدمون الرب ويصومون، قال الروح القدس: افرزوا لى
برنابا وشاول العمل الذي دعوتهما إليه. فصاموا حينئذ وصلوا، ووضعوا عليهما الأيادى..”
(أع 13: 2، 3).

و من أجمل ما قيل أيضاً في أثر الصوم روحياً: العلاقة
بين الصوم وإخراج الشياطين:

و في ذلك قال السيد الرب في معجزة إخراجه لشيطان
عنيد لم يقو التلاميذ على اخراجه.. حينئذ قال الرب ” وأما هذا الجنس، فلا
يخرج إلا بالصلاة والصوم ” (مت 17: 21).. ذلك لأن صلاة الصائم تكون لها
روحياتها وتأثيرها، والصائم يكون أكثر قرباً من الله، وأكثر قوة على الشياطين.

 

و كان القديسون يستخدمون الصوم في وقت الضيقات.

و لنا مثال واضح جداً في ذلك صوم استير والشعب
كله، حينما تعرضوا لمؤامرة هامان (أش 4: 16) وكيف كانت استجابة الرب سريعة وعجيبة.
كذلك نسمع عن صوم نحمياً لما جاءته الأخبار أن ” سور أورشليم منهدم، أبوابها
محروقة بالنار ” (نح 1: 3، 4). ويروى سفر نحميا أيضاً كيف كانت استجابة الرب
سريعة وعجيبة.. كذلك يروى لنا الكتاب كيف صام عزرا وهو باك، وكيف كان تأثير ذلك في
تنقية الشعب وتطهيره. كما يروى لنا الكتاب أيضاً صوم دانيال النبي وأثر ذلك (دا 9:
3، 21) (دا 10: 3، 12).

 

و كان للصوم تأثيرها أيضاً في مجال التوبة..

لقد تاب أهل نينوى. ولم تكن توبتهم مجرد رجوعهم
عن حياة الشر امتزجت هذه التوبة بصوم ونسك شديدين، اشترك فيه الشعب كله وملكهم.
وقبل الله صومهم وتوبتهم وغفر لهم خطاياهم (يون 3).

 

و من أروع ما قيل في امتزاج التوبة بالصوم، قول
الوحى الإلهى في سفر يؤئيل النبى ” الآن يقول، إرجعوا إلى بكل قلوبكم،
وبالصوم وبالبكاء والنوح ” (يؤ 2: 12). وداود النبي يشرح عمق صومه فيقول
” أذللت نفسى ” (مز 35: 13) وأيضا ” ابكي بالصوم نفسى ” (مز
69: 10).

 

و كثير من صلوات الآباء والأنبياء من أجل طلب
المغفرة، كانت مصحوبة بصوم، كصلوات دانيال وعزرا طلباً لمغفرة خطايا الشعب.

 

 والصوم
أيضاً له علاقته بالخدمة.

و لعل أبرز مثل لذلك السيد المسيح نفسه الذي بدأ
خدمته بصوم أربعين يوماً. وعلى نسقه كل الآباء الأساقفة والكهنة الجدد يبدأون
خدمتهم الكهنوتية الصوم.. ونفس الآباء الرسل القديسين بدأوا خدمتهم كذلك بالصوم.
وتحقق فيهم قول السيد نفسه ” حين يرفع العريس عنهم، حينئذ يصومون ” (مر
2: 20)

 

ولم يكن الصوم فقط في بدء خدمة الآباء الرسل، بل
كان يتخللها أيضاً. وفى ذلك يقول القديس بولس الرسول عن خدمته ” في أصوام
مراراً كثيرة ” (2كو 11: 27) ويقول أيضاً ” بل في كل شئ نظهر أنفسنا
كخدام لله.. في أتعاب في اسهار في أصوام.. ” (2كو 6: 4، 5)..

 

أتراك يا أخى جربت في حياتك الصوم من أجل الخدمة،
والصوم لحل مشاكلها ولحل المشاكل عموماً؟

 

32- الصوم الروحي المقبول

و لكن لعل البعض يسأل الرب، كما حدث في أيام
أشعياء النبى، ويقول:

لماذا صمنا ولم تنظر؟ أذلنا أنفسنا ولم تلاحظ؟
(أش 58: 3).

و يجيبك الرب كما أجاب أولئك وقال لهم: ”
أمثل هذا يكون صوماً أختاره؟!” (أش 58: 5).

 

إعلم يا أخى أنه ليس كل صوم مقبولاً أمام الله.
فالفريسى الذي كان يصوم يومين في الأسبوع، لم يخرج من الهيكل مبرراً كما خرج
العشار (لو18: 12،14). وكذلك الصوم البعيد عن التوبة، مثل صوم أولئك الخطاة أيام
ارمياء النبى الذين قال عنهم الرب ” حين يصومون لا أسمع صراخهم، وحين يصعدون
محرقة وتقدمة لا أقبلهم ” (أر 14: 11، 12). وكذلك أيضاً صوم المرائين، الذين
يظهرون الناس صائمين (مت 6: 16 – 18).

 

فلا تقل إذن، صمت ولم أستفد روحياً!!

إن حدث ذلك، فربما تكون أصوامك غير روحية. أو
أنك تصوم وفى نفس الوقت تحيا في الخطية!! إذن علينا أن نعرف كيف نصوم؟ وما هو
المعنى الحقيقى للصوم؟ وكيف نستفيد منه روحياً؟

 

كثير من الناس يهتمون في الصوم بشكلياته، أو
أنهم يفهمونه على أنه مجرد الطعام النباتى!! أو أنهم لا يهتمون بالجانب الروحى
خلال الصوم!! لهؤلاء أقول: أن تعريف الصوم من جهة الجسد هو أنه الامتناع عن الطعام
فترة معينة من الوقت، يعقبها طعام خال من الدسم الحيوانى.

فهل تمارس هذا الانقطاع عن الطعام والشراب؟ وهل
تصل فيه إلى مرحلة الجوع وتحتملها.

هذا هو التدريب الأول، أعنى الجوع.. لقد قيل عن
صوم السيد المسيح إنه ” جاع أخيراً ” (مت 4: 2) (لو4: 2). وقال القديس
بولس الرسول عن صومه مع زملائه ” في جوع وعطش، في أصوام مراراً كثيرة ”
(2كو 11: 27). وورد عن صوم القديس بطرس الرسول إنه ” جاع كثيراً واشتهى أن
يأكل ” (أع 10: 10). فهل تختبر الجوع في صومك؟

 

عندما تجوع تشعر بضعفك، فلا تفتر بقوتك، بل تلجأ
إلى قوة الله لتسندك (. وعندما تجوع وتحتمل الجوع، تكتسب فضيلة الاحتمال وضبط
النفس. لذلك لا تأكل كلما جعت أثناء الصوم، إنما أصبر واحتمل. وخذ بركة الاحساس
بالجوع واحتماله والصبر عليه وأيضاً عندما تجوع تشعر بألم الفقراء الذين ليس لديهم
ما يأكلونه، فتشق عليهم وتعطيهم.. هذا من جهة فترة الانقطاع في الصوم.

 

نصيحة أخرى، وهى أن تبعد عما تشتهيه..

تذكر قول دانيال النبي عن صومه ” لم آكل
طعاماً شهياً، ولم يدخل فمى لحم ولا خمر ” (دا 10: 3).. أقول ذلك لأن كثيرين
يأكلون مشتهيات كثيرة من الطعام النباتى، ويلتذون بها. وبالتالى لا يشعرون حقاً
أنهم صائمون، ولا يستفيدون وقتذاك من صومهم، وبخاصة إن كانت لهم أم زوجة تتفنن في
صنع الطعام (الصيامى)، وتجعله أشهى من الأطعمة الحيوانية.

 

و لذلك أضع أمامك هنا ملاحظتين في صومك: الأولى
أنك لا تطلب أصنافاً معينة تلذ لك. والثانية أنه لو وضعت أمامك مثل هذه الأصناف
المشتهاة – دون أن تطلب – لا تملأ شهوتك منها. خذ قليلاً واترك الباقى، واضبط نفسك.
أو اخلط أصنافاً بأصناف، وبحيث تفقد حدة حلاوتها ولذة مذاقها..

 

ليتك تتدرج في الصوم، حتى تصل ليس فقط إلى الجسد
الجائع، بل إلى الجسد الزاهد.

 

بحيث يزهد جسدك هذه المتع التي تقدمها الأطعمة.
إن عنصر المنع يبدأ أولاً. ولكنك حينما تدرب نفسك عليه وتعتاده، حينئذ لا تبذل
مجهوداً لتمنع نفسك، لأنك تكون قد زهدت هذا النى كنت تشتهيه أولاً، وتمنع نفسك عنه.
وهذا الزهد في الأطعمة والمشروبات يتطور معك حتى تزهد في ملاذ أخرى كثيرة، مثل متع
الحواس مثلاً، شهوات الجسد المتعددة.. وحينئذ يرتفع مستواك الروحى..

 

و يدخل عنصر المنع في مجالات عديدة.

فكما تتدرب على منع فمك عن الطعام والشراب،
تتدرج إلى منع لسانك عن الكلام البطال وعن الأفكار الباطلة والخاطئة. وتمنع قلبك
عن كل شعور خاطئ، وعن كل الشهوات والعواطف غير النقية. وتتدرج هكذا من صوم الفم
إلى صوم اللسان، إلى صوم الفكر، إلى صوم القلب.

ولا يكون لك فقط جسد صائم، وإنما أيضاً نفس
صائمة..

ويصبح الصوم مجرد تعبير عن حالة النقاوة
الداخلية التي وصلت إليها. ويكون الصوم عبارة عن فترة روحية تحياها.. وبكثرة
الممارسة تتعودها، وتصبح فضائلها بالنسبة إليك هى منهج حياة

 

أعنى أن ما تستفيده روحياً أثناء صومك، لا نفقده
حينما ينتهى الصوم وتفطر، بل يستمر معك. حقاً إنه قد تغير نوع طعامك، ولكن لم
تتغير الفضائل التي اقتنيتها أثناء الصوم..

 

وهنا تفرق بين الإفطار والتسيب.

لأن كثيرين يضبطون أنفسهم أثناء الصوم. فاذا ما
انتهى وحل العيد، يفقدون كل ما قد اقتنوه، ويظنون أن الإفطار يعنى التسيب وعدم ضبط
النفس!! لذلك فالإنسان الذي يتخذ الصوم كواسطة روحية، هو الإنسان الذي يحتفظ في
قلبه وفى نفسه وفى إرادته، بكل ما قد اقتناه أثناء الصوم فتستمر الفائدة معه. وإن
كان الصوم قد ساعده على التخلص من عادة رديئة أو من عادة معينة، لا يعود إلى ذلك
مرة أخرى حينما يفطر.

 

33- امتزاج الصوم بالفضائل

ولكى يستفيد الإنسان من الصوم، ولكى يدخل إلى
روحانية الصوم، ويصير الصوم فضيلة لروحه وليس لجسده فقط:

عليه أن يخلط صومه بفضائل معينة تناسب الصوم
وتتمشى معه.

* فالصوم لابد أن تصحبه الصلاة. لماذا؟ لأننا
نصوم ليس فقط لكى نقهر الجسد ونستعبده (1كو9: 27)، بل لكى نعطى للروح أيضاً فرصة
تتغذى فيها بكل الأغدية الروحية النافعة لها: بالصلاة، والقراءة الروحية، والتأمل،
ومحبة الله. وفى قسمة الصوم المقدس في القداس الإلهى نكرر عبارة ” بالصوم والصلاة..”
ويقيناً أن الروح إذا أخذت غذاءها، تستطيع أن تحمل الجسد أثناء صومه فلا يتعب.
وهذا نلاحظه في إسبوع الآلام، إذ لا نشعر أبدأ بثقل الصوم لأن الروح تتغذى خلاله
بالقراءات والألحان والذكريات المقدسة. وهكذا نستطيع أن نقول عن الصوم الروحى:

 

* الصوم أيضاً لابد أن يرتبط بالتوبة.

لأن المهم في الروحيات هو القلب النقى، وليس
مجرد الجسد الجائع. وأيضاً لكى يقبل الله صومنا، ولكى نشعر أننا استفدنا من الصوم.

 

وهكذا يقول لنا الوحى الإلهى في سفر يوئيل
” قدسوا صوماً، نادوا باعتكاف ” (يؤ2: 15). فالصوم إذن هو فترة مقدسة. وكيف
تكون مقدسة بدون توبة؟! وما نحصل عليه من مشاعر التوبة أثناء الصوم، يجب أن يستمر
معنا.

 

* الصوم أيضاً يصحبه التذلل أمام الله.

و هكذا قال داود النبي ” أذللت بالصوم نفسى
” (مز 35: 13). وفى صوم أهل نينوى، جلسوا على المسوح والرماد (يون3). وكما
ينسحق الجسد بالصوم، كذلك ينبغى أن تنسحق الروح. ولذلك فإن الأصوام تصحب
بالمطانيات.

 

و لا تكتفى فيها بأن ينحنى جسدك، إنما تنحنى
روحك أيضاً، كما قال داود النبى ” لصقت بالتراب نفسه ” (مز119) ولم يقل
فقط ” لصقت بالتراب رأسى” (..

 

و في هذا التذلل، تطلب النفس من الله رحمة، لها
ولغيرها. وأيضاً تعترف بخطاياها وتطلب مغفرة. وكما قال يوئيل النبى ” مزقوا
قلوبكم لا ثيابكم. وارجعوا إلى الرب إلهكم ” (يوء 2: 13).

 

* الصوم أيضاً تصحبه الصدقة.

فالإنسان الذي يطلب رحمة من الله في فترة الصوم،
عليه أن يرحم غيره ويعطيه.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى