علم المسيح

المسيح يدعو متى



المسيح يدعو متى

المسيح يدعو متى

 

«ثُمَّ
خَرَجَ أَيْضاً إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَأَتَى إِلَيْهِ كُلُّ ٱلْجَمْعِ
فَعَلَّمَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى لاوِيَ بْنَ حَلْفَى جَالِساً
عِنْدَ مَكَانِ ٱلْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: «ٱتْبَعْنِي». فَقَامَ
وَتَبِعَهُ. وَفِيمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِهِ كَانَ كَثِيرُونَ مِنَ
ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ يَتَّكِئُونَ مَعَ يَسُوعَ
وَتَلامِيذِهِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ وَتَبِعُوهُ. وَأَمَّا
ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يَأْكُلُ مَعَ ٱلْعَشَّارِينَ
وَٱلْخُطَاةِ، قَالُوا لِتَلامِيذِهِ: «مَا بَالُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ
مَعَ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ؟» فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ
لَهُمْ: «لا يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى.
لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (مرقس 2:
13-17).

 

يوجه
إليك السيد المسيح الآن دعوة لتتبعه.. تماماً كما سبق أن وجَّه الدعوة لأحد جُباة
الضرائب واسمه «متى». لما وصل المسيح إلى محل الجباية حيث يحصّل مأمور الحكومة
الرومانية الضرائب على البضاعة المنقولة من بلاد إلى بلاد، وقف مقابل أحد هؤلاء
الرجال، وبعد السلام ناداه: «اتبعني».

 

لم
يكن باطن هذا الأمر بسيطاً كظاهره، لأنه كان في ظروف هذا المدعو الجديد ما ينفّر
منه جميع الذين مع المسيح. ومع أنه ابن بلدهم كفر ناحوم، واسمه متى أي «عطية
اللّه». واسمه العبراني لاوي يعلن أنه من العائلة الكهنوتية الشريفة. ومع أنه من
أصحاب المعارف، ومن أهل اليُسْر المالي، لكنه كان من جباة الضرائب المرذولين
المحتقرين. وهذا يكفي لاشمئزاز كل محب، ولشماتة كل مبغضي المسيح، إنْ لبَّى متى
العشار دعوة المسيح وانضم إلى تلاميذه.

 

لنا
في دعوة المسيح لمتى شاهد جديد على عظمة المسيح المبنيَّة على استقلاله عن الآراء
السائدة عند الجميع في أيامه. وهذا الشاهد يتفق اتفاقاً جميلاً مع القول بلاهوته،
لأن البشر يُجَارون المجتمع في أفكارهم. ألم يقل الرب لشعبه: «أَفْكَارِي لَيْسَتْ
أَفْكَارَكُمْ، وَلا طُرُقُكُمْ طُرُقِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ»؟ (إشعياء 55: 8).
فمخالفة أفكار المسيح ومبادئه لأفكار معاصريه ومبادئهم، دليل على أنه ليس من
الأرض، فقد كان الرؤساء والمتقدمون بين اليهود يكرهون جابي الضرائب ويحرمونه من
الحقوق المدنية، ولا يقبلون شهادته في المحاكم، وكانوا يعتبرونه من المرابين
والمقامرين واللصوص والقتلة والزناة والوثنيين، فلا يطلبون منه إحساناً، ولا
يخالطونه خصوصاً وقت الطعام، وكانوا يشبّهون العشارين بين سكان المدن بالوحوش
الضارية بين الحيوانات. فنتيجة لهذا حدث أن الذين لدناءتهم كانوا يقبلون هذه
الوظيفة ازدادوا بفعلها دناءةً شيئاً فشيئاً، حتى صار تحقيرهم حكماً عادلاً إلا في
ما ندر. كيف إذاً يدعو المسيح عشاراً ليكون تلميذاً ملازماً ثم رسولاً عنده؟

 

لم
يكن ممكناً أن يكون المسيح مثل الرؤساء والمتدينين في إغضائهم عن العدد الكبير من
اليهود الذين دخلوا بالاختيار وبالتسلسل في صفّ العشارين. لا بل إن روح المروءة جعلت
المسيح يمنح هؤلاء المحتقرين التفاتاً خاصاً.. وهذا ما فعله لما دعا متى العشار
ليتبعه.

 

رأى
المسيح زلات معلمي الدين تفوق كثيراً زلات العشارين في الجسامة وفي استحقاقها
الدينونة، فصرَّح مراراً وجهاراً بهذا الحكم العادل. ولو أدرك الفريسيون هذا،
لسلِموا من دينونته المخيفة، فإن الخطاة الذين يشعرون بخطاياهم ويعترفون بها له،
هم أقرب إلى ملكوت اللّه من المتظاهرين رياءً بالتديُّن، لذلك تنسَّم المسيح الخير
الأعظم من العشارين المرفوضين.

 

أدرك
المسيح شخصاً من الطبقة السفلى، لما بشّر السامرية وقادها إلى التوبة والإِيمان،
وها هو يدعو متى ليُدخِله إلى ملكوته الروحي. فأوضح أن رداءة العشارين هي حُجَّتهم
لينالوا منه التفاتاً ممتازاً، لأنه كطبيب لا يطلب الأصحاء بل المرضى. ومخلص
الفريسيين هو أيضاً مخلص العشارين، حتى أنه قال مرة لرؤساء الكهنة وشيوخ الشعب:
«ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلزَّوَانِيَ
يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، لأَنَّ يُوحَنَّا جَاءَكُمْ
فِي طَرِيقِ ٱلْحَقِّ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَمَّا
ٱلْعَشَّارُونَ وَٱلزَّوَانِي فَآمَنُوا بِهِ» (متى 21: 31، 32). بهذا
الكلام أظهر المسيح أن نصيب المعمدان كان نصيبه هو أيضاً، إذْ رفضه الرؤساء غير
التائبين، بينما تمسك به الأشرار التائبون.

 

لا
نظن أن هذه بداءة معرفة متى بن حلفى للمسيح. نرجِّح أنه كان قد سمع وعظه تكراراً
ومال إلى تعاليمه، وأنه رأى معجزاته وآمن به إيماناً بسيطاً نظير كثيرين غيره.
ونعتقد أنه ابتدأ يكره وظيفته الدنيئة ويشتهي أن يتركها. وأن المسيح نظر إلى هذا
الاستعداد السابق، فعرف متى أهلاً لهذه الدعوة، فدعاه حتى ترك كل شيء وقام وتبعه
حتى الآن، وظهر عمل النعمة فيه، فتحوَّلت ميوله عن حب المال إلى حب التضحية بالمال
بل وبكل شيء، لأجل المسيح.

 

لم
يكتف متى بترك وظيفته وأرباحها لأجل المسيح، بل أضاف على ذلك أنه صنع ضيافةً في
بيته للمسيح، دعا إليها معه زملاءه العشارين والخطاة، لأن غيرهم لا يلبّون دعوة
عشار. لا بد أنه قصد بذلك أن يفتح الباب لهم ليستنيروا كما استنار هو، وهذا دأْبُ
كل مستنير. ومتى هو الوحيد بين الرسل الذي ذُكر له عمل كهذا، أظهر به امتنانه
الزائد للمسيح الذي تنازل ودعاه ليكون تلميذاً ملازماً له بعد أن خلّصه من ورطة
الآثام. قدّر متى هذه الدعوة حقَّ قدرها، فإن الخسارة التي تحمّلها في تركه كل
شيء، لا تُقاس بما ربحه عوضاً عن تلك الخسارة. فضلاً عن الكرامة التي منحها الله
له على مرّ السنين، إذ صارت بشارته فاتحة الإنجيل وخُلِّد اسمه فوق أسماء معاصريه
من ملوك وعلماء وأغنياء، وربح بواسطة إنجيله نفوساً بلا عدد، كان هو هاديهم إلى
الملكوت السماوي. هذا وكل من يترك منكرات هذا العالم، حتى وخيراته وملذاته، لأجل
اتّباع هذا المعلم السماوي وخدمته، لا بد أن ينال ربحاً جزيلاً.

 

أظهر
متى صدق تقواه الجديدة في أنه بدأ يفكر في ماذا يعطي، لا ماذا يأخذ. نرى البعض
يميلون إلى اعتبار ذواتهم متفضّلين على الكنيسة في انضمامهم إليها، ويطلبون مقابل
ذلك منافع زمنية، يماثلون بطرس الذي في إحدى سقطاته الكثيرة سأل المسيح: «هَا
نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» (متى
19: 27). بينما يجب أن يعتبروا الكنيسة مفضَّلة عليهم بقبولها لهم، ويقدمون
للكنيسة قسماً مهماً من خيراتهم الزمنية إظهاراً لشكرهم.

 

يذكر
متى في بشارته دعوة المسيح له، لكنه أظهر تواضعه بعدم ذكره أنه ترك كل شيء وتبعه،
وأنه صنع ضيافة كبيرة له. لوقا فقط يخبر بذلك. ثم بينما مرقس في قائمة الرسل،
ولوقا في قائمته، يتحفّظان ولا يسمّيانه «متى العشار»، يطلق هو قائمته هذا اللقب
على نفسه، فيعطي نفسه الاسم المحتقر، كأنه يتعمَّد أن ينسب الفخر للمسيح الذي
تنازل وضمَّ عشاراً إلى رسله.

 

يقول
المثل الدارج في كل لغات الشرق والغرب «إن الطيور على أشكالها تقع». وقد نظر
الفريسون إلى المسيح بعين الاحتقار، لاختياره مخالطة الأدنياء ومجالسهم ومؤاكلتهم.
لكن هذا المثل يصحُّ فقط في من يتلذذ بمعاشرة الأشرار، لارتباطه معهم في المبادئ.
ومثل هذا لا حقَّ له أن يتستّر وراء قدوة المسيح الذي عاشر الخطاة المختلفين عن
ميوله ومبادئه، ليغيّرهم ويهديهم إلى النور السماوي.

 

قبل
المسيح دعوة متى للضيافة في بيته، وبذلك هدم جداراً فاصلاً بين رتب الناس
وطبقاتهم، وأعلن بأن الله لا يفضل أحداً على أحد «بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ
ٱلَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ ٱلْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ» (أعمال
10: 35). وكان مبدأ المساواة في الحقوق والكرامة عند الله بين غني وفقير، وعالم
وبسيط وملك وعبد، غير معروف في ذلك الزمان، بل صرّح به المسيح أولاً، وأورثه
للعالم أثمن كنز.

 

من
يمعن النظر في هذا الاجتماع الغريب يرى طرفي النقيض في بيت متى. على الجانب الواحد
نرى المسيح الذي سُميّ «القدوس» (مرقس 1: 24). وهو الكامل الذي يكره حتى أقل درجات
الدنس والشر والخطيئة على أنواعها كَرْهاً لا يوصف. ثم الجانب الآخر نرى زمرة
العشارين والخطاة. فكيف يمتزج الفريقان؟ لنا الجواب في كلام المسيح الذي قاله
بمناسبة هذه الضيافة، فإنه قد جاء ليدعو الخطاة للتوبة.

 

تذمر
الكتبة والفريسون لأن المسيح قبل دعوة متى واشترك في وليمته. لا مانع عندهم من أن
يجلس عشارون على مائدة عشار، لكنهم عيَّروا المسيح على ذلك واشمأزوا من امتزاجه مع
هذا الجمهور المحتقر.

 

لما
شفى المسيح المفلوج في بيت آخر في هذه المدينة، بكّتهم المسيح وأبكمهم على
اعتراضهم الفكري، لذلك لم يجسروا أن يعلنوا أفكارهم ويهاجموه باعتراضاتهم الآن،
خوفاً من ردِّه عليهم رداً أقوى من الرد الأول، فصوَّبوا هجومهم ضد التلاميذ
وقالوا لهم: «ما بال معلمكم يأكل ويشرب مع العشارين والخطاة؟». ثم «لماذا أنتم
تأكلون وتشربون مع العشارين والخطاة؟».

 

لم
يصبر المسيح على تلاميذه ليجاوبوا، بل أسرع هو بالجواب، فلم يكن التلاميذ مستعدين
بعد ليقدموا جواباً كافياً في أمر عظيم الأهمية كهذا، لأنه يتعلق بقصد المسيح
الرئيسي في تركه السماء وظهوره متأنساً في العالم. ففي جوابه أعلن وظيفته الروحية
التي كانت أعماله الظاهرة رمزاً وإيضاحاً لها. كان يشفي الأجسام ليوضح للناس أنه
طبيب الأنفس. فكما أنهم رأوا اهتمامه بالسُّقماء في معجزات الشفاء، وَجَبَ أن
يعرفوا اهتمامه بالخطاة لأجل شفاء أنفسهم من الخطيئة. في هذا الكلام يعلن لأول مرة
أنه هو طبيب الأرواح. فكما يعلمون أن الطبيب لا يقدم خدمته للأصحاء بل للمرضى، يجب
أن يعلموا أيضاً أن المخلِّص يقدم خدمته للخطاة وليس للأبرار. لا يعالج طبيب
سقيماً يدَّعي السلامة من المرض، وكذلك لا يخلِّص المخلّص خاطئاً يدَّعي السلامة
من الخطيئة. وهذا ما كان يدَّعيه هؤلاء المتدينون ظاهراً، والمفتخرون بأنهم معلّمو
الدين. لو كانوا حقاً أبراراً كما يدَّعون، لفرحوا بأن يروا من المسيح اهتماماً
بالضالين ليهديهم إلى الصراط المستقيم، ولكانوا يدركون أن امتزاج الطبيب مع
السقماء فخر له لا عيب، وليس فيه دليل على أن الطبيب مثل مريضه، أو شريكه في
السقام.

 

أظهر
المسيح بقوله: «لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة» أهمية التوبة.

 

وما
هي هذه التوبة التي يدعو إليها؟ أولاً: هي شعور الإنسان بفظاعة الخطيئة وبأنه
خاطئ. ثانياً: الأسف الشديد على ما مضى من خطاياه. ثالثاً: العزم الحقيقي بتركها
في المستقبل. رابعاً: الالتجاء إلى مانح الغفران الإلهي في روح التوبة، والاستعانة
بنعمته للثبات فيها.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى