علم

الفصل التاسع



الفصل التاسع

الفصل
التاسع

الإيمان
والشهادة للمسيح
كفعلين
متلازمين مع المعرفة

عند
القديس أثناسيوس

 

مقالات ذات صلة

أولاً: الإيمان الصحيح يقود للمعرفة الصحيحة

 

لقد
نشأت مشكلة العلاقة بين الإيمان والمعرفة مبكِّرة في اللاهوت الإسكندري قبل
أثناسيوس([1])،
وقد طُرحت هذه العلاقة مبكِّرة في أيام كليمندس الإسكندري في سؤال مختصر: هل
المعرفة تقود إلى الإيمان أو أن الإيمان هو الذي يقود إلى المعرفة؟ حيث المعرفة
هنا يقصد بها معرفة الله. وبمعنى آخر كان اللاهوتيون الإسكندريون يطرحون السؤال
على أنفسهم كالآتي: هل يتحتَّم عليهم الإيمان قبل المعرفة أم أنه يتحتَّم عليهم
المعرفة قبل الإيمان؟

وفي
الحقيقة كان كليمندس الإسكندري هو أول مَنْ حسم هذا الأمر في محيط الآباء
اللاهوتيين في العالم، فقد عرَّف الإيمان نفسه كأعلى مستوى للمعرفة، واضعاً
الإيمان في كرامة المعرفة، معتبراً أن الإيمان هو الشرط الأساسي والأوَّلي لكل
معرفة في ما يختص بالله
([2]).
بل وإن الإيمان هو القاعدة التي يبني عليها حياته كل مَنْ يريد أن يكون عارفاً
(
Gnostic) مخلصاً للمسيح.

ولكن
بالرغم من صحة هذا الفهم ودقته كتعبير صالح جدًّا للحياة المسيحية، إلاَّ أن
القديس أثناسيوس، بحاسته الرسولية وباندفاع الأسقف المسئول عن خلاص الشعب، يضيف
على هذا المعنى إضافة غاية في الأهمية، فهو يقول: إن الذي يقود الإنسان إلى
معرفة الله الحقة هو الإيمان فعلاً، ولكن مضافاً إليه حاسة التقوى
™n p…stei kaˆ eظsebeˆ logismù:

[لأن التقليد (ميراث الآباء اللاهوتي)
لا يعلن لنا اللاهوت بإيضاحات كلامية بل بالإيمان، وباستخدام العقل إنما بروح
التقوى والوقار
([3])، لأن بولس
قد أذاع إنجيل الخلاص بالصليب «لا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح
والقوة» … ومع ذلك فإننا نستطيع مواجهة هذه
الصعوبة مبدئياً بالإيمان، ثم باستخدام الإيضاحات السابق ذكرها أقصد:

الصورة = e„kزnoj، والشعاع (البهاء) ¢paug£smoj

والينبوع = phgءj، والجوهر طpost£sewj

والرسم (التعبير) = caraktءroj([4]).]([5])

وهكذا
نجد أن من الأمور المسلَّم بها لاهوتياً أن الفكر اللاهوتي الإسكندري هو أول مَنْ
اضطلع بكشف العلاقة الصميمية بين الإيمان ومعرفة الله من خلال التقوى، حتى أنه
معروف أن جميع لاهوتيي العالم تتلمذوا على هذا الفكر الإسكندري، سواء الذين استقوا
العلم مباشرة في مدرسة الإسكندرية أو الذين اكتفوا بالتتلمذ على كتابات آباء
الإسكندرية العظام.

والمشكلة
قد تبدو بسيطة لأول وهلة أمام القارئ، ولكن الأمر في الحقيقة يحتاج إلى عمق كبير،
ليس في الفهم أو التصوُّر أو التفكير، ولكن في اكتشاف العلاقة الحقيقية التي تربط
الإيمان بالمعرفة.

صحيح
أن الله هو الذي أعلن لنا عن نفسه بواسطة تجسُّد ابنه، فمعرفة ربنا يسوع المسيح هي
بالأساس فعل استعلان من أفعال الله المباشرة المؤثِّرة في الفكر الإنساني التي
أظهرت الثالوث، ولكن هذا الاستعلان أو هذا الإيمان كفعل من أفعال
الله المتجهة نحو الإنسان والمؤثِّرة فيه لا ينشيء من ذاته رد الفعل،
أي لا ينشئ بذاته معرفة لدى الإنسان من نحو ابن الله، إذ لابد أن ينفعل الإنسان
بهذا الفعل الاستعلاني ويقبل أثره المخلِّص، أي يقبل الخلاص الكامن في معرفة
المسيح ابن الله المخلِّص، فينتقل الإنسان من مجرَّد عارف بالمسيح كابن الله إلى
شريك في خلاص المسيح الابن الفادي المذبوح على الصليب، أي يصير الإنسان عارفاً
مفدياً مخلَّصاً وهذه هي معرفة الإيمان.

ولكن
حدوث معرفة صادقة للمسيح المخلِّص يصاحبها حتماً تقوى شديدة ووقار، لأن الإيمان بالمسيح المتألِّم والمصلوب يستحيل أن يبقى إيماناً
بدون تقوى ووقار، وهكذا نجد أن المعرفة لها شقَّان:

الأول: فعل منحدر من الله لنا كفعل استعلان بوسائط وطرق
مختلفة للمعرفة.

الثاني: هو رد فعل من الإنسان نحو الله كمعرفة أيضاً،
ولكن محمَّلة بالإيمان والتقوى.

هذا
الإدراك العميق للعلاقة بين الإيمان والمعرفة؛ نجده منبثاً في كل أعمال أثناسيوس
وبراهينه، فهو لا يغفل أبداً أن الإيمان يتحتَّم أن يسبق المعرفة، بمعنى أنه
يستحيل الاقتراب إلى الله عقلياً بدون الإيمان الخاشع التقوِيّ.

[اتخذوا
لكم الرسول معلِّماً في هذا الصدد عندما يقول: «يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن
بأنه موجود، وأنه يجازي الذين يطلبونه» (عب 6: 11). لم يقل: كيف هو موجود، إنما
قال فقط أنه “موجود”.]([6])

أثناسيوس
هنا يركِّز على ثلاثة أُسس للإيمان:

الأول أن الإيمان بالله، يسبق المسير نحوه،

ثم
الثاني أن الإيمان بمكافأة مَنْ يطلبون الله، يسبق طلب الله.

أمَّا
الأساس الثالث فهو أن الإيمان الصحيح بالله والفعَّال، يكون في حدود الإيمان
بالواقع أو بالحال الكائن
سti ™st…n، وليس
الإيمان بكيف كان ويكون
pîj ™st…n.

ولكن حتى الإيمان ذاته من جهة الإنسان نحو الله، لا يضعه
أثناسيوس عارياً من قوة إضافية ممنوحة من الله للإنسان للاستمرار فيه، لأنه يرى
استحالة الاتصال بالله بدون الله. فأي فعل إيماني، الذي هو حركة روحية متجهة أو متدافعة
من الإنسان نحو الله، يلزم أن يلازمه جذب
روحي
من الله ليعين ضعف الإنسان المريع في هذا الاتجاه “أؤمن يا سيد فأعن عدم إيماني.”
(مر
24: 9)

وفي شرح أثناسيوس لسفر المزامير، يتعرَّض لهذه الحقيقة، خاصة
حينما يستشهد بقول بولس الرسول: «فإذ لنا روح الإيمان عينه حسب المكتوب
آمنت لذلك تكلَّمت، نحن أيضاً نؤمن ولذلك نتكلَّم أيضاً.» (2كو 13: 4)

وهنا
يقول أثناسيوس إنه يفهم أمرين من قول الرسول:

“روح الإيمان” = pneعma p…stewj إمَّا تدبير من
الله في إيمان قادر أن يقود الإنسان نحو الله؛

أو أن الله يمنح روحاً خاصاً للإنسان الذي يؤمن
بالله ليجعله على مستوى المسير نحوه
([7]).

ويُلاحظ
أن تمسُّك أثناسيوس بقول الرسول: «آمنت لذلك تكلَّمت»، إنما يرجع إلى معرفته بالنص
على صحته الذي يستشهد به بولس الرسول هنا كما ورد في إشعياء 9: 7
الترجمة السبعينية كالآتي: «ولكن إذا لم تؤمنوا فلن تقدروا أبداً أن
تفهموا»، ويُلاحَظ أن أوريجانوس استشهد بهذه الآية بالذات في تدليله على أولوية
الإيمان على المعرفة([8]).

كما
أن أثناسيوس بمقابلة هذه الآية الواردة في إشعياء مع 2كو 13: 4، ومع ما ورد في
رومية: «لأن القلب يُؤمَن به للبرِّ (أولاً)، والفم يُعترفُ به للخلاصِ» (رو 10:
10)، يخرج أثناسيوس بمقولة في علاقة الإيمان بالمعرفة كالآتي:

[في
البداية نحن نؤمن وبعد ذلك نعرف وأخيراً نتكلَّم (نشهد) =

prîton
piseعei tij, e‹ta sunie…, kaˆ met¦ taعta lale…
]([9])

ويعود
أثناسيوس كعادته دائماً مستشهداً بمنهج المسيح نفسه كما
ورد في الإنجيل، ليشدِّد على أن الإيمان، وإن جاء في البداية، فهو لا يقوم من فراغ
بل يتأسَّس على قواعد التعليم الصحيح، فالتعليم
الصحيح يرافق الإيمان حتى يستطيع الإيمان بعد ذلك أن يعطي معرفة ثم شهادة صحيحة
بالله:

[إن
المخلِّص لم يأمرهم فقط بالتعميد ولكنه قال: «علِّموهم
maqhteعsate»، وبعد ذلك فقط «عمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس»، حتى
يصير الإيمان الصحيح عن تعليم، ومع الإيمان الصحيح يأتي التقديس بالمعمودية.]([10])

الإيمان فعل نعمة ممتد لمزيد من المعرفة والاستعلان:

الإيمان
فعل نعمة، لأنه يفوق في عمله وفي جوهره قدرات الإنسان العقلية. وهو لا يتوقَّف عند
حد، إذ أنه بمجرَّد أن يبدأ يستمر في عمله لاكتشاف مزيد من الأمور غير المنظورة.

ويؤكِّد
أثناسيوس أنه فعل نعمة يمنحه الله فينا بواسطة يسوع المسيح:

([11])†na t¾n eظsebء p…stin ¼n ¹ toà qeoف c£rij ™n طm…n ™rg£xestai

وإنه
لا يكون بالاجتهاد إنما هو تسليم رسولي:

[(في
المجمع المقدَّس): “هكذا تؤمن الكنيسة الجامعة” وهكذا اعترف الأساقفة كيف كانوا
يؤمنون، مبرهنين على أن إيمانهم ليس هو مجرَّد شعور شخصي مستحدث وإنما هو إيمان
الرسل،
وأن ما كتبوه ليس هو اكتشافهم الخاص ولكنه هو طبقٌ لما تعلَّموه من
الرسل.]([12])

[والآن
اسمح لنا (أيها الإمبراطور) أن نلتزم بما قد تحدَّد لنا مما وضعه آباؤنا
الأوَّلون، الذين نتجرَّأ قائلين إننا نثق في أن كل ما عملوه هو بكل حكمة وفطنة
بالروح القدس.
]([13])

ولأن الإيمان هو فعل نعمة ممنوح من الله بالروح القدس، لذلك
فإن الإنسان يستطيع بواسطة
نعمة الإيمان
أن يستجيب لدعوة الله له، ويقبل شركة الروح القدس، وبالتالي الشركة في
الطبيعة الإلهية([14]).

ولأوريجانوس
قول مشهور قريب من هذا المعنى فيه تظهر النعمة القائمة في الإيمان
التي تربط الإنسان بالله حيث يقول إنه بمجرَّد أن نؤمن بالله نصير
أولاد الله([15]):

[سte dڑ pepisteعkamen gegزnamen uƒoˆ qeoà].

صلاة الإيمان المستقيم رrq¾
هي الفعَّالة فقط:

هذا
مبدأ هام وضعته الكنيسة وعاشت عليه وتمسَّك به أثناسيوس بوعي لاهوتي، ففي كافة
الصلوات الطقسية حتى في العهد القديم يبدأ الكاهن حسب
التقليد القديم جدًّا ويخاطب الله قائلاً: «يا رب يا رب» ويبدأ يصلِّي
ويلاحظ القارئ الإكليريكي أن هذه البادئة لا تزال قائمة ومعمول بها في بداية صلاة
التحليل على التائب:

[نعم
«يا رب يا رب» الذي أعطانا السلطان …] (الخولاجي)

وأثناسيوس
يشير بوضوح أن الدعاء باسم “يا رب يا رب” الوارد في إنجيل متى: «ليس كل مَنْ يقول
لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات» (مت 21: 7)، هو أصلاً الدعاء الطقسي
المتعارف عليه والمعمول به آنئذ.

فأثناسيوس يقصد أن الصلاة بالدعاء باسم الرب حسب طقس الصلاة
كما هو في المعمودية مثلاً، يكون ذا أثر فعَّال، ويمنح الميلاد الثاني بغسل الماء
وموهبة الروح القدس بوضع اليد
(الميرون)، شريطة أن يكون الإيمان بالرب
بالنسبة لمعطي العماد وآخذ العماد هو إيمان صحيح مستقيم
رrq» أنه ابن الله الواحد مع الآب في
الجوهر.

الإيمان الصحيح يأتي مع التعليم الصحيح ليبلغ فعل التقديس
بالنعمة:

[حيث
أن الجميع يحتاجون إلى النعمة من الله …،

والبحث
إذ يسوقنا الآن أن نذكر المعمودية المقدَّسة، فإنه من الضروري أن نعلن ما نؤمن به:
إن اسم الابن يذكر مع الآب ليس لأن الآب غير كافٍ بذاته، أو كأنه ليس بدون معنى،
أو كأنه بالصدفة، ولكن لأن الابن هو كلمة الله وحكمته وبهاؤه، وهو بذلك قائم دائم
أبداً مع الآب، لذلك فإنه يستحيل إذا كان الآب يمنح نعمة أن يعطيها بدون الابن،
لأن الابن هو في الآب كبهاء النور أي الشعاع القائم في النور،

ولا
كأنه عن حاجة يُذكر الابن مع الآب، ولكن لأن الآب هو دائماً في حكمته الخاصة، هكذا
خلق الله العالم وصنع كل شيء بكلمته، كذلك فإنه وهب المعمودية المقدَّسة في ابنه،
لأنه أينما وُجِدَ الآب وُجِدَ الابن، كما أنه يوجد الشعاع أينما يوجد النور، فكل
ما يصنعه الآب يصنعه بابنه. كذلك فإنه حينما تُمنح المعمودية، فإن كل مَنْ يعمِّده
الآب فإنه يعتمد بالابن، وكل مَنْ يعمِّده الابن فإنه يتقدَّس بالروح القدس،

إذن،
فهؤلاء يعرِّضون للخطر كمال وملء هذا السر أعني المعمودية، لأنه إذا كان التقديس
يُعطَى لنا باسم الآب والابن، وهم في معموديتهم لا يعترفون بالآب الحقيقي إذ أنهم
ينكرون الابن القائم فيه ومن جوهره، منكرين بذلك أنه حقيقي، وبذلك يذكرون اسم ابن
آخر من تركيب خيالهم باعتباره مخلوقاً من العدم، أفلا يكون الطقس الذي يجرونه كله
بكامله فارغاً وغير نافع لشئ؟ صانعين بذلك مظهراً للمعمودية
مجرد مظهر، وهو في الحقيقة لا يفيد نفعاً من جهة الدين. لأن الأريوسيين لا
يعمِّدون باسم الآب والابن في الحقيقة، بل باسم خالق ومخلوق، أي باسم صانع ومصنوع.

لذلك
فليس ببساطة كل مَنْ يقول: “يا رب”، يمنح المعمودية (لفلان) بل الذي، مع الدعاء
بالاسم، له أيضاً الإيمان الصحيح.

وعلى
هذا الأساس بالذات فإن مخلِّصنا الصالح، عند إعطائه الوصية بالعماد، لم يأمر هكذا
ببساطة أن يعمدوا؛ بل قال “علموهم” أولاً ثم “عمِّدوهم
باسم الآب والابن والروح القدس” حتى أن الإيمان الصحيح يصير عن تعليم ومع الإيمان
الصحيح يأتي التقديس بالمعمودية.]([16])

الإيمان الصحيح بالمسيح في مفهوم أثناسيوس هو من داخل
الثالوث:

[إن
الثالوث غير قابل للتجزئة، وإنه متساوٍ، لذلك يلزم أن تكون قداسته واحدة، وأن تكون
أبديته واحدة وطبيعته واحدة غير متغيِّرة، لأنه كما أن الثالوث واحد حسب الإيمان
المسلَّم إلينا وهو يوحِّدنا بالله، وكما أن مَنْ ينتزع شيئاً من الثالوث ويعتمد
باسم الآب وحده، أو باسم الابن وحده، أو باسم الآب والابن دون الروح القدس، لا
ينال شيئاً
بل يظل عديم الجدوى، ولا يُحسب أنه انضم إلى الكنيسة (أي
صار عضواً في الجسد)، سواء كان الشخص المعتمد أو الذي يدَّعي أنه ضمه (أي كلٌّ من
المعمِّد والمعتمد يكونان فاقدين عضويتهما في الكنيسة، أي في جسد المسيح)، هكذا كل
مَنْ يفصل الابن عن الآب، أو مَنْ يُدنِّي الروح القدس إلى مستوى المخلوقات، بل لا
يكون له الابن ولا الآب، وهو بلا إله، ويكون أشر من غير المؤمن، ولا يُحسب أنه
مسيحي.]([17])

وهنا
يلاحظ أن أثناسيوس يسرد لنا بالحرف الواحد قانون الرسل رقم 46،47.

كما ويلزمنا جدًّا أن نفهم من قول أثناسيوس هذا أن مسألة
الإيمان ليست منطوقاً ولا مجرَّد
نظرية فكرية، بل هنا فعل التقديس وأثره في
الإنسان للتجديد ولقبول الاتحاد السرِّي بالكنيسة وبالتالي بجسد المسيح بل وبالثالوث
نفسه، يتوقَّف أساساً على نية الضمير ومدى انطباق الحق الإلهي المعلن في الإنجيل
وقوانين مجمع نيقية على ما يضمره الإنسان، سواء الذي يمنح المعمودية أو الذي
يتقبَّلها.

الإيمان، بالإضافة إلى أنه نعمة، فهو يعتمد على حالة أو
تدبير النفس الداخلي:

وهنا
أثناسيوس ينضم إلى القديس أنطونيوس في الإعلان عن هذه الحقيقة، مقارناً بين معرفة
الله الصحيحة التي تنبع من الإيمان العميق بتدبير النفس الداخلي، وبين الإيمان
الذي يصدر عن مجرَّد الجدال والمحاجاة العقلية.

[كيف يمكن إدراك الله عن معرفة دقيقة؟ هل يكون بواسطة
البرهان بالمحاجاة أو بعمل الإيمان، ثم ما هو الأفضل؟ هل الإيمان المتولد من عمل
الله الداخلي أو من البرهان والمحاجاة؟
فعندما أجابوا أن
الإيمان المتولِّد من عمل الله الداخلي هو الأفضل والأكثر دقة للحصول على المعرفة،
أجابهم أنطونيوس: “أنتم الآن أجبتم حسناً، لأن الإيمان ينشأ من حالة وتدبير
النفس، أمَّا الجدل فهو مجرَّد اختراع الأذكياء.

أمَّا الذين لهم عمل الإيمان الداخلي فلا حاجة لهم إلى الجدل
والبرهان بالمحاجاة،
بل ويكون لهم ذلك نافلة. لأن الذي نعمله
بواسطة عمل الإيمان الداخلي تحاولون أنتم أن تحقِّقوه بالكلمات، وغالباً ما تعجزون
حتى عن التعبير عمَّا ندركه نحن
(باليقين). لذلك فإن عمل الإيمان الداخلي
هو أفضل وأقوى من محاجاتكم التي تحترفونها”.]
([18])

يُلاحَظ
هنا أن أثناسيوس لا يضع الإيمان العملي نقيضاً للبرهان العقلي أو الجدل الفكري، بل
يجعل من الاتجاهين مجرَّد مفاضلة. وحتى هذه المفاضلة لا يجعلها متعارضة بل يحاول
أن يجعل الواحدة مكمِّلة للأخرى، إنما يضع الإيمان في المقدِّمة.

كما
يُلاحَظ أن أثناسيوس ينسب معرفة الله بالإيمان إلى عمل الله الفطري في النفس،
وكأنها مخلوقة على هذا الاستعداد، أمَّا الجدل والمحاجاة في ما يختص بمعرفة الله،
فينسبها أثناسيوس إلى حذق الفكر وفي دائرة الاختراع وكأنه صنعة أو احتراف
للأذكياء.

كما
يحاول أن يصوِّر لنا من بعيد أن الجدل والمحاجاة حول معرفة الله تظل أعمالاً
خارجية بالنسبة لأعماق النفس، في حين يصوِّر الإيمان أنه حركة تكاد تكون طبيعية
ومن الله في أعماق النفس. وبهذا يعتمد أثناسيوس بشيء من الثقة والتأكيد على
المعرفة المتأنِّية من الإيمان، بعكس المعرفة الأخرى المتولِّدة من الجدل
والمحاجاة والبرهان، فيجعلها غير موثوق بها.

غير
أن أثناسيوس يشير إشارة غير مباشرة إلى نوع من الضرورة نحو استخدام البرهان
والمحاجاة، لوضع صيغ من الكلمات تشرح مضمون ذلك الإيمان الذي يدركه المؤمنون
بأعماق قلوبهم. ولكن غالباً ما يكون هناك عجز وقصور عن بلوغ التصوير الكامل لحقائق
الإيمان بالكلمات.

الإيمان بالمسيح فعَّال، ولكن إيمان البرهان والعقل هو بدون
فعل:

ثم
يبدأ أثناسيوس ليضع اللمسة الأخيرة والقوية والعملية بين إيمان عملي داخل النفس
يكون من الله بواسطة المسيح، يستطيع أن يعلن معرفة الله، ويضبط النفس من الشهوة،
ويحفظ البتولية، ويخرج الشيطان؛ وبين إيمان فكري ببرهان الحجة والمنطق عاطل من كل
هذا هكذا:

[لذلك
فنحن المسيحيين نتمسَّك بالسر، ليس بالحجج الفلسفية، بل في قوة الإيمان المعطى
لنا بغنى من الله بواسطة يسوع المسيح …

وللتدليل
على أن إيماننا فعَّال هوذا نحن الآن مدعَّمون بالإيمان بالمسيح، أمَّا أنتم
فتعتمدون على مماحكاتكم الكلامية … نقول:

متى ازدهر ضياء معرفة الله، أو متى ظهر ضبط شهوات النفس وسمو
حياة البتولية؛ أو متى احتقر الموت، إلاَّ عندما ظهر صليب المسيح؟

هذا
مما لا يشك فيه أحد، حينما يُرى الشهيد محتقراً الموت من أجل المسيح، وتُرى عذارى
الكنيسة حافظات أنفسهنَّ طاهرات وبلا دنس من أجل المسيح … وعلى أي حال فإننا
نقدِّم برهاناً كما كان يفعل معلِّمنا بولس الرسول: «لا بكلام الحكمة الإنسانية بل
ببرهان الروح والقوة
» حتى نُقنع الناس بأن الإيمان يسبق براهين المحاجاة: هوذا
هنا بعض المعذَّبين بالشياطين … فهل تستطيعون تطهيرهم بالحجج …؟! وإلاَّ
كفُّوا عن منازعتنا إن عجزتم لتروا قوة صليب المسيح. قال هذا ودعا المسيح ورشم
المرضى مرَّتين أو ثلاثة بعلامة الصليب، وللحال وقف الرجال أصحاء بعقلهم السليم
وقدَّموا الشكر للرب في هذه اللحظة.

أمَّا
أنطونيوس فقال: «لماذا تتعجَّبون من هذا؟ لسنا نحن الذين نعمل هذه الأمور، ولكن
المسيح هو الذي يعملها بواسطة مَنْ يؤمنون به،
لذلك آمنوا أنتم أيضاً لكي تروا
بأنفسكم أنه ليس لدينا حيل كلامية بل
الإيمان عن طريق المحبة
التي وجدت فينا نحو المسيح والتي إن
حصلتم عليها أنتم أنفسكم لما طلبتم في ما بعد حججاً منطقية
بل اعتبرتم الإيمان بالسيد المسيح
كافياً».]([19])

الإيمان بالمسيح هو الذي يعلن لنا الثالوث، ويؤهِّلنا
للاتحاد بالثالوث:

أثناسيوس
يضع حجر الأساس في المسيحية الذي يقوم عليه صرح الإيمان كله، وهو أن الإيمان
بالمسيح يؤهِّلنا للاتحاد بالله:
sun£ptei tù qeù

بل
إن قصد أثناسيوس هو في الحقيقة أعمق من هذا، إذ يود أن يقول إن الإيمان بالمسيح
إذا كان صحيحاً، فهو حالة اتحاد فعلي بالله، وذلك دون أن يتطرَّق الذهن إلى أي
احتمال يتجاوز الفرقة الشاسعة بين الله والإنسان.

فاتحاد
الإنسان بالله بحسب فكر أثناسيوس لا يُفقِد الإنسانَ
هويته، ولا يعطيه هوية الله، ولكن بسكنى الروح القدس بصفة دائمة في الإنسان يصير
الإنسان متحداً بالله.

ولكن
الله لمَّا منح الإنسان هذه الصلة السرية العميقة القائمة في المسيح، ابنه الوحيد
المتجسِّد، أصبح الإيمان بالمسيح (ونوال الروح القدس) هو القوة الجاذبة للإنسان
حول الله، وذلك حسب حرية إرادة الإنسان، وبقدر عمق هذا الإيمان الذي هو سمة من
سمات حرية أولاد الله.
لأن الروح القدس الذي يقبله الإنسان بحرية إرادته يظل
يعمل في دائرة هذه الحرية.

[إن
الإيمان بالثالوث المسلَّم إلينا، يوحِّدنا (يتحدنا) بالله.]([20])

[وحينما
قال المخلِّص من نحونا: «كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً
واحداً فينا» (يو 21: 17)، فهو لا يعني قط من هذا أننا نصبح مماثلين له أو لنا نفس
هويته، ولكن الأمر لا يتعدَّى ابتهالاً إلى الآب كما كتب
يوحنا لكي يهب الروح القدس لكل مَنْ يؤمن به هذا
الروح الذي من خلاله وبواسطته فقط نوجد في الله. وهكذا وبهذه الكيفية نصبح واحداً فيه ومتحدين
به
([21]) =
pneعma car…stai di’
aظtoà
to‹j pisteعousi, di’ kaˆ dokoàmen ™n tù qeù g…nesqai, kaˆ kat¦ toàto
sun£ptesqai ™n aظtù
.] (P.G.C. 376A)

الإيمان بالمسيح، عند أثناسيوس، يعني العبادة

حيث تتحوَّل المعرفة إلى خلاص وحياة أبدية:

إن
كانت محصِّلة المعرفة عند أثناسيوس هي الإيمان، فالإيمان يعني العبادة.

[حينما
نعبد المسيح فنحن لا نعبد مخلوقاً، حاشا أن يكون هذا، لأن هذا الخطأ في احتساب
المسيح مخلوقاً هو من صنع الوثنيين والأريوسيين، أمَّا نحن فنعبد رب الخليقة، كلمة
الله، المتجسِّد.
لأنه وإن كان جسد المسيح هو فعلاً جزء من الخليقة إلاَّ أنه صار
جسداً لله، ونحن لا نفرِّق الجسد من الكلمة ونعبده كجسد وحسب، ولا نحن حينما نريد
أن نعبد الكلمة نفصله بعيداً عن الجسد،
ولكن إذ نعلم أن «الكلمة صار جسداً»،
فنحن نحتسب الكلمة إلهاً أيضاً، حتى بعد أن جاء في الجسد.

لأنه
مَنْ ذا يكون عديم العقل لدرجة أنه يقول للرب: “أرجوك أن تترك جسدك حتى أستطيع أن
أعبدك”؟

أو
نكون بوقاحة اليهود عديمي العقل، الذين بسبب الجسد خاطبوه قائلين: فإنك وأنت إنسان
تجعل نفسك إلهاً (يو 33: 10)

ولكن
حينما نأتي إلى الأبرص نجده ليس من هذا الصنف، إذ نجده يَعبد الله في الجسد،
مدركاً تماماً أنه الله، قائلاً: «يا سيد إن أردت تقدر أن تطهِّرني» (مت 2: 8).
وبذلك نراه غير متعوِّق في إيمانه بسبب الجسد عن إدراك أنه كلمة الله الخالق كل
الخليقة. ولا هو ظن بسبب ازدرائه للجسد أن كلمة الله مخلوق! بل نجده يعبد
الخالق للعالم كساكن في هيكله المخلوق، لذلك وبذلك تطهَّر الأبرص!!

§ كذلك أيضاً في أمر المرأة نازفة الدم،
التي لمَّا آمنت اكتفت بلمس أطراف ثوبه فشُفيت (مت 20: 9).

§ والبحر بأمواجه المزبدة التي لمَّا
سمعت صوت الكلمة المتجسِّد، أوقفت عصفها (مت 26: 8).

§ والإنسان المولود أعمى حينما تقبَّل
الطين الممزوج ببصاق الكلمة شُفي.

§ والأعظم والأكثر إثارة حينما كان الرب
معلَّقاً على الصليب بالجسد والكلمة فيه، لمَّا أبصرت الشمس هذه الفعلة
أخفت نورها وجلَّلها السواد، والأرض تزلزلت والصخور تشقَّقت، وحجاب الهيكل انشق،
وكثير من أجساد القديسين النائمين قاموا … هذه وهي
(بحسب الظاهر)
أمامها إنسان معلَّق إلاَّ أنها

(بحسب الحقيقة)
كانت تواجه خالقها!!
والصوت الذي كان يُسمع، صوت إنسان، ولكن لم يمنعها أن تستجيب له، ولم تحسِبْ
كالأريوسيين أن “الكلمة” مخلوق. هذه كلها ارتعدت.

§ ولكن غير الأتقياء لا يخافون (وصدق
فيهم قول القائل): «وكما لم يستحسنوا أن
يُبقوا
الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوضٍ ليفعلوا ما لا يليق.» (رو
28: 1).

إن
الخليقة لا تعبد مخلوقاً، وليس بسبب الجسد نحجم أن نقدِّم السجود، «لأنه لاسم
يسوع المسيح تسجد
وستسجد كل ركبة ما في
السموات وما على الأرض وما تحت الأرض (الأموات)، وكل لسان سيعترف

رضي الأريوسيون أو لم يرضوا
أن يسوع هو رب لمجد الله الآب»
(في 10: 2و11).

إذن، فالجسد لا يُنقص شيئاً من “مجد الكلمة”، حاشا، بل على
العكس، فالجسد يمجِّده،
ولا أن الابن الذي هو في الهيئة مساوٍ لله حينما
أخذ هيئة العبد يكون قد فقد لاهوته، بل على العكس فإنه صار مخلِّصاً لكل جسد وكل
خليقة.

وإن
كان الله قد أرسل ابنه مولوداً من امرأة، فهذا الحق لا يسبب لنا خجلاً، بل على
النقيض قد سبَّب لنا مجداً ونعمة عظمى. لأنه صار إنساناً لكي يؤلِّهنا في نفسه،
وإن كان قد حُمل به من امرأة ووُلِدَ من عذراء،
فذلك لكي يحمل جيلنا الخاطئ في
نفسه، ونصير منذ الآن فصاعداً جنساً مقدَّساً، «وشركاء في الطبيعة الإلهية» كما
كتب المغبوط بطرس (2بط 4: 1)، «وفيما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً
بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد.»
(رو 3: 8)

ونحن
إذ نرى كيف أن الجسد قد اتخذه الكلمة ليخلِّص بواسطته كل البشر، مُقيماً الجميع
من بين الأموات صانعاً فداءً للخطايا، أ
فلا يظهر من هذا كيف أصبح تحت الدينونة
أُولئك الذين يحتسبون ابن الله مخلوقاً أو مصنوعاً من أجل الجسد الذي
اتخذه مستخفين بذلك، فصاروا غير شكورين ومستحقين لكل غضب؟

هؤلاء
بلغوا من الشطارة إلى الحد الذي به وكأنهم يخاطبون الله قائلين: “لا ترسل لنا ابنك
الوحيد في الجسد، ولا تجعله يأخذ جسداً من العذراء لئلاَّ يفدينا من الموت
والخطية. فنحن لا نطيق أن يأتي إلينا في الجسد لئلاَّ يجوز الموت عنَّا، فنحن لا
نرغب قط أن يصير الكلمة جسداً لئلاَّ بواسطة الجسد يصير لنا شفيعاً ووسيطاً
يوصِّلنا إليك، فنستوطن منازل السموات. بل يا ليته تنقفل أبواب السموات لئلاَّ
يستطيع (كلمتك) أن يكرِّس لنا الطريق إلى هناك بواسطة الجسد (الحجاب الموصِّل) (عب
20: 10)”.

نعم
هذه هي صرخاتهم منطلقة بجرأة شيطانية، من جراء الخطية التي يبيتون عليها.

لأن
كل من لا يريد أن يعبد الكلمة الذي صار جسداً، فهو يبقى غير شكور بسبب أنه صار
إنساناً.

وأولئك
الذين يفرِّقون الكلمة من الجسد، لا يدركون أن (بِهِمَا) صار فداء واحد من الخطية،
(وبِهِمَا) صار إلغاء واحد للموت!

وهل
أمكن لهؤلاء غير الأنقياء أن يروا مرَّة واحدة المخلِّص
بغير جسده الذي اتخذه لنفسه، حتى يتجرَّأوا ويقولوا: “نحن لا نستطيع أن نعبد الرب
في الجسد بل نحن نفصل الجسد لنعبد “الكلمة” وحده”؟

ولماذا
إذن رأى المطوَّب استفانوس السماوات مفتوحة والرب قائماً عن يمين الله؟ (أع 55:
7)، أو أن الملائكة تقول للتلاميذ (وقت الصعود): «سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً
إلى السماء» (أع 11: 1)، والرب نفسه يقول مخاطباً الآب: «أريد أن هؤلاء الذين
أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا.» (يو 24: 17)

وهكذا
وبكل تأكيد، فإن الجسد إذ كان غير منفصل عن الكلمة، فإنه يتحتَّم على هؤلاء، إمَّا
أن يقلعوا عن خطئهم ليعبدوا الآب في اسم الرب يسوع المسيح، وإلاَّ فإن كانوا
يحجمون عن عبادة “الكلمة الذي صار جسداً” فإنهم سينطرحون خارجاً،
ولا يُحسبون
مسيحيين على أي وجه بل مع اليهود أو الوثنيين يُحسبون.

أمَّا نحن فإيماننا حق ومستقيم، ويبدأ من تعاليم الرسل
وتقليد الآباء مثبَّتاً بالعهد الجديد والقديم معاً!

فهكذا
يقول الأنبياء:

+
«أرسل نورك (كلمتك) وحقك.» (مز 3: 43)

+ «ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل (الذي
تفسيره الله معنا).» (إش 14: 7)،

وماذا
يعني هذا، إذا لم يكن الله قد جاء في الجسد؟

والتقليد
الرسولي يعلِّم بكلمات بطرس الرسول: «فإذ قد تألَّم المسيح بالجسد»، وبما كتب بولس
الرسول أيضاً: «منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلِّصنا يسوع
المسيح،
الذي بذل نفسه لأجلنا، لكي يفدينا من كُلِّ إثمٍ، ويطهِّر لنفسه شعباً
خاصًّا غيوراً في أعمالٍ حسنةٍ.» (تي 2: 13و14)

وكيف
يكون قد بذل نفسه إذا لم يكن قد لبس جسداً، لأنه لمَّا قدَّم جسده قيل إنه بذل
نفسه
من أجلنا حتى يكمل الموت فيه: «لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت
أي إبليس» (عب 14: 2). من أجل هذا نحن نقدِّم الشكر باسم ربنا يسوع المسيح ولا
نتلف النعمة التي صارت لنا بواسطته، لأن بمجيء المخلِّص بالجسد صار الفداء والخلاص
لكل الخليقة.

إذن،
ضعوا هذا في أنفسكم أيها الأحباء كل مَنْ يحب الرب، أمَّا الذين يقتفون أثر يهوذا
ويجحدون المسيح لينضموا إلى قيافا فليتهم يخزون.

وليعلموا
أننا في عبادتنا للرب، وهو في الجسد، لا نعبد مخلوقاً، ولكن كما قلنا نحن
نعبد الخالق الذي لبس جسداً مخلوقاً.

ونحن
نطلب من قداستكم أن تسألوهم: حينما أمر الرب شعب إسرائيل ليذهبوا إلى أُورشليم
ليعبدوا الله في هيكل الرب، أين كان التابوت؟ «الذي كان
فوقه شاروبيم المجد مظلِّلاً كرسي الرحمة (غطاء التابوت
Elasterion)» (انظر عب 5: 9). هل انصاعوا للأمر كما ينبغي أم لا؟ فإذا كانوا
هم لم ينصاعوا للأمر، واحتقروه، كم كان العقاب المحتَّم الذي كانوا سيُستهدفون
إليه؟ لأنه مكتوب: إن مَنْ استخف بذلك ولم يصعد فإنه يُباد من وسط الجماعة (لا 9:
17، عد 13: 9).

والآن
كم هو مستحق للإبادة مضاعفاً كل مَنْ لا يعبد الرب في الجسد كما في هيكل؟
مع أن الهيكل الأول شُيِّد من حجارة وذهب وكان ظلاًّ للحقيقة، أمَّا الآن وقد جاء
الحق وتوقَّف المثال منذ لحظة مجيئه حتى أنه حسب قول الرب لا يُترك ههنا حجر على
حجر لا يُنقض (مت 2: 24).

فإن
كان الإسرائيليون لمَّا رأوا هيكل الحجارة لم يقولوا إن الرب الذي تكلَّم فيه كان
مخلوقاً، ولا هم نقضوا الهيكل ولغوه وابتعدوا عنه ليعبدوا الرب بعيداً عنه، بل
جاءوا إليه حسب الناموس وعبدوا الله الذي نطق بالوصايا من داخله. فإن كان الأمر
هكذا، فكيف لا يكون موافقاً وحقاً أن نعبد جسد الرب، كلِّي القداسة، وكلِّي
الاحترام كما هو حقا،
وكما أُعلن عنه بواسطة رئيس الملائكة غبريال: أنه
أي الجسد
من الروح القدس مصنوعاً مسكناً للكلمة.

ثم
ألم تكن هي، على كل حال، يدٌ جسدية تلك التي مدَّها “الكلمة” وأقام بها حماة سمعان
وهي مطروحة مريضة بالحمَّى؟ (مر 31: 1)، وألم يكن هو صوت بشري ذلك الذي أقام لعازر
من الموت؟ (يو 43: 11).

ومرَّة
أخرى نراه وقد مدَّ كلتا يديه على الصليب فصرع رئيس سلطان الهواء وأسقطه
الذي لا يزال يعمل الآن في أبناء المعصية (أف 2: 2) ومهَّد وأنار لنا
الطريق إلى السماء.

ولهذا،
فإن كل مَنْ يزدري بالهيكل يزدري بالرب الساكن فيه، تماماً كالذي يفصل الكلمة عن
الجسد فإنه بذلك ينهي على النعمة التي وُهِبَتْ لنا فيه.

وليلتفت
الأريوسيون المنكرون للاهوت المسيح لأنه يستحيل أن يكون كلمة الله
مخلوقاً، ولكنه اتخذ لنفسه جسداً مخلوقاً، ليحييه، لأنه أي قوة أو أي معونة يمكن
لمخلوق أن ينالها من مخلوق هو نفسه يحتاج لمن يخلِّصه؟

ولكن
لأن الرب هو الكلمة الخالق وهو الصانع للخليقة، لذلك فإنه عند اكتمال الدهور (عب
27: 9) لبس هذا الجسد المخلوق، لكي وهو الخالق يعود ويقدِّس خليقته وينقذها (من
اللعنة والموت والفساد).

ولكن،
مخلوقٌ لا يمكن أن ينقذ أو يخلِّص مخلوقاً من الفساد، إن لم يكن هو كلمة الله
الخالق. لذلك فليت الجاحدين (للاهوت المسيح) لا يفترون على الكتب المقدَّسة ولا
يبلبلون الإخوة البسطاء.

لأن
إيمان الكنيسة الجامعة يعلِّم أن “كلمة الله” هو خالق وصانع كل الأشياء، كذلك نحن
نعلم أن “الكلمة كان في البدء وكان الكلمة عند الله”. فإن كان قد صار في ملء
الزمان أيضاً إنساناً من أجل خلاصنا، فنحن نعبده ليس كأنه لمَّا صار في الجسد
تساوى مع الجسد، ولكنه السيد أخذ هيئة العبد، والخالق أتى في مخلوق.
لكي عندما
يخلِّص كل شيء يُحضر العالم إلى الآب جاعلاً الكل في سلام ما في السموات وما على
الأرض. ولهذا نحن ندرك لاهوته كالآب تماماً، ونعبد حضوره الجسدي
ونصر على ذلك مهما تجنَّن الأريوسيون حتى ولو مزَّقوا أنفسهم! …]([22])

الإيمان الصحيح، عند
أثناسيوس، لا يقوم على فهم شخصي،

ولا على مشيئة شخصية، ولا على إرادة
ومشورة خاصة،

بل على تسليم صحيح للتقليد الكنسي
الرسولي، ويؤدِّي إلى معرفة صحيحة:

كان
صراع أثناسيوس ضد الأريوسيين وغيرهم من المنشقين يمثِّل في حقيقته وجوهره صراعاً
بين نوعين من الإيمان: إيمان الكنيسة المتحفِّظة الذي يقوم على تسليم حسب تعليم
الإنجيل، وهذا يضمن معرفة حقيقية بالله، إيمان عاشه القديسون وتمسَّكوا به،
وإيمان
يقوم على المعرفة الخاصة والحكم الشخصي والإرادة الخاصة لدى
الخارجين على الكنيسة، وهذا أدَّى إلى كفر.

وأثناسيوس
يهاجم بشدة محاولة الهراطقة لوضع قانون للإيمان شخصي، أي من عندهم، فيسميه قانون
عدم التقوى الشخصي، أو الوقاحة الشخصية.
وهو يركِّز دائماً:

(1)
على كلمة الشخصي =
t¦ ‡dia”،
في مقابل التسليم التقليدي.

(2)
وعلى كلمة المشيئة الخاصة =وj
oطtoˆ qڑlousi
”، في مقابل مناداة أو
كرازة الكنيسة
=وj ¹
™kklhs…a khrعssei
”.

(3)
وعلى كلمة الإرادة المنقسمة (المشورة والمؤامرة):
(ex parte) ¤ boعlontai، في مقابل القانون الإلهي.

[فإنهم
وهم مدفوعون من قبل إدراكاتهم أو بالحري عدم إدراكاتهم
النابعة من هوى قلوبهم الخاصة، يركنون إلى صفحات من الكتب المقدَّسة، ولكن
بسبب عجز معرفتهم لا يفهمون معناها بل يقرِّرون كفرهم بمقتضى ما يستقرئونه منها
ويعتبرونه “قانوناً” قائماً على الشرح والتفسير. ثم يحشرون كل أقوال الكتب
المقدَّسة لكي تسير على المعنى الذي يريدونه، أمَّا هذا المنهج فأقل ما يُقال عنه
هو ما قيل لليهود سابقاً: «تخطئون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله» (مت 29: 22).]([23])

ويفضح
أثناسيوس إيمان الأريوسيين، أنه تأليف خاص ليوافق مشيئتهم الخاصة، ويشدِّد أيضاً
على كلمة المشيئة الخاصة وj oطtoˆ
qڑlousi
” في مقابل قانون إيمان الكنيسة “العام” (الكاثوليكي:
Catholic).

[هنا
أيضاً يبرزون تزييفاتهم الخاصة، ويقنعون أنفسهم أن الآب والابن ليسا
واحداً، كما تعلِّم الكنيسة الجامعة، ولكن حسب مشيئتهم هم: وj oطtoˆ qڑlousi.]([24])

أثناسيوس يحذِّر من سموم الهراطقة التي زرعوها في حقل
الإيمان المسلِّم من القديسين:

[لقد
جعلوا لغة الكتاب المقدَّس مادة لادعاءاتهم، وبدل المعنى الحقيقي الصادق النقي
زرعوا في وسطه
(مت 25: 13) سُمَّهم الخاص
tصn ‡dion لهرطقتهم.]([25])

[ولكونهم
قد انحرفوا بالقضايا الإلهية ودسُّوا عليها تفسيرات خاطئة بحسب مفهومهم الخاص
kat¦ tصn ‡dion noàn، أصبح لزاماً علينا أن نواجههم بالقدر
الذي يسمح أن نوضِّح ونفنِّد هذه الروايات الإنجيلية، ونبرهن على أصالة المفهوم
الأرثوذكسي القائم فيها،
موضِّحين مدى خطأ هؤلاء المقاومين.
]([26])

أثناسيوس يؤكِّد أن كفر الهراطقة كان
كفراً مقصوداً
ومتعمّداً بروح العداوة (الشيطانية) للمسيح:

[أيها
الأعداء للمسيح واليهود غير الشكورين … الذين جعلوا الصفات البشرية التي ظهر بها
المسيح أساساً لانحطاط تصوراتهم الفكرية في ما يخص ابن الله، قائلين بأنه كان
بجملته إنساناً مخلوقاً من تراب الأرض وليس من السماء، ولم يعبأوا بأعماله الإلهية
ليدركوا حقيقة “الكلمة” القائم في الآب حتى
يتوبوا عن كفرهم الإرادي
t¾n ‡dian ¢sڑbeian”.]([27])

[علماً
بأن كل مَنْ يتكلَّم من ذاته
™k tîn „d…wn فإنه إنما يتكلِّم كذباً.]([28])

ويعود أثناسيوس يوضِّح أن إيمان الهراطقة هو نتيجة مشورة
لإرادة منقسمة، ومؤامرة وخيانة متعمَّدة:

[وبينما
الأمور تجري هكذا انسحبنا من وسطهم كما من وسط جماعة خونة، لأن كل ما كان يخطر
على بالهم كانوا يتمِّمونه، ومعلوم قطعاً لدى كل إنسان أن كل ما يخرج من وسط
الانقسامات لا يمكن أن يكون صالحاً
(
ex parte)، هذا ما يؤكِّده
القانون الإلهي (يع 3: 14و15و16) …

وهؤلاء
حالاً خرجوا خارجاً مثل اليهود وأخذوا يتشاورون معاً
وحدهم (وليس مع الله) كيف يحطِّموننا ليبثوا هرطتقهم كما سعى اليهود سابقاً لإطلاق
باراباس.
]([29])

ما هو القصد من “قانون الإيمان”، عند أثناسيوس:

كان
القصد الأساسي من استخدام أثناسيوس “لقانون الإيمان”، هو مواجهة الإيمان “الخصوصي”
الذي ألَّفه واخترعه أريوس وأعوانه. فكلمة “قانون” تقابل عند أثناسيوس كلمة
“اختراع”.

ولم
يكن قصد أثناسيوس في استخدامه لنصوص الكتاب المقدَّس ليبرهن منهجاً معيَّناً
للاهوت أو يفسِّر الإنجيل أو حتى يطرح أمام القارئ المؤمن نموذجاً للفهم والبحث في
ما يخص الإيمان، ولكن كان الأساس من التمسُّك الشديد بقانون الإيمان هو الحفاظ
على التقليد. كذلك فإن الاستشهاد بكل ما يمكن من الأسفار المقدَّسة، هو لبرهان أن
قانون الإيمان قائم بالفعل على تقليد صحيح مسلَّم، ومحدَّد. وهذا التقليد بمنأى عن
الإجتهاد للحذف أو للإضافة، وهو ملزِم، وهو بحد ذاته يعطينا المعنى الصحيح للكتاب
المقدَّس في ما يتعلَّق بالمسائل اللاهوتية الأساسية.

وقد
نجح أثناسيوس بالفعل في توضيح وتثبيت هذه الحقيقة، وهي أن التقليد كان ينتقل من
جيل إلى جيل بالممارسة التعليمية، وبالممارسة الطقسية العملية داخل الكنيسة.

ولم
يتوسَّع أثناسيوس في شرحه للآيات على مدى الأسفار المقدَّسة لكي يعلِّق على
المعاني في حد ذاتها، ولكن كانت كل اهتماماته منصبَّة في أن يحدِّد، وبصورة
قطعية، أن كل معنى يُستقرأ من أية آية ويكون غير منطبق على المفهوم التقليدي
لقانون الإيمان العام يصبح غير صحيح، وهرطقة بحد ذاته.
ولماذا؟ لأن المعنى
التقليدي بحسب القانون العام هو رسولي ومُلزِم وقاطع.

لذلك تمسَّك بكل ما تعلمه في المدرسة (مدرسة
الإسكندرية
للموعوظين
Catechetical school)، مع ما تلقاه وتعلّمه ومارسه في الكنيسة، بالإضافة إلى صوت
الكنيسة ومفهومها العام
frزnhma، وبالإضافة أيضاً إلى كتابات القديسين التي
وصلت إليه.
هذه هي الأُسس الأُولى التي تسند قانون الإيمان، وهو دائماً أبداً
مقتنع وقانع بها.

وأثناسيوس
لا يدَّعي أبداً أنه بحَّاثة يبحث في صحة قانون الإيمان أو يفسِّره بما يتوافق مع
رأيه أو فهمه الخاص.

كذلك
لا يظهر أثناسيوس في كل مؤلَّفاته أنه مجادل أو محاور لإثبات رأيه ونظريته وإيمانه
الخاص، بل يظهر بكل صلابة أنه إنسان استلم أمانة خطيرة للغاية، وهو مكلَّف
بتسليمها كما هي، حتى ولو أدَّى ذلك إلى الموت. هذه الأمانة أو الوديعة
par£dosij هي قانون الإيمان، وهي هي التقليد، وهي هي الإنجيل، ليس كأنها آية
واحدة بل التقليد هو محصِّلة النظرية الإيمانية الشمولية الواسعة التي تحتضن كل
الإنجيل
= tصn skزpon tءj kaq’¹m¦j p…stewj.

[إن
الأريوسيين إذ ينظرون إلى ما هو بشري في المخلِّص يحكمون عليه أنه مخلوق … ولكن
ليتهم يتعلمون وإن كان هذا التعليم يأتي متأخراً أن
“الكلمة صار جسداً”. وليتنا نتمسَّك بالنظرة الشمولية للإيمان =
tصn skزpon tءj p…stewj، (الإيمان الذي نقيمه نحن المسيحيين ونستخدمه كقانون: ésper kanزni ونقرأ به الأسفار الملهَمة كما علَّم الرسل هذا إذ
يفقده أعداء المسيح متجاهلين هذه النظرة الشمولية يضلُّون عن طريق الحق، ويعثرون
ويظنون فيه بخلاف ما ينبغي أن يُظن)([30])
أمَّا نحن فإذ لنا هذه النظرة الشمولية نؤكد أن هذا هو المعنى الأرثوذكسي الصحيح =رrq¾n]([31])

[وبما
أنهم يقلبون الأسفار المقدَّسة بمقتضى فكرهم الخاص:
‡dion، فإنه يتحتَّم علينا بالقدر الكافي أن نرد عليهم في هذه الحدود،
لنصحِّح ونبرهن صدق كلمة الإنجيل، ونوضِّح أن معناها هو أرثوذكسي رrq¾n]([32])

علاقة قانون الإيمان والفكر الكنسي بالتقوى والاستقامة
والصلاح عند أثناسيوس:

الباحث
المدقِّق يُلاحِظ أن أثناسيوس يحصر معنى “التقوى” و“الأرثوذكسية” و“الصلاح” في
حدود ما هو متَّفَق وملتزَم بقانون الإيمان
Regula Fidei وخاصة في ما يخص المبادئ والتفسير، وما هو موافق للفكر الكنسي
العام:

[هذا
ما أفهمه من هذا الفصل (من الكتاب المقدَّس) وهذا هو المعنى الكنسي تماماً:
™kklhsiast»koj.]([33])

[فلو
كانوا قد التزموا بهذه المفهومات، وأدركوا نظرة الكنيسة الشمولية وجعلوها
كما هي حقا مرساة الإيمان، لما غرقت مركب إيمانهم.]([34])

ومن
هنا ندرك السر الذي يقف وراء الألفاظ التي ينعت بها أثناسيوس الأريوسيين بقوله:
“غير الأتقياء”، “غير الصالحين (الأردياء)”، و“المنحرفين”، فهي هنا ليست على مستوى
الشتيمة، بل بمفهوم الخروج عن قانون الإيمان الذي هو هو قانون التقوى وقانون
الصلاح وقانون الاستقامة.

 

ثانياً: الشهادة (الاعتراف) بالمسيح

وعلاقة ذلك بمعرفة الله أو استعلانه

 

إن أثناسيوس يعتبر أن الإيمان بالمسيح، حسب قانون الإيمان
الصحيح، لا يمكن أن يكمل بدون الشهادة أو الاعتراف العلني بهذا الإيمان.

ثم
إن هذا الاعتراف العلني بالمسيح أي الشهادة بالإيمان باسمه هو الطريق السري
للدخول في معرفة الله معرفة شخصية. وبدون هذا الاعتراف العلني يستحيل أن ندخل في
شركة مع الله، ولا نُستأمن على الحياة الأبدية.

[لأنه بدون الاعتراف العلني (الشهادة) بالموت والصلب
والقيامة العجيبة التي للرب الإله بحسب الرسل، يمتنع علينا الحصول على قوة معرفة
الله.]
([35])

[لأن
الأريوسيين صنعوا هذه الأمور لكي يؤثِّروا على الذين يعترفون بالإيمان الصحيح
بالله ويخيفوهم، لكي يسكتوا، وحينئذ ينشرون هرطقتهم الكفرية بدلاً من الإيمان
الصحيح.]([36])

وأثناسيوس
يوضِّح في كل مقالاته ودفاعاته أن الإيمان والاعتراف بالتجسُّد وما تبعه من آلام
وموت وقيامة، هو في الحقيقة لغاية واحدة هي أن نصير أبناء الله متحدين بالمسيح
بهذا الإيمان والاعتراف. وهذا الاتحاد هو هو الشركة في الطبيعة الإلهية: [كلمة
الله تجسَّد لنصير آلهة فيه]، و[ابن الله تجسَّد لكي نصير أبناء الله]، بحيث أن
إحجام اليهود عن الشهادة للمسيح كونه ابن الله المتجسِّد، حرمهم من الاتحاد بالله،
أي من الشركة الإلهية (أو التألُّه)، حيث المقابل لعدم الشركة (التألُّه) هو
الحرمان من الله،
وهو هو بعينه الكُفر أي الجحود =
ungodliness = atheism = ¢qeزthtoj.

وعدم
التألُّه أو الكفر يتبع فكراً مضاداً للحق مع إصرار واعتراف.

فهو
سلوك سلبي تجاه طبيعة الله. لذلك إن كان الإيمان والاعتراف العلني بالله هو التقوى
eظsڑbeia التي تترجم religion
أو
godliness وهي هي كلمة “ الأرثوذكسية”، فإن الخروج عن الإيمان يُحسب عدم
تقوى
¢sڑbeia التي تترجم irreligion أو ungodliness، وهذه لم يستخدمها أثناسيوس جزافاً، بل هو يأخذ بأسلوب ونمط
الإنجيل، فإن بولس الرسول يعتبر الإيمان العلني بتجسُّد الله والكرازة (الشهادة)
به هو هو سر التقوى:

+
«عظيم هو سر التقوى
godliness = eظseb…aj، الله ظهر في الجسد … كُرز
به … أُومن به …
» (1تي 16: 3)

وهو
الذي يؤكِّده القداس القبطي حينما يقول الكاهن: “وأعطانا هذا السر العظيم الذي
للتقوى”
، هنا يقصد الكاهن نفس الآية السابقة معلناً التجسُّد، فهو
قبلها يعلن معترفاً: “تجسَّد” = “آفتشي ساركس
afsicar{”.

لهذا،
وعلى أساس هذا المعنى، شكا أريوس أن ألكسندروس بابا الإسكندرية طرده (مع أتباعه)
من الإسكندرية باعتباره إنساناً كافراً =وj ¢nqrèpouj ¢qڑouj([37])
ولماذا؟ لأن مَنْ ينكر المسيح فقد أنكر الله، لأن المسيح هو الله ظهر في الجسد،
ولأن المسيح هو ابن الله الذي بتجسُّده أعلن الآب “الله المخفى”، ولأننا
بواسطة المسيح ندرك الآب الحقيقي؛ لذلك فإن أثناسيوس يضع الأريوسيين مع اليهود
لأنهم بالرغم من أنهم يعترفون باسم الله بأفواههم، إلاَّ أنهم لا يدركون سر الله
الآب الحقيقي: «أبو ربنا يسوع المسيح»؛ وبإنكارهم “الكلمة” المتجسِّد، أي لاهوت
المسيح، فإنهم يقتطعون من لاهوت الآب كلمته، وهكذا فإن جرأة الأريوسيين وبالحري
تجديفهم إنما هو موجَّه للاهوت، أي لله
في ذاته بصورة جنونية
manikèteron([38])، منكرين
“الكلمة” لاهوتياً، فصاروا ضد الأسفار المقدّسة سالكين بسلوك يهودي([39])
كافرين بالله.

ولهذا
يتحقَّق أمامنا جيداً أن الإيمان الحقيقي بالكلمة المتجسِّد يتبعه حتماً شهادة
واعتراف علني بالإيمان، حيث يعتبر هذا هو المنهج الأرثوذكسي للتعريف بالله، بل هو
سر التقوى بعينه، الذي من خلاله نعرف الله في ذاته بالحق.

لهذا
يتبيَّن أمامنا ومن كل ملابسات مجمع نيقية والصراع المرير الذي عانته الكنيسة بعد
هذا المجمع وعلى مدى خمسين عاماً، أن الإيمان العلني ضرورة حتمية تسبق المحاولة
لفحص الله أو بحث الأسفار أو محاولة المجادلة أو الحوار أو إبداء الرأي، فالإيمان
أمان المعرفة أو الحكمة وهو وإن كان يساويها تماماً،
فهو الذي يؤمِّنها!!

فكل
إنسان يعلن نفسه أنه مسيحي، يتحتَّم عليه أن يكون مؤمناً بالمسيح يسوع، شاهداً
أنه كلمة الله المتجسِّد، الذي صُلب عنا ومات ودُفن وفي ثالث يوم قام من بين
الأموات!

[«لأنه
إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة، استحسن الله أن يُخلِّص
المؤمنين بجهالة الكرازة
(بالتجسُّد والموت والقيامة)» (1كو 21: 1). إذن فلم
يعد بعد كالسابق أن الله يُعرف من خلال ظلال الحكمة ومجرَّد تصورها كما هو الحال
في الخليقة، ولكن جعل الحكمة الحقيقية ذاتها تتجسَّد وتصير بشراً، وهذا
يموت على الصليب، حتى بالإيمان به فإن كل مَنْ يؤمن ينال (حكمة) الخلاص
(الحقيقية).

هذا هو الحكمة الحامل لصورة الله (الآب) الخاصة الذي
حينما استُعلن هو في ذاته (متجسِّداً وعاملاً) استَعلن أباه، وإذ هو ذاته “الكلمة”
الذي صار جسداً، حينما أباد الموت بموته خلَّص جنسنا (من الموت)، فاستُعلن أكثر
فأكثر (أنه هو الحياة الأبدية)، وفيه استعلن الابن أباه (أبو الحياة) قائلاً: «هذه
هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته»
(يو 3: 17). وهكذا امتلأت الأرض كلها من معرفة الله الآب في الابن، والابن في
الآب، سيان فهما واحد (لحياة أبدية محيية)([40]).]([41])

وأثناسيوس
يشدِّد على أن عدم الإيمان بالمسيح إلهاً آتياً في الجسد ينشئ جهالة بحقيقة الله
الآب، وهذه الجهالة مميتة لقدرة الإنسان من نحو الاتصال والمصالحة بالله.

ولهذا
يرى أثناسيوس أن اليهود قتلوا المسيح بسبب الجهالة بالله نفسه، لأن معرفة الله
حُجزت عنهم كلية، عندما رفضوا “كلمته”، أي الإيمان بالمسيح، فأصابهم العمى الروحي
ولم يفدهم صراخهم باسم الله ولا تدقيقهم في ناموس موسى بل أقدموا بكل جراءة على
قتل رب المجد:
[«لأنه لو عرفوا (آمنوا به) لما صلبوا ربَّ المجد» (1كو 8: 2).
هذا هو التعبير والفهم اليهودي.]([42])

هكذا
فإن أثناسيوس يعلن أن معرفة الله هي هي استعلان ونوال قوته، لذلك يؤكِّد أنه بظهور
المسيح متجسِّداً ومصلوباً دخلت قوة الله ودخلت معرفة الله إلى عالم الإنسان بصورة
عملية، فمعرفة حقيقة وقوة الله التي دخلت العالم هي ثمرة استعلان المسيح ككلمة
الله والإيمان به، واستعلان الصليب كقوة خلاص الإنسان وفدائه من خداع الشيطان.

[يظنون
أن الإيمان بالمسيح غير معقول، هذا ما يتهمنا به الأُمم ويهزأون بنا من جهته، ويضحكون
علينا جدًّا مركّزين على صليب المسيح، وهنا
لا يسعُ المرء إلاَّ الإشفاق
عليهم لانعدام بصيرة عقلهم (غياب الكلمة)، لأنهم وهم يهزأون بصليب المسيح يتعامون
عن قوته التي ملأت العالم، الأمر الذي نتج عنه
معرفة الله بصورة ظاهرة للجميع
(أي
عملية).

لأنه
بالصليب قد اندثرت العبادة الوثنية كما تبدد سلطان الشيطان بعلامة الصليب،
وأصبح الله الآب معروفاً ومعبوداً بالمسيح.]([43])

 

ملخَّص الفصل التاسع

الإيمان والشهادة للمسيح

كفعلين متلازمين مع المعرفة عند القديس أثناسيوس

 

+
كليمندس الإسكندري هو أول مَنْ اعتبر الإيمان هو الشرط الأساسي والأَوَّلي لكل
معرفة في ما يختص بالله، معرّفاً الإيمان كأعلى مستوى للمعرفة.

+
أضاف القديس أثناسيوس عنصر التقوى لكي يكون الإيمان موصِّلاً للمعرفة.

+
المعرفة الصادقة لها شقَّان:

1
فعل استعلان من الله يؤثِّر في فكر الإنسان لقبول الخلاص الكامن في
معرفة المسيح ابن الله المخلِّص.

2
ورد فعل من الإنسان متقبِّلاً فعل الاستعلان وقابلاً للخلاص بمعرفة
المسيح في كل تقوى ووقار.

+
هناك ثلاثة أُسس للإيمان في رأي أثناسيوس:

الأول
أن الإيمان بالله، يسبق المسير نحوه،

والثاني
أن الإيمان بمكافأة مَنْ يطلبون الله، يسبق طلب الله.

والثالث
أن الإيمان الصحيح بالله، هو الإيمان بالواقع أو بالحال الكائن.

+
أيّ فعل إيماني من الإنسان نحو الله يسانده في الحال جذب روحي من الله ليعين
الإنسان في ضعف إيمانه.

+
الإيمان وإن جاء في البداية إلاَّ أنه يقوم أساساً على
قواعد التعليم الصحيح، فالمخلِّص أمر تلاميذه أن يعلِّموا أولاً ثم يعمِّدوا، حتى
يصير الإيمان الصحيح عن تعليم صحيح وبعد ذلك التقديس بالمعمودية.

+
الإيمان هو فعل نعمة لا يتوقَّف عند حد، لاكتشاف مزيد من المعرفة والاستعلان ولا
يكون بالاجتهاد وإنما هو تسليم رسولي بالروح القدس.

+
صلاة الإيمان الصحيح المستقيم هي الفعَّالة فقط في كل أسرار الكنيسة بالنسبة لمانح
السر ومتقبله.

+
الإيمان المتولِّد من عمل الله الداخلي في النفس هو الأفضل والأكثر دقة للحصول على
المعرفة من إيمان الجدل والمحاجاة؛ وهو الفعَّال والقادر على إعلان معرفة الله
والشهادة له، بينما إيمان الحجة والمنطق عاطل من كل هذا.

+
الإيمان بالمسيح يؤهِّلنا للاتحاد بالله بسكنى الروح القدس فينا.

+
إيماننا بالمسيح يؤدِّي إلى عبادته مدركين لاهوته كالآب تماماً، عابدين حضوره
الجسدي فهو «الله ظهر في الجسد» من أجل خلاصنا.

+
الإيمان الصحيح لا يقوم على فهم شخصي ولا على مشيئة أو إرادة خاصة ولا حسب الهوى
الشخصي في تفسير الكتب المقدَّسة، بل يقوم على تسليم الكنيسة الجامعة حسب الإيمان
الرسولي، وهو الذي يؤدِّي إلى المعرفة الصحيحة.

+
القصد من قانون الإيمان هو مواجهة الإيمان الخصوصي الذي يخترعه المبتدعون، من أجل
الحفاظ على التقليد، لكي يكون مقياساً معتمداً من الكنيسة الجامعة ليحدِّد وبصورة
قاطعة كل معنى يُستقرأ من أية آية إن كان منطبقاً على المفهوم التقليدي لقانون
الإيمان العام أم لا.

+
فقانون الإيمان هو التقليد، وهو الإنجيل؛ أي محصلة النظرة الإيمانية الشاملة
الواسعة التي تحتضن كل الإنجيل.

 +
وقانون الإيمان هو قانون التقوى، وقانون الصلاح وقانون الاستقامة.

+
الإيمان الصحيح بالمسيح لا يمكن أن يكمل بدون الشهادة والاعتراف العلني بهذا
الإيمان. وهذا هو سر التقوى، وأمان المعرفة الصحيحة.

+
عدم الإيمان بالمسيح إلهاً آتياً في الجسد ينشيء جهالة مميتة لقدرة الإنسان من نحو
الاتصال بالله ومصالحته.

+
معرفة الله هي استعلان ونوال قوته التي ظهرت في المسيح كلمة الله متجسِّداً
ومصلوباً وقائماً من بين الأموات.



اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى