علم المسيح

نبي



نبي

نبي

: وكان
ذاك الرجل يدعى يوحنا- وهو من الأسماء التي كانت ذائعة جدّاً، آنذاك، في اليهودية
ومعناه

.
” حنان لله “. وكان يلقب بالمعمدان بسبب المعمودية التي، كان ينادى بها.
وقد التصق به ذاك اللقب بحيث أصبح، نوعاً ما، اسمه الحقيقي

 

. ولا
شك أن حنان الله كان قد اعتلن بوجه فريد، إذ جاء مولد يوحنا آية من تلك الآيات
التي ألف الله إجراءها للتعريف بأوليائه الصالحين: نفس تلك الآية التي حظي بها
إبراهيم يوم ولدت له سارة- وهي في التسعين من عمرها- إسحاق ابنه.. فقد كان والداه،
زكريا وأليصابات، يدلفان إلى الشيخوخة في ذاك الجوّ من الكمد والخزي الذي كان يسود،
في إسرائيل، الأسَرَ العقيمة، وإذا بنعمة الله قد استقرّت عليهما

 

. لقد
كانا كلاهما من قبيلة الكُهّان، من سبط لاوي. وكان الكهّان المنحدرون من ذرّية
هارون، موزّعين إلى أربعة وعشرين فرقة تضم كل منها من مائتين إلى ثلاث مائة فرد.
وكان على كل فرقة، بالتناوب، أن تقوم بخدمة الهيكل، أسبوعاً كاملاً، من السبت إلى
السبت، فتقدّ م البخور، وتنحر الذبائح، وتزوّد السُّرُج بالزيت، وتجدّ د خبز
التقدمة، وتنهض بجميع المهامّ المقدّسة المبيّنة في الفصل 24 من ” سفر
الاويين “. وكان زكريا من فرقة أبياّ، وهي الفرقة الثامنة

 

. وإذ
حانت نوبة فرقته في تأمين خدمة الهيكل، وقعت القرعة على زكريا لتقديم البخور-
وكانوا يعمدون إلى القرعة دائما في تعيين مثل تلك الوظائف – فكان عليه أن يمثْلُ،
كل يوم، مرّتين، أمام مذبح البخور، في وحدة المحراب، وراء حجاب يحجبه عن أنظار
المصلّين في الخارج، ويرفع إلى الحضرة الإلهية، مع دعائه، البخور المقدس

 

. وإذ
كان في أداء خدمته، ظهر له ملاك الرب فجأة، واقفاً بالقرب منه، إلى يمين المذبح.
” فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف، فقال له الملاك: لا تخف يا زكريا، لأن
طلبتك قد سمعت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتسميه يوحنا، ويكون لك فرح وابتهاج،
وكثيرون سيفرحون بولادته، لأنه بكون عظيماً أمام الرب، وخمرا ومسكرا لا يشرب، ومن
بطن أمه يمتلئ من الروح القدس ” (لوقا 1: 12- 15)

 

ثم
بّين له الملاك أن ذاك الولد المنذور لله يجب أن يخضع للفرائض التي كان يأخذ بها
” المنذورون “، في ذاك العهد، فلا يشرب خمراً ولا مسكراً، وأنه ”
سيمتلئ من الروح القدُس وهو بعد في بطن أمهّ، فيسير أمام الله بروح إيليّا، ويهيئ
للرب شعباً مستعداً “. لقد كان لتلك الكلمات، على حدّ ما نطق بها الملاك، في
قلب يهوديّ متضلعّ من علم الكتاب المقدّس، معانٍ أشدّ روعة منها في قلب أيّ إنسان
آخر: “سوف يردّ قلوب الآباء إلى البنين.. ” أجل! لقد استعاد زكريا ذكرى
تلك الأقوال التي أنبأ فيها ملاخي النبي بمجيء سابق المسيح، ” إيليّا الجديد
“، الذي كان لا بدّ أن يمهّد بحياته، سبيلاً إلى ” يوم الرب العظيم
الهائل ” (ملاخي 3، 4)

 

. بيد
أن زكريا قي غمرة اضطرابه وتذبذبه في تصديق تلك البشرى، التمس من مخاطبه علامة: ”
كيف أعلم هذا، لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها. فأجاب الملاك وقال: أنا
جبريل الواقف قدام الله وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا، وهاأنت تكون صامتاً ولا تقدر
أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته..
” لقد كان إبراهيم (تكوين 5 1: 8)، وجدعون (قضاة 6: 36)، وحزقيال (2 ملوك 20:
8)، هم أيضا قد التمسوا من العليّ آيات ولم يعاقبوا!.. كان ينبغي -ولا شك -أنُ
يحوّط بالصمت الكامل، السًر الذي بات وشيكاً

 

. ثم
عاد زكريّا إلى قريته (وهي، بحسب التقاليد، قرية عين كارم، على مسافة 7 كيلومترات
جنوبي غربيّ أورشليم)، وظلّ ينتظر فيها صامتاً. وبعد أيام حبلت امرأته، فاختبأت
خمسة أشهر، ثم إذ ظهر ما من اللّه به عليها ظهوراً بيّناً، خرجت تشيد بحمد اللّه

 

.
ولمّا تمّت أيام وضعها، ولدت غلاماً، فأخذ الجيران والأقارب يشاطرونها الفرح، وقد
علموا الرحمة الكبرى التي كان الفتى مصداقا لها. وفي اليوم الثامن جاءوا ليختنوا
الصبيّ. أوَ يسمّونه، باسم أبيه زكريّا؟ فأجابت أمه وقالت: ” لا، بل يدعى
يوحنا “. فقالوا لها: ” ما من أحد، في عشيرتك، يدعى بهذا الاسم “.
وكانت العادة، في إسرائيل، أن يسمىّ البكر باسم جدّه أو أحد أسلافه. وكان الوالد
الأبكم، ساعتها، في ركن من البيت، يومئ بشيء يقوله. فأتوه بلوح، فكتب: “اسمه
يوحنا”. وفي الحال انفتح فمه، وانطلق لسانه، وامتلٌأ من الروح القدس، وأخذ
يتنبّأ قائلاً: ” مبارك الرب إله إسرائيل، لأنه افتقد شعبه، وصنع فداء لشعبه،
وأقام لنا قرن خلاص، في بيت داود فتاه، كما تكلم بفم أنبيائه القديسين، الذين هم
منذ الدهر.. وأنت أيها الصبيّ، نبيّ العليّ تدعى، لأنك تتقدم أمام وجه الربّ، لتعُدّ
طرقه، ولتعطي شعبه معرفة الخلاص، بمغفرة خطاياهم.. ليضيء للجالسين في الظلمة وظلال
الموت ” (لوقا ا: 75-80)

 

. ذاك
الرجل ا (ذ ي راحت الجموع تزدحم حوله، عند المعبر، كان هو نفس ذاك الطفل المصطفى.
ولا شك أنه كان قد نشأ في ” القفر “، أي في إحدى تلك الجماعات الرهبانية
التي كانت تقيم في بجوار البحر الميّت، والتي كانت، في الواقع، تعنى بتنشئة بعض
الفتيان. ثم إنه لبث بعد ذلك، في القفر، ناسكاً أكثر منه راهباً على ما يبدو.
وببضعة أشهر قبل بدء الأحداث التي يرويها الإنجيل – وكان له من العمر زهاء ثلاثين
سنة – ترك العزلة والصمت وراح يكرز بكلمة اللّه. وصادف كلامه، قي الناس، إقبالاً
سريعاً. ولا غرابة في ذلك، فقد كان الشعب اليهودي بأقصى الشوق إلى استماع أقوال
كانت قد غربت عن ذهنه

 

. ليس
من العسير أن نتمثل ذاك الرسول وقد هبّ ينذر بالعدالة الإلهية وينادي بالتوبة. إنه
يبدو، ولا شك، مستغرقاً في سني المسيح، لا يحتلّ، من الكتاب المقدّس، سوى محلّ
عابر. بيد أنه مع ذلك، يوحي بحقيقة واقعة إيحاء فريداً. فإن وجوده ورسالته هما من
الصحة التاريخية بحيث لا يرقى إليهما أي شك. وقد شهد لهما افلافيُوس يوسيفوس
(المؤرخ اليهودي الشهير) نفسه، فضلاً عن الروايات الأربعة للإنجيل

 

. أجل،
لم يكن ممن نالوا الإعجاب، فالمقرّعون ما كانوا من أهل الإعجاب إلا نادراً. كما
أنه لم يكن ليملك شيئاً من الظرف، فذاك النبيّ المجلجل، وذاك النذير العنيف الناطق
بوعيد اللّه وسخطه. ولكنه كان من الرجال الرجال: له عزم لا ينثني، وشغف بالمطلق
يسمو به فوق ذاته، نار في قلبه لن يوفّق أحد في إخمادها، ولن ينجع في حبس لسانه
إلاّ قطع رأسه. لا! لم يكن ” قصبة في مهبّ الريح! “. ولسوف يشهد له
المسيح نفسه أن ” لم يقم، في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمدان ”

 

. هوذا
الرجل، بعظامه الناتئة، وإهابه الملطعّ بالأصوام ولسعات الشمس.. إنه لا يني عن
الكلام، تدفعه إليه قوّة الروح القدس. وأماّ ما يقوله فهو أقلّ ما يحب الناس سماعه:
” التوبة!.. التوبة!.. “. ينبئ بالكوارث المروّعة، غير مكترث لما تقتضيه
الأعراف والأوضاع. وكان يقول للجموع الآتية لسماعه: ” من أراكم أن تهربوا من
الغضب الآتي، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة. ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا
إبراهيم أباً. لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً
لإبراهيم. والآن وضعت الفأس على أصل الشجر. فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع
وتلقى في النار ” (لوقا 3: 7-9) حتى الملك هيرودس أنتيباس – وكاد المعمدان
مقيماً في ولايته – لم ينجُ من تقريعه. وقد بكَّته المعمدان جهراً بامرأة أخيه
التي كان قد تزوّجها سفاحاً. ألم يكن أشعياء وإرمياء قد أنذرا، قديماً، بأيّام
الغضب؟ أو لم يكن ناثان النبي قد تجرّأ على المثول أمام داود الملك وفضح جريمته؟
أو لم يكن إيليا قد جابه آخاب وسخط إيزابيل الهائل؟

 

كان
لباس يوحنا-على ما جاء في إنجيلي مرقس ومتى – من وبر الإبل، وعلى حقويه منطقة من
جلد. وكان طعامه الجراد وعسل البرّ “. هذا الوصف الخارجي يكمّل ما نعرفه عن
الرجل. وهو أقلّ غرابة مما يبدو لأوّل وهلة. فأمّا العسل – وهو من نتاج النحل
البرّي – فإنه كثير في وادي الأردن، ونجد ذكره مراراً في صفحات العهد القديم.
وأمّا أكل الجراد فما هو بأكثر غرابة من أكل الضفادع والبزّاق في كثير من البلدان.
وكان ” سفر الاويين ” يبيح أربعة من أصنافه المأكولة (لاويين 11: 22)؛
وفرائض الرهبان الأسينيين، في قمران، تأمر بأكله مشوياً. وهناك بدو يتخذون، حتى
اليوم، من الجراد، أصنافا مكتنزةً، صفراء بنفسجيّة، يجففونها في الشمس كالزبيب، أو
يسحقونها دقيقا لتتبيل الأطعمة. وهناك من يحفظونها في الخلّ.. وأمّا لباس المعمدان،
فكفى به دلالة على مهمّة صاحبه. أوَ لم يكن إيليا قد ظهر بنفس اللباس؟ ” رجلٌ
عليه شعر متنطّق. ممنطقة من جلد على حقويه ” (2 ملوك ا: 8)

 

! لقد
كان المعمدان إذن نبيأَ، واحداً من ذرّية أولئك الملهمين العظام الذين حافظوا، مدة
خمسة قرون، على شعلة المحبة الإلهية في قلوب بني إسرائيل. ولذلك فقد كانت الأمة
اليهودية متأهبة لأن تستمع إلى كلامه، وتأنس فيه صوتا جديداً وأليفاً في آن واحد.
وأمّا أن تنقاد لكلامه فذلك شأن آخر. ولكم من مثل شهود الله هؤلاء قد قضوا بحد
السيف

 

!
فالمعمدان، باستشهاده أيضاً، سوف ينضم إلى تلك السلالة النبوية الحقة، على حد ما
صرح به المسيح يوم قال: ” كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا ” (لوقا 16: 16).
أجل! لقد كان ذاك الرجل الذي راح يكلم الناس، عند ضفاف الأردن، رسولاً من رسل الله
الصادقين، وحلقه في تلك السلسلة المقدسة، سلالة الشاهدين لله، في إسرائيل. وكانت
تلك الحلقة هي الأخيرة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى