علم

المناظرة العشرون



المناظرة العشرون

المناظرة
العشرون

ثمار
التوبة وعلامات الصفح للأب بينوفيوس

 

1-
مقدمة

 الآن
إذ أروى لكم تعاليم الأب بينوفيوس، الرجل العظيم الممتاز، بخصوص غاية التوبة، أظن
أنه يمكنني أن أتغاضى عن الكثير من مادة هذا الموضوع… حتى لا يمل القارئ. إني أصمت
هنا عن مديحي تواضع الأب بينوفيوس، إذ سبق لي الحديث عنه باختصار في كتاب
المؤسسات[1] تحت عنوان “قوانين خاصة بالنساك”…

كان
هذا الرجل رئيسًا كأب وقس على مجمع رهبان عظيم قريب من مدينة أينفو[2]
Panéphysis التي قلنا أنها بمصر، وكانت المقاطعة كلها تمجده جدًا من أجل
تقواه والمعجزات التي تتم على يديه، وكان يرى في نفسه أنه بهذا ينال أجرة أعماله
في مديح الناس. وإذ خشي المديح العام الفارغ، الذي كان ينبذه، لئلا يفقد ثمار
الجزاء الأبدي، هرب من ديره سرًا وذهب إلى مكان منعزل بعيد في دير طبانسين[3]. لم
يخترْ المضي إلى الصحراء الموحشة حيث الوحدة والبعد عن اهتمام الآخرين الخاصة
بالمتوحدين، هذه الحياة التي قد يلجأ إليها بعض الأحيان غير الكاملين وغير
القادرين على احتمال الطاعة لجميع الرهبان مدفوعين بكبرياء التوحد، بل اختار لنفسه
أن يخضع في دير مشهور.

على
أي الأحوال ارتدى زي علماني متخفيًا، وهناك ارتمى أمام باب الدير وهو يبكي بدموع
لمدة أيام كثيرة، كما كانت العادة هناك، طالبًا أن يقبلوه. وكان ينحني أمام الجميع
ليقبلوه، لكنهم كانوا يرفضونه ناظرين إليه أنه رجل مسن جدًا لا يطلب الحياة
المقدسة بإخلاص إنما من أجل العوز.

أخيرًا
قبلوه، وجعلوه يساعد أخًا حديثًا في الرهبنة يعتني بشئون الحديقة. فكان ينفذ أوامر
رئيسه باتضاع عجيب مقدس، عاملاً بأمانة في كل ما يُعهد إليه به. وكان يقوم بالليل
ليعمل خفية بعض الأعمال الأخرى التي كان الاخوة يشمئزون منها أو يستثقلونها.
وكانوا إذا قاموا في الفجر يبتهج الجميع من أجل الأعمال التي قد تمت دون أن يعلموا
من الذي كان يصنعها.

قضى
ثلاث سنوات على هذا الحال وهو مبتهج بهذه الخدمات والأعمال… حتى حدث أن جاء أخ
من نفس المنطقة التي كان يعيش فيها الأب بينوفيوس. رآه الأخ وتردد إلى حين في
التأكد من شخصه، وذلك بسبب حقارة ملابسه ومنظره، لكن إذ تفرس فيه قليلاً سقط عند
قدميه وصار يقبِّله.

اندهش
الاخوة جميعهم من هذا الأمر، وإذ أخبرهم الأخ عن اسمه الذي ما أن سمعوه حتى عرفوه
لأن قداسته كانت ذائعة، للحال أُصيبوا بأسف وندامة من أجل ما أسندوا إلى هذا
الكاهن الفاضل من خدمات حقيرة كهذه، فالتفوا به وصاروا يبجلونه. أما هو فكانت
دموعه تذرف بغزارة، ناسبًا أن هذا الإفشاء إنما بسبب حسد الشيطان له. (اضطر أن
يعود إلى ديره).

بقي
على هذا الحال إلى وقت قصير، وبسبب عظمة الاحترام الذي قدموه له اضطر أن يختفي
مبحرًا إلى مقاطعة فلسطينية في سوريا، وذهب كمبتدئ في الرهبنة في الدير الذي كنا
نعيش فيه، وقد عهد إليه مدبر الدير أن يمكث في قلايتنا. ولم تمض فترة قصيرة حتى
انكشفت فضائله، إذ ظهرت شخصيته بنفس الطريقة السابقة، وعاد إلى ديره بتبجيل
واحترام.

 

2-
مجيئنا إليه

بعد
وقت قصير وليس بطويل إذ دفعنا شوقنا لزيارة مصر للتمتع بالتعليم المقدس بحثنا عنه
بشغف…، فاستقبلنا بترحاب ولطف، إذ كنا قبلاً شركاء معه في نفس القلاية، وقد
استضافنا في قلايته التي بناها في أقصى الحديقة. هناك في حضرة الاخوة أثناء الخدمة
سلم لأحدهم، الذي كان خاضعًا لقانون الدير، قوانين غاية في السمو وشديدة الصعوبة،
هذه التي لخصتها بإيجاز قدر المستطاع في الكتاب الرابع من “المؤسسات”.
هذه القوانين غاية في العلو، حتى ظهر لنا أنه يصعب على من هم قطيع ضعيف مثلنا أن
يرتقي إليها… لهذا صرنا في يأس ولم تستطع ملامح وجوهنا أن تخفي مرارة أفكارنا
الداخلية.

رجعنا
إلى الشيخ الطوباوي بقلب قلق، وإذ سألنا عن سبب حزننا الشديد، تنهد الأب جرمانيوس
بعمق وأجاب قائلاً:

 

3-
سؤال بخصوص غاية التوبة وعلامات الصفح

 بما
أنك تعرض لنا مبدأ جديدًا يفتح أمامنا طريقًا أكثر مشقة نحو التجرد الكامل…
ويظهر لنا ذروته مرتفعًا في السموات، فنحن نرى أنفسنا مطروحين بثقل كبير من اليأس.
لأنه حينما نقارن جهلنا بارتفاع الفضيلة التي لا حد لها، نشعر بأننا ضعفاء بهذا
المقدار بحيث أننا ليس فقط لا نستطيع الوصول إليها بل يزداد إيماننا بتقصيرنا،
وهذا يدفعنا إلى السقوط إلى أعماق اليأس. لكن يوجد لنا سند واحد وحيد يقدر أن يشفي
جراحاتنا، وهو أن تعلمنا شيئًا عن غاية التوبة وخاصة علامات الصفح عنا، حتى نشعر
بتأكيد غفران خطايانا الماضية، بهذا يمكننا أن نحرص على تسلق مرتفعات الكمال
السابق وصفها.

 

4-
بينوفيوس

إنني
في الحقيقة مسرور لثمار اتضاعكم الوفيرة التي حصلتم عليها، الأمر الذي لمسته
سابقًا لما كنت ساكنًا في قلايتكم في بيت لحم، وإنني مسرور جدًا للقائكم، واذكرلكم
بأن كلماتي ليست مهمة بالدرجة التي تستحق مزيد اهتمامكم بها، لكنكم أنتم بهذا
تخفون مزايا فضائلكم كما لو كنتم على غير علم بشيء عن الأمور التي تحدثت لكم عنها
والتي تمارسونها يوميًا. هذا أمر يستوجب جزيل الثناء أن تقرروا أن تعاليم القديسين
لا تزال غير معلومة لكم كما لو كنتم مبتدئين. ويلزمنا إطاعة أوامر أصدقاء مرتبطين
بنا بصداقة قديمة مثلكم، ولو كانت الأوامر تفوق طاقتنا وقدرتنا.

لقد
عالج الكثيرون موضوع قيمة الندامة وقوتها اللطيفة، لا عن طريق الوعظ فحسب، بل
وبالكتابة، مظهرين كيف أنها نافعة وقوية ومملوءة نعمة، حتى أن اللَّه عندما يغضب
علينا من أجل خطايانا ويوشك أن يجلب علينا عقابًا عادلاً من أجل ما ارتكبناه من
شرور كهذه، فإن التوبة بطريقة ما، إن صح لي هذا القول من غير أن أخطئ التعبير،
تمنعه وتصد يد العقاب…

أعرف
أن هذا الأمر معلوم لكم سواء بقدرتكم على الاستنباط، أو من دراستكم التي لا تكل
للكتب المقدسة…

أخيرًا،
إنكم شغوفون لا أن تتعرفوا على صفات التوبة، إنما عن غايتها وعلامات الرضى، وهكذا
بسؤالكم المملوء حكمة تطلبون ما غفل عنه الكثيرون.

 

5-
لكي ما اشبع رغبتكم وطلبكم باختصار وإيجاز قدر المستطاع، فإن الوصف الكامل التام
للتوبة هي عدم الخضوع مرة ثانية للخطايا التي نقدم عنها ندامة، أو التي قد تبكّت
ضميرنا من جهتها. لكن دليل الرضى وصفح الرب عن ذنوبنا هو أن نكون قد وصلنا إلى
مرحلة نلفظ فيها محبة الخطايا من قلوبنا. لأنه يلزم أن يتأكد كل إنسان أنه للآن لم
يتحرر من خطاياه السابقة طالما يمكن لأية صورة من صور تلك الخطايا التي ارتكبها أو
ما يشبهها تتراقص أمام عينيه. وإنني لا أقول التلذذ بالخطايا، لكن حتى مجرد
تذكارها[4] يزعج أعماق النفس بينما يكرس نفسه للدموع والتخلص منها.

من
أجل هذا فإن الإنسان لا يشعر أنه أصبح حرًا من خطاياه وأنه قد نال الصفح عن أخطائه
السابقة عندما يحس أن قلبه يهتز ويضطرب لإغراء هذه الخطايا وتصورها. لذلك فإن أصح
اختبار لمعرفة ما إذا كنا تائبين، ومعرفة شهادة العفو عنا، نجدها في ضمائرنا الآن
قبل يوم الدينونة، ونحن في هذا الجسد يظهر لنا تحررنا من الخطأ ويتبين لنا نعمة
الصفح. وإن ما قلناه يمكن التعبير عنه باختصار بأن ماضي خطايانا الملوث يكون قد
ابيضت صفحاته، عندما تكون مسرات هذا الزمان وشهواته قد فارقت قلوبنا.

 

6-
سؤال: كيف تطالبنا بعدم تذكر خطايانا؟

جرمانيوس:
كيف تكون فينا هذه التوبة المقدسة السليمة النابعة عن الاتضاع، والتي وصفت في شخص
التائب هكذا: “أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي. قلت أعترف للربّ بذنبي”،
وبهذا يمكننا أن نقول ما جاء بعد ذلك: “وأنت رفعت اَثام خطيتي” (مز5: 32،6)؟
أو كيف تأتينا دموع الاعتراف عندما نركع في الصلاة، لنستعطف الرب وننال الصفح عن
خطايانا كالقول التالي: “أعوّم في كل ليلة سريري وبدموعي أبلّ فراشي”
(مز6: 6)، إذ طردنا عنا كل تذكر للخطايا مع أننا على العكس نحن مطالبون بتذكرها
كقول الرب “وخطاياك لا أذكرها ذَكّرِني (أذكرها أنت)” (إش25: 43،26)،
بينما نستطيع ليس فقط في وقت عملنا، بل وإذا نهضنا للصلاة أن نسترجع إلى أذهاننا
خطايانا متذكرينها لكي ما يصير لنا اتضاع حقيقي وانسحاق قلب ونجرؤ على القول مع
النبي: “أنظر إلى ذلّي وتعبي واغفر جميع خطاياي” (مز18: 25)؟!

 

7-إلى
أي مدى نحتفظ بتذكر الخطايا؟[5]

 بينوفيوس:
إن سؤالك الذي عرضته قبلاً، لم يكن بخصوص صفات التوبة بل غايتها وعلامات الرضى،
والذي، كما أظن، أنه قُدمت لك عنه إجابة سديدة. أما ما قلته عن تذكر الخطايا، فإنه
فعلاً مفيد جدًا ولازم لمن بدأوا في التوبة حتى أنهم بقرعهم المستمر على صدورهم
يقولون: “لأني عارف بإثمي وخطيتي أمامي في كل حين” (مز 3: 51)، وأيضًا: “لأنني
أخبر بإثمي” (مز 18: 38). ففي أثناء توبتنا، إذ لانزال حزانى بتذكرنا
لخطايانا الماضية، فإن انسكاب دموعنا الذي يحدث باعترافنا بالخطية تخمد نار
ضمائرنا.

لكن
بينما يكون الإنسان في انكسار قلب وانسحاق روح، مع استمرار الجهاد والبكاء، إذ
بالنعمة الإلهية تلاشي تذكر الخطايا السابقة وتنزع وخزات الضمير عنها. هنا يكون
واضحًا أنه قد نال غاية الرضى ومكافأة العفو، واُنتزعت منه وصمات الخطايا التي
ارتكبها. عندئذ يمكننا أن نصل إلى نسيان الخطية وذلك بإزالة آثار الخطايا والرغبات
القديمة مع نقاوة القلب وكماله.

هذه
الحالة لا يصل إليها الكسالى والمتهاونون الذين فشلوا في نوال المغفرة عن خطاياهم،
إنما يصل إليها من استمروا في التنهد والتأوه بحزن لأجل إبادة كل آثار الخطايا،
فبصلاح قلوبهم مع جهادهم يعلن كل منهم للرب: “أعترف لك بخطيتي ولا أكتم
إثمي” (مز5: 32). ويقول: “صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلاً” (مز
3: 42). فيُوهب له في النهاية أن يسمع هذه الكلمات: “امنعي صوتكِ عن البكاءِ
وعينكِ عن الدموع، لأنهُ يُوجَد جزاء لعملكِ يقول الرب” (إر 16: 31). ويقول
له الرب: “قد محوت كغيمٍ ذنوبك وكسحابةٍ خطاياك” (إش22: 44). وأيضًا: “أنا
أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها” (إش25: 43). وهكذا إذ
يتحرر من رباطات خطاياه التي ربط الكل بها يشكر الرب مسبحًا: “حللتَ قيودي،
فلك أذبح ذبيحة حمدٍ” (مز 16: 116، 17).

 

8-
ثمار التوبة

بعد
نعمة المعمودية المعروفة للجميع وتلك العطية العظمى التي للاستشهاد التي هي الحميم
بالدم، توجد ثمار كثيرة للتوبة التي بها يمكننا أن نقلع عن خطايانا. إن الخلاص
الأبدي ليس موعودًا به بالتوبة عن الخطايا حسبما يقوله الطوباوي بطرس الرسول: “فتوبوا
وارجعوا لتُمحَى خطاياكم” (أع 19: 3)، وحسبما قاله يوحنا المعمدان والسيد
المسيح نفسه: “توبوا لأنهُ قد اقترب ملكوت السماوات” (مت 2: 3)، لكن
أيضًا ينبغي أن تكون مقرونة بأعمال المحبة، لأن “المحبَّة تستر كثرةً من
الخطايا” (1بط8: 4). هكذا نجد الشفاء لكل جراحاتنا نتيجة لثمار التوبة
كالصدقات وأفعال الرحمة. لأنه كما يقول الكتاب المقدس: “كما أن الماء يطفئ
الحريق كذلك الدموع تغسل خطايانا” (ابن سيراخ 33: 3)، وأيضًا “أعوّم في
كل ليلة سريري وبدموعي أبلّ فراشي” (مز6: 6).

أخيرًا
لكي تعلم أن هذه الدموع لا تُذرف عبثًا يقول: “ابعدوا عنّي يا جميع فاعلي
الإثم، لأن الربَّ قد سمع صوت بكائي” (مز8: 6). أيضًا بالاعتراف تُمحى
خطايانا كقول المرنم: “أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي. قلت أعترف للربّ بذنبي
وأنت رفعت آَثام خطيتي” (مز5: 32). ومع انسحاق النفس والجسد فإننا نفوز
بمغفرة خطايانا أيضًا لأنه يقول: “أنظر إلى ذلّي وتعبي وأمح كل آثامي”
(مز18: 25). بالأخص عندما نغير طرقنا القديمة لأنه يقول: “اعزلوا شرَّ
أفعالكم من أمام عينيَّ، كفُّوا عن فعل الشر، تعلَّموا فعل الخير، اطلبوا الحق،
انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة. هلمَّ نتحاجج يقول الرب، إن كانت
خطاياكم كالقرمز تبيضُّ كالثلج، إن كانت حمراءَ كالدودي تصير كالصوف” (إش16: 1-18).

كذلك
صلوات القديسين تنفع في أن يغفر الرب لنا خطايانا كقول الرسول: “ان رأَى أحد
أخاهُ يخطئُ خطيةً ليست للموت يطلب فيعطيهِ حيوةً للذين يخطئُون ليس للموت، تُوجَد
خطية للموت، ليس لأجل هذه أقول أن يطلب” (1يو16: 5). ويقول أيضًا: “أَمريض
أحد بينكم فليدعُ قسوس الكنيسة فيصلَّوا عليهِ ويدهنوهُ بزيتٍ باسم الرب، وصلوة
الإيمان تشفي المريض، والرب يقيمهُ، وإن كان قد فعل خطيَّةً تُغفَر لهُ” (يع
14: 5،15).

أيضًا
مع الرحمة والإيمان تمحى الذنوب، إذ “بالرحمة والحق يُستَر الإثم” (أم 6:
16). وكثيرًا ما يكون ذلك بواسطة شوقنا وسعينا وتعبنا نحو خلاص الذين خلصوا
بإنذاراتنا ووعظنا، كقول الكتاب: “فليعلم أن مَنْ ردَّ خاطئًا عن ضلال طريقهِ
يخلّص نفسًا من الموت، ويستر كثرةً من الخطايا” (يع 20: 5).

وفضلاً
عن ذلك بصفحنا عن ذنوب الآخرين ومسامحتهم ننال الصفح عن خطايانا كالقول: “فإنهُ
إن غفرتم للناس زلاَّتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي” (مت 14: 6).

 نعرف
مما تقدم أنه عديدة هي الوسائل التي ننال بها مغفرة خطايانا، حتى أنه ما من أحد
يشتاق نحو خلاص نفسه يتطرق إليه اليأس، لأنه يرى أنه مدعو للحياة بأدوية كثيرة هذا
عددها!

إذا
كنت تحتج أنه بالنسبة لضعف الجسد لا تستطيع أن تتخلص من خطاياك بممارسة الصوم، ولا
تستطيع أن تقول مع المرتل داود: “ركبتاي ارتعشتا من الصوم ولحمي هزل عن
سِمَنٍ” (مز 24: 109)، ولا أن تقول أيضًا معه: “إني قد أكلتُ الرماد مثل
الخبز ومزجتُ شرابي بدموعٍ” (مز 9: 102)، إذن عِوض هذا استبدله بجزيل الصدقات.

إذا
لم يكن لديك شيء لتقدمه للمحتاجين (ولو أن العوز والفقر لا يعفي المرء من التصدق)
إذ أن السيد المسيح مدح فلسي الأرملة الفقيرة أكثر من العطايا الكبيرة التي قدمها
الأغنياء، والسيد المسيح ذاته وعد أنه لن يضيع أجرة من سقى كأس ماء بارد، فإنك
تستطيع على الأقل أن تطهر ذاتك عن طريق تغيير حياتك وإصلاحها وتقويمها. وإذا لم
تستطع أن تحوز الكمال في الصلاح باستئصال جميع أخطائك، تستطيع أن تظهر الشوق
المقدس والاهتمام بالعمل لخير وخلاص الآخرين.

إذا
كنت تحتج بأنك لست كفئا للقيام بهذا الأمر تستطيع أن تستر خطاياك بإشعال المحبة في
قلبك نحو الآخرين. وإذا كنت بالنسبة لهذا أيضًا نتيجة كسل واسترخاء العقل تكون
ضعيفًا، على الأقل ينبغي أن تتضع وتنسحق أمام اللَّه وتسعى لعلاج جراحاتك بالصلوات
وبشفاعات القديسين.

أخيرًا
من هو الإنسان الذي لا يستطيع أن يعترف قائلاً: “أعترف لك بخطيتي ولا أكتم
إثمي”[6]، ثم يردف قائلاً: “وأنت رفعت أَثام خطيتي” (مز5: 32).
ليته لا يتوقف اعترافك في اتضاع كامل: “أنا عارف بإثمي وخطيتي في كل
حين”. وأيضًا: “إليك وحدك أخطأْتُ والشرَّ قدام عينيك صنعتُ” (مز4:
51).

فضلاً
عن ذلك فإنه في مقدرتنا بإرادتنا أن نصفح عن خطايا الآخرين، عندئذ يصفح الرب عن
زلاتنا كما نطلب إليه في الصلاة الربانية: “اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن
أيضًا للمذنبين إلينا”، من أجل ذلك فإن كل من يرغب في مغفرة خطاياه عليه أن
يعد نفسه بهذه الوسائط.

ليتنا
لا ندع قلوبنا تتقسى وتبتعد عن العلاج الخلاصي وعن مصدر الخيرات. لأنه إن فعلنا كل
هذه الأمور فإنها ليست كافية لرسوخ أقدامنا على صخرة التوبة ما لم تُمح خطايانا
بواسطة مراحم الرب الذي عندما يرى مجهوداتنا المقدسة التي نقدمها بقلب متضع يسند
ضعفاتنا وأتعابنا بجزيل فضله وإنعامه، ويقول: “أنا أنا هو الماحي ذنوبك…
وخطاياك لا أذكرها” (إش25: 43). إذن كل من يهدف إلى هذه الحالة التي ذكرناها،
فإنه سيبحث عن نعمة الصفح مستخدمًا الصوم يوميًا، وقمع شهوة القلب والجسد، لأنه
مكتوب “بدون سفك دمٍ لا تحصل مغفرة” (عب22: 9). هذا لم يقله بغير سبب
لأن “لحمًا ودمًا لا يقدران أن يرثا ملكوت الله” (1كو50: 15). فإن
الإنسان الذي يصد “سيف الروح الذي هو كلمة اللَّه” (أف17: 6) عن سفك
الدم بالتأكيد يسقط تحت اللعنة التي أعلنها ارميا قائلاً: “ملعون من يمنع
سيفهُ (الكتاب المقدس) عن الدم” (إر10: 48) إذًا لنفعنا يُسفك الدم الفاسد
الذي لمادة خطايانا. هذا هو السلاح الذي يقطع وينقي كل أمر شهواني وأرضي ينمو في
نفوسنا. إنه يجعل الناس يموتون عن الخطية ويعيشون لله ويزدهرون بالفضائل الروحية.

من
أجل هذا لا يعود أحد يبكي لأجل تذكار الشرور السابقة لكن لأجل الرجاء الذي سيأتي،
وإذ لا يفكر في خطاياه الماضية بأقل من ترجي الصالحات التي سوف تأتي فإنه يسكب
الدموع ليس من أجل الحزن عن الخطايا، لكن من أجل الفرح في السعادة الأبدية
المرتقبة، وينسى ما هو وراء، أي الخطايا الشهوانية، كما يقول بولس الرسول: “أنسى
ما هو وراءُ وأمتدُّ إلى ما هو قدَّام” (في13: 3)، أي إلى المواهب والفضائل
الروحية.

 

9-
فائدة نسيان الخطية للكاملين (نسبيًا)

أما
بالنسبة لما قلته منذ قليل، أنه بسبب هدف موضوع أمامك لا تريد أن تذكر خطاياك
السابقة مرة أخرى، فبالتأكيد يلزم ألا تذكرها، إلا إذا باغتتك بغير إرادتك، فللحال
أطردها فإنها تحرم الروح بقوة عن التأمل النقي، خاصة بالنسبة للمتوحد، فهي تعرقله
في وصمات هذا العالم وتغرقه في الخطايا النجسة. فبينما تتذكر الأمور التي كنت
تصفها في جهل وطيش… فإنه حتى وإن كنت في تذكرك لها لا تشعر بلذة، فلا أقل من أن
عفونة النجاسات تفسد روحك برائحتها الكريهة وتبطل أريج رائحة الحياة الصالحة، أي
رائحة الطيب الذكية.

عندما
تخطر بذاكرتك الخطايا السابقة، اهرب منها كما يهرب الإنسان البار الشريف متى وجد
امرأة عاهرة شريرة تطلبه في الطريق العام بواسطة حديثها معه أو تقبيلها إيَّاه.
فإنه إن لم يهرب منها للحال، متباطئًا في الحديث معها بأحاديث مشوبة، فإنه وإن رفض
التمتع باللذة المعيبة إلا أنه لا يقدر أن يتجنب احتقار العامة له ونظرات السخرية
المتسلطة عليه. هكذا نحن أيضًا، بتذكرنا المهلك هذا نسقط في أفكار كهذه. لهذا
يلزمنا أولاً أن نمتنع عن التمسك بها، منفذين وصية سليمان القائل لا نذهب إلى هناك
ولا نبطئ في مكانها، ولا نثبت نظرنا عليها، لئلا عندما ترانا الملائكة المارة بنا،
أننا مشغولين بأفكار نجسة، فلا تقدر أن تقول لنا: “بركة الرب عليكم” (مز
8: 129). فإنه يستحيل أن يستمر الفكر مشغولاً في الأمور الصالحة، إن كان النصيب
الأكبر من القلب غارقًا في تأملاته الأرضية الشريرة. لقد حق قول سليمان: “عيناك
تنظران الأجنبيات، وقلبك ينطق بأمور ملتوية. وتكون كمضطجع في قلب البحر أو كمضطجع
على رأس سارية. يقول “ضربوني ولم أتوجع. لقد لكأُوني ولم أعرف” (أم 33: 23-35).

يلزمنا
أن نهجر لا الأفكار الشريرة فحسب، بل والتفكير في الأمور الزمنية، رافعين اشتياقات
نفوسنا نحو الأمور السمائية كقول مخلصنا: “حيث أكون أنا هناك أيضًا يكون
خادمي” (يو26: 12). لأنه يحدث أيضًا حتى من باب العطف أن نفكر في سقطات الغير
أو أخطائهم، فنتأثر باللذة ونسقط بالتالي في هموم الآخرين. فتكون النتيجة أن ما
بدأنا به حسنًا ينتهي نهاية مهلكة، لأنه “تُوجَد طريق تظهر للإنسان مستقيمة
وعاقبتها طرق الموت” (أم 12: 14).

 

10-
كيف نتجنب تذكر الخطايا؟

على
أي الأحوال يجدر بنا أن نسعى إلى انسحاق القلب الصادق، الذي يهدف نحو الفضيلة
والاشتياق إلى ملكوت السماوات، ولا يكون هدفه مجرد تذكر الشر المميت. فالإنسان
بالتأكيد يختنق من روائح البالوعات الخانقة طالما قبل الجلوس بجوارها أو يستنشق
نتانتها.

 

11-
طرق التوبة الحقيقية ومغفرة الخطية

لكننا
نعرف كما قلنا مرارًا أنه بعد أن نندب خطايانا السابقة ونتوب عنها فإن المشاعر
والأحاسيس الخاطئة القديمة التي ساقتنا إلى الخطية، والتي حزنا من أجلها، يجب
استئصالها من قلوبنا، ولا يتصور إنسان أنه يجوز ذلك إلا إذا قطع كل الأسباب التي
تسوقه إلى الخطية. على سبيل المثال إذا كان قد سقط في خطية مع امرأة فإنه يجب
الاحتراس، فلا يتطلع إلى امرأة. وإذا كان قد سقط بسبب الخمر وكثرة الأكل، فإنه يجب
عليه أن يتعفف ويتقشف ويبطل نهمه ويكتفي بالطعام الخفيف المعتدل. وإذا كان سقوطه
بسبب حب المال وقد أوقعه في الإضرار بالناس والسرقات وما أشبهه، يجب عليه أن يمنع
نفسه من كل فرص الطمع والجشع. وإذا كان يندفع كثيرًا في كبرياء إلى خطية الغضب،
فإنه بمداومة نفسه بالاتضاع يستطيع أن يطفئ حدة غضبه الخ. وهكذا.

مجمل
القول أنه لكي يقضى الإنسان على أية خطية يجب عليه أن يتخلص أولاً من كل الأسباب
المؤدية إليها. وبهذه الطريقة نستطيع أن نتخلص من خطايانا ونستطيع أن نتبرأ من
تذكر الخطايا التي ارتكبناها.

 

12-
هل صرت معصومًا من الخطأ؟

هذا
الحديث عن نسيان الخطايا السابقة، أقصد به الخطايا الرئيسية التي دانها أيضًا الناموس
الموسوي، التي قد انتهى الميل إليها، ونُزعت عنا بالحياة الصالحة، والتي قد انتهت
الندامة من أجلها. أما المعاصي الأخرى (الصغرى) التي قيل عنها: “لأن الصدّيق
يسقط سبع مرات ويقوم” (أم 16: 24)، فإن التوبة عنها لا تنتهي، لأنه سواء عن
جهل أو نسيان أو بالتفكير أو الكلام أو بمجرد الاشتياق أو عن ضرورة أو عن ضعف
الجسد أو نجاسة في حلم… هذه الأمور غالبًا ما نسقط فيها كل يوم بغير إرادتنا أو
بإرادتنا. مثل هذه الخطايا يُصلي من أجلها داود النبي للرب، ويطلب التنقية منها
والغفران عنها: “السهوات من يشعر بها؟! من الخطايا المستترة أبرئْني؟!”
(مز12: 19). وأيضًا يقول الرسول: “لأني لست أفعل الصالح الذي أريدهُ بل
الشرُّ الذي لست أريده فإيَّاهُ أفعل” (رو19: 7). لذلك تنهد قائلاً: “وَيحي
أنا الإنسان الشقي، مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت؟!” (رو24: 7).

إننا
نسقط في هذه الخطايا بسهولة كما لو كانت بحكم الطبيعة نفسها فرغم يقظتنا وسهرنا
نحوها فإننا لا يمكننا تجنبها كلية. هذا الأمر الذي جعل أحد التلاميذ الذي كان
يسوع يحبه يصرخ ويقول: “إن قلنا أنهُ ليس لنا خطية نُضِلُّ أنفسنا وليس
الحقُّ فينا” (1 يو 8: 1).

أكثر
من ذلك إن الإنسان الذي يسعى نحو الكمال المسيحي لا يكتفي بأنه ندم على الخطية
بالغ الندم ليمنع نفسه عما لا يليق، بل لابد أن يحث نفسه على التقدم للأمام نحو
الفضائل النورانية التي بها تستطيع النفس أن تسير في طريق الكمال. ولا يكتفي
الإنسان بأنه يحفظ نفسه من الخطايا والأدناس التي يكرهها السيد المسيح، بل عليه أن
يعمل على حفظ طهارة القلب وممارسة أفعال المحبة الأخوية التي بها يُسر الله.

هكذا
انتهى الأب بينوفيوس من حديثه عن علامات الصفح وغاية التوبة، وبالرغم من أنه قد
ألح علينا كثيرًا لكي نبقى معه في قلايته، لكنه إذ لم يقدر أن يبقينا إذ قد جذبتنا
شهوة برية الإسقيط سمح لنا أن نسير في طريقنا.

 

ملخص
المبادئ

·       
علامة التوبة الصحيحة، أننا في وسط الحزن
والندامة على الخطية نحمل في النفس سلامًا داخليًا.

·       
التوبة التي بلا سلام داخلي تحمل يأسًا وقنوطًا
ينزع عن النفس رجاءها.

·       
الإنسان التائب لا يعود يذكر خطاياه التي تاب
عنها، وخاصة تفاصيلها، حتى لا تدفعه للسقوط مرة أخرى.

·       
تذكر الخطايا السابقة مهم بالنسبة للإنسان
المتهاون والكسلان، ولكن بحذر أيضًا.

·       
لا تذكر تفاصيل خطاياك القديمة، لكن أذكر ضعفك: “خطيتي
أمامي كل حين”.

·       
لا تنسى الجانب الإيجابي… اذكر محبة الرب
وحنانه وفاعلية دمه في حياتك، ولا تجعل كل فكرك في الخطية التي ارتكبتها.

·       
أيضًا حياة الشكر هامة في التوبة، نشكر الله من
أجل رحمته كغافر للخطية.

·       
أخيرًا لتكن توبتنا عملية، أي مقترنة بالثمار
الحيَّة:

 (ا)
تنفيذ وصايا الرب كالصدقات وأفعال الرحمة…

 (ب)
محبتنا لإخواننا وعطفنا تجاه الخطاة الساقطين.

 (ج)
استئصال المشاعر والأحاسيس الخاطئة، والابتعاد عن مكان الشر… الخ.

·       
أخيرًا يلزمنا في توبتنا أن نعرف:

 (ا)
إن جهادنا مهما بلغ قدره لا ينفع شيئًا بغير نعمة اللَّه المترفقة بنا.

 (ب)
مهما وُهبنا من نعمة وجاهدنا… لكننا نبقى في حالة توبة دائمة مادمنا بعد في هذا
الجسد. “إن قلنا أننا بلا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا” وذلك لأننا
نبغي في حياتنا أن نصل إلى ملء قامة المسيح… فنبقى كل حياتنا مجاهدين بفرح ورجاء،
لكن في انسحاق وانكسار قلب على الدوام.

____________

[1]المؤسسات،
ك 4 ف 30 –31.

[2]أنيفو
أو بانيفو أو بانيفيسيس
Anepho or
Panepho or panephysis

[3]أو
طبنسى…
Tabennse or Tabens

[4]هذا
هو تذكار الشر الملبس الموت الذي تحدث عنه القداس الإلهي (صلاة الصلح – القداس
الباسيلي).

[5]
راجع في هذا الموضوع الحب الرعوي ص 406-417.

[6]
بالاعتراف أمام اللَّه وأمام الكاهن

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى