علم

5- البتولية عند مُعَلِّمي الإسكندرية



5- البتولية عند مُعَلِّمي الإسكندرية

5- البتولية عند مُعَلِّمي الإسكندرية

ثم
نأتي إلى البابا أثناسيوس الرَّسولي أشهر آباء الأسكندرية، لنجده بتولاً ناسِكاً
يقضي أوقاته في قلالي الرُهبان التي صارت كهياكِل مُقدسة في الجبال مليئة بجماعة
الأتقياء، يُرنمون ويشغفون بالقراءة ويصومون ويُصلُّون فَرِحين برجاء الحياة
العتيدة.

 

والبتولية
في نظر القديس أثناسيوس في مُستوى الشهادة والاعتراف، الأمر الذي أكَّده عندما كتب
في سيرة الأنبا أنطونيوس: ”وعندما توقف الاضطهاد أخيراً وأكمل المغبوط بطرُس خاتِم
الشُّهداء عام 311م، إنصرف أنطونيوس واعتزل ثانيةً في صومعته وبقى هناك كلّ يوم
شهيداً أمام ضميره مُناضِلاً في جهاد الإيمان وصار نُسكه أشد صرامة“.

مقالات ذات صلة

 

ونجد
أنَّ الإتجاه النُّسْكي وحياة البتولية صارا خطاً أساسياً في كِتابات البابا
السكندري العشرين، حتّى أنه في كِتاب ”تجسُّد الكلمة“ يقول: ”إنَّ حِجَجْنا هذه
التي نُقدِّمها لا تنبُع من كلِمات وحسب، لكن لها شاهد حقيقي لصدقها وذلك
بالمُمارسة والاختبار والذي يُريد أن يتحقَّق من ذلك فليذهب ليرى بُرهان الحق في
حياة عذارى المسيح المُتبتِلات وفي حياة هؤلاء الشباب الذين يُمارِسون حياة العِفة
المُقدسة (البتولية)“.

 

وخير
دليل على تشجيع هذا الراعي العظيم لحياة البتولية، هو النشاط المُتزايِد جداً في
الخروج من العالم في زمان بابويته، فكم مِنْ عذارى نذرنَ أنفُسهُنَّ للمسيح وكم من
شباب خرجوا للحياة الرَّهبانية، وكم مِنْ آباء أقنعوا أولادهم وكم من أولاد أقنعوا
أباءِهِم لمزيد من النُّسْك المسيحي والتشجيع على البتولية.

 

كذلك
رأى البابا أثناسيوس أنَّ طقس البتولية وخاصَّة للعذارى هو طقس ملائكي، كرامته في
الكنيسة تفوق الوصف وله عمله السِّرِّي لدرجة أنه كان يقول أنَّ المدينة إذا كان
يوجد فيها عذراء نقية مُتبتِلة للمسيح، فإنَّ الله يحفظ هذه المدينة بلا سوء بسبب
هذه العذراء (قوانين أثناسيوس).

 

ولعلَّ
مقالاته وكِتاباته عن النُّسْك والبتولية وهو ناسِك ورئيس نُسَّاك قد شجَّعت
كثيرين على عِشْق البتولية ودفعت بأولاده لينخرطوا في الحياة الرَّهبانية والسيرة
البتولية مُتأثرين بعِظاته وتعاليمه، يُؤسِّسهم على الإيمان بالله والقداسة في
المسيح.

 

فصارت
هذه الطغمة تُعد بعشرات الآلاف، لذا أحس القديس أثناسيوس أنه يمُتْ إلى هذه الطغمة
بصلة وثيقة فوضع نفسه على رأسها يهتم بها ويرعاها، وصارت الحياة البتولية
والعذراوية تزداد إنتشاراً، حتّى أنَّ الكنيسة سمحت بأن تُقيم العذارى في بيوت
عائلاتهِن في أماكن مُخصَّصة داخل البيت، أو يعِشن في بيوت خاصَّة لهُن.. حيث
يُشرِف عليها الأسقف بنفسه، وكان البطريرك يكتُب لهُن توجيهات خاصَّة.

 

ويُخبِرنا
القديس چيروم المُؤرِخ الكَنَسِي بأنَّ القديس أثناسيوس الكبير عالج موضوع
البتولية مراراً كثيرة، ووصلنا الكثير من عِظاته ومُؤلِفاته عن البتولية، بعضها
ثبت بصفة مُؤكدة إنها بقلمه أو من أقواله، والبعض الآخر لا يزال العُلماء يدرسونه.

 

وكذلك
اكتُشِفت شذرات كثيرة من كِتاباته باللُغات القبطية والسريانية عن حياة البتولية.

 

وفي
كِتابات القديس أثناسيوس السكندري الموثوق بها نقرأ الكثير عن قوانين العذارى
وصلوات لهُن تُقال في مُناسبات كثيرة وفي الأغابي التي تصنعها العذارى، وعمَّا يجب
أن يكون عليه سلوكِهِنْ وسيرَتِهِنْ.

 

ومن
الإصطلاحات المأخوذة عنه اعتبار الرهبنة ” طقس ملائكي“ وأنَّ ” العذارى هُنَّ
عرائِس المسيح“ وأنهُن ”ختمنَ عقداً مع المسيح إلى الأبد“ ويُعتبر البابا أثناسيوس
أنَّ البتولية ”موهبة إلهية“ ويُسمِّيها ”غِنَى الكنيسة“ فهي ”عطية البذل المحفوظة
لله“ ويرى أنَّ ”العذراء تعيش حياة غير مائتة في جسد مائِت“.

 

وبحسب
نظريته اللاهوتية العميقة نجده يصِف البتولية بأنها علامة الديانة الصحيحة لأنَّ
الديانة الحقيقية هي التي تُحبِّب البتولية إلى الناس خلافاً لغيرها فكان الهراطقة
يكرهون البتولية ويُقبِّحونها.

 

ومن
المفاهيم الروحية الأصيلة لمدرسة الأسكندرية اللاهوتية رؤيتها في السيِّدة العذراء
الدائِمة البتولية نموذجاً ومِثالاً لحياة البتولية، فتحدَّث عنها البابا أثناسيوس
باعتبارها ”إيبارثينوس أي عذراء“ في مخطوطة عن البتولية ليظهر ببساطة أنها أصل
الحياة النُّسْكية والنموذج الحي لها.

 

ويرى
القديس أثناسيوس في إحدى شروحاته أنَّ ابن الله ربنا ومُخلِّصنا هزم الموت وحرَّر
الجِنْس البشري من العبودية ومنحنا من بين هِباته العديدة نِعمة إمتلاك صورة قداسة
الملائكة على الأرض وهي البتولية، لذلك تُلقِب الكنيسة المُقدسة العذارى اللواتي
يملُكنَ هذه الفضيلة بلقب عرائِس المسيح.

 

كتب
القديس أثناسيوس رسائِل إلى رُهبان ومُتوحدين، من بينها الرسالة إلى الأب آمون
والتي جاء فيها قوله الشهير: ”هناك طريقان للحياة: الأوَّل هو الزواج، وهو
المُعتاد والأكثر إعتدالاً، والآخر هو البتولية، وهو طريق ملائكي والأكثر كمالاً،
إن اختار إنسان طريق حياة العالم أي الزواج فإنه يكون حقاً بلا لوم، ولكنه لم
يَنَلْ ما يُمكن أن يناله من المواهِب التي في الطريق الآخر، وإن هو أثمر أيضاً،
فإنه ينال ثلاثين ضِعفاً (مر 4: 20) أمَّا مَنْ يسلُك الطريق الآخر، فإنَّ هذا
الطريق المُقدس والسمائي لا زال له المواهِب الأسمى، حتّى وإن كانت شاقة ومُضنية
لاقتبالها، مُقارنة بالطريق الآخر، إذ تُعطي الثمر الأكثر كمالاً: مِئة ضِعْف“.

 

وفي
موكِب آباء الأسكندرية نتوقف عند القديس إيسيذروس الفرمي أو البيلوزمي (انظُر
كتابنا ”القديس إيسيذروس الفرمي“ – سلسلة آباء الكنيسة – أخثوس؟) الذي قام بعمل
مُقارنة بين الزواج والبتولية، مُؤكِداً على أنه مثلما السماء أفضل من الأرض،
والنَّفْس أفضل من الجسد، كذلك البتولية أفضل من الزواج، مُعتبِراً أنَّ الزواج
حَسَنْ لكن البتولية أحسن.

 

ويرى
القديس إيسيذروس في حياة البتولية مثال الكمال المسيحي وتتميم جميع وصايا الله،
وكان يعتبِر يوحنَّا المعمدان نموذجاً ومِثالاً للحياة الرَّهبانية وللسلوك
البتولي.

 

وهكذا
تروي صفحات التاريخ السكندري الكَنَسِي سِيَر وحياة نماذِج كثيرة لقديسين اختاروا
طريق البتولية حتّى بالرغم من زواجِهِم، ذلك لأنهم قد أُجبِروا هم وزوجاتِهِم على
الزواج رغم إرادتهم مع أنهم قد اختاروا هم ونساؤُهم حياة البتولية.. وهكذا تُصلي
كنيستنا القبطية في القُداس الكيرلُسي ”وهبتني أن أشرب كأس دمك طاهراً أعطني أن
أمتزِج بطهارتك سِراً“.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى