علم المسيح

134- تأسيس الإفخارستيا( )



134- تأسيس الإفخارستيا( )

134- تأسيس الإفخارستيا([1])

[أراد أن يغذِّينا على
جسده ودمه فأسَّس السر! وفي القربانة والكأس جعل له إقامة دائمة على المذبح وفي
حياتنا!]

يؤسفنا
للغاية أن ق. يوحنا لم يأتِ بصيغة التأسيس، إذ أخذ خروج يهوذا من العشاء الانتباه
الأكثر ضغطاً على الأعصاب، مما جعل الحديث في العشاء ينفرط عقده خاصة بعد أن أخذ
يهوذا اللقمة وقام وخرج. ولكن لا نعدم إشارة واحدة عنه كشفت عن موضوع التأسيس
حينما قال لتلاميذه: “وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضاً. كما
أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً” (يو 34: 13)، إذ تُحسب هذه هي
لحظة توزيع الكأس!

ولكن
يعطينا ق. لوقا باتفاق مع ق. بولس صورة جيدة للتأسيس كما ينطبق على الفصح (1كو 11:
2326)، وتبدأ صيغة العشاء بإبداء حديث الوداع الصعب مع مشاعر جيَّاشة
في الصدر وجدت زمانها ومكانها على العشاء الأخير:

+
“ولمَّا كانت الساعة اتكأ والاثنا عشر رسولاً معه، وقال لهم: شهوة اشتهيت أن
آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألَّم، لأني أقول لكم: إني لا آكل منه بعد حتى
يُكْمَل في ملكوت الله.” (لو 22: 1416)

ثم
بدأت أول حركة في العشاء، وهي تتبُّع طقس الفصح بتقديم كأس الخمر- الممزوج بالماء
ثلث إلى ثلثين في الإفخارستيا- قبل الخبز، وتُدعى في الفصح الكأس الأُولى:
“ثم تناول كأساً وشكر وقال: خذوا هذه واقتسموها بينكم، لأني أقول لكم: إني لا
أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله.” (لو 22: 17و18)

ثم
تبدأ أول حركة في طقس تأسيس عشاء الإفخارستيا، وبعدها تأتي الحركة الثانية في
الإفخارستيا إنما بعد مدة كبيرة من بدء العشاء:

1-
“وأخذ خبزاً وشكر وكسَّر وأعطاهم قائلاً: هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم.
اصنعوا هذا لذكري.” (لو 19: 22)

2-
“وكذلك الكأس (وهو الكأس الرابع في طقس الفصح) أيضاً بعد العشاء (حسب
طقس الفصح وبعد غسل الأيدي الذي أبدله ق. يوحنا بغسل الأرجل) قائلاً: هذه الكأس هي
العهد الجديد بدمي الذي يُسفك عنكم” (لو
20: 22). انتهى التأسيس عند القديس
لوقا.

وهكذا
أخذ المسيح من عشاء الفصح حركتين: الحركة الثانية بكسر الخبز، والحركة الأخيرة
بكأس الخمر. وقدَّسهما تقديساً خاصاً لتكون الخبزة المكسورة جسداً والكأس الممزوجة
دماً.

[والعادة
في عشاء الفصح الرسمي أن يُقدَّم أربع كؤوس خمر. وكأس الخمر آنذاك تحوي ما يقدَّر
بثلاثين سنتيمتراً مكعَّباً، أي أن الأربع كؤوس لا تزيد عن 125 سنتيمتراً مكعَّباً
أي ثُمن لتر خمراً صافياً. والكأس آنئذ تساوي نفس كأس الخمر المتوسِّط الحجم في
هذه الأيام. أمَّا من جهة نوع الخمر فتقاس بمقدار تأثيرها على العقل، ومعروف أن
500 سنتيمتراً مكعَّباً من هذه الخمر تُصيب الإنسان بالسُّكر، خاصة وأن الأربع
كؤوس تُشرب على أربع دفعات متباعدة، والخمر الجيدة (الإيطالية المستوردة) تخفَّف
بالماء إلى ثلاثة أضعاف أي خمر: ماء = 3: 1 على أن يظل ربع الكأس فارغاً حتى
الحافة. أمَّا خمر فلسطين فهي ضعيفة فيزاد الماء إلى الضعف فقط. وكانت البركة
تُقال على الخمر بعد إضافة الماء. وإضافة الماء تكون إلى كل كأس وليس للخمر كلها
دفعة واحدة. لذلك نسمع في لغة الفصح “ومزج له الكأس الأول”، على أن
الكأس الذي بعد العشاء هو أهم أجزاء العشاء، والكأس يلزم أن يكون مزخرفاً جيد
الصُنع ليس فيه عيوب، وأن يكون مغسولاً قبل وضع الخمر فيه. وعند البركة يرفعه (رب
البيت) بيده اليمنى فوق المائدة بمقدار شبر وعيناه على الكأس. ولكن المسيح رفعها
نحو السماء](
[2])، وأعطاهم كأس البركة هذه
ليشربوا منها كلهم على أنها دمه الذي يُسفك.

والمعنى شديد الوضوح والتأثير الناطق. حيث تحوّل كسر الخبز
إلى واقع
صَلب
وتمزيق جسدٍ كنبوَّة محقَّقة في وقتها، فالآكلون أكلوا جسداً مكسوراً. وتحوّل شرب
الخمر الممزوج إلى شرب دمٍ مسفوكٍ، فالشاربون شربوا دماً مسفوكاً.

والمعروف
أن أكلة الفصح تعطي رؤية مستقبلية لفداء قادم كما يقول العالِم المدقِّق دالمان:

[إن
التعييد للفصح كان يفجِّر الإحساس بالرجاء بفداء قادم أكبر من الذي تمَّ. وهكذا
كان التعييد للفصح يعطي الرجاء بفجر فداء مستقبلي قادم في مثل هذا اليوم.
وكانت تسمَّى ليلة الفصح بليلة الحفظ أو الملاحظة
lfl
shimmarim
(خر 42: 12)، وصار معناها وشرحها فيما بعد أن في هذه الليلة تمَّ
الفداء وفيها سيتم الفداء. وبعد ذلك شرحها أونكيلوس أنها ليلة جديرة بالملاحظة. وشرحها الترجوم أنها
تفيد انتظار مجيء المسيَّا من روما مكان اختبائه.](
[3])

فهنا
استطاع المسيح أن ينقلهم عبر الزمن إلى يوم الجمعة والصليب والجسد المكسور والدم
المسفوك، والذي سيرونه يوم الجمعة تمَّمه مسبقاً في عشاء الخميس. وفي هذا وفي ذاك
كان فصحاً مذبوحاً، عِوَض حَمَل اليهود!

ولكن
السر الأعظم هو في أن المسيح جعل الخبزة المكسورة تحمل قوة وفعل وطبيعة الجسد
المذبوح، تُؤكل الخبزة فيؤكل الجسد ولا عبرة لما يستطعمه الفم واللسان، العبرة في
الذي يستطعمه الإيمان. كذلك الكأس تُشرب
فيُشرب منها الدم ولا عبرة لما يذوقه اللسان، فالعبرة لما يرتوي به

الإيمان.

أمَّا
قوله: “اصنعوا هذا لذكري” فهو ينصبُّ على العملين معاً: عمل الخميس،
وعمل الجمعة. فهو ذَبْح حقيقي للجسد وسَفْك حقيقي للدم مصنوعاً في خبزة وفي كأس!
فالذكرى ليست ذكرى عشاء بسيط، بل عشاء فصح دموي كان فيه المسيح مذبوحاً بين
تلاميذه ومسفوكاً دمه على واقع الخبزة والكأس،
والمأكول جسد حقيقي والمشروب دم حقيقي. هذا هو عمل وتأسيس سر الشكر
الذي صنعه المسيح من لحمه ودمه ليأكل منه كل مَنْ
آمن واعتمد. وهو قد وعد أن يكون حاضراً
فيه
ومع الحاضرين ليكمِّل بالفعل ما ينقص عنهم بالفهم ليبقى الخبز المكسور جسداً
حقيقياً والكأس
دماً حقيقياً.

التذكار:
” اصنعوا هذا لذكري”:

وواضح
الآن إذا نظرنا إلى موضوع العشاء الأخير باعتباره الفصح الحقيقي الذي ذبح فيه
المسيح نفسه لأجلنا، ثم أوصى أن نصنعه تذكاراً له كلَّما أكلنا، أنه يكون على نفس
نمط تذكار الفصح الذي عُمل في مصر الذي كان لتذكار الخلاص من عبودية فرعون، والذي
كله كان مثالاً، مجرَّد مثال للفصح الحقيقي الذي سيعمله المسيح من جسده ودمه
ليخلِّصنا من الخطية وعبودية الموت. فإذا كان تذكار الفصح السنوي لليهود ليس
مجرَّد أكل لحم أيّ خروف، بل أكل لحم خروف الفصح الذي أخرجهم من أرض مصر؛
هكذا أصبح تذكار فصح المسيح ليس مجرَّد أكل خبز وشرب خمر، بل تذكار ذبح حقيقي: كسر
جسد وسفك دم. والمأكول والمشروب هو جسد حمل الله الذي قدَّمه فصحاً للعالم ودمه
المسفوك لخلاص الإنسان. فالتذكار تذكار “ذبح”، وليس تذكار
“أكل”. فالإفخارستيا هي تذكار ذبح المسيح على الصليب وسفك دمه. تذكار
فصحي حقيقي من جسد ودم حقيقي. والمسيح لمَّا قدَّم لتلاميذه لم يُقدِّم لقمة خبز
فصح وكأس خمر فصح، بل جسداً مكسوراً حقيقياً
ودماً مسفوكاً حقيقياً باعتباره الفصح الجديد أي الخروج من عبودية الخطية والموت!

وحينما
قال: “اصنعوا هذا لذكري” فهو ذِكْر الفصح الذي عمله كعمل خلاصي من عمق
الفداء بذبح الصليب. وأيضاً ذِكْر شركته الحيَّة التي استعلنت في عشاء الخميس، حيث
أكل معهم المسيح الفصح: “شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن
أتألَّم” (لو 15: 22). لقد كانت شركة سرية عالية المستوى جداً، حيث حينما
أكلوا جسده وشربوا دمه صار فيهم وصاروا فيه، فأنشأت ثبوتاً متبادلاً: “مَنْ
يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه” (يو 56: 6). هذا الثبوت المتبادل هو
الشركة على أعلى مستواها. لذلك يُصِرُّ المسيح ونُصِرُّ بإيماننا على ما قال:
“إن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق” فالأكل أكل سرِّي أقوى في معناه ومضمونه
من أكل لحم كلحم وشرب دم كدم. فالخبز المكسور المقدَّس والخمر الممزوج بالماء
المقدَّس يحملان واقعاً إلهياً حيًّا وكياناً ذاتياً لابن الله بالجسد.

[إنها
حقيقة مختبرة أنه لا يمكن أن تقرب الإفخارستيا بكسر الخبز دون أن يحدث اتصال حقيقي
بشخص يسوع المسيح وقت كسر الخبز، لا على المستوى الروحي فقط، بل وعلى المستوى
الواقعي السرِّي الحقيقي. وكأن المتناول متكئ حقًّا وفعلاً مع التلاميذ في المائدة
في أُورشليم، وفي العليَّة، وفي تلك الليلة.](
[4])

وواضح
أن المسيح لم يشأ أن يقول لهم: لا تنسوني أو اذكروني، بل أسَّس هذا الطقس العشائي
السرائري حتى يصبح التذكار حقيقة ووجوداً حيًّا بالسر من خلال اجتماع المحبة وشركة
كأس الحب والخلاص، ويستمر في المستقبل حتى يجيء!!

[فإن
كان يتكرَّر فهو على أساس إقامة شركة من نوع جديد بينه وبين تلاميذه لتحقيق شركة
كاملة مع الله.](
[5])

[والإفخارستيا
محسوبة أنها وليمة الملكوت، لا بالمثال؛ ولكن بالحقيقة، والتي سوف يشترك فيها
المسيح شخصياً بخمر جديدة في السماء.](
[6])

كان
الكأس الرابع بعد العشاء، أي الكأس الأخير الذي تُليت عليه البركة، هو الكأس الذي
تعيَّن أن يكون كأس العهد الجديد. وقد قدَّمه ق. متى على أنه “دمي”:
“وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي
الذي للعهد الجديد، الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا.” (مت 26:
27و28)

أمَّا
ق. لوقا فقدَّمه على أنه كأس العهد: “وكذلك الكأس أيضاً بعد العشاء قائلاً:
هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُسفك عنكم” (لو 20: 22). وطبعاً
واضح أن ق. لوقا- لأنه يكتب للأُمم- لذلك خفَّف من العثرة وجعل الشرب من الكأس
يكني عن الدم الذي فيه، فالكأس لمَّا يُشرب
يعني أن الذي يُشرب فيه هو الدم. كذلك ق. بولس انتحى ناحية ق. لوقا وجعل الكأس

يكني عن الدم في الشرب: “كأس البركة التي نباركها، أليست هي شركة دم
المسيح؟” (1كو 16: 10)، “كذلك الكأس أيضاً بعد ما تعشُّوا قائلاً: هذه
الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري.” (1كو 25:
11)

أمَّا
ما تحويه هذه الكأس فهو “العهد نفسه” المدعو ب”العهد الجديد”،
ومحتوى الكأس هو “دم المسيح”. على أن هذا العهد “الذياثيكي
diaq”kh في
العبرية يسمَّى
kyAm: قيام“، وهو يعبِّر عن إرادة وعهد،
حيث العهد هو الوصية أو الميثاق أو الوثيقة التي تعني حتماً ميراث أو أيلولة أو
شركة
ما يخص الإنسان بعد الموت. وهنا سفك دم المسيح المقدَّم في الكأس على أنه
وصية العهد الجديد يعني ضمناً الميراث، ميراث كل ما للمسيح وميراث المسيح نفسه.. ليس هو اتفاق كالعهد الأول الذي صنعه الله مع
إبراهيم، بل عطية ميراث
الابن
“بدم المسيح” وهو محسوب في مفهوم العهد القديم “كقَسَم”،
“كوصية
مقدَّسة”.

ولكن
هذا العهد الجديد في نفس الوقت محسوب أنه اتفاق مع الله الآب لحياة داخلية مرضية
أمامه، قائمة على أساس “دم العهد”.

في
العهد القديم قام العهد بالدم فعلاً، ولكن دم ذبائح حيوانية (خر 24: 4و8): “وأخذ
موسى الدم ورش على الشعب وقال: هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه
الأقوال”

[واضح
جداً أن عهد الله مع الآباء لو كان قائماً ما كان المسيح قد أقام عهداً جديداً،
ولكن الشعب خان وخالف وحنث فرُفع العهد القديم من الوسط. ولكن الله أنشأ من جديد
عهداً جديداً يفوق العهد القديم في كل فحواه ومبناه، ووصايا جديدة تفوق الأُولى:
“قيل لكم في القديم.. وأنا أقول لكم” (انظر: مت 5: 21و22). والمعنى الذي
فهمه التلاميذ أنهم يبنون حياتهم من جديد ومستقبلهم مع الله على أساس دم المسيح أي
موته الفدائي.](
[7])

وكما
استحضر المسيح فعل يوم الجمعة ليعطيه بيده من واقع وجوده يوم الخميس جسداً مكسوراً
ودماً مسفوكاً، هكذا وَعَدَ أن ما نعمله اليوم وكل يوم هو الذي عمله المسيح، وعلى
أساس ما عمله يوم الخميس من واقع فصح يوم الجمعة: “لأن فصحنا أيضاً المسيح قد
ذُبح لأجلنا.” (1كو 7: 5)

+ “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا
أُقيمه في اليوم الأخير،

لأن
جسدي مأكلٌ حقٌّ ودمي مشربٌ حقٌّ. مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا
فيه.” (يو 6: 5456)

والذي
يؤمن بهذا يكون له!

+
“فإن آمنتِ ترين مجد الله!” (يو 40: 11)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى