اللاهوت الطقسي

هوت_طقسى_1_طقوس_العهد_القديم_الأعياد_02[1].html



الفصل الثانى

عيد الفصح Feast of Passover

كلمة فصح بالعبرية (بيسح
Pesah) ومعناها “الإجتياز ” أو “العبور ” وقد نُقلت
الكلمة بلفظها تقريباً أو بمعناها إلى معظم اللغات. فهى فى القبطية واليونانية
بصخة
Pascha
“، وفى العربية “فصح “، وفى الإنجليزية “
Pass-over
“.

V تأسيس الفصح:

كان عيد الفصح يقع فى
الرابع عشر مساءً أى فى ليلة (ونهار) اليوم الخامس عشر من شهر أبيب ومعناه
“شهر الخضرة، أو تكوين السنابل ” (خروج 13: 4)، الذى دُعي بعد
السبى البابلى “بنيسان ” (نحميا 2: 1). وكان يعقب أكل الفصح
مباشرة، سبعة أيام عيد الفطير (خروج 12: 15) الذى كان يسمى بالتبعية
“الفصح ” أيضاً (انظر تثنية 16: 2، متى 26: 17، مرقس 14: 12، لوقا 22:
1)
. لأن عيد الفصح يقع فى اليوم الأول من عيد الفطير.

ويوسيفوس المؤرخ
اليهودى يصفهما فى إحدى المناسبات كعيد لمدة ثمانية أيام([1])..
[قارن قول الكتاب: “فى الشهر الأول فى اليوم الرابع عشر مساءً تأكلون فطيراً
إلى اليوم الحادى والعشرين من الشهر مساءً. سبعة أيام لا يوجد خمير فى بيوتكم
” (خروج12: 18و19)]

وكان كلاهما يرتبطان
إرتباطاً وثيقاً بذكرى الخروج من مصر، فكانا عيدين تذكارين لهذه الحادثة الكبرى فى
تاريخ الشعب. فالفصح كان تذكاراً لخروف الفصح الذى رُشَّ دمه على القائمتين
والعتبة العليا في كل بيت من بيوت بنى إسرائيل، وهكذا نجا أبكارهم من الملاك
المهلك
(خروج12و 13). أما الفطير فكان تذكاراً للفطير الذى أكلوه فى أيامهم الأولى
– بعد عبورهم البحر الأحمر – من العجين الذى أخذوه معهم من مصر إذ كان لم يختمر
(خروج12: 39).
وهو أول عيد يفرضه الرب للإحتفال به “فريضة أبدية ” (خروج
12: 14)
. ليتذكروا ليلة خروجهم وخلاصهم من العبودية فى أرض مصر وكانت تلك
الليلة هى ختام السنة (430) من تغرب إبراهيم (تكوين 15: 13 و14، خروج 12:
41و42)
.

والرب نفسه هو الذى رسم
نظام ذبيحة الفصح بكل دقة وعناية لكى تكون رمزاً وإشارة ونبوءة مصَّورة بحبك عجيب
لما سوف يتم فى ملء الزمان من ذبح الحمل الإلهى وأكله وسفك دمه كفارة وخلاصاً لكل
من يؤمن به.

هكذا بدأ إستعلان يوم
الصليب والخلاص بدم المسيح والإتحاد به. مبكراً جداً هناك فى “مصر حيث صلب
ربنا أيضاً
(رؤيا يوحنا 11: 8).

نعم هكذا يقول سفر
الرؤيا مشيراً بالروح إلى الفصح الذى تم فى مصر كأول إعلان عما أضمره الله القدير
فى نفسه، الذى حققه أخيراً فى ملء الزمان خارج أبواب أورشليم. لذلك كان خروف الفصح
فى تفاصيل طقسه يحمل إشارات جليلة للفداء.

كان الأول بين الأعياد
الثلاثة التى كان يجب فيها على كل الذكور فى إسرائيل أن يظهروا أمام الرب إلههم فى
الموضع الذى يختاره (خروج 34: 23).

كما أمر الرب بنى
إسرائيل “كل إنسان منكم أو من أجيالكم، كان نجساً لميت، أو في سفر بعيد،
فليعمل الفصح للرب فى الشهر الثانى، فى الرابع عشر بين العشاءين يعملونه، على فطير
ومرار يأكلونه. لا يُبقوا منه إلى الصباح، ولا يكسروا عظماً منه.. لكن من كان
طاهراً وليس فى سفر وترك عمل الفصح، تُقطع تلك النفس من شعبها لأنها لم تقرب قربان
الرب فى وقته. ذلك الإنسان يحمل خطيته ” (عدد 9: 10
13، انظر أيضاً أخبار الأيام الثانى 30: 2و 3).

V الفصح بداية تقويم جديد:

“وكلم الرب موسى
وهارون فى أرض مصر قائلاً: هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور، هو لكم أول شهور
السنة
(خروج 12: 1).

كانت السنة اليهودية
تبتدىء مع الخريف فى شهر تشرى (إيثانيم) الذى يقابل أكتوبر ولكن إبتداء من الفصح
أصبح لليهود تاريخان، أحدهما دينى والآخر مدنى وأصبح نيسان الذى فيه يُذبح خروف
الفصح هو أول شهور السنة الدينية عندهم.. ومعنى ذلك أن الليلة التى ذُبح فيها
الخروف الذى خلص بنى إسرائيل، تكون فى الشهر الأول من سنة جديدة وهذه ترمز إلى
تاريخ جديد وحياة جديدة، أُسقط فيه زمان العبودية بمرارتها وضيقها.. لقد كان الدم
هو الأساس لحياة جديدة.

وهكذا صار الفصح هو
محور حياتهم وأهم أعيادهم، لأن عبور الملاك المهلك عنهم دون أن يصيب أبكارهم لم
يكن من أجل برهم أو عدم استحقاقهم للموت بل بسبب دم الخروف الذى ختموا به أبواب
بيوتهم طاعة لأمر الرب. وبما أن البكر يمثل العائلة، لذلك ففداء أبكار بنى إسرائيل
كان رمزاً لفداء الأمة كلها بفضل مراحم الرب ونعمته المجانية عليهم “كللت
السنة بجودك ” (مزمور 65: 11)، حتى لا تنسى أجيالهم عظم صنيع الرب
معهم. لقد كان هذا الشعب يسمع عن إحسانات الله مع آبائهم إبراهيم وإسحق ويعقوب
ولكنه حينذاك كان يعيش هذه الإحسانات ويحيا بها، فما أجدرها أن تكون رأس أيامه
ومحور حياته!!

وهكذا يتضح من هذا
الأمر الإلهى أن خلاص الإنسان هو بداية لتاريخه وأن حياة الإنسان ليس لها وجود
حقيقي إلا بخلاصه من موت الخطية وتحرره من عبودية إبليس بتوسط دم الحمل الإلهى
“الله الذى هو غنى فى الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التى أحبنا بها، ونحن
أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح (بموته وقيامته).. لأننا نحن عمله، مخلوقين فى
المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدها لكى نسلك فيها. ” (أفسس 2: 4
و5 و10)

ولكن العجيب أن هذا
الشهر الذى تبدأ به السنة الجديدة لا يبدأ بالفصح مباشرة، بل يجىء الفصح فى اليوم
الرابع عشر من هذا الشهر! ولم يأت هذا الأمر إعتباطاً بل لكى يصل تطابق الأصل على
المثال إلى أقصاه.

فبما أن حمل الفصح كان
مثالاً للمسيح، فإن مجىء المسيح إلى أرضنا هو الذى أنشأ تقويماً جديداً لنا وليس
صلبه. لذلك فإن ميلاد المسيح هو الذى يبدأ به تقويم عهدنا الجديد، أما صلبه فكان
بعد أن أكمل استعلانه لذاته وأتم رسالته متدرجاً فى ذلك من يوم ميلاده كطفل إلى أن
استعلن مجده كاملاً بالصلب والقيامة. وكأن حياته على الأرض تمثلها دورة القمر الذى
يبدأ هلالاً يبزغ فى وسط ظلمة الليل الدامس، ثم يكبر قليلاً قليلاً إلى أن يكتمل
بدراً مضيئاً بعد دورة تستغرق أربعة عشر يوماً!!

V كيفية عمل الفصح الأول (خروج 12):

(1) إختيار الخروف:

فى العاشر من شهر نيسان يأخذ كل بيت شاه من
الخراف أو الماعز بحسب عدد النفوس فإن كان البيت صغيراً ولا يستطيع أن يقوم به
بمفرده يشترك مع جاره أو قريبه ويذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودى أنه كان يلزم تواجد
عشرة أشخاص على الأقل داخل البيت لعمل الفصح. ويشترط فى الخروف أن يكون:

V بلا عيب

V ذكراً

 Vابن سنة
(حولياً
)

 

ويكون تحت الحفظ إلى
اليوم الرابع عشر من هذا الشهر.

العدد عشرة يرمز إلى
الكمال، وهكذا كان إختيار خروف الفصح فى العاشر من الشهر لكى ينطبق الرمز على
الحقيقة، لأنه عندما كملت الأزمنة وجاءت الساعة المحددة منذ الأزل “أرسل الله
ابنه مولوداً من امرأة، تحت الناموس، ليفتدى الذين تحت الناموس ” (غلاطية
4: 4 و5).

كما يلزم أن يكون شاه صحيحة
بلا عيب
. إن أصول تقديم الهدايا يقتضى عدم تقديم الأعمى والأعرج والسقيم
كذبيحة (لاويين 22: 20-25)، فكم بالحرى تقديم ذبيحة الفصح من أجل فداء
الشعب من الموت، “وإن قربتم الأعمى ذبيحة أفليس ذلك شراً؟ وإن قربتم الأعرج
والسقيم أفليس ذلك شراً؟ قرّبه لواليك أفيرضى عليك أو يرفع وجهك قال رب الجنود؟!
(ملاخى 1: 8)

فالخروف الصحيح الذى
بلا عيب هو مثال حمل الله الذى بلا عيب ولا دنس الذى “قد انفصل عن الخطاة
وصار أعلى من السموات ” (عبرانيين 7: 26)، “الذى لم يفعل خطية
ولا وُجد فى فمه مكر ” (بطرس الأولى 2: 22)، الذى تحدى اليهود قائلاً:
“من منكم يبكتنى على خطية؟! “ (يوحنا 8: 46) لقد دعى المسيح
المخلص بالحمل، إذ جاء فى سفر إرميا “وأنا كخروف داجن يُساق إلى الذبح ولم
أعلم أنهم فكروا علىّ أفكاراً قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء
فلا يُذكر بعد اسمه ” (إرميا 11: 19).

هذا الذى رآه إشعياء
النبى بعين النبوة: “كشاه تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح
فاه “ (إشعياء 53: 7)، وقال عنه القديس يوحنا المعمدان: “هوذا
حمل الله الذى يرفع خطية العالم ” (يوحنا 1: 29)، وقال عنه القديس
بطرس الرسول: “.. أنكم افتديتم.. بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم
المسيح ” (بطرس الأولى 1: 18 و19)، ورآه القديس يوحنا الحبيب فى سفر
الرؤيا خروفاً قائماً كأنه مذبوح فى وسط عرش الله وحوله طغمات السمائيين تقدم له
التمجيد والتسبيح بعد أن أكمل الفداء وجلس عن يمين العظمة فى الأعالى. وقد تكرر
ذكر الخروف فى سفر الرؤيا 28 مرة، مما يدل على العلاقة الصميمة بين خروف
الفصح وخروف بنى إسرائيل من مصر، وبين حمل الله الذى يرفع خطية العالم ويخُرج كل
من يؤمن به من تحت نير عبودية إبليس، والذى هو قائم الآن فى وسط عرش الله يتقبل
تسبيح السمائيين إلى أبد الآبدين: “مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة
والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة ” (رؤيا يوحنا 5: 12).

كما أن الحمل الذى بلا
عيب ينِّبه ذهننا إلى الحالة التى يتطلبها الله من مقدم الذبيحة. فإن تشديد الله
على طهارة الحمل ونقاوته من كل عيب يدعونا إلى أن نسعى للتشبه بالذى فدانا ودعانا
إلى الإتحاد به: “نظير القدوس الذى دعاكم، كونوا أنتم أيضاً قديسين فى كل
سيرة “. (بطرس الأولى 1: 15) ويلزم أيضاً أن تكون الشاه ذكراً ابن
سنة
، فدية عن الأبكار الذكور فى كل بيت من بيوت اليهود الممثلين للأمة كلها،
وإشارة إلى رئاسته لكونه عريس كل المؤمنين (انظر كورنثوس الثانية 11: 2)..
“من له العروس فهو العريس ” (يوحنا 3: 29).. وكونه حولياً (ابن
سنة
)، فهذا يشير إلى أنه شاب ليس فيه ضعف الشيخوخة، ولا يعتريه القدم، بل يبقى
دائماً جديداً فى حياتنا.

كما أنه من الممكن أن
يأخذوه من الخرفان أو الماعز. ويعلِّق على ذلك القديس أوغسطينوس فى رده على
فوستس قائلاً: [.. فأنه يُثبت أن الفصح كان رمزاً مطابقاً له حيث طلب الحمل الذى
يأكلونه من الخراف أو الماعز، التى ترمز إلى الأبرار أو الأشرار، مشيراً من خلال
هذا الدليل إلى وجود اللاهوت والناسوت (فيه) فكإنسان رضى أن يكون الشرير والصالح
كلاهما فى نسب والديه، بينما كإله إختار أن يولد ميلاداً إعجازياً من العذراء. ]([2]).

“ويكون عندكم تحت
الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر “.

يقول التقليد اليهودى
أن السبب فى ذلك هو أن يعطى الفرصة لرب الأسرة لكى يفحص الحمل فحصاً دقيقاً حتى
يمكنه الحصول على آخر إذا اكتشف فيه عيباً.

أما نحن فنرى فى ذلك
تطابقاً عجيباً مع ما حدث مع الرب يسوع. فقد دخل أورشليم يوم أحد الشعانين حيث
يُصلب “لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أورشليم ” (لوقا 13: 33).
وظلَّ هناك تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من الشهر، وصلبوه يوم عيد الفصح ليكون
هو فصحنا الحقيقي.

وهكذا إنطبق المرموز
إليه مع ما كان يشير إليه الرمز (انظر يوحنا 18: 28 و19: 13 و14). وكونه
تحت الحفظ أربعة أيام قبل ذبحه، إنما يشير إلى الأربع فترات التى تغربتها البشرية
حتى تدخل بدم الفصح الحقيقى إلى السماء. وهذه العصور هى: عصر ما قبل الناموس
(الشريعة المكتوبة)، وعصر الناموس ثم عصر الأنبياء وأخيراً عصر المسيح.

(2) ذبح الخروف:

“يذبحه كل جمهور
إسرائيل فى العشية ” (خروج 12: 6) فى فترة “بين العشاءين ” (عدد
9: 5)،
وهى حرفية بحسب رأى الصدوقيين أى أنها الفترة بين غروب الشمس وغروب
الضوء. ولكنها بحسب رأى الفريسيين تمتد بين الوقت الذى فيه تميل الشمس إلى الغروب،
والغروب. وهى الفترة من الساعة التاسعة إلى الساعة الحادية عشر من النهار وتقابل
هذه الفترة ما بين الساعة الثالثة والخامسة بعد الظهر بالتوقيت الأفرنجى تقريباً.
وقد شهد يوسيفوس([3])
المؤرخ اليهودى بأن الخروف كان يُذبح بين الساعة التاسعة والساعة الحادية عشر من
النهار.

يذبحه كل
جمهور إسرائيل
.. “

فعلى الرغم من أن
آلافاً من الخراف يتم ذبحها فى الفصح إلا أن الوحى لا يتكلم إلا عن خروف واحد
يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل.. فعلى مدى الأصحاح كله لا يأتى ذكر الخروف
بالجمع إطلاقاً. فليس هناك فى فكر الله منذ الأزل إلا خروف واحد مذبوح عن خطايا
العالم أجمع – هو خروف الجلجثة. وما هذه الخراف كلها التى أمر الله موسى أن يطلب
من الشعب ذبحها إلا رمزاً لهذا الحمل الإلهى المزمع أن يفدى الخليقة كلها بدمه.

وعلى الرغم من أن رب
البيت فى كل أسرة هو الذى كان يقوم بذبح الخروف نيابة عن أفراد الأسرة، إلا أن
كلام الله لموسى يشير إلى خروف واحد يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل معاً فى وقت
واحد، إشارة إلى إجماع الشعب مع رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين على صلب المسيح
وصراخهم أمام بيلاطس الوالى بصوت واحد: “خُذ هذا وأطلق لنا باراباس “،
“اصلبه، اصلبه “، “دمه علينا وعلى أولادنا” (لوقا 23: 18و
21، متى 27: 25).

كان خروف الفصح البرىء
يُذبح نيابة عن مقدمه، وبهذا كان يُعتبر فدية..
ولما كان المسيح قد صلب
عن البشرية، ومات وطُعن فى جنبه بالحربة وسال منه دم وماء، أُعتبر أنه ذبح. يقول
بولس الرسول: “لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا “ (كورنثوس
الأولى 5: 7)..
“ليبطل الخطية بذبيحة نفسه “ (عبرانيين 9: 26)

(3) رش الدم:

“يأخذون من الدم
ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا فى البيوت التى يأكلونه فيها ” (خروج
12: 7)
ليكون الدم علامة على البيوت يميزها عن بيوت المصريين (انظر خروج 12:
13).

وقد كان الدم يُرش
بباقة من الزوفا حسب أمر موسى (خروج 12: 22).

لا يكفى ذبح الخروف، بل
ينبغى رش دمه على القائمتين والعتبة العليا. إذن فليس الأمر موضوع ذبح خروف وأكله،
بل هو أمر حياة أو موت!! فقد كان الهدف من ذبح هذا الخروف، هو لكى يُؤخذ دمه ليصير
علامة على البيوت التى يعبر عليها الملاك المهلك فلا يضرب أبكارها بالموت
“فأرى الدم وأعبر عنكم “ (خروج 12: 13).

وفى ذلك يقول القديس كيرلس
الأورشليمى
(315- 385م)، وهو يخاطب الموعوظين المؤهلين لأن يعتمدوا على
اسم المسيح لينالوا الخلاص وختم الحياة الأبدية قائلاً: [إذا كان الحمل تحت ناموس
موسى أبعد المهلك بعيداً، ألا يستطيع بالأكثر جداً حمل الله الذى يرفع خطية العالم
أن يخلصنا من خطايانا؟ فدم خروف أعجم أعطى خلاصاً، ألا يقدر دم الابن الوحيد أن
يخلص بالأحرى أكثر كثيراً جداً]([4])

لكن لماذا على الباب
وقائمتيه وعتبته العليا؟ الباب مدخل الحياة أو الموت، وكان الدم قديماً يعتبر هو
الحياة عينها “لأن نفس الجسد هى الدم ” (لاويين 17: 11)، فإذا
حمل الباب الدم يكون قد حمل فى الواقع الحياة، وهكذا يلقى هذا الطقس ضوءً على قول
المسيح: “أنا هو الباب (يوحنا10: 9)، ليس الباب فقط بل
الباب المسفوك عليه الدم الإلهى، فهو حقاً باب الحياة وباب السماء!

هذا ويُلاحظ أن رش الدم
على العتبة العليا دون السفلى حتى لا يداس بالأقدام، وفى ذلك يقول بولس الرسول: “فكم
عقاباً أشر تظنون أنه يُحسب مستحقاً من داس ابن الله وحسب دم العهد الذى قُدس به دنساً
وإزدرى بروح النعمة؟ ” (عبرانيين10: 29).

خذوا باقة
زوفا واغمسوها فى الدم الذى فى الطست ومسّوا العتبة العليا والقائمتين بالدم

(خروج 12: 22).

لم يستطع العلماء
الوصول إلى رأى قاطع عن نبات الزوفا، إلا أن الرأى التقليدى بين اليهود أنه هو
الزعتر أو السعتر، أُستخدم فى الكتاب المقدس للتطهير من البرص (لاويين 14: 4و6)،
ومن الخطية (مزمور 51: 7)، ومن الأوبئة (لاويين 14: 49و51)،
وللطهارة الطقسية (عدد 19: 6و18) واُستخدم أيضاً لرفع إسفنجة من الخل التى
قُدمت للسيد المسيح على الصليب (يوحنا 19: 29). ويقال أن الزوفا نبات عطرى
الرائحة ينبت فى الجدران وفى الصخور.

يرى القديس
أوغسطينوس
أن الزوفا [عشب ضعيف ومنخفض، لكن جذوره عميقة وقوية كأنه يدخل
بجذوره إلى الحب ويتعمق فيه ليدرك مع القديسين ما هو العرض والطول والعمق
والإرتفاع (أفسس 3: 17و18) ويتعرف على صليب ربنا]. ([5])
كأنه خلال الدم النابع عن الحب الذى بلا حدود نتقدس، يُنزع عنا برص الخطية ونُشفى
من أمراضنا وتتطهر نفوسنا ونشترك مع المسيح فى آلامه على الصليب.

(4) تجهيز الخروف:

لا يؤكل نيئاً أو
مطبوخاً بل مشوياً بالنار مع أكارعه وجوفه (خروج 12: 9) إذ كان بعد أن
يجعلوا الدم على القائمتين والعتبة العليا يُشك فيه سيخان من الحديد يجوزه الأول
طولاً والآخر عرضاً ثم يُلقى هكذا فى وسط النيران “مصلوباً “.

كانت لحوم الذبائح عادة
تُطبخ فى الماء (صموئيل الأول 2: 14و15)، ولكن كان الأمر الصادر لهم بخصوص
الفصح هو أن يأكلوه مشوياً بالنار. والحق أنه لا يوجد بين الرمز والمرموز إليه
أكثر من ذلك.. كان يمكن أن يُؤكل الخروف مشوياً على النار بأية صورة وبأى وضع. لكن
كونه يُشوَى على سيخين متعامدين فلابد وأن الله كان يلفت الأنظار إلى الفصح
الحقيقي فى ملء الأزمنة لأن المسيح له المجد احتمل آلاماً مريرة فى نفسه وجسده،
حتى أن داود يتكلم بروح النبوة عن آلام المسيح ويقول: “صار قلبي كالشمع. قد
ذاب فى وسط أمعائي “ (مزمور 22: 14) ومن المعلوم أن الشمع لا شىء
يُذيبه سوى النار والحرارة. وهذه كلها إشارة إلى شدة آلام مخلصنا التى رُمز لها
بالنار.

(5) أكل الخروف:

أ – يُؤكل الخروف
مشوياً مع الفطير على أعشاب مُرَّةٍ.

كان عليهم أن يأكلوا
الفطير دون الخبز المختمر مدة سبعة أيام، أما السبب فلأن الخمير يشير إلى الخطية
والشر (لوقا 12: 1،كورنثوس الأولى 5: 7و8). أما عدد السبعة فإنه يشير إلى
الكمال. والمعنى هنا أن المؤمن الذى تقدس بدم حمل الفصح الجديد، يجب عليه أن يمتنع
عن الخطية حياته كلها التى يُرمز لها بالسبعة أيام.

ويشرح القديس يوحنا
ذهبى الفم
هذا الأمر قائلاً:

[.. دعنا أولاً نشرح
لماذا يعزل الخمير من كل تخومهم. فالمؤمن يلزم أن يتحرر من كل إثم. لأنه إن كان
يقطع من وسطهم مَنْ عنده خميرة عتيقة، فكذلك أيضاً معنا أينما يوجد إثم، فطالما
كانت العقوبة شديدة جداً إلى هذا الحد فيما هو ظل (للحقيقة)، فلا شك أنه فى وضعنا
الحالى لا يمكن أن تكون إلا أكثر شدة. لأنهم إن كانوا ينقون بيوتهم بكل اعتناء من
الخمير.. فكم يجب علينا أن نفتش نفوسنا بأكثر تدقيق لكى نطرد منها كل فكر دنس؟!]([6])

أما الأعشاب المرَّةٍ
فهى لتذكير الشعب بالآمه وعبوديته المُرَّةٍ التى عانى منها فى مصر، وكانت ذبيحة
الفصح هى لنجاته وخلاصه من عبوديته كما أنها إشارة إلى شركة الآمنا مع الحمل
الإلهى “لأعرفه وقوة قيامته وشركة الآمه متشبهاً بموته ” (فيلبي 3: 10)
فشركة الحياة مع المسيح يدخلها عنصر الآلام كلازمة تشير إلى إلتزامنا بالتقدم
إلى سر الفصح الجديد في مرارة وانسحاق روح من أجل خطايانا. فإذ يتمرر فمنا بسبب
الخطية يمتلئ قلبنا من حلاوة جسد الرب ودمه. وبمعنى آخر فإنه لا تمتُع بسر الإفخارستيا
بدون التوبة والإعتراف.

كما أنها تذكير دائم
لغصة الموت الذي جازه المسيح لأجلنا. فالصليب لم يكمل طقسه إلاَّ عندما ذاق المسيح
المرَّ مع الخل. وهكذا احتوى طقس الفصح القديم دقائق ذبيحة المسيح وآلامه التي
أصبحت جزءً لا يتجزأ من إيمانناً وحياتناً! ويرى القديس جيروم أن الله قد
منع استخدام العسل في التقدمات وفي نفس الوقت أمر بأكل خروف الفصح على أعشاب
مُرَّةٍ، كأنه لا يريدنا أن نعيش مدللين بل أن نحتمل الضيق في العالم ([7]).

ب – يأكلونه بعجلة
(بسرعة) (خروج 12: 11) وأحقاؤهم مشدودة وأحذيتهم فى أرجلهم وعصيهم في أيديهم.

ويعلِّق القديس
يوحنا ذهبى الفم
على ذلك قائلاً: [إننا نقرأ أنهم كانوا ممنطقين أحقاءهم
وعصيهم فى أيديهم وأحذيتهم فى أرجلهم، وهكذا كانوا يأكلون الفصح. أسرار رهيبة
ومرعبة، وذات أغوار عميقة للغاية، فإذا كانت رهيبة بهذا المقدار فى المثال والرمز،
فكم وكم تكون فى الحقيقة؟ لقد خرجوا من مصر، وأكلوا الفصح. انتبهوا، فقد قيل
“لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبُح لأجلنا ” (كورنثوس الأولى 5: 7)
لماذا إذن كانت أحقاؤهم ممنطقة؟ إن زيَّهم كان زىَّ عابرى السبيل، لأن مظهرهم
وأحذيتهم فى أرجلهم وعصيهم فى أيديهم وأكلهم وهم واقفين لا يدل على شىء سوى هذا
الأمر. أتريدون أن تسمعوا التاريخ أولاً أم المعنى السرى؟..

لقد كان اليهود ينسون
إحسانات الله لهم. لذلك فقد ربط الله معنى هذه الإحسانات ليس فقط بالزمان وإنما
أيضاً بما تعودَّوا أن يأكلوه (فى العيد). فهذا هو السبب الذى لأجله كان عليهم أن
يأكلوا وهم متمنطقين ومحتذين، وحتى إذا سئلوا عن السبب يقولون: “لقد كنا على
استعداد للرحيل. لقد كنا متأهبين لمبارحة مصر إلى أرض الموعد، فكنا مستعدين للخروج
“.

هذا هو إذن المثال
التاريخى. أما الحقيقة فهى هذه: “إننا نحن أيضاً نأكل الفصح، الذى هو المسيح
“.. فماذا إذن؟ ينبغى علينا نحن أيضاً أن نأكله ونحن محتذين ومتمنطقين.
ولماذا؟ لكى نكون نحن أيضاً مستعدين للخروج، ولرحيلنا كذلك. فلا ينبغى لأحد ممَّن
يأكل الفصح أن ينظر نحو مصر بل نحو السماء، نحو أورشليم التى هى فوق. ]([8]).

أما القديس غريغوريوس
النزينزى
فإنه يتعَّمق فى معنى تمنطق الحقوين قائلاً: [ما هو المقصود بالحقوين،
لأنه يجب ألاَّ نغفلها؟ فلنجعل التطهير يشمل هذه أيضاً، ولنمنطق أحقاءنا منضبطة
بالعفة، كما أمر الناموس إسرائيل القديم عندما كانوا يشاركون فى الفصح.

لأنه لا يمكن لأحد أن
يخرج من مصر سالماً، أو يهرب من المهلك، إلاّ إذا ضبط هذه (الشهوات)، وجعل حقويه
يتغيران بذلك التجديد الصالح الذى بواسطته تتحول كل العواطف نحو الله، حتى يمكنه
أن يقول: “يارب أمامك كل تأوهى ” (مزمور 38: 9) وليست شهوتى فى
يوم من أيام الإنسان.. ]([9]).

ج بيت واحد يؤكل فيه فلا يخرج اللحم من البيت إلى الخارج.

لم يكن رش الدم هو كل
شىء إذ كان لابد لهم أن يأكلوا الخروف.. والأكل هنا إشارة إلى قبول الفادى الذى
يتحد لحمه بلحمنا. ومعلمنا بولس الرسول يقول: “لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن
عظامه ” (أفسس 5: 30).. ولاشك أن رش الدم وحده ما كان يفيد شيئاً ما
لم يصحبه أكل جماعة إسرائيل للخروف داخل البيوت. إن رش الدم فقط على القائمتين
والعتبة العليا، إنما يشير إلى الإنتماء الظاهرى لشعب الله. لكن المطلوب أن نتطهر
به ونصير واحداً معه.. ومن هنا نفهم كلمات الرب يسوع: “إن لم تأكلوا جسد ابن
الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم ” (يوحنا 6: 53).

ويربط القديس
هيبوليتس
(من القرن الثانى) بين أكل الفصح فى بيت واحد وبين وحدة الكنيسة
بقوله: [أنتم تأكلون فى بيت واحد لأننا مجمع واحد، كنيسة واحدة، حيث
يؤكل الجسد المقدس الذى للمسيح]([10]).

كما يقول أيضاً على ألا
يحملوه خارج البيت:

[لأن الاجتماع واحد،
البيت واحد. إنها الكنيسة الواحدة حيث يُؤكل جسد المسيح المقدس، أما خارج هذا
البيت الواحد أى الكنيسة فلا يحمل الجسد. ومن يأكله فى موضع آخر يُعاقب كشرير ولص]([11]).

د – عظماً من عظامه لا
يكسر (خروج 12: 46).

والمسيح عظمه من عظامه
لم تُكسر. يقول يوحنا الرسول: “فأتى العسكر وكسروا ساقى الأول والآخر المصلوب
معه. وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات ” (يوحنا
19: 32و33
).

ه لا يبقون منه شيئاً إلى الصباح والباقى يحرقونه بالنار (خروج12: 10).

كان كل الخروف يأكله
أهل البيت ولا يتركون منه شيئاً للغد، تعبيراً عن بساطة الإتحاد وكماله غير
المتجزىء. والباقى من الحمل كان يحُرق بالنار تنبيهاً للذهن أن الموضوع أكثر من أن
يكون أكلاً ساذجاً، فلحم خروف الفصح يحمل سراً يفوق مجرد الأكل وهكذا أُنزل المسيح
عن الصليب فى مساء يوم صلبه وموته([12]).

(6) المشتركون فى أكل
الخروف:

يأكله بنو إسرائيل ولا
يأكله الغرباء إلا إذا اختتنوا أولاً وكل غريب أو نزيل يختتن، له أن يأكل من الفصح.
بل حتى العبيد والخدام أيضاً (خروج 12: 44)، كما لا يجوز للإنسان النجس أن
يأكل منه (انظر عدد 9: 6-13).

كل التحذيرات والشروط
السابقة التى فُرضت على اختيار الحمل وطهيه وأكله ألقت مهابة على هذا الحمل المهيب،
ولكن عزل كل أجير وغريب وغير مختتن ونجس من الإقتراب منه لأكله، يُزيد من هذه
المهابة إلى الحد الذى ينبه كل ذهن أن أكل هذا الخروف ليس أمراً عادياً، بل هو سر
من أسرار الله!!

المختتن فقط هو الذى
يأكل من الخروف. والختان كان علامة الإنضمام إلى جماعة الله. والختان كان رمزاً
للمعمودية التى بدونها لا حق لإنسان أن يتمتع بباقى الأسرار الكنسية المقدسة
وبركاتها.

كما أن الإنسان
النجس لا يجوز أن يأكل منه، إلا فإنه موتاً يموت.
وفى هذا إشارة إلى أن من
يستهين بذبيحة المسيح الكفارية
الفصح الحقيقي نصيبه الموت
الأبدى “من خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة. فكم
عقاباً أشر تظنون إنه يُحسب مستحقاً من داس ابن الله، وحَسب دم العهد الذى قُدِّس
به دنساً وازدرى بروح النعمة. (عبرانيين 10: 28و29).

إن قصة خروف الفصح تمثل
عثرة وشك. لأنه من ذا الذى يصدّق أن دم خروف مرشوش على أبواب البيوت ينجى من
بداخلها من هلاك محقق؟!! لو قال موسى لشعبه أن يستعدوا للحرب من أجل الخروج من مصر
لكان الأمر أسهل فى تصديقه، مقبولاً على مستوى العقل.. لكن هذا مثالاً لجهالة
الصليب!!
ماذا يقول الرسول بولس: “فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة،
وأما عندنا نحن المخلصين فهى قوة الله.. ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً: لليهود
عثرة، ولليونانيين جهالة! وأما للمدعوين: يهوداً ويونانيين فالمسيح قوة الله وحكمة
الله “ (كورنثوس الأولى 1: 18و23و24).

ومازال كثيرون يتساءلون
فى سخرية، كيف أن الدم المسفوك على الصليب يخلص العالم كله ويفديه ويقدسه؟! لكن
هذا يتم بالإيمان على نحو ما حدث قديماً زمن موسى الذى قال عنه الرسول بولس: “بالإيمان
صنع الفصح ورش الدم لئلا يمسّهم الذى أهلك الأبكار. (عبرانيين 11:
28).

V الفصح والتقاليد القديمة:

كانت وليمة خروف الفصح
تبدأ بعد غروب الشمس وتستمر حتى وقت متأخر من الليل، وكان يجب أن تتم داخل أسوار
أورشليم. وأثناء الإحتفال بأكل خروف الفصح تُقام صلوات وليمة الفصح التى كان يرأسها
رب الأسرة.

وطبقاً لما جاء فى
التلمود الأورشليمى، كانت تُشرب أربعة كؤوس من الخمر (النبيذ) فى عشاء
الفصح
. قيل إن العدد أربعة فى هذه الكؤوس يشير إلى أربعة كؤوس
الانتقام التى سيعطيها الله فى
المستقبل للأمم لتشربها (انظر إرميا
25: 15و51: 7، مزمور75: 8و11: 6).
بينما ستعطى إسرائيل أربعة كؤوس تعزية
“الرب نصيب ميراثى وكأسى ” (مزمور 16: 5)،
“مسحت
بالدهن رأسى، كأسك روتنى ” (مزمور 23: 5)،كأس
الخلاص
آخذ وباسم الرب أدعو ” (مزمور 116: 13).. . وكما جاء فى
التلمود اليهودى أن الكأس المشار إليها فى الآية الأخيرة هى اثنين. أى أن المجموع
أربعة كؤوس. كان لا يُستخدم أى نوع من الخمر، بل النبيذ الأحمر فقط.
وكان يجب مزجه بالماء
(إضافة الماء إلى النبيذ فى تقدمة الإفخارستيا).

ومن وقت تقديم ذبيحة
المساء فى الهيكل حتى عشاء الفصح، كان لا
يُؤكل شىء بتاتاً
حتى ما يُقبل عليه الجميع بإستمتاع ولذة.. ألا نرى فى ذلك الأساس الذى
نسير عليه حالياً من الإمتناع عن الطعام قبل
التناول المقدس، وهو ما يعرف
بالإحتراس؟!

كان الإحتفال يبدأ
بالتقديس، يتلوه تناول الكأس الأولى من عصير الكرمة، ثم يسأل أحد الجلوس عن أهمية
هذا اليوم فيجيبه رئيس المتكأ أنه: “بيد قوية أخرجنا الرب من مصر.. ” (خروج
13: 14
)، يعقبها تسبيح الجزء الأول من الهلِّيل [مزمور 113: “هلليويا،
سبحوا ياعبيد الرب “، ومزمور 114: “عند خروج إسرائيل من مصر
“]، ثم الكأس الثانية وبعده طقس غسل الأيدى، ثم يُؤكل جزء من الأعشاب
المُرَّةٍ موضوع بين شطرتين من الفطير (خبز بدون خمير). بعد ذلك الكأس الثالثة،
ويقومون “بفتح الباب “، أثناءها يسبحون بالهلِّيل [مزمور 115: “ليس
لنا يارب ليس لنا “، ومزمور 116: “أحببت لأن الرب يسمع
صوتى “، ومزمور 117: “سبحوا الرب ياكل الأمم ” الذى مازالت
تسبحه كنيستنا فى كل عشية، ومزمور 118: “احمدوا الرب لأنه صالح ”
بلحن طويل [وهو نفس المزمور الذى يسبح به حتى الآن فى الكنيسة فى صلاة تسبحة نصف
الليل والمعروف باسْمِ الهوس الثانى]، ثم يتناولون الكأس الرابعة، ثم تُرفع تضرعات
إلى الله لكى يقبل منهم هذه الخدمة.

أما عادة “فتح
الباب ” فقد دخلت إلى طقس وليمة الفصح فى عصور يهودية متأخرة. فقد كانوا فى
جميع البيوت اليهودية بعد أن يشربوا الكأس الثالثة، أو كأس البركة، يفتحون الباب
ليدخل إيليا النبى، وكان يُوضع على اسمه كأس إضافية على المائدة، بوصفه السابق
لمجىء المسيا: “ليت الله كلى الرحمة يرسل لنا إيليا النبى.. الذى سوف يعطينا
البشارة المفرحة والخلاص والتعزية ” وقد سأل التلاميذ المسيح مرةً: “لماذا
يقول الكتبة إن إيليا ينبغى أن يأتى أولاً؟” فأجابهم المسيح: “إن إيليا
قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا ” (متى17: 10و12) ([13]).

V بين الفصح فى مصر وأرض الموعد:

لم يعد بنو إسرائيل
يمارسون طقس الفصح على نحو ما مارسوه فى مصر..
لم يعد الدم يُرش على القائمتين
والعتبة العليا.. لقد صار للرب بيتاً هو خيمة الاجتماع فى البرية، والهيكل بعد ذلك
فى أورشليم.. يقول السيد الرب لشعبه: “لا يحل لك أن تذبح الفصح فى أحد
أبوابك التى يعطيك
الرب إلهك، بل فى المكان الذى يختاره الرب إلهك ليحل
اسمه
فيه هناك تذبح الفصح “ (تثنية 16: 5و6).. لقد أصبح دم
الخروف يُرش على مذبح المحرقة، وكان شحمه يحرق عليه. وبدل من أكله بعجلة صاروا
يأكلونه براحة. وعوض المخاوف أصبح أعظم الأعياد المفرحة. ([14])

V كان من المحتم فى الفصح الأول أن يكون الخروف حولياً (ابن سنة)
لكن فى أرض الموعد كان عليهم أن يختاروا حملاً لا يقل عمره عن ثمانية أيام ولا
يزيد عن عام.. وكان كل خروف لجماعة لا يقل عددها عن عشرة ولا تزيد عن عشرين شخصاً،
لم تعد هناك فترة يوضع فيها الخروف تحت الحفظ لمدة أربعة أيام.

V كانت الإستعدادات لعيد الفصح تبدأ قبل حلوله بشهر كامل.. كان
السنهدريم – مجلس اليهود الأعلى – يُرسل مندوبين ليعلنوا أصحاب قطعان الأغنام
والماشية أن يرسلوها من أجل الذبائح كانت هذه الإعلانات بمثابة أوامر قانونية
للتنفيذ وإلا صودرت قطعانهم برسم الهيكل.. وكان مندوبون آخرون يهتمون بإصلاح
الجسور التى يعبر عليها الذين يفدون من بلاد أخرى خارج فلسطين.. كما كانوا يقومون
بدهان المقابر الواقعة على الطرق المطروقة العامة باللون الأبيض، لكى يحترس منها
السائرون خشية لمسها فيتنجسون وهم صاعدون إلى العيد ([15])

V كان عدد الذى يفدون إلى أورشليم فى عيد الفصح بحسب تقدير يوسيفوس
المؤرخ اليهودى يبلغ من 2.700.200
إلى أكثر من
ثلاثة ملايين 3.078.000 . ويقّدر يوسيفوس أن حوالى
256.000
خروفاً
كانت تُذبح كذبيحة فصح ([16])
وكانت مدينة أورشليم تضيق بهذه الأعداد الضخمة، لذلك كان أهل المدينة يعدون
الأمكنة والمخادع لراحة الآتين وكانت تنصب الخيام خارج أورشليم لإيواء الجموع.

V كان كثيرون من اليهود يصعدون إلى أورشليم قبل الفصح ليتطهروا وإلى
ذلك يشير إنجيل يوحنا “وكان فصح اليهود قريباً. فصعد كثيرون من الكور إلى
أورشليم قبل الفصح ليطهروا أنفسهم ” (يوحنا 11: 55، انظر أيضاً 2: 13و6:
4
).

كان على رب البيت أن
يقوم بعزل الخمير فى غروب يوم 13 نيسان – الذى هو بداية يوم 14 نيسان
– حيث أن اليوم فى التقويم العبرى يبدأ من الغروب وينتهى بغروب اليوم التالى. بأن
يفتش بشمعة مضاءة كل المواضع التى يحفظ فيها الخمير عادة، ثم يعزل
الخمير من البيت
. وكان قبيل البدء بالتفتيش كان يرفع دعاء: “مبارك أنت يا
يهوه إلهنا، ملك كل البشر يامن قدستنا بوصاياك، وأمرتنا أن نبعد الخمير “..
وبعد أن ينتهى من هذه العملية يقول “كل الخمير الذى فى حوزتى. الذى رأيته
والذى لم أبصره، ليصر عديم الوجود، وليُحسب كتراب الأرض “.. إلى هذا التفتيش
المجازى يشير بولس الرسول فى قوله: “نقوا منكم الخميرة العتيقة ” (كورنثوس
الأولى 5: 7
).

ويرى التقليد اليهودى
فيما قاله صفنيا النبى، إشارة إلى التفتيش بشمعة “ويكون فى ذلك الوقت أنى أفتش
أورشليم بالسرج “ (صفنيا 1: 12) ([17])

كان يُمتنع عن أكل شىء
فيه خمير قبل ظهر يوم 14 نيسان وكان لنزع الخمير طقس خاص عند اليهود وهو أنه يُوضع
رغيفان على دكة فى الهيكل، فكان كل الشعب يأكل الخمير مدة بقائهما على الدكة، ومتى
رُفع أحد الرغيفين عن الدكة إمتنع الجميع عن الخمير ولكنهم لا يحرقون الباقى منه
إلا عند رفع الرغيف الثانى. ([18])

V بعد بناء هيكل أورشليم، كان على كل إسرائيلى قادر صحياً وفى حالة
عدم الدنس، ولا يُقيم بعيداً عن أورشليم بأكثر من خمسة عشر ميلاً، أن يصعد إلى
أورشليم. وعلى الرغم من أن النساء لم يكنّ ملزمات بالصعود إلى أورشليم، لكننا نعلم
من الأسفار المقدسة ومن القوانين التى سنتها السلطات اليهودية – حسبما يذكر
يوسيفوس([19])
المؤرخ اليهودى – أن صعود النساء كانت عادة متبعة (انظر صموئيل الأول 1: 3 -7،
لوقا 2: 41 و42)
.

V كانت ذبيحة المساء وهى ذبيحة المحرقة الدائمة التى تقدم فى الهيكل،
كانت تُذبح عادة فى الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، وتُقدم على المذبح فى
الثالثة والنصف. وفى عشية الفصح كانت تُذبح مبكراً ساعة. وإذا وقع 14 نيسان
يوم جمعة كانوا يبكرون ساعتين حتى يتجنبوا يوم السبت وفى مناسبة صلب
المسيح يوم الجمعة العظيمة ذُبحت ذبيحة المساء فى الساعة الواحدة والنصف،

وقُدمت على المذبح فى الثانية والنصف بعد الظهر([20])
وكانت ذبيحة المساء تسبق ذبيحة خروف الفصح. أى أن رب المجد صُلب فى نفس
الوقت الذى كان يُذبح فيه خروف الفصح
.

V بينما كانت خراف الفصح تُذبح كان الكهنة يبوقون بأبواقهم الفضية
ثلاثاً
([21]) كانت
ترانيم التسبيح تتألف مما يعرف باسْمِ الهليل
Hallel التى تشتمل على المزامير من (113 – 118).

V كان هذا العيد وقت فرح لكل إسرائيل.. من داخل إسرائيل وخارجها كان
الشعب يفدون فى جماعات ويسيرون مرتلين مزاميرهم، وقد أحضروا معهم ذبائحهم – محرقة
وسلامة – إذ كان ما يجب أن يظهر الإنسان فارغاً أمام الرب إلهه ([22])
(انظر خروج 23: 15، تثنية 16: 16 و17).. هكذا نقرأ عن يوسف والعذراء مريم
ومعهما الرب يسوع طفلاً، إنهم كانوا يصعدون كل سنة إلى أورشليم فى عيد الفصح (لوقا
2: 41)

V المسيح فصحنا الحقيقى:

أطلق المسيحيون الأوائل
على عيد القيامة اسم “عيد الفصح “،
بل وأطلقوا كلمة
“الفصح ” على “مائدة الإفخارستيا ” أو “عشاء
الرب
اعتماداً على الآية: “شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح ” (لوقا
22: 15). وفى القرن الثانى المسيحى كانوا يطلقون على
“مجىء الرب
” لقب “فصح الرب “.

هذه الحقيقة استقاها
الرسل من الرب يسوع نفسه أثناء وليمة العشاء الأخير، حيث قارن بين ذبيحة نفسه وبين
خروف الفصح مستخدماً كلمات طقسية كانت تتلى أثناء وليمة خروف الفصح مثل: “جسد،
دم، يسفك “

V “خذوا كلوا هذا هو جسدى.. هذا هو دمى الذى للعهد الجديد الذى
يُسفك من أجل كثيرين. (مرقس 14: 22-24)

V “شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم لأنى أقول
لكم إنى لا آكل منه حتى يُكْمل فى ملكوت الله. ” (لوقا 22: 15و16)

هذه المقارنة أصبحت هى
الأساس الذى قام عليه الإحتفال بعيد الفصح فى الكنيسة الأولى، ويمكننا اكتشاف ذلك
من هذه الآيات:

(أ) “إنى لا آكل
منه بعد حتى يُكْمل فى ملكوت الله ” (لوقا 22: 16)، حيث يدعو الرب
يسوع وليمة زمن الخلاص (الإفخارستيا) كمالاً للفصح.

(ب) “إذاً نقوا
منكم الخميرة العتيقة لكى تكونوا عجيناً جديداً كما أنتم فطير. لأن فصحنا أيضاً المسيح
قد ذُبح لأجلنا “. (كورنثوس الأولى 5: 7)، حيث نرى أن الجماعة
التى قدم المسيح ذاته ذبيحة من أجلها كخروف فصح تُسمى “فطيراً “. هذا
معناه أن الثبات فى المسيح واقتلاع بذور الشر(الخمير) هو تواجد فى الفصح الحقيقى.

) “لذلك
منطقوا أحقاء ذهنكم صاحين.. فسيروا زمان غربتكم بخوف عالمين أنكم افتديتم.. بدم
كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح ” (بطرس الأولى 1: 13-19
حيث نرى القديس بطرس يشّبه الذين آمنوا بالمسيح بشعب الله فى القديم الذين افتدوا
بدم خروف بلا عيب (خروج12: 27)، وساروا فى البرية كغرباء، وهم ممنطقون
أحقاءهم (خروج12: 11)، وهو هنا يستخدم الفعل “افتُديتم ” وهو نفس
الفعل الذى تستخدمه الترجمة السبعينية للفداء من عبودية فرعون([23])
(خروج 15: 13)

وقد انحدر إلينا
التقليد التفسيرى بخصوص هذا الموضوع مبكراً جداً منذ أيام الشهيد القديس يوستين
إذ يقول:

[إن الذين خلصوا من شعب
إسرائيل فى مصر إنما خلصوا بدم الفصح الذى مسحوا به قوائم أبوابهم وأعتابها، لأن
الفصح كان المسيح الذى ذُبح فيما بعد. فكما أن دم الفصح خلِّص الذين كانوا فى مصر.
هكذا دم المسيح يقى (يحفظ) من الموت الذين يؤمنون به. ولكن هل هذا يعنى أنه إذا لم
تكن هذه العلامة موجودة على الأبواب كان الله يخطىء فى معرفة الذين له؟ كلا، ولكن
هذه العلامة- أى الصليب – كانت استعلاناً مُسبقاً عن الخلاص الذى سيتم بدم المسيح
الذى يخلِّص جميع الخطاة فى كل الأمم عندما يقبلون الصفح عن خطاياهم ولا يعودون
يخطئون. ]([24])

ويقول القديس كيرلس
الإسكندرى
فى استعلانه لدقائق سر الإفخارستيا من الوجهة الروحية والسلوكية
أيضاً، وذلك بالمطابقة على ما جاء وتأسس فى طقس خروف الفصح فى مقالة عن العبادة:

[إن كل من يأكل المسيح
أى يشترك فى جسده المقدس وفى دمه، يلزم أن يحصل على روحه القدوس ويجاهد ليحيا فى
داخل تدبير المسيح وفكره، أى يدرك كل ما فى باطن المسيح. هذه الحقيقة واردة
ومقترحة لنا فى الكتاب المقدس كما جاء – فى سفر الخروج – أنه ينبغى أن تُؤكل رأسه
مع أكارعه (رجليه) وجوفه، وفى الحقيقة جوفه يعنى قلبه، وأليس القلب هو
تعبير عن الروح، أما أكارعه- أى رجلاه – فيعنى أعماله الصالحة وسلوكه، أما بقية
الجوف فيعنى حياته الداخلية المخفية]([25])

وتأتى مقالات يوحنا
ذهبى الفم
مطابقة للتقليد الذى وضعه كيرلس الإسكندرى فى تطبيقاته الروحية
والأدبية والسلوكية على الإفخارستيا كما استوحاها من طقس خروف الفصح، ففى مقال له
عن الفصح يقول:

[الناموس كان ينهى
عن أكل لحم الخروف نيئاً
..، هذا بالنسبة لنا يُلهمنا معانى عظيمة، فهو يعنى أولاً
أنه لا ينبغى أن نقترب من الإشتراك فى جسد الرب ونحن فى حالة إهمال وكسل، وثانياً
بدون توقير زائد، وثالثاً بدون أن نستجيب للإتحاد بجسده بالأعمال الصالحة،
وبولس الرسول أيضاً يرى مثل ذلك فى الذين يحولون الإفخارستيا إلى وليمة فخمة
فيحولون معنى الشركة المقدسة إلى وسيلة للأكل والشرب، وهؤلاء يرفضهم الرسول لأنهم
لا يقتربون بالقداسة إلى ما هو مقدس فيقعون تحت الدينونة كمستبيحين، ورابعاً
يعنى أولئك الذين لا يهيئون جسمهم للإتحاد اللائق بجسد المسيح حتى يصيروا مستحقين
لأخذ الروح القدس]([26])

كان خروف الفصح الذى
يُذبح كل سنة هو السر
sacrament القائم فى العهد القديم بين الله وشعب إسرائيل، الذى يقرر حقوقهم
فى هبات الإختيار والتبنى والإشتراع والمواعيد سنة بعد سنة.

ولكن لما قام رؤساء
الكهنة والكتبة مع رؤساء شعب إسرائيل على المسيح وذبحوه على الصليب فى يوم فصحهم
توقف الفصح القديم من ذلك اليوم ومن تلقاء ذاته، وظهر المسيح أنه الفصح الكبير
الحقيقى، فصح العالم كله، فصح كل زمان ومكان، الذى ظل الفصح القديم يخدم مجيئه إلى
أن أتى..

وحينما ذبح المسيح ذاته
بالنية وسلم جسده لتلاميذه ليأكلوه فى خبز الإفخارستيا أعلن نفسه أنه الفصح
الحقيقى الجديد، وحينما سلمهم دمه فى الإفخارستيا ليشربوا منه، ابتدأ فى الحال
العهد الجديد وصارت الإفخارستيا ذبيحة فصحية، ذبيحة عبور فوق الموت والظلمة
والجحيم والعالم والخطية والزمن.

إن الكتاب يعلن صراحة
أن المسيح هو الفصح الجديد “لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا ” (كورنثوس
الأولى5: 7)،
فصار جسده حياة وقيامة ودمه عهداً جديداً وغفراناً لخطايا العالم
كله!



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى