بدع وهرطقات

كهنوت جميع المؤمنين



كهنوت جميع المؤمنين

كهنوت
جميع المؤمنين

يفخر
المعمدانيّون بإعادة اكتشاف “عقيدة كهنوت جميع المؤمنين” التي أخذوها عن
مارتن لوتر، و”قبولها بحماسة مطلقة”. وسبب فخرهم لا علاقة له بطبيعة
الكنيسة المواهبيّة، بل بكون هذه “العقيدة”، عندهم، “تتناقض مع
فكرة جسم كنسيّ كهنوتيّ يقف بين المؤمنين والله”. لن نكرّر أقوالهم التي تأبى
الكهنوت سرّاً. فما يعنينا، هنا، هو اعتقادهم القاطع أنّ الرسل أسندوا القيام
بالعشاء الربّانيّ “إلى المؤمنين عامّة”، ولم يسندوه إلى رئيس (عوض
سمعان، الكهنوت، صفحة 252). ففي الكنيسة الأولى، كما يزعمون، لم يكن يوجد واحد
ينفرد بالشكر، بل الكلّ يشكرون، والكلّ يعظون، والكلّ يصلّون. وحجّتهم أنّه لا
توجد، في الكتاب المقدّس، آيةٌ تنصّ على أنّ القيام بالعشاء الربّانيّ منوط
بالقسوس، أو أصحاب المواهب، بينما توجد آيات متعدّدة (أعمال 2: 42، 20: 7؛1كورنثوس
10: 16، 11: 22- 33) تدلّ على أنّ القيام به يخصّ “جميع المؤمنين
الحقيقيّين”، أي لا يحتاج إلى رئيس (م.ن.، صفحة 286- 292، و332- 337، و379-
388).

 

لا
بدّ من التأكيد، بدءاً، أنّ فخر المعمدانيّين، في أبعاده الظاهرة، يبيّن أنّهم لم
يحسنوا قراءة الكتب ومعانيها الممدودة. ولا أقصد، بهذا، ما هو معروف، أي أنّ شعب
الله هو “كهنوت ملوكيّ” (1بطرس2: 5 و9؛ رؤيا يوحنّا 1: 6، 5: 10، 20:
6)، لكن أنّهم يحمّلون المعروف ما لم يقصده. فعوض سمعان، مثلاً، بركونه إلى الآيات
المبيّنة في سياق كلامه، يريد أن يوهم قارئه بأنّ الكنيسة الأولى كانت تقيم الخدمة
الإلهيّة من دون رئيس. وهذا استخفاف بعقول الناس. فالآيات، التي استعملها، تدحض هي
عينها مزاعمه. وإذا راجعنا، مثلاً، اقتباسه الثاني من أعمال الرسل، نلاحظ أنّه
يبني كلامه على قول كاتبه: “واجتمعنا يوم الأحد لكسر الخبز”، ويهمل ما
جاء بعده، أي ما يؤكّد أنّ بولس نفسه، بعد أن أحيا فتًى كان موجوداً في
“العلّيّة التي اجتمعوا فيها”، قد “كسر الخبز” (20: 11). وفي
تفصيل ما جرى، نقرأ أنّ ثمّة فتًى، “اسمه أفطيخوس”، كان “جالساً
على حرف النافذة. فأخذه نعاس شديد وبولس يطيل الكلام، فاستغرق في النوم، فسقط من
الطبقة الثالثة إلى أسفل، وحمل ميتاً” (7- 12). ولا يخفى على عارف ورع أنّ
هذا الاقتباس، الذي يؤكّد أنّ بولس ترأّس الخدمةَ الإلهيّة في ذلك الاجتماع، هو من
أبلغ ما أتى به العهد الجديد عن هذه الخدمة التي تحيينا من كلّ موت (رسالة القدّيس
إغناطيوس إلى أهل أفسس 20: 2). وهذا عينه يمكننا ملاحظته في الآيات التي استلّها
من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، وتالياً في إصرار كنيسة العهد الجديد على أن
تقيم “أساقفة (وكهنة)، ليرعوا شعب الله الذي اقتناه بدمه”.

مقالات ذات صلة

 

ربّما
لا نحتاج، في موضوع الرئيس، إلى آيات نضيفها إلى ما ذكرناه آنفاً (رعيّتي
43/2006). وهذه يمكننا أن نتتبّع معانيها في الشهادات القديمة التي وصلت إلينا،
ولا سيّما ما قاله الشهيد يوستينوس الفيلسوف (+165) عن الخدمة الإلهيّة كما كانت
تجري أوّلاً. يقول: “في اليوم المدعوّ يوم الشمس (الأحد)، يقام اجتماع في
مكان واحد لجميع الساكنين في المدن والأرياف، وتُقرأ، ما اتّسع الوقت، مذكّرات
الرسل وكتب الأنبياء. وعندما ينتهي القارئ، يلقي الإمام (الرئيس) عظة، ويحثّ على
السير في ضوء تلك التعاليم الحسنة. ثمّ نقف جميعنا، ونرفع الصلوات. ومتى ختمنا
صلاتنا، كما أسلفنا، يقدّم خبز وخمر وماء، فيصلّي الإمام، ثمّ يشكر ما استطاع،
ويجيب الشعب قائلاً: آمين” (الدفاع الأوّل، الفصل 67). فهذه الشهادة تزيد في
فضح ما أتى به المعمدانيّون جهلاً وبهتاناً. ولا نلبسهم ما لا يرتدونه إن قلنا إنّ
عصب الأزمة، التي تعصف بهم، أساسه إغفالهم أنّ الخدمة الإلهيّة، التي يجريها المسيحيّون
في كلّ زمان ومكان، هي الخدمة عينها التي أسّسها الربّ في علّيّة صهيون (1كورنثوس
11: 23- 26). فأنت، مسيحيّاً، لا يمكنك أن تهمل ما جرى في العلّيّة، وتبدأ من
مكانك. فإن فعلت، يصبح ما تجريه شأناً آخر لا علاقة له بالأصل الممدود. وعليه،
يقول الأرثوذكسيّون، في الخدمة الإلهيّة، إنّ الربّ هو “المقرِّب والمقرَّب
والقابل والموزّع” (راجع: 1بطرس 2: 5). ومعنى القول واضح: إنّ الربّ، في كلّ
اجتماع هو الذي يحقّق الخدمة عينها (ولا حاجة بنا إلى أن نؤكّد ما ثبّته تراثنا،
وهو أنّ هذه الخدمة واحدة في كلّ زمان ومكان). ولا يبرّر هذا الإغفال أن نقول،
مثلاً، إنّ المعمدانيّين يردّون، بمزاعمهم، على الفكر المدرسيّ الذي يرجع الكنيسة
إلى العهد القديم بجعله كهنوت الأسقف، الذي هو “أيقونة المسيح”، يلغي
كهنوت سائر المؤمنين. فالطارئ لا يردّ عليه بطارئ. والغريب لا يُردّ بغريب. فهم،
إن كانوا لا يعرفون، يجب أن يعرفوا أنّ التراث المسيحيّ، في موضوعنا، اعتبر أنّ
كلّ مؤمن يشارك في الاجتماع الإفخاريستيّ إنّما يخدم الله بوصفه كاهناً له. ولكنّه
لم يعتبر شركةَ أحدٍ فرديّة، وتالياً تلغي وجود الرئيس “المؤتمن الوحيد على
أسرار الله” (رسالة القدّيس إغناطيوس إلى أهل فيلادلفيا 9: 1).

 

وهذا،
بالضرورة، يعني أنّ الشعب، الذي ينقذه الله من بعثرته ويجعله في الخدمة الإلهيّة
“كنيسته” (1كورنثوس 11: 18)، لا أحد فيه يلغي أحداً. أي أنّ الرئيس،
الذي هو عضو في شعب الله و”يقدّس ككاهن مع الشعب كلّه” (الأب نيقولا
آفاناسييف، كنيسة الروح القدس، صفحة 246)، لا يستبعد وجوده سائر أعضاء الشعب.
والعكس صحيح. ثمّة أمران ثابتان لا يستقيم كلام على الاجتماع الإفخاريستيّ من
دونهما. الأوّل أنّ الرؤساء لا يمكنهم أن يقيموا الخدمة وحدهم، والثاني أنّه لا
يمكن أن يقام الاجتماع من دونهم (في هذه الحال، لا يعود يوجد كنيسة!). وبهذا
المعنى، يقول القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ: “سرّ الشكر هو السرّ الذي يتمّمه
الأسقف أو من أوكل إليه ذلك” (الرسالة إلى أهل أزمير 8: 1). ما من أحد يلغي
أحداً. لكن، من ينفصل عن اللقاء الإفخاريستيّ (أو يشوّه معانيه) يُحرم “من
خبز الله”، و”يقطع ذاته من شركة كنيسته” (رسالة القدّيس إغناطيوس
إلى كنيسة أفسس 5: 2 و3).

 

مشكلة
المعمدانيّين أنّهم لا يأتون من معنى العهد الجديد. بل يحكمهم ما قرّروه بالصدفة!
أي يؤثرون التشويش والفوضى اللذين دانهما العهد عينه (1كورنثوس 14: 33 و40). ولن
يمكنهم أن يستعيدوا الحقّ سوى بقبول المسلّمة الأساسيّة المتعلّقة بلاهوت الكنيسة
الإفخارستيّ التي قلّدنا إيّاها الأوائل، وهي: “لا توجد كنيسة محلّيّة من دون
خدمة إمام”. هذا هو أمر الله الذي يعطينا وجودنا، ويجعلنا له، حقّاً،
“ملوكاً وكهنة”.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى