علم

تاريخ علم الباترولوچى



تاريخ علم الباترولوچى

تاريخ علم
الباترولوچى

أول
من استخدم كلمة
Patrologia اللاهوتي اللوثري John
Gerhard
من رجال القرن السابع عشر
كعنوان
ٍ لعمله الذي
نشرّه عام ١٦٥٣، إلاَّ أن فكرة نشر أقوال الآباء تمتد إلى
القرون الأولى عينها، ويمكننا – إن جاز لنا ذلك – أن نقسم تاريخ علم الباترولوچي
إلى عدة مراحل، وإن كانت هذه المراحل ليست محدّدة تمامًا.

 

١.
بدء ظهور المسيحيّة

كانت
أقوال الآباء في هذه الفترة تمثّل نصيبًا من التقليد الكنسي، يتقبّله كل جيل
ويودعه لدى جيل آخر. وهكذا انتشرت أقوال الآباء لا لغرض دراسي ولا كهدف في ذاتّها،
وإنّما كوديعة تحمل داخلها إيمان الكنيسة الحيّ.

لكن كيف حفظ هذا العصر أقوال الآباء وقام
بنشرّها؟

ا.
أقوال الآباء وكتاباتهم بكونها جزءًا لا يتجزّأ من وديعة الإيمان التي
يتسلّمها جيل لكي يسلّمها لجيلٍ آخر بغير انحراف. ونستطيع أن نُدرك حرص آباء
الكنيسة الأولى على ذلك من قول القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [يليق بنا أن
نحفظ التقليد الذي تسلّمناه بالتتابع من الآباء ثابتًا بغير تغيّر]، وقول القدّيس
كيرلس الإسكندري
: [إنني محب للتعليم الصحيح، مقتفيًا آثار آبائي الروحيّة[1].]

ب.
كان البعض يشغف بتسجيل عظات آبائهم، وجاءت هذه العظات كتفاسير وشروح
للأسفار المقدّسة أو لعلاج مواضيع روحيّة أو عقائديّة الخ.، مثل عظات القدّيس
يوحنا الذهبي الفم، وعظات القدّيس أغسطينوس.

ج.
امتدّت التلمذة – خاصة في مصر – فاحتضنت الكثير من رجال الشرق والغرب. فقد وفد إلى
مصر كثير من القادة يتتلمذون على أيدي متوحّدي مصر أو داخل الأديرة أو بمدرسة
الإسكندريّة
، ويدوّنون أقوال الآباء وسيرهم وأفكارهم ويترجمونها بلغاتهم من
يونانيّة وسريانيّة ولاتينيّة.

نذكر
على سبيل المثال القدّيس يوحنا كاسيان (حوالي
٣٦٠–٤٣٥م) الذي تتلمذ على آباء مصر العظام
وسجّل خبراتهم في كتابين مشهورين: المناظرات
Conferences مع آباء البريّة، وقد جعله بندكت كتاب القراءة اليوميّة للرهبان
الخاضعين له، والمؤسّسات أو الدساتير
Institutions حيث عالج قوانين الرهبنة وناقش كيفيّة نصرة الراهب في الحرب
الروحيّة.

كما
جاء المؤرّخ الرهباني المشهور “بالاديوس” (حوالي
٣٦٥–٤٢٥م) إلى مصر يتعرّف على حياة نساكها
والتقى بالقدّيس ديديموس الضرير مدير مدرسة الإسكندريّة اللاهوتيّة أكثر من مرّة،
وسجّل لنا الكثير من التراث الرهباني في كتابه “التاريخ اللوزياكي” أو
“فردوس الآباء”.

وسجّل
لنا روفينوس
Rufinus (حوالي ٣٤٥–٤١٠م) في كتابه
“تاريخ الرهبنة (في مصر) هستوريا موناخوم” أحاديث عن آباء مصر الرهبان،
وقد زار مصر عام ٣٧٢م والتقى بالقدّيسة ميلانيّا الكبيرة وزار
رهبان البرّيّة. درس لعدة سنوات في مصر، متتلمذًا على يدي القدّيس ديديموس الضرير.

هذا
وقد جذبت مدرسة الإسكندريّة الكثير من قادة الكنيسة في العالم، فجاءوا إليها أو
نقلوا إليهم تراثها يتتلمذون عليه.

وبلغ
شغف أوسابيوس أسقف فرسيل (بإيطاليا) بكتابات أوريجينوس أنّه لم يرى فلسفة حقيقيّة
في غيرها.

د. حفظ تراث الآباء عن
طريق حركات الترجمة المستمرّة خاصة من اليونانيّة إلى اللاتينيّة أو
السريانيّة أو الأثيوبيّة.

ه.
خرج الكثير من الرهبان ومديرو مدرسة الإسكندريّة إلى العالم بروح الكرازة أو
تأسيس أديرة في الخارج
حاملين معهم بعضًا من تراثنا.

 

٢.
ظهور مؤرّخين كنسيّين

يعتبر
يوسابيوس القيصري (حوالي ٢٦٠–٣٤٠م)
أبًا لعلم الباترولوچي ومؤسّسًا لفكر نشر أقوال الآباء وكتاباتهم[2]،
حيث أشار في كتابه “التاريخ الكنسي
Ecclesiastical History
الذي نُشر عام ٣٢٦م: [هذا هو هدفي أن أكتب تقريرًا عن خلافات
الرسل القدّيسين… وأن أشير إلى أولئك الذين – في كل جيل – نادوا بالكلمة
الإلهيّة سواء كان شفاهًا أو كتابةً[3].]

لقد
خلق هذا الكتاب “المؤرّخين الكنسيّين” في الشرق والغرب، إذ حاول كثيرون
تكملة هذا العمل. نذكر منهم سقراط
Socrates وسوزومين Sozomen وثيؤدرت Theodert الذين جاءت أعمالهم متقاربة إلى حدٍ ما، لكنّهم تجاهلوا الكنيسة
الغربيّة اللهم إلاَّ فيما يخص علاقتها بالكنيسة الشرقيّة. وفي الغرب قام روفينوس
Rufinus بترجمة يوسابيوس إلى اللاتينيّة، وأضاف إليه بعض الأحداث حتى عصر
ثيؤدوسيوس الكبير عام ٣٩٢.

 

٣.
ظهور كتاب “مشاهير الرجال”

جمعه
القدّيس چيروم في السنة الرابعة عشر من حكم ثيؤدوسيوس، أي عام
٢٩٣م، لطلب ّصدّيقه
Dexter. حيث أراد بعمله
هذا أن يرد على صيلسس
Celsus وبروفري Prophyry ويوليان Juluan وغيرهم من الوثنيّين في اتّهاماتهم المستمرّة بأن المسيحيّين
قليلو الذكاء، فسجّل چيروم الكتَّاب الذين يعتزّ بهم الأدب المسيحي (حتى عام
٣٧٩م) في ١٣٥ فصلاً، حيث بدأ بالعصر الرسولي
وانتهى بنفسه في السنة التي وضع فها هذا العمل، مقدّمًا في كل فصل عرضًا لسيرة
الكاتب وتقييمًا لأعماله.

ويلاحظ
في هذا الكتاب
De Viris
Illustribus
:

ا.
اعتمد القديس چيروم في الثمانية وسبعين فصلاً الأولى على تاريخ يوسابيوس اعتمادًا
كبيرًا. وقد ردّد نفس أخطائه، ومع هذا يعتبر عمله مصدرًا أساسيًا في المؤلفّات
الكنسيّة الأولى، إذ هو المصدر الوحيد الذي بين أيدينا – إلى الآن – عن بعض الكتاب
القدامى مثل مارقيوس فيلكس
Marcuis
Felix
ونوفاتيان وترتليان
وغيرهم.

ب.
في مقدّمته حدّد چيروم مجال عمله وهو “أولئك الذين كتبوا عن الكتاب
المقدّس”، لكنّه إذ بدأ عمله شمل الكتَّاب في الأمور اللاهوتيّة.

ج.
ما أن نشره حتى عبر القدّيس أغسطينوس[4]
عن أسفه أن چيروم لم يفصل بين الكتَّاب الأرثوذكس والهراطقة. فقد حمل بين المؤلفين
أسماء هراطقة مثل تاتيان
Tatian وبريسكيليان Priscilian وBasdesanes والأريوسي المتطرف أونوميوس وفلاسفة وثنيّين مثل سينيكا Seneca ويهودًا مثل فيلون الإسكندري ويوسيفوس.

د.
لم يقم چيروم بهذا العمل لأغراض علميّة بل لتحقيق أغراض عمليّة، لهذا قدّم تعريفًا
مختصرًا عن بعض الكتَّاب غير المعروفين، وفي نفس الوقت جاءت كتاباته مقتضبة جدًا
وتافهة بالنسبة لبعض الكتَّاب المشهورين مثل القدّيسين أثناسيوس الرسولي وباسيليوس
القيصري وكبريانوس وغريغوريوس أسقف نيصص وأبيفانيوس وأمبروسيوس.

ه.
تجاهل چيروم كتابات أغسطينوس التي ظهرت في ذلك الوقت، ولعلّ سرّ هذا اختلافهما في
بعض وجهات النظر.

بقي
كتاب چيروم خلال أكثر من ألف عام موضع اعتبار مؤرّخي المؤلفّات المسيحيّة الأولى
في الغرب، ناظرين إليه كأساس لكل دراستهم، مشتاقين إلى تكميل هذا العمل، فقد قام
Prosper Aquitanus ّصدّيق أغسطينوس بتكملة عمل چيروم حتى عام
٤٤٩م. إلاَّ أن عمل چيروم بقي مقترنًا بالتكملة التي قام بها
جيناديوس
Gennadius، وهو كاهن مرسيليا (تنيّح عام ٤٩٦م) الذي إتبع
نفس الروح في كتابته، ويلاحظ عليه:

ا.
عمل ضئيل وغير منظم، فعمله ككل يعتبر أقل أهميّة من عمل چيروم.

ب.
شمل عمله ٩٩ فصلاً حيث استمرّ إلى عام ٤٩٥م، خاتمًا
كتابه بفصل آخر عن كتاباته هو.

ج.
كان جيناديوس نصف بيلاجي، وقد ظهر ذلك في انطباعاته على وصفه وتعليقاته بصورة أو
أخرى، ومع ذلك فإنّه يُعتبر رجلاً واسع الإطلاع.

قام
بعد جيناديوس كثيرون يقدّمون أعمالاً تحمل ذات المنهج، نذكر منهم ايسيذورس
Isidore of Serville (تنيّح عام ٦٣٦) الذي أعطى اهتمامًا خاصًا
بالكتَّاب الأسبان[5]، والأسقف
Ildephonsus of Toledo (تنيّح عام ٦٦7م). وفي أواخر القرن الحادي عشر وأوائل
القرن الثاني عشر قام مؤرّخ سيَر الآباء البندكي
Sigebert of Gembloux ببلچيكا بمحاولة جديدة لتقديم المؤلفّات المسيحيّة بصورة معاصرة
لزمانه. وفي عام ١١٢٢م قام هونوريوس
Honorius Ausgusodunum بعمل مشابه تحت اسم “الكنيسة المنيرة De Luminaribus Ecclesaie“. وحوالي عام ١٤٩٤م أمدنا الأب
ترثيموس
John Trithemius بسير ٩٦٣م من الآباء والكتاب مع تفصيل
لكتاباته، منهم من هم غير لاهوتيّين. وقد تقبّل معلوماته عن الآباء الأولين من
چيروم وجيناديوس.

كان
ترثيموس أبًا لدير بندكتي في
Sponheim، حصل على شهرة فائقة إذ جمع مكتبة من حوالي
٢٠٠٠ مجلّدا، وكان بعض النبلاء يزوّرونه لقراءة الآباء
اليونان واللاتين[6]. وقد احتضن
الشماس
Myraus هذا العمل وهذّبه. ثم جاء بعد ذلك الكاردينال R. Bellarmine الذي أعطى اهتمامًا خاصًا للأدب الكنسي القديم بطريقة عمليّة.

هذا
عن الغرب، أمّا بالنسبة للشرق فقد قام البطريرك فوتيوس
Photius
بطريرك القسطنطينيّة الذي تنيّح عام ٨٩١م بعمل مماثل تحت عنوان
Photil Bibliotheca يمتاز بالدقّة كما يحوي أعمال بعض المؤلفين الوثنيّين.

أما
في الكنيسة القبطيّة قام بعض المؤرّخين مثل يوحنا النقيوسي وغيره، كما اهتم
الأقباط بنسخ كتابات الأولين…

وفي
القرن الخامس عشر قام في القسطنطينيّة نسيفورس كالستي بن كالستوس يلخص الأعمال
السابقة لأسلافه ويضع تاريخًا للكنيسة منذ نشأتها حتى عام ٩١١م.
استخدم كتابات يوسابيوس وأضاف سير بعض الرهبان، وقد عبر عبورًا سريعًا في حديثه عن
الكنيسة اللاتينيّة بعد القرن الخامس الميلادي.

 

٤.
مرحلة علميّة جديدة

انطلقت
مرحلة جديدة في علم الباترولوچي في القرنين السادس عشر والسابع عشر بظهور أول تجمّعات
للمؤلفّات الكنسيّة القديمة ونشرّها في طبعات ممتازة.

وجاء
القرن التاسع عشر بفيض من الاكتشافات الجديدة في نصوص الآباء الشرقيّين، وبدأ ظهور
إحساس بضرورة وجود طبعات مدروسة ومضبوطة علميًا. وقد افتتحت أكاديميات فيينّا
وبرلين هذا العمل بطبع مجموعات محكمة للآباء الشرقيّين والغربيّين. كما قام
الدارسون الفرنسيّون بنشر طبعات لأعظم مجموعتين للمؤلفّات المسيحيّة الكنسيّة
الشرقيّة، وأنشأت كثير من جامعات الغرب كراسي خاصة بعلم الباترولوچي. وكان من ثمر
هذا كلّه أنّه بدأ يظهر في كنيسة الغرب في القرن العشرين اتجاهًا لدراسة فكر
الآباء ومفاهيمهم واصطلاحاته وعقائدهم.

 

نصيبنا
في علم الباترولوچي

يتطلّع
الغربيّون إلى كنيسة مصر وكرسي الإسكندريّة كينبوع حيّ يفيض على العالم المسيحي
بالكثير من التراث الآبائي، نصوصًا وروحًا.

ففي
أواخر العصور الوسطى وبداية العصر الحديث حمل علماء الغرب كنوز أديرتنا إلى
متاحفهم وجامعاته، وصارت مادة أساسيّة في قيام علم الباترولوچي. وإلى اليوم لا
تزال مخطوطات مصر وأوراق البردي المصريّة تفتح آفاقًا جديدة في علم الباترولوچي،
وكما قال
Quasten الأستاذ بجامعة أمريكا الكاثوليكيّة بواشنطون إنّنا نشكر مصر
التي قدّمت لنا الكثير من أوراق البردي تحمل إلينا مقالات كنّا مجرّد نسمع عنها في
كتابات القدّيس إيريناؤس وغيره
. وقد ختم حديثه عن تاريخ علم الباترولوچي
بقوله: [علاوة على هذا فإن أوراق البردي المصريّة المكتشفة حديثًا قد أعادت
للدارسين أعمال آبائيّة مفقودة[7].]

يتحث
الأب
Jungmann في كتابه The
Early Liturgy
عن بركات رمال مصر
في الكشف عن الليتورچيات والكتابات الآبائيّة القديمة.

بقي
لنا أن ندرك أن كنيسة الإسكندريّة – حسب شهادة الغرب ذاته – لا تزال تحيا بالروح
الآبائيّة الأصيلة، تستطيع أن تنتفع بالأبحاث العلميّة التي قام بها الغرب في هذا
المجال، بكونها دعوة لاسترجاع الكنيسة في المسكونة كلّها إلى فكرها الأول.

ظهور
“علم الباترولوچي” وانتشار كتابات الآباء ما هو في الحقيقة إلاَّ نوعًا
من “الحركة الأرثوذكسيّة” في بيئة غير أرثوذكسيّة، تحتاج منا إلى
الاهتمام بها والانتفاع منها بطريقة روحيّة كرازيّة.



[1] المؤلف:
مفاهيم إيمانية (٢): الكنيسة والتقليد، ص ٩
.

[2] J. Quasten: Patrology, vol 1.

The Oxford Dictionary of the Christian Church, 1974, p. 481.

[3] Eccl. Hist. 1:1:1.

[4] Ep. 40:9 written in 397.

[5] F. Arvalo: S. Isidore …, Rome 1797 to 1803, vol. 5, p.
138 – 178, PL 83 : 1018 – 1106: 96 : 195 – 206.

[6] يذكر Questen وجود طبعة تشمل أغلب المؤلفين ومؤلفاتهم الكنسيّة من چيروم إلى
تريثموس (بالطبع تجاهل الكتاب الشرقيّين خاصة غير الخلقدونيين):

J. A. Fabricius: Biblotheca Ecclesiastics, Hamburg,
1718.

كما ذكر وجود عملين
آخرين لمؤلفين كنسيّين هما:

L. S. Nain de Tillemont: Memoires pour server a Phistoure ecclesiastique
des six premiers siècles, Paris 1693 – 1713.

R. Ceillier: Histoire generale des autears sacre’s et ecclesiastiques, Paris

وهو يقع في ٢٣
مجلدًا، يعالج الكتّاب المسيحيّين قبل ١٢٥م
.

[7] Quasten: Patrology, vol 1, p. 5.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى