دراسات وأبحاث في الكتاب المقدس

(تأملات في سفر راعوث)

تأملات عابرة
تباشير القيامة

في سفر راعوث

(تأملات في سفر راعوث)

إن كل الكتاب المقدس يُمثِّل وحدة لاهوتية واحدة تشير إلى شخص ربنا يسوع المسيح وعمله الخلاصي. وغاية كل تفسير لأي سفر هو كشف الصوت أو الرسالة المميزة لهذا السفر، والتي تشير إلى رسالة المسيح.
وسفر راعوث هو قصة تاريخية، وما أسهل تفسيره هكذا، فهو يسرد أحداثاً بين أشخاص أحياء من لحم ودم. وتتخلَّل الأحداث أحاديث، ولكن كِلاَ الأحداث والأحاديث تُعلِن أن الله يعمل في حياة هؤلاء الناس بطريقة كانت واضحة لهم، كما كانت واضحة لكاتب السفر (حيث يُرجِّح المؤرِّخون أن يكون صموئيل النبي والقاضي والكاهن هو كاتب سفر راعوث).
كما أن عمل الله هذا استُعلِن للأجيال اللاحقة حتى أتى ملء الزمان حينما وُلد المسيح، في مدينة بيت لحم (حيث دارت معظم أحداث سفر راعوث)، وحيث كانت راعوث نفسها وابنها عوبيد أحد أجداد الرب يسوع بالجسد (مت 1: 5)، الذي هو والد يسَّى أبو داود الذي يقترن اسم المسيح باسمه كابن داود ابن يسَّى البيتلحمي. وهنا يظهر عمل الله في التاريخ وأهدافه وغاياته التي بها يقتحم التاريخ من خلال هذه الشخصيات ليستعلن معاني واستعلانات تخص خلاص العالم.
ويتجلَّى هذا الهدف والغاية في السفر المُوحَى به بطريقة مزدوجة: فالقصة نفسها تنتهي بتتابع خط الأجيال اللاحقة إلى داود بولادة ”عوبيد“ والد يسَّى والد داود الذي من نسله أتى المسيح بحسب الجسد. ثم في نهاية السفر نجد أيضاً سلسلة الأنساب التي تبدأ من ”فارص“ (تك 38: 29)، وتنتهي بداود الذي هو الغاية من الأنساب، والذي منه سيأتي المسيح ليجلس ملكاً على كرسي داود أبيه، كما أسماه الملاك الذي بشَّر القديسة العذراء مريم (لو 1: 32). وسلسلة الأنساب هذه التي اختُتم بها سفر راعوث، وردت بنصها في سلسلة الأنساب التي افتتح بها القديس متى إنجيله (1: 3-6). وكأن القديس متى يبدأ إنجيله من حيث انتهى سفر راعوث بقوله: «كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود» (مت 1: 1).
وسلسلة أنساب المسيح في إنجيل متى هي ”إنجيلية“ في طابعها فهي تضم نساء (بعضهن ذوات سمعة رديئة: راحاب وثامار) وأُمميات (ليسوا من شعب الله مثل راعوث الموآبية)، ما يشير إلى قبول الله الجميع للخلاص، رجالاً ونساءً، وأُمميين، وخطاة، في ملكوت الله في المسيح، كلهم على حدٍّ سواء صاروا «أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع… لأنكم جميعاً واحدٌ في المسيح يسوع. فإن كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم، وحسب الموعد ورثة» (غل 3: 26-29).
لذلك، فسفر راعوث ليس مجرد قصة تاريخية إسرائيلية، أو قصة من واقع الحياة. إن السفر يستعلن الله عاملاً ومُكمِّلاً تدبيره الإلهي لخلاص العالم.
بل إن السفر أيضاً هو تاريخ الشعب الذي تبدأ سلسلة أنسابه من آدم، إلى إبراهيم، إلى داود، ثم إلى ابن داود، يسوع المسيح الذي صارت قيامته من بين الأموات بمثابة الباكورة والبشارة بالحياة الأبدية في اليوم الأخير، حيث ستتحقق لكل المؤمنين قيامة أجسادهم بمَن فيهم قديسو العهد القديم، وبمَن فيهم راعوث، ونحن أيضاً.
ثلاث حالات صريحة لقيامة بالجسد
في العهد القديم:
هناك ثلاث حالات لقيامة بالجسد في العهد القديم تمت على يد إيليا النبي وتلميذه أليشع (إقامة ابن أرملة صِرفْة: 1مل 17: 17-24؛ إقامة ابن المرأة الشونمية: 2مل 4: 18-37؛ إقامة الميت حينما مسَّ عظام أليشع النبي: 2مل 13: 21). هذه حالات إقامة صريحة في العهد القديم.
ولكن العهد الجديد يتكلَّم عن بعض حالات اعتبرها نوعاً من إقامة من بين الأموات. ومن بينها:
1 – تقدمة إسحق ذبيحة. ويذكر ذلك القديس بولس في رسالة العبرانيين (11: 19) بقوله: «إذ حَسِبَ أن الله قادر على الإقامة من الأموات أيضاً، الذين منهم (من الأموات) أخذه (أي أخذ إسحق) أيضاً في مثال». وهكذا يُعتبر إسحق قد قام من موت بإرجاعه حيّاً من داخل حافة الموت، مُتمِّماً وعد الله باستمرار نسل إبراهيم ليكون مثل رمل البحر أو نجوم السماء في الكثرة، وأن كل الأمم ستتبارك في نسل إبراهيم (أي إسحق) (اقرأ رسالة غلاطية – الأصحاح الثالث كله).
2 – هناك مثل آخر هو ”يونان“ الذي أُلقِيَ في البحر وغاص هناك، ثم استُرجع ثانية للحياة (يونان – أصحاح 2،1). وقد وضح الغرض من هذه ”القيامة“ أنها أدَّت إلى توبة رجال السفينة، وكذلك أهل نينوى، بالإضافة إلى يونان نفسه الذي تخلَّص من انحصاره العنصري الذي ظهر في رغبته تنحية نعمة الله عن الأُمميين إذا تابوا. ويذكر الرب يسوع أُمثولة يونان مُسمِّياً إيَّاها ”آية يونان“ كرمز ونموذج لموته وقيامته من بين الأموات (مت 12: 39-41؛ 16: 4؛ لو 11: 29-32).
3 – ثم نأتي إلى مَثَل ”سبي بابل“، وهو لم يُذكر في العهد الجديد بصريح العبارة، ثم العودة من السبي. فهذا مَثَل لموتٍ وقيامةٍ لبني إسرائيل؛ كما فسَّره حزقيال النبي في نبوّته – الأصحاح 37 (من العدد 1-4)، بقوله: «أُدخِل فيكم روحاً فتحيَوْن». فهنا قيامة أيضاً، لفداءٍ من السبي، ولتكميل نسل داود في بيت لحم حيث سيولد المسيح.
وهكذا يمكن أن يُطلق وصف القيامة ليس فقط على شخص أُرجع من الموت إلى الحياة، بل أيضاً على عمل الله لإحياء شعب كادت الخطية أو السبي أن يقتله.
+ فإن طبَّقنا هذا التفسير على ”راعوث“، فسنجد في قصتها ”عمل القيامة“ مزدوجاً أيضاً. فأليمالك الذي كان له ابنان ماتوا ثلاثتهم، تاركين أرملة أليمالك (نُعمِي)، وكنَّتاها (عُرفة وراعوث). أما عُرفة فعادت إلى بلادها وآلهتها الوثنيين، تاركة حماتها نُعْمِي مع سِلْفتها راعوث كناجيتين من الموت بإيمانهما في الله (يهوه).
وتأمَّل في قول راعوث الأُممية التي لا تؤمن بالله لنُعمِي: «إلهك إلهي» (را 1: 16). فردَّت عليها نُعمِي: «ليكن أجرك كاملاً من عند الرب إله إسرائيل الذي جئتِ لكي تحتمي تحت جناحيه» (را 2: 12). وهكذا صارت نُعمِي وراعوث هما الرجاء والأمل الوحيد لاستمرار نسل أليمالك في شعب الله. ولكن الاثنتين كانتا في خطر الموت. والموت الذي واجهتاه يتمثَّل في: المجاعة، وعدم وجود نسل. وكِلاَ الخطرين كانا مظهرين للموت الذي يُهدِّد استمرار نسل أليمالك.
ولكن الله يتخذ موقفاً لإنقاذهما من هاوية الموت هذه. وكان هذا أيضاً لغاية خلاصية تتمثَّل في ولادة ”داود“، ثم ”ابن داود“ ليبدأ ملكوته السماوي (اقرأ مزمور 110 عن تقليد ابن داود قضيب ملكوت الله).
العمل المزدوج لله لتكميل قيامة من موت:
يشدُّ السفر انتباهنا إلى عمل الله المزدوج لتكميل قيامة مزدوجة:
الأولى: حينما رجعت نُعمِي هي وكنَّتاها (عُرْفة وراعوث) إلى بيت لحم بعد أن سمعت أن الرب قد افتقد شعبه في بيت لحم ليُعطيهم خبزاً بعد المجاعة (1: 6)؛
والثانية: حينما أخذ بوعز راعوث امرأة. ويقول السفر: «فأعطاها الرب حَبَلاً، فولدت ابناً» (4: 13) وهو ”عوبيد“ والد ”يسَّى“ والد ”داود“ الذي من نسله سيأتي المسيح.
وفي هذين المثلين يقول السفر إن الرب عمل شيئاً ما. وفي مواضع أخرى من السفر نقرأ عن أحاديث وصلوات وبركات تلتمس من الله أن يعمل شيئاً. وواضح أن الله كان يقود الموقف فعلاً وإنْ كان كاتب السفر لم يكتب ذلك صراحةً، بل كان يكتب بالرمز، حيث يقول في (2: 3): «فاتفق نصيبها (نصيب راعوث) في قطعة حقل لبوعز الذي من عشيرة أليمالك». فهو يستخدم كلمة ”اتفق نصيبها“ كناية عن تدبير الله لها بتعرُّفها على بوعز الذي من عشيرة أليمالك، والذي سيكون زوجها وأباً لعوبيد والد يسَّى والد داود.
مزيد من التعمُّق في هذه القيامة المزدوجة:
+ في الحالة الأولى، لم يذكر كاتب السفر حادثة توفُّر خبز في بيت لحم بطريقة بسيطة عادية كما لو كان قد قال: ”فسمعوا أن المجاعة في بيت لحم انتهت وأن الخبز قد صار متوفِّراً“، بل قال صراحةً: «يهوه (الرب) قد افتقد شعبه ليُعطيهم خبزاً» (1: 6). وهنا لم يستخدم الكاتب اللقب العام لله ”إلوهيم“ بل ”يهوه“ وهو الاسم الملازِم للعهد الذي قطعه الله مع شعبه.
وهذا يُفسِّر العمل الإلهي أنه ليس كمجرد عمل من أعمال العناية الإلهية لحفظ الناس من المجاعة. ولكن هذا العمل الإلهي هو عمل ”يهوه“ مخلِّص إسرائيل الذي ينقذ شعبه من موت مُحدق ويعطيهم خلقة جديدة وحياة جديدة لفداء مزمع أن يتم في ملء الزمان بابن داود يسوع المسيح. وهو يُخلِّص شعبه من الموت الحقيقي ”بالخبز“ ومن ”بيت لحم“ التي معناها ”بيت الخبز“.
ففداء المسيح للعالم من الموت يكون بتقديم ”الخبز الحقيقي“ ”الخبز الحي“ الذي يعطيه ابن داود لكي يحيا به كل مَن يأكل منه (إنجيل يوحنا – أصحاح 6). إن الله يعمل لخلاص العالم بالعطية السرائرية بتقديم ”الخبز“ النازل من السماء، الذي حمَّله المسيح ليلة آلامه جسده المقدس المُعطي خلقة جديدة للبشرية وحياة أبدية للبشر.
وهذا يقودنا إلى:
+ الحالة الثانية والنهائية لعمل ”يهوه“. فلا شك أن الله استجاب لصلوات وتوسُّلات أهل بيت لحم لرفع المجاعة، وطبعاً من نُعمِي وراعوث. وهكذا قال كاتب السفر: «فأعطاها الربُّ حبلاً» (4: 13). ونجد نفس التعبير تقريباً في الوعد المذكور في سفر التكوين 3: 16: «أتعاب حَبَلك»، حيث سيأتي ”حَبَل“ آخر من ”الروح القدس“، سيُثمر ابناً اسمه ”يسوع“ لأنه يُخلِّص شعبه من خطاياهم (مت 1: 21،20،18).
فيهوه في الحالتين هو الذي أعطى ”الحَبَل“، وإن كان في حالة راعوث كانت الواسطة ”بوعز“؛ بينما في حالة ولادة يسوع كان ”الروح القدس“.
وهكذا كان إعطاء يهوه ابناً ووارثاً لأليمالك قد هيَّأ ”قيامة“ بنسل كاد ينقطع بموت أليمالك، لكنه يستمر أكثر من 1000 سنة إلى أن يولد في ملء الزمان الابن العظيم لداود، وارثاً كرسي داود أبيه إلى الأبد، وواهباً للكل أن يكونوا أيضاً وارثين معه (رو 8: 17؛ تيطس 3: 7). فإن موته وقيامته بالجسد يُعطياننا الدعوة الإلهية في اليوم الأخير: «تعالوا… رِثوا الملكوت المعدَّ لكم منذ تأسيس العالم» (مت 25: 34).
”آمين. تعالَ أيها الرب يسوع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

Please consider supporting us by disabling your ad blocker!