علم المسيح

كان إنسان



كان إنسان

كان إنسان.. اسمه
نيقوديموس

.
هناك وعد ماسوي آخر أفضى به المسيح، في أورشليم أيضا، بعد ذلك بزمن يسير، إلى واحد
من زعماء الأمة اليهودية؛ من أولئك الشيوخ، أعضاء السنهدرين، الذي تجسمت فيهم
السلطة والتقاليد القومية. ولا شك أن الرجل قد فقه معنى ذاك الوعد، ولكنه لم يجد
من نفسه العزم على الخضوع لنداء المسيح، وما يقتضيه من انقلاب في السيرة. ولكم من
الناس، من بعده، سوف ينكصون مثله، عن تلبية ذاك النداء!..

 

. لقد
كان أمرا طيبا، على حد ما صوره إنجيل يوحنا (3: 1 – 15)، واحدا من أولئك الرجال
الفاضلين الذين يملكون من رهافة الحس الخلقي ما يمكنهم من اكتشاف الطريق المفضية
إلى الكمال؛ بيد أنهم لا يقدمون على الخوض فيها، بقلب متيم، بسبب ما يقيدهم من
عادات ذهنية، وتهبب برجوازي، وجبانة متأصلة. وكان نيقوديموس على جانب عظيم من
الثراء؛ وقد قال فيه التلمود، بشيء من التزيد، إنه كان بوسعه أن يقوت الشعب
الإسرائيلي بأجمعه، مدة عشرة أيام! كان غنيا ومحترما

مقالات ذات صلة

 

.
ولذلك فهو، لما سمع بخبر النبي الجديد، ورغب في التحدث إليه، آثر أن يوافيه ليلا:
فالفطنة فضيلة يرتاح إليها الأناس ” المحترمون “. فلما صار إليه، طفق
يستفسر، بكل كياسة- والكياسة هي أيضا من قوانين بيئته – عن الأحداث المعجزة التي
باتت تعزى إليه، وعما يجب استنتاجه من تلك الأحداث؟: ” يا معلم، نعلم أنك قد
أتيت من الله معلما. لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل، إن لم
يكن الله معه! “. هو السؤال الحاسم الذي كان كل يهودي ورع يضمره في قلبه: هل
يسوع هو، بالحقيقة، ذاك المنتظر؟.. وهل سيقيم ملكوت الله على الأرض؟.

 

. نفذ
يسوع، بنظرة واحدة، إلى قرارة تلك النفس -كما نفذ إلى أعماق غيرها من قبل – وكشف
ما فيها، إلى جانب خلوص راهن، من تقاليد متحجرة، وأراء موروثة، ووهن.. فأجابه،
منتقلا بالمعضلة إلى نطاق جديد: ” الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من
فوق، لا يقدر أن يرى ملكوت الله ”

 

لأول
مرة نلقى المسيح، ههنا، يعرض تعليمه في خطوطه المجملة. فالميلاد من فوق، أو
الميلاد الجديد (وللفظة اليونانية، في الإنجيل، هذان المعنيان)، إنما هو تحقيق
الانقلاب الجذري، والتجدد الكامل، والبلوغ بهما إلى ذروة التوبة التي دعا إليها
المعمدان. ولكن ما كان معنى تلك العبارة في نظر ذاك المتشدد قي حفظ الناموس؟ سوف
يذهب فيلون الفيلسوف إلى أن النفس، إذا تجردت من الجسد، صارت إلى أحضان خالقها،
وكان لها ذلك بمثابة ” ميلاد جديد “. وقد استعملت تلك العبارة نفسها، في
الديانات الباطنية، للدلالة على دخول المرء في أسرارها. بيد أن نيقوديموس لم يكن
ليفكر في نظريات فلاسفة الإسكندرية، ولا في طقوس سيبل أوإيزيس (1) (
Cybele). فسأله، بشيء من البلادة: ” كيف
يمكن الإنسان أن يولد، وهو شيخ؟ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟ “.
فبين له يسوع أن الميلاد الذي يقتضيه ليس له علاقة بالمرأة. فالمولود من الجسد جسد
هو. والروح فهي كالأم تلد الروح. والروح، في الآرامية والعبرية، مؤنثة، وتعني
” الريح ” أيضاً. ولا غرابة أن الروح القدس، يتصرف كالريح، لا ندري من
أين تأتي ولا إلى أين تذهب. فهي تهب أنى تشاء، وتبقى مخفية عن الأنظار. ومع ذلك
فما أعظم ما يبدو من مفاعيلها!.. كذلك الروح القدس هو الذي يغير دخيلة النفس،
ويفيض فيها حياة جديدة، ويفرغ فيها الصبر على خدمة الله. أو ليس هذا التعليم
مرقوما في الكتب؟ وهل بإمكان معلم في إسرائيل أن يجهله؟

 

وإذا
بالمسيح، فجأة، يتخطى ذاك السنهدريني، وكأنى به يتوجه بكلامه إلى العالم الذي بات
يترقب مكاشفاته. وانفسحت أمام ذاك الرجل الوجل الطيب، آفاق لم يكن ليتوقعها. فهذا
الذي بقربه يخاطبه، إنما هو الرسول الذي بعثه الله ليلقن الناس ما هو من أمر ذاك
” الميلاد الثاني “؛ وهو نفسه يصارحه بذلك. أفيذعن للإيمان؟ ولكن ما كان
أغرب ذاك المسيح، في نظر يهودي ورع! وكم كان بعيد الشبه بالصورة المترقبة! وصمت
نيقوديموس، غير مقدم على فهم مثل ذاك الكلام. وذلك ما ألمع إليه المسيح، في تلك
اللحظة عينها: فإلذين أوثروا على غيرهم بتلك التعاليم، سوف يتنكرون لها. وكيف لا
يحجمون عن السماويات، وهم من أبسط الخوارق يتزعزعون!.. ولكن إلى من تتوجه تلك
الكلمات، يا ترى؟ أ إلى الإنسانية كلها أم إلى الشعب المصطفى؟

 

. ما
هم!.. أو لعل بذار الخلاص قد حصر في ذاك الشاهد الوحيد الذي بات سجين صممه
المتعمد؟ لقد طفق يسوع يفصح عن فكره، في حديث طويل مع نفسه، جاء شبه خلاصة مسبقة
عن الإنجيل. فابن الإنسان قد نزل إلى الأرض، إلها متجسدا، وابنا وحيدا للعلي؛ وقد
أرسل ” لا ليدين العالم، بل ليخلص به العالم “. وكما أن موسى قديما، قد
عصم الشعب، في البرية، من لسعات الأفاعي المحرقة كذلك ينبغي للرسول الجديد أن يؤتي
العالم فداء وخلاصا. ولسوف ينفصل به النور عن الظلمة، ويضيء الحق؛ والذين يتبعونه
ينالون الحياة الأبدية. ذاك هو ” الميلاد الثاني “، والتغيير الذي يجريه
الروح في سرائر النفوس

 

. لم
يورد الإنجيل جواب نيقوديموس. ولكننا ندرك جيدا، من كونه لم يلتحق بالرسل، أنه لم
يستسلم للمسيح. أجل! لقد كان مثلنا جميعا، ذاك الرجل ” المحترم “، الذي
بات راسفا في تقاليده المتحجرة، تنفره القرارات الخطيرة. بيد أن ذاك المشهد الليلي
قد رسخ في ذاكرته. ولا ريب أنه حفظ في قرارة قلبه المتنازع، لذاك النبي، تقدير
ومحبة. وقد أقدم على الدفاع عنه، يوم دبرت عليه المؤامرة (يوحنا 7: 50)؛ ويوم حمل
جسد المصلوب، جاء بمائة رطل من الطيب والحنوط. (يوحنا 19: 39). وقد سلمت إحدى
التقاليد القديمة بخلوص نيته، فذهبت إلى أنه قد تعمد على يد بطرس، ومات شهيدا
للمسيح. ومهما يكن من أمر، فقد قام بمهمة على جانب عظيم من الخطورة، إذ مهد ليسوع
أن يأتي بخلاصة مجملة من تعليمه ورسالته

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى