علم المسيح

المسيح يغسل أرجل تلاميذه



المسيح يغسل أرجل تلاميذه

المسيح يغسل أرجل
تلاميذه

 

«أَمَّا
يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ ٱلْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ
جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ إِلَى ٱلآبِ، إِذْ
كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ
إِلَى ٱلْمُنْتَهَى. فَحِينَ كَانَ ٱلْعَشَاءُ، وَقَدْ أَلْقَى
ٱلشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ ٱلإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ
يُسَلِّمَهُ، يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ ٱلآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ
إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ ٱللّٰهِ خَرَجَ، وَإِلَى
ٱللّٰهِ يَمْضِي، قَامَ عَنِ ٱلْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ،
وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَٱتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ،
وَٱبْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ ٱلتَّلامِيذِ وَيَمْسَحُهَا
بِٱلْمِنْشَفَةِ ٱلَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا. فَجَاءَ إِلَى
سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: «يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَغْسِلُ
رِجْلَيَّ!» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ ٱلآنَ
مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلٰكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ». قَالَ لَهُ
بُطْرُسُ: «لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ لا
أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ». قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا
سَيِّدُ، لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي». قَالَ لَهُ
يَسُوعُ: «ٱلَّذِي قَدِ ٱغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلا إِلَى
غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ
وَلٰكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذٰلِكَ
قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ» (يوحنا 13: 1-11).

 

مقالات ذات صلة

ولما
صار المساء نزل المسيح وتلاميذه العشرة إلى علية الفصح وانضموا إلى بطرس ويوحنا.
وكان عليهم قَبْل أن يتكئوا حول المائدة أن يغسلوا أرجلهم من غبار السفر، لأن
النعال التي كانوا يلبسونها لا تغطي إلا إخمص القدم. وكان الخدم عادة يؤدون هذه
الخدمة، وحيث لا يُوجد خدم كان التلاميذ يغسلون بعضهم أرجل بعض. لكن بما أن هذا
العشاء رسمي، كما أنه عظيم، أخذ كل واحد منهم يستصعب القيام بهذه الخدمة لرفقائه،
كأنهم أرفع منه مقاماً، لذلك تشاجروا في من هو أعظم بينهم، ليعرفوا من يجب أن
يخدمهم.

 

يُرجَّح
أن البادئ والمحرك الأعظم في هذه المشاجرة كان الإسخريوطي، الذي يطلب لنفسه
الرِفعة بحجَّة أنه من اليهودية، وبيده أمانة الصندوق، فإن هذه المشاجرة بدأت «حين
ألقى الشيطان في قلب يهوذا الإسخريوطي أن يسلِّمه».

 

اهتم
البشير يوحنا أن يذكر قبل هذا الخبر أن المسيح كان في تلك الساعة يعلم أن الآب قد
دفع كل شيء إلى يده، وأنه من عند اللّه خرج وإلى اللّه يمضي. فهذه المعرفة
الحقيقية بمقامه العظيم، تزيد قيمة مثال التواضع الذي يقدمه لنا. أهمل الإثنا عشر
غَسْل الأرجل، فنهض المسيح من مكانه بعد أن اتكأوا حول مائدة العشاء، وخلع الرداء
الذي يميّزه كمعلِّم، واتَّزر بمنشفة كالعبيد، وأتى بالمغسل والماء، وأخذ يغسل
أرجل التلاميذ الذين أبوا أن يغسل الواحد للآخر. لكن لئلا يُؤخذ فعله في هذه
الساعة كأنه عن حِدة غضب، ذكر البشير أن المسيح أحبَّ خاصته الذين في العالم حتى
المنتهى، أي أن عاطفة الحب العظيم الثابت، وليس انفعال الغضب الوقتي هي التي
حرّكته ليغسل أرجلهم، ليعطيهم من نفسه مثالاً. وقد بقي هذا الحب إلى منتهى وجوده
معهم في الجسد، بالرغم مما أظهروه من التقصير والسقوط. وإثباتاً لهذه الحقائق، غسل
أيضاً رجلي يهوذا الخائن المتربص ليسلِّمه للقتل. ألم يكن هذا العمل من الوسائل
التي استعملها هذا المخلِّص العظيم مع يهوذا الشرير ليليِّن قلبه القاسي ويجذبه
إلى التوبة والصلاح؟

 

يقول
القديس يوحنا فم الذهب إن المسيح ابتدأ بيهوذا في غسل الأرجل، لأنه الأقرب إليه في
المتكأ عن شماله، ويُرجَّح أن بطرس كان قدام يوحنا وعن يمين المسيح، فيكون المسيح
قد غسل أرجل الجميع ما عدا يوحنا قبل وصوله إلى بطرس. فلما جاء دور بطرس اعترض
بصورة المستفهِم المستغرِب، ولم يقتنع لما أجابه المسيح بأنه سيفهم فيما بعد ما لا
يفهمه الآن، فاعترض من جديد بقوة وقال: «لن تغسل رجليّ أبداً». فهو يخطِّئ سيده،
ويقبِّح في نفس الوقت عمل رفقائه الذين قد سلَّموا له بهذا العمل، كأنهم أقل منه
في الإدراك واللياقة. فنال جزاءه في كلام المسيح القوي: «إنْ كنتُ لا أغسلك فليس
لك معي نصيب» – وهنا تهوَّر بطرس وطالب المسيح بأكثر مما قصد المسيح أن يفعله،
لأنه قال: «ليس رجليَّ فقط بل أيضاً يديَّ ورأسي». سلَّم بطرس، لكن ليس تسليم
التواضع، بل كان تواضعه من باب ما يُعرف بكبرياء التواضع، لأن التواضع الحقيقي
يجعل صاحبه يهمل ذاته، ويفكر في غيره. وقد أصلح المسيح خطأ بطرس وبيَّن له أن لا
حاجة لغسل يديه ورأسه.

 

في
هذا الجواب تعليم في التطهير من الخطية، فمن يحصل مرة على الغفران عندما يتوب
ويؤمن، لا يحتاج إلى إعادته فيما بعد، لأن اسمه كُتب في سفر الحياة، وقد تبنَّاه
الروحُ الإِلهي، وصار من أولاد اللّه. لكن بما أنه لا يخلو تماماً من السقوط في
بعض الزلات، عجزاً أو سهواً، يحتاج إلى غفرانٍ يختلف عن الأول، كما يختلف غفران
خطية الابن عن غفران خطية العدو. ويشبّه بغسل الأقدام بالنسبة إلى غسل الجسد كله.
فلأن التلاميذ كلهم متجددون إلا الإسخريوطي، تتنوَّع خطاياهم عن خطاياه. لذلك قال
المسيح: «أنتم طاهرون ولكن ليس كلكم». وقال البشير: «لأنه عرف مسلِّمه». والذي
يتوب مرة توبة حقيقية لا يعود إلى حالته القديمة، بل يُصِرُّ على التخلُّص من
الخطية، فغفرانه ثابت وخلاصه مقرَّر، لأنهما لا يتوقفان على أعماله وطاعته، بل على
مواعيد اللّه ورحمته المجانية. فإنْ عاد إلى القديم تكون توبته غير حقيقية، فقد
قال الرسول يوحنا عن مثل هؤلاء: «مِنَّا خَرَجُوا، لٰكِنَّهُمْ لَمْ
يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لٰكِنْ
لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا» (1 يوحنا 2: 19).

 

«فَلَمَّا
كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَٱتَّكَأَ أَيْضاً،
قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي
مُعَلِّماً وَسَيِّداً، وَحَسَناً تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذٰلِكَ.
فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا ٱلسَّيِّدُ وَٱلْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ
أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ
بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ
تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً. اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ
لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلا رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ.
إِنْ عَلِمْتُمْ هٰذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ. لَسْتُ أَقُولُ
عَنْ جَمِيعِكُمْ. أَنَا أَعْلَمُ ٱلَّذِينَ ٱخْتَرْتُهُمْ.
لٰكِنْ لِيَتِمَّ ٱلْكِتَابُ: اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي
ٱلْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ. أَقُولُ لَكُمُ ٱلآنَ قَبْلَ أَنْ
يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ. اَلْحَقَّ
ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمُ: ٱلَّذِي يَقْبَلُ مَنْ أُرْسِلُهُ
يَقْبَلُنِي، وَٱلَّذِي يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي»
(يوحنا 13: 12-20).

 

لما
أكمل المسيح غسل أرجل الجميع، نزع المنشفة عن حقويه ولبس رداءه واتكأ في مكانه على
رأس المائدة، وقال إن العظمة الحقيقية التي يسعى لأجلها العاقل التقيّ لا تنتج عن
الأموال أو المقام أو الذكاء أو المعارف، بل عن الخدمة ونفع الآخرين، ومقدار هذا
النفع هو قياس هذه العظمة. ثم جدد المسيح إشارة محزنة إلى خيانة يهوذا، وقال إنها
تثبت صحة كلام الوحي، وتتفق مع المشورة الإلهية، لئلا يظن أحد أن عمل يهوذا يعارض
القضاء الإلهي أو يفسده. لا شك أن الإسخريوطي كان قد تعمد بمعمودية يوحنا كغيره من
التلاميذ، والآن غسل المسيح رجليه رمزاً للتطهير من الخطية. فصار شاهداً ناطقاً
على أن أفضل الوسائط الخارجية الدينية – كأسرار الكنيسة وأنظمة العبادة – لا تُنتج
خلاص الذين ينالونها، ما لم يرافقها شعور داخلي يناسبها.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى