علم المسيح

الفصل الرابع عشر



الفصل الرابع عشر

الفصل
الرابع عشر

المسيح في
بيت عبرة (بيرية)

97- حديثه
عن الطلاق

لم
يكن ممكناً أن يظل المسيح في أُورشليم أكثر من هذا بعد أن التهب الجو من حوله،
خاصة بعد إعلانه الجهاري عن مسيانيته. فالتجأ إلى عبر الأُردن، منطقة بيرية:
“فطلبوا أيضاً أن يمسكوه (في أُورشليم) فخرج من أيديهم، ومضى أيضاً إلى عبر
الأُردن إلى المكان الذي كان يوحنا يعمِّد فيه أولاً ومكث هناك” (يو 10:
39و40)، “وجاء إلى تخوم اليهودية من عبر الأُردن” (مت 1: 19). وهذا
المكان هو أول مكان ظهر فيه المسيح في بداية خدمته بعد العماد (يو 28: 1)، وكان
يلجأ إليه كثيراً. وفي هذا المكان كان الشعب يعتبره أعلى مقدرة من المعمدان، لأن
المعمدان لم يعمل آياتٍ: “فأتى إليه كثيرون وقالوا: إن يوحنا لم يفعل آية
واحدة.. فآمن كثيرون به هناك” (يو 10: 41و42). وكان القوم متقدِّمين في
المعرفة وواثقين من مستوى استنارته كنبي. فبدأوا يسألونه أسئلة صعبة، إذ سأله
سائلٌ عن موضوع الطلاق الذي حيَّر تلاميذ هلِّيل الكبير قبالة شماي المقارِن له.
فكلا المدرستين لم يجد الحل الأخلاقي والسياسي لمسألة الطلاق. فلمَّا قدَّموا
السؤال للمسيح ليقرِّر رأيه فيه تخطَّى حل هلِّيل وشماي معاً: الأخلاقي والقانوني،
ولكنه كان الأقرب إلى فكر شماي. وكان المسيح قد سبق في عظة الجبل أن قطع بأن عقد
الزواج لا يُحَلُّ. فالرجل والمرأة هما بعد الزواج وحدة واحدة غير قابلة للانفصال،
يقيمان حياة واحدة، فقد صارا جسداً واحداً. ومن هذا الجسد الواحد يخرج الأولاد وقد
أعاد المسيح للزواج صفته الأُولى الطبيعية أن الله من البدء خلقهما ذكراً وأُنثى.
فالزواج تأسيس إلهي. هكذا يجب أن يتحقَّق في الحياة. وأن هذا الكيان الذي ينشأ من
زواج الرجل بامرأة هو كيان جسدي مستمد من المسيح كوحدة عضوية فيه، أي أن المسيح
أساس الوحدة فيه ككل، بمعنى أن المسيح في تجسُّده بجسد إنسان مَثَّل فيه الطبيعة
البشرية بكلا الجنسين متحدين بالله. ففي المسيح ليس رجل ولا امرأة بعد، بل هما
واحد فيه. وهكذا أصبح الزواج في المسيحية هو تعبير جديد عالي القدر والمضمون،
يتحتم أن يحقق نموذج المسيح، حيث يمتنع التعالي أو التفريق بين الجنسين، لأن عنصر
اتحادهما إلهي هو. فبالحياة المسيحية المتفقة تنصهر الشخصيتان معاً، بحيث يحفظ
الكيان المتحد لهما مميزات كل عنصر منهما، فلا يطغى الواحد على الآخر، وإلاَّ يفقد
مفهوم الوحدة الكيانية في المسيح مضمونه الروحي المتكامل. والمسيح وحده هو الذي
يعطي مضمون هذا السر وقيمته. وهنا يأتي المسيح بالتعبير الحقيقي العالي والصادق
جداً: “فالذي جمعه الله لا يُفرِّقه إنسان” (مت 6: 19، مر 9:
10)، سواء في صورته الخلقية الأُولى حينما خلقهما
الله ذكراً وأُنثى، أو بعد ما احتواهما المسيح في جسده
، فألغى تباعدهما كاثنين وصارا واحداً فيه.

فلمَّا
احتج القوم بأن ناموس موسى أجاز الطلاق، ردَّ المسيح عليهما فوراً أن هذا
الاستثناء كان لقساوة قلوبكم، فالقانون بطبيعته لا يُنشئ الأخلاق أو المُثل العليا
للأخلاق، أو يخلق حسًّا أخلاقياً رفيعاً، ولكنه وُضع ليحاصر التسيُّب والنزول
بالقيم، وليس الارتقاء والنمو بها. وهذا لا يتوافق مع ناموس الله الروحي الذي
يرتقي بالإنسان ليرتفع به فوق طبيعته!

فلماذا الناموس؟ قد زِيِدَ
بسب التعدِّيات، إلى أن يأتي النسل (المسيح)..” (غل 19: 3). ولما استصعب
التلاميذ صيغة الزواج في المسيحية التي لا تحتمل الانفصال إلاَّ للعلَّة، لم يشأ
أن يدخل معهم في حقيقة هذا العمل المسيحي الفائق قبل أن يحل الروح القدس، ويدركوا
من أنفسهم قوة هذا “السر العظيم”.
ولمَّا أجاز البتولية أجازها لحساب الملكوت، على أن الزواج زواج من أجل

الملكوت.

98- مباركة
الأولاد

فقدَّموا إليه الأطفال أيضاً
ليلمسهم” (لو 15: 18)، ولكن تدخَّل التلاميذ على وجه السرعة ومنعوهم، لأن
الأولاد كالنساء في العرف اليهودي لا ينبغي أن يظهروا مع الكبار، وليست لهم حقوق
وطنية، ولا يعترف بهم المجتمع اليهودي، ولا يدخلون في تعداد الدولة. ولكن المسيح
دعاهم: “دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله.
الحق أقول لكم: مَنْ لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله” (لو 18: 16و17).
فاحتضنهم ووضع يديه عليهم وباركهم.

وهنا
إشارتان واضحتان: الأُولى من التلاميذ، وهي توضح أن خدمتهم للملكوت لا تزال مربوطة
بالمظاهر والكرامات وعدم لياقة الأولاد أن يأتوا إلى المسيح وبالتالي إلى الملكوت.
والإشارة الثانية من المسيح، وهي تكشف مفهوم الملكوت عند المسيح أنه ملكوت قلوب
وبراءة وبساطة روح وقلب. فملكوت التلاميذ لا يزال خارجياً لذوي الكرامات، وملكوت
المسيح لا يزال يلح أن يكون داخلياً قلبياً روحياً غير منظور، حيث دخوله يعتمد
كلياً على روح عدم الاعتداد بالذات وإنكار الكرامة والمجد المضاف في طاعة وخضوع
واتضاع الطفل ووداعته. وبدون هذه الروح تفقد المسيحية مضمونها وهدفها وطريقها
وبابها: “تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 29: 11). وإن خطية
الحياة المسيحية التي ستحرمها من الانجذاب إلى الملكوت يوماً هي اعتبار المعرفة
والعلم والدراسات العلمية الروحية مدخلاً للديانة أو تأهيلاً للملكوت.
والمحك الرادع لمثل هذه المبادئ هو قول المسيح هنا إن مَنْ لا يقبل ملكوت الله
كولد فلن يدخله!!

فكون
المسيح يرى في الولد النموذج الذي يصلح للملكوت وليس غيره، يجحد
بآن واحد اعتبار التقدُّم والتبحُّر في علوم
الإلهيات، التي هي من وضع الناس، مدخلاً للعبادة أو التديُّن الصحيح. فزيادة
المعرفة العقلية في أمور الله تصب في الإرادة تعالي الذات لتعظيم قدر الإنسان، وهذه
تعمل بلا شعور للابتعاد عن حقيقة الله البسيطة وطبيعته. وهكذا أصبح سر التقدُّم
نحو الملكوت يعتمد على سر العودة إلى بساطة روح الطفولة. على أن الطفولة بكل
مفاخرها الروحية لا تزال حيَّة وفعَّالة في وجدان كل إنسان ينتبه إليها حتى ولو
كان أعلم العلماء. فمن العلماء العظماء من فاقوا جيلهم في روح الوداعة والمحبة
وبساطة الطفولة. فالعلم الصادق والحقيقي يزيد العالِم شعوراً بصغره، فكلما اقترب
الإنسان من الحق اقترب من الله.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى