اللاهوت الدفاعي

الفصل الخامس



الفصل الخامس

الفصل
الخامس

بولس
والأخلاقيات

اخترت
معالجة هذا الموضوع استناداً إلى الفصل السابع من الرسالة إلى القرنثيين وبالتركيز
على ما يعتبره بولس أساساً للحياة الأخلاقية المسيحية. معروف أن بعض القرنثيين،
وهم حديثو العهد في الإيمان، انزلقوا في تيارات تحررية جعلتهم يظنون أن حياتهم
الأخلاقية بعد العماد باتت متحررة من كل ضابط وأصبح “كل شيء مباح” لهم
(راجع فصل 6) ولا شك في ان هذا التوجه التحرري يطرح على بساط البحث مسألة العلاقة
بين الايمان المسيحي والحياة الاخلاقية، من الناحية المبدئية، قبل الولوج إلى
الناحية العملية، حيث يُطرح السؤال حول تطابق التصرّف مع الشرائع والنظم والقواعد
الاخلاقية. هناك سؤال اساسي في القضية الاخلاقية ينتج عن رغبة الانسان العميقة في
البحث عن المعنى الكامل لحياته، قبل ان يكون سؤالاً عن الشرائع التي يجب حفظها
(راجع الباب يوحنا بولس الثاني، رسالة تألق الحقيقة، روما 1993، عدد 7). وبولس، في
معالجته للمسائل المستجدة في جماعة قورنتس، يجيب اولاً على هذا السؤال مبيّناً
المعنى الكامل لحياة المؤمن المسيحي عامة ولحياته الاخلاقية خاصة، ويطبّق هذا
المعنى ثانياً على بعض المسائل الحياتية التي يعيشها القرنثيون.

 

مقالات ذات صلة

طبيعة
القضية الاخلاقية وحدودها

اذا
كانت القضية الاخلاقية تقوم على السؤال حول معنى الحياة، فإن الجواب عليها يتضمّن
تحديداً لموقع الانسان فيها، وبالتالي توجهاً واضحاً لممارسة الحرية. وبما ان موقع
الانسان وحريته هما الاساس في تعاطيه مع العالم ومع الانسان ومع الله، فإن التفكير
الذي يطول المسألة الاخلاقية، لابدّ وان يوضِح قبل كل شيء ما يجمع هؤلاء الثلاثة
وما يميّز احدهم عن الآخر. وقبل ان نجيب على السؤال: ماذا افعل؟ لابدّ من جواب حول
هوية الفاعل وغاية افعاله. وهذا ما يفعله بولس عندما يشدّد على طبيعة شخصية المؤمن
بالمسيح، قبل ان يميّز بين المباح والمحجوب. فالاهمية المطلقة يجب ان تُعطى لمعرفة
موقع المؤمن المسيحي في العالم.

 

موقع
المؤمن المسيحي في العالم

يقول
بولس: (والاّ فكما قسم الرب لكل واحد، كما دعا الله كل واحد، فليسلك) (7: 17). هذا
الكلام يسمح لنا بأن نطرح السؤال الآتي: ما هو المصدر الذي يساعد المؤمن على تحديد
موقعه في هذا العالم؟ هل هو الطبيعة البشرية؟ هل هو الفارق او الفوارق بينه وبين
العالم؟ هل هو شعوره الذاتي بأنه حرّ وان كل شيء مباح له؟ اعتقد ان نقطة الانطلاق
التي يرسمها بولس في كلامه لتحديد موقع المؤمن ودوره في العالم هي الوقت الذي
يُعلن فيه المؤمن ايمانه الصريح بيسوع ويقبل بحريّة انتماءه للمسيح ويصبح انساناً
جديداً في الرب يسوع، واحداً معه (6: 17).

وقت
الايمان هذا، بما فيه من عطاء وقبول يوضح ان الله هو المصدر الاول والاخير لوجود
المؤمن الذي يعيش بالايمان حالة من الانفتاح الكل والدائم على صوت الله، ذلك انه
يدرك ان حياته كلها اصبحت دعوة إلهية، وان طبيعة هذه الدعوة الالهية تكمن في معرفة
الله وفي انتظار الخلاص وفي عيش المحبة. اما السلوك الاخلاقي فإنما هو ثمرة مباشرة
لهذه الدعوة: (كما دعا الله كل واحد، فليسلك).

من
جهة ثانية، وانطلاقاً من مطلقية الدعوة الالهية وفعل الانتماء للرب، يرى بولس ان
واقع الانسان الشخصي والاجتماعي يُصبح ذا قيمة نسبية. فحالة العبد او الاقلف او
المختون او المتزوج او البتول، لا تقلّل بشيء من قيمة الانسان وكرامته، لأن
الكرامة الحقة تنبع من كون الانسان مدعواً من الله إلى حياة الايمان، والشعور
بالكرامة انما يَنتج عن الشعور العميق بأنه والمسيح واحد. لذلك يقول بولس: (فمن
دُعيَ في الرب وهو عبدٌ فهو معتق للرب، كذلك من دُعيَ وهو حرّ فهو عبدٌ للمسيح)
(7: 22).

فالحالة
الاجتماعية، اذا ما نُظِر إليها بمعزل عن الايمان، تصبح مصدراً للقلق والتذمّر.
اما في عين الايمان، فإنها تتحوّل إلى حالة مقبولة، تتساوى مع غيرها من الحالات
الاجتماعية المختلفة عنها، لانها لا تشكل عائقاً لعيش الايمان واختبار الوحدة مع
الرب. فالجميع، على اختلاف حالاتهم الاجتماعية متساوون بالدعوة وبالايمان. وهم
مدعوون إلى سلوك اخلاقي يليق بدعوتهم (راجع افسس 4: 1).

موقع
المؤمن في العالم له اذاً بُعدٌ شخصي يقوم على الشعور العميق بكرامة فريدة نابعة
من الانتماء للرب، وبُعدٌ أخلاقي واجتماعي يعطي هذا الموقع فاعلية في التعامل مع
ظروف الحياة وأوضاعها المختلفة.

 

الموقف
من الحرية وممارستها

كل
تيار تحرري ينظر إلى الحرية باعتبار انها مرجعية مطلقة. وبولس يواجه في قورنتس
أناساً مسيحيين يدركون خطأً علاقة الايمان بالحرية. واذا عدنا إلى الآية 22 نجد أن
ما تتضمّنه من معنى يصوّب النظرة إلى الحرية وممارستها. فهل يُعقل ان يتحوّل العبد
إلى حرّ بالايمان؟ وضوح الجواب يتعلّق بطبيعة الحرية المقصودة. فإذا كان المعنى
الكامل والمقصود للحرية هو التحرّر من حالة العبودية التي هي حالة اجتماعية -دون
التنكّر لنتائجها الشخصية- فالجواب هو بالنفي. وما يصرّح به بولس في الآية 21 يصبّ
في خانة النفي. أما اذا كان المعنى الكامل والمقصود للحرية والتحرّر هو الارتقاء
إلى حالة شخصية وإلى شعور ذاتي يضمنهما وجود الله في المؤمن ويجسدهما ادراك تام
بالوحدة بينه وبين الرب، فالجواب هو بالايجاب. ولابدّ هنا من الاستعانة بنص آخر
لبولس يكمّل ما نشير إليه: غلاطية 5: 1- 15 وبخاصة الآية 13: (فأنتم ايها الاخوة،
إلى الحرية قد دُعيتم. لكن لا تجعلوا الحرية عذراً للجسد، بل اخدموا بعضكم بعضاً
بالمحبة).

فكيف
نفهم هذا الكلام؟ هل نفهمه بالعودة إلى الحرية كمُعطى طبيعي يعزّز كرامة الانسان؟
هل نفهمه من خلال التشديد على قدرة الانسان على الاختيار؟ هذه القدرة التي بدونها
تفقد الحرية معناها الاصيل. طبعاً لا. ذلك اننا بالتركيز على المعطى الطبيعي وعلى
القدرة على الاختيار، نعالج مسألة الحرية في اطار علاقة حصرية بالانسان. وهذا ما
يشكّل مصدر المغالطات في فهم الحرية الصحيح. وبولس، من خلال قوله: إلى الحريّة قد
دُعيتم، يكسر طوق هذه العلاقة الحصرية ليفتحها على مسألة الدعوة الايمانية ويعزّز
بذلك المعنى الذي قصده في 1قو 7: 17: (كما دعا الله كل واحد، فليسلك).

فالحرية،
في نظر بولس، وان كانت عطية من الله ومبدأ في الحياة الاخلاقية يجب المحافظة عليه،
خصوصاً في خيار الايمان، الاّ انها دعوة من الله، او بالاحرى جزء من دعوة الله
الشاملة للانسان. فالله يدعو المؤمن به إلى ان يمارس حريته انطلاقاً من خيار أساسي
وهو خيار الايمان. وبحكم شمولية خيار الايمان، فإن الحرية التي يكون موضوعها
التصرفات الاخلاقية مدعوة إلى تجسيد الخيار الاساسي بحيث تكون طريقاً للمحبة
والخدمة، لا سبباً للخطيئة.

إن
اساس الحياة الأخلاقية المسيحية الذي يراه بولس في الإنتماء للرب بالإيمان له
اهمية مطلقة. هذه الأهمية المطلقة يترجمها عملياً من خلال الدعوة إلى (حفظ وصايا
الله) (إر 7: 19) ويشير بذلك إلى أن هذه الوصايا لا تخضع للنسبية التي يطبقها على
حالة المؤمن الإجتماعية. فالثابت في الحياة الأخلاقية هو شخصية المؤمن من زاوية
تعلّقها الكياني بالله بواسطة الإيمان وهو أيضاً وصايا الله التي تعبّر عن قيم
الحياة الأخلاقية الثابتة. ما عدا ذلك فهو خاضع لمبدأ النسبية وأهميته ثانوية بحيث
لا يؤثّر مباشرةً على مسار الإيمان وعلى الإلتزام بالحياة الأخلاقية.

يعطي
بولس مثالاً على ذلك عندما يميّز بين الكلام الصادر عن الرب: (اما المتزوّجون،
فآمرهم، لا انا بل الرب، لا تفارق امرأة رجلها) (7: 10) والكلام الذي ينصح به هو:
(أمّا في شأن العذارى، فليس لي أمر من الرب، لكني أبدي رأياً..) (7: 25) فعندما
يعود الأمر إلى وحي الله ووصاياه، فإن الحرية لا تملك حق التصرّف به، والمؤمن يعرف
من خلال التمييز بين ما هو للرب وما هو للناس، أن يتمسّك بالثوابت ويقبل المتغيرات
والفروقات على أنواعها. إنّه يسعى إلى غايته وإلى أن يكون (أكثر غبطة) عندما ينقاد
إلى عمل الروح (راجع 7: 40) ويفهم أنّه بالرب يصبح من اخصّاء الله (راجع 1قو 3:
23) وإنّه ينظر إلى حياته كلّها، وبخاصة إلى حياته الأخلاقية على أنّها مسيرة
(أمام الله) (7: 24).

انطلاقاً
من هذا التوجّه يعالج بولس بعض المسائل التطبيقية المطروحة في جماعة قورنتس.

 

مسألة
الزواج

وصل
الأمر بالبعض من القورنثيين الذين يعتبرون ان على المعمدين أن يتخلوا عن الحياة
الزوجية نتيجة لتخليهم عن حياة العالم، إلى القول بأنه يحسن للرجل ان لا يمسّ
المرأة (7: 1) إلاّ أنّ بولس وبالرغم من مثاليّته (7: 7- 8) يحذّرهم من خطر الفجور
(7: 2) ومن الوقوع في شرك الشيطان (7: 5) وينصح بأن (يكون لكل واحد امرأته ولكل
واحدة رجلها) (7: 2). فما هو دور الزواج والعلاقة الجنسية في حياة المؤمن بالمسيح؟
إنّه بالطبع دور نسبي. ذلك أنّ اختيار البتولية هو أيضاً موهبة من الله خاصة (7:
7) والزواج مرتبط أصلاً بعلاقة الرجل بالمرأة ويجيب على حاجات محدّدة، منها الحاجة
الجسدية. فهو (خير من التحرّق) (7: 9) وما قول بولس: (أريد أن يكون كل الناس مثلي
(7: 7) ودعوته للعازبين والارامل ان يقبلوا مثله (راجع 7: 8) سوى تأكيد على نسبية
الزواج امام مطلقية الانتماء للرب. لذلك فإن ما يتفرّع من الزواج وخاصة العلاقة
الجسدية يخضع لمعيار النسبية بحيث يمكن التصرف به خدمة لمتطلبات الانتماء إلى
الرب. والدعوة إلى التفرغ للصلاة (7: 5) خير دليل على ذلك. ان دور الزواج والعلاقة
الجسدية النسبي لا يعني انهما غير مهمّين. انه يشير إلى صلتهما الضرورية بحالة
الايمان الجديدة. فإذا كان الزواج يتوافق وهذه الحالة، يجب المحافظة عليه (راجع 7:
12) والا فيجب اولاً ضمان الثبات في حالة الايمان، لانها هي التي، دون سواها، تقود
إلى الخلاص والقداسة (راجع 7: 13- 16).

 

مسألة
العذرية

في
الآيات 1- 16 يدعو بولس المسيحيين الجدد إلى البقاء في الحالة التي دعوا فيها. اما
مسألة العذرية فيعالجها بولس استناداً إلى مبدأ (الضرورة الحاضرة) (7: 26) وإلى
معاناة الضيق في الجسد، التي يعيشها حسب رأيه المتزوجون. وطبيعة هذه المعاناة
يشرحها في الآيات 30-34 وخلاصتها: (أريد ان تكونوا بغير همّ) (32). فالمعاناة تنبع
من كثرة الهموم التي ترافق متطلبات الحياة الزوجية وتؤدي إلى التجزئة (34) وكأن
الجواب على هذه المتطلبات يحتاج إلى وقت وهو بالتأكيد سيكون على حساب حياة الايمان.
أما (الضرورة الحاضرة) فيمكن فهمها بالعودة إلى الآيات اللاحقة 29-35. وهي تعني ان
الاهتمام بأمور الرب ضرورية اكثر من الاهتمام بأمور الحياة الزوجية، خصوصاً وان
(الزمان قصير)، و(شكل هذا العالم زائل).

لابدّ
من التنويه بأن بولس يقدّم رأياً ونصيحة لا أمراً. وهو يطرح بأنه لم يتلقّ بذلك
أمراً من الرب. وهو لا يشير إلى قول يسوع في متى 19: 21: (وهناك من خصوا أنفسهم من
أجل ملكوت الله). فحدود الرأي هو شخص بولس الذي يحكم عليه بوصفه ثمرة الرحمة التي
نالها من الرب (1قو7: 25).

فالعذرية
اذاً، يمكن أن تكون كالزواج خياراً اخلاقياً حراً نابعاً من حقيقة الانتماء للرب
وهي مقبولة من بولس، لا بل يشجّع عليها من حيث أنها تساعد المؤمن أكثر من الزواج
على عيش انتمائه الكلي إلى الرب.

 

مسألة
الارامل

تعليم
بولس في الارامل يندرج في إطار التوجه الاساسي الذي رسمه واشرنا اليه سابقاً.
فالارملة (حرّة أن تتزوج من تشاء). لكنه يضيف ملاحظة مهمة، اذ انه يتوجه بكلامه
إلى نساء مؤمنات، فيقول: (ولكن في الرب فقط) (39) وهذا يعني ان تتزوج من رجل مؤمن.
وهذا الامر هو نتيجة منطقية ومباشرة للاساس الذي هو: الدعوة في الرب يسوع، ولضرورة
الاستناد اليه في كل خيار أخلاقي. أما امكانية عدم الزواج من جديد، فموجودة وقد
سبق لبولس أن نصح بها في الآية 8: (أما للعازبين وللأرامل فأقول: يحسُن بهم ان
بيقوا مثلي). وهو يجددها هنا بربطها بإمكانية التحرّر من الانشغالات والهموم التي
أتى على ذكرها في الآيات 13-43. ويقول: (الاّ انها في رأيي، تكون أكثر غبطة، ان
ظلّت حرة، واظنّ ان فيَّ ايضاً روحاً من الله) (40).

نقرأ
في القرار المجمعي في التنشئة الكهنوتية ما يلي:

(..
ولتُبذل عناية خاصة ليتلقّن الطلاب درس الكتاب المقدس الذي يجب ان يكون بمثابة
الروح لعلم اللاهوت بأجمعه.. ولتُصرَف عناية بالغة لاكمال اللاهوت الادبي لان
العرض العلمي لهذه المادة، اذا ما تشبّعت من تعليم الكتاب المقدس، يبيّن بوضوح
عظمة دعوة المؤمنين في المسيح وواجبهم في ان يثمروا في المحبة لاجل حياة العالم)
(عدد 16).

ان
تعليم بولس في الفصل السابع من رسالته الاولى إلى القورنثيين يهدف تحديداً إلى
تبيان دعوة المؤمنين في المسيح، وهذا ما يهم اولاً وآخراً وهو يعني في النهاية ان
المؤمن هو عبدٌ للمسيح (7: 22) وهذه الدعوة ليست تنكراً لشخصية المؤمن ولا
استعباداً لها. انها عطية. ذلك ان المؤمنين اشتروا بثمن (23) وان كيانهم الجديد في
المسيح يجعل منهم اناساً مصالحين (2قو 5: 17-21) معمدين (روم 5: 3-6) روحانيين
(روم 8: 1-17).

فانطلاقاً
من هذا التحوّل العميق في شخص المؤمن، يُطلب منه ان تكون حياته الاخلاقية ثمرة
لهذا التحول فتشارك في اظهار الانسان الجديد إلى الخارج. وهي تتخّذ بذلك صفة
الضرورة التي بدونها يفقد الانسان الجديد بُعده العملي الذي لا ينفصل عن دعوته إلى
الخلاص.

يحتوي
تعليم بولس على مدلولات كثيرة تفيدنا اليوم في محاولة فهمنا للعلاقة بين الحياة
الاخلاقية والايمان وللمكانة التي يجب أن تُعطى لوصايا الله في السلوك الاخلاقي
المسيحي وللتمييز بين ما هو ثابت ومتغيّر فيه.

 

العلاقة
بين الحياة الاخلاقية والايمان

قد
نتساءل ربما: ما هو الاهم، الايمان أو الاخلاق؟ وقد يكون لنا من خلال هذا التساؤل
خلفيات تتحكّم بموقفنا الذي قد يفضّل الايمان على الاخلاق أو يعتبر الاخلاق كافية
للتعبير عن حدق الايمان وكماله. أو ربّما نتّخذ الاخلاق وتطوراتها حجّة لنتهم
الايمان بالرجعية وبالتخلّف، ونحن في العمق نعتبر أن بين الايمان والاخلاق تناقضات
ابدية تمنع الانسجام والالفة بينهما.

أمام
هذا التساؤل، يأتي المبدأ الذي يطرحه بولس أساساً للحياة المسيحية ليرسم اطار
الجواب عليه. والمبدأ هو الانتماء إلى الرب يسوع، أي الايمان. واذا وردت فرضية
التفضيل بين الايمان والاخلاق في وقت من الاوقات وفي مرحلة من مراحل مسيرة المؤمن،
فإن الافضلية لابدّ وان تعطى للايمان. الاّ ان نضوج المسيرة الايمانية يصحّح هذه
الفرضية ويكمّلها عندما تصبح الحياة الاخلاقية جزءاً لا يتجزأ من الايمان وبُعداً
جوهرياً من ابعاده وطريقاً ضرورياً من طرقه بحيث يبدو الفصل بينهما امراً عقيماً
وعلامة من علامات العجز عن البلوغ إلى الوحدة الداخلية الشخصية التي هي ثمرة من
ثمار الايمان.

ان
الانتماء إلى الرب يسوع له بداية وهي الايمان وله نهاية وهي الخلاص. وما بين
البداية والنهاية، مجموعة من التفاصيل التي تتعلق بأبعاد الشخص البشري المختلفة:
النفسية والروحية، الفردية والجماعية. العائلية والاجتماعية. فالايمان والخلاص هما
في نهاية الامر الموضوع الاكبر الذي يجب أن يشغل بال المؤمن واليه تتجه اهتماماته
وتساؤلاته بحيث تصبّ كلها في مساعدته على الوصول إلى معرفة واضحة لكيفية جمع كل
الابعاد التي ذكرنا سابقاً في بوتقة واحدة وموحّدة هي شخصه كمؤمن. ان الشعور
بالانتماء إلى الرب هو اساس الحياة الاخلاقية المسيحية وهو يرافق كل سلوك اخلاقي
مسيحي.

وعليه،
فإن نظرة المؤمن إلى الحياة الاخلاقية لا تكون احادية الجانب، بحيث يفصل هذه
الحياة عن الحياة الروحية مثلا، او عن الحياة الليتورجية او غيرها. انها تكتمل
بصلتها بشخص المؤمن الذي يدرك ذاته دائماً وفي كل ظرف وأمام كل تصرف وسلوك، واحداً
مع المسيح، وبالمسيح واحداً مع الله.

من
هذا المنطلق، تدخل الحياة الاخلاقية في قلب مسيرة الايمان التي يقودها الروح القدس
وتصبح علامة من علاماته المميّزة. واذا كانت الحياة الاخلاقية تدور اساساً في فلك
الصلاح والخير. فلا صالح الاّ الله وحده، كما يقول الرب (راجع متى 10: 18)،
وبالتالي فإن قمة الصلاح هي في الايمان أي في الطاعة لكلام الله وارادته الخلاصية.

 

وصايا
الله

انّ
السلوك وفقاً للدعوة التي دعانا الله اليها يقوم أساساً على حفظ وصايا الله.
ووصايا الله كما جاءت في العهد القديم وجدّدها المسيح في شخصه تحتوي على قيَم
انسانية وانجيلية تشير بوضوح إلى ارادة الله وإلى كرامة الانسان المخلوق على
صورته. فمن قيمة الحياة إلى قيمة التضحية بالمحبة ترتسم امامنا صورة الانسان الحيّ
الذي يكتشف اهمية هذه القِيَم وفوائدها ومدى ارتباطها بكرامته السامية. والايمان
بالله يعزّز فيه هذا الاكتشاف ويدرك كم هو ملحّ الجواب على دعوة الله له إلى حفظ
وصاياه. وما يزيد هذا الشعور عمقاً هو ان المسيح بتشديده على وصية المحبة كمّل
الوصايا كلها واظهر معناها الشامل وارتباط بعضها بالبعض الآخر. ذلك ان الانسان
وخيره الاسمى وخلاصه يشكّلون الهدف والغاية لكل وصية. فوصايا الله بارتباطها
بالمحبة وبقيمة العطاء تتضمّن المعنى الذي يوحّد تفاصيل الحياة الاخلاقية. لذلك
ترسم الوصايا الحدّ الادنى الذي لا يجوز للحياة الاخلاقية ان تتخطاه هبوطاً. انها
تنطلق منه لتصل إلى كمالها عندما تحرّكها المحبة وتحييها غاية القداسة.

 

ما
هو ثابت ومتغيّر في السلوك الاخلاقي

يبدو
الكلام الذي يوجهه بولس إلى العبد المؤمن قاسياً: (ان كنتَ عبداً حين دعيت فلا
تبال، ولو كان بوسعك ان تصير حراً، فالاولى بك ان تستفيد من حالك، لانه من دُعِيَ
في الرب وهو عبدٌ كان عتيق الرب، وكذلك من دُعِيَ وهو حرٌّ كان عبد الرب) (1قو 7:
21-22).

وقد
يوقع هذا الكلام قارئه في صدمة يرفقها تساؤل حول دور الايمان في تعزيز كرامة الشخص
البشري، وكأن بولس في قوله هذا يرضى بكرامة منقومة للانسان.

قد
يُقال: بولس ابن عصره وهذا لتبرير دعوته إلى العبد للبقاء في حالته. كما يمكن
تبرير اتهام بولس بأنه يقبل حالة العبودية من خلال دعوته إلى العبيد ليطيعوا
سادتهم (راجع افسس 6: 5-6). الاّ ان اطار كلامه ليس اطاراً اجتماعياً. بولس يتحدّث
عن علاقة الايمان بالرب يسوع وما يمكن لهذه العلاقة ان تصنعه بالانسان من تحرّر
يظهر اولاً وآخراً في قلب الانسان وقد يسمح له ان يقبل حالته الاجتماعية المنقوصة.
فهل يعني هذا ان الايمان في حدّ ذاته يقبل حالة العبودية؟ الجواب هو طبعاً بالنفي،
على المستوى المبدئي. اما على المستوى الشخصي، فحالة العبودية كحالة اجتماعية
ظاهرة، يمكن ان تتحول بالايمان الذي يعطي شعور التحرّر الصحيح، إلى حالة شبه عادية
لا تؤثر سلباً على علاقة المؤمن بالرب ووحدته معه.

وهذا
ما يدعونا إلى طرح السؤال حول ما هو ثابت ومتغيّر في السلوك الاخلاقي. ان المبدأ
الثابت الذي يجب الحفاظ عليه واحترامه هو الانتماء إلى الرب والطاعة له بحفظ
وصاياه وتبني القيم الانجيلية الثابتة وفهم الحياة على انها مسيرة جواب على دعوة
الله.

أما
المتغيرات فهي التي تطول الظروف والحالات التي ترافق نمو الانسان وفهمه لذاته
وتطور زمانه وحضارته. فإن وافقنا على فرضية ان بولس يقبل العبودية، فهذا لا يعني
انها قيمة ثابتة في حدّ ذاتها. واذا تبيّن، كما هي الحال، انها لم تعد تتوافق
وادراك الانسان لكرامته ولحريته، تصبح أمراً مشجوباً اخلاقياً وايمانياً.

ان
التمييز بين الثابت والمتغيّر مسألة كلاسيكية، صورتها الاولى نجدها في الفارق بين
شريعة الله وشريعة البشر. ولابدّ من اللجوء إلى الفطنة والحكمة لنقبل بالمتغيرات
دون المساس بما هو ثابت.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى