علم

الفصل الثَّالِث عشر



الفصل الثَّالِث عشر

الفصل
الثَّالِث عشر

الآباء
الكبَّادوك

القديس
باسيليوس القيصري (330 – 379م)

القديس
إغريغوريوس النزينزي (النَّاطِق بالإلهيات) (329 – 389م)

القديس
إغريغوريوس النِّيصي (330 – 395م)

 

الآباء
الكبَّادوك

يُعطي
الآباء الكبَّادوك لفظِة ” الثيولوچيا “ محتوى جديد ومُحدَّد،
مُحتوى أكثر ادراكاً لأنه يستوعِب كل الدِلالات
Semantics المُتنوِعة عن الثيولوچيا، التي مررنا
بها عند الآباء الأولين…

واللاهوت الكبَّادوكي يُمثِّل مدرسة جديدة، تجمع كلاً من التقاليد
السكندرية والإنطاكية، هذه ” المدرسة “ تضم بين أروقتها:

القديس باسيليوس القيصري (330 – 379م)،

والقديس إغريغوريوس النزينزي (329 – 389م)،

والقديس إغريغوريوس النِّيصي (330 – 395م)،

والقديس إمفيلوخيوس أسقف إيكونيوم (340 – 395م).

واللاهوت
هو الإعلان عن الله، عن طبيعته، أعماله، وفوق ذلك هو الإعلان عن
الثَّالوث
.

وقد
صار هذا الأمر واضِحاً بشكل ساطِع في أشهر أعمال تلك
المدرسة “، وهي المباحِث (العِظات) اللاهوتية الخمس للقديس غريغوريوس النزينزي
النَّاطِق بالإلهيات (اللاهوتي).

وهذه
العِظات البحثية (
Orations) صاغها فم الثيؤلوغس في دِفاعياته ضد الأريوسيين في القسطنطينية
عام 380م، وتتناول معرِفة الله عموماً وتُركِز على وجه الخصوص على الطريقة التي
ترتبِط فيها معرِفة الله بمعرِفة الآب والابن والروح القدس (الثيولوچيا
التريادلوچية).

وتلك
العِظات الخمس الشهيرة، جعلت القديس غريغوريوس النزينزي يستحِق لقب ” النَّاطِق بالإلهيات أو اللاهوتي “ أي الثيؤلوغوس، والتي وضعته تالياً للقديس يوحنا الإنجيلي
اللاهوتي والرَّائي، الذي كلَّمنا عن اللاهوت وعن اللوغُوس الله الكلِمة كابن
ووحيد الآب الذي به ننال ونقبل الروح القدس.

وتُردِّد المدرسة الكبَّادوكية صدى تعليم البابا العظيم أثناسيوس، في
التركيز على أنَّ:

المعرِفة
اللاهوتية الكامِلة هي في الثَّالوث (1)

(THN EN TPIAΣI THΣ
ΘEΟΛΟΓIAΣ EΠIΓNΩΣIN
)

فاللاهوتي
الوحيد الذي يأتي بالحق والكرامة لله هو الذي أوصاه الله لينطِق باللاهوتيات، ولا
يسقُط أبداً عن المفهوم الحقيقي حول الأُلوهية التي للابن الوحيد ومجد الروح القدس
(2).

يُميِّز
القديس غريغوريوس النزينزي بين ” الإيكونوميا “ و”
الثيولوچيا “ ويُعلِن أنَّ اللاهوت يختص بالله مباشرةً، فيقول:

” لكن حينما أقول الله أعني الآب والابن والروح القدس، ولا شئ على
الاطلاق يعلو الثَّلاثة، إني أتجنب أن أُهوَّد (
Judaize) وِفقاً للتوحيد المُطلق ((Monarchy، أو أن أهللن (Hellenize) بحسب تعدُّد الآلِهة “ (3).

وما يقِف شامِخاً من بين أعمال القديس غريغوريوس هو عِظاته اللاهوتية
الخمس دِفاعاً وشرحاً للتعليم الأُرثوذُكسي الذي قرَّره مجمع نيقية ضد تعليم
الأونوميين والمقدونيين، ودِفاعه عن وحدِة جوهر اللاهوت للابن مع الآب.

وقد تعرَّض لهرطقِة أبوليناريوس الذي حاول حجب بشريِة المسيح لكي
يُقوِّي بالمُقابِل لاهوت الرب، فأكَّد غريغوريوس على كمال بشريِة المسيح
المُخلِّص كما على لاهوته، فلأنَّ للمسيح بشرية كامِلة ذات نفس إنسانية لذلك
بشريتنا نحن بالنَّفْس الإنسانية التي فينا يمكنها أن تخلُص وتنال الاتحاد بالله،
بالشَرِكَة مع المسيح ذي البشرية الكامِلة ذات النَّفْس البشرية مِثلنا.

قدَّم القديس إغريغوريوس التعليم الثيولوچي لا كقضية عقلية تُثير
الجدل والخِصام، لكن قدَّمه في بساطة وحيوية المسيحية بالاعتراف بتثليث الأقانيم
في الله مع محبِة الله من كل القلب والاعتراف بوحدانيته مع الطاعة والاتضاع وانكار
الذات، والدِفاع عن الروح القدس مع الاثمار بثِماره من محبة وسلام وبِر، دون جسارة
الادعاء بالعِلْم المُطلق..

لذلك نجده يقول: ” في رأيي أنه من المستحيل أن نُعبِّر عن الله،
وأكثر استحالة أن نُدرِكه، لأنَّ رِداء الجسد الكثيف عائِق دون فهمِنا الكامِل
للحق “.

ويقول أيضاً: ” لا نتنازع في الأسماء إذا فُهِمت المعاني “.

جعل مِحور تعليمه وعِظاته هو عبادِة الثَّالوث القدوس في جوهر
واحِد
.

أمَّا
القديس إغريغوريوس النِّيصي فيرى أنَّ كل من يعطش عطشاً مُتزايِداً إلى الثَّالوث
يتمتَّع بشَرِكَة وعِبادِة الثَّالوث ” من يقوم
مُتجِهاً نحو الله يختبِر على الدوام ميلاً مُستمِراً وتقدُّماً مُتزايِداً “ (4).

وركِّز على أنَّ الإيمان يُكمِّل كل ما نقص في معرِفتنا، ويهِبنا كل
ما هو غير منظور عن أسرار الله المُثلَّث الأقانيم (5)، لأنه ” غالِباً ما ينسِب
الإنجيل لله عِبادات تبدو مُناسِبة لنا كي نفهمها “ (6).

وبحسب الدارِس اللاهوتي چ. بلانيو Plagnieux J. فإنَّ ” العمل الكامِل لغريغوريوس النزينزي
مطبوع بالعقيدة الثَّالوثية التي تجد تعبيرها الأكمل في العِظات اللاهوتية الخمس،
التي هي الجوهرة العقيدية والأدبية في المسيحية الشرقية “.

ويقول بلانيو في موضِع آخر:

” الثَّالوث هو نقطِة الجذب ومركز الاشعاع في تعليم غريغوريوس
اللاهوتي، ويبدو أنه ركيزة وأساس قصائِده وعِظاته التي تُقدِّم بوجه خاص الملامِح
الأساسية للواقِع المسيحي، والذي يُشكِّل الإطار النهائي للصِيَغ الإيمانية
التقليدية “ (7).

أنكر القديس غريغوريوس النزينزي على الأونوميين ادعائهم بقدرتهم على
سبر غور طبيعة الله: ” لدينا اعتقاد جازِم بأنَّ الله كائِن، أمَّا ماذا يكون،
فهذا ما ليس لنا عنه فهم كامِل “.

لذلك كان يُنادي بوصف الله بما يُسمَّى بلاهوت النفي، واتضح
هذا المنهج في القداس الإلهي الذي تستخدِمه الكنيسة في عِبادِتها الليتورچية:

” أيها الواحِد وحدهُ الحقيقي، الله مُحِب البشر، الذي لا يُنطقُ به،
غير المرئي غير المُحوى، غير المُبتدِئ، الأبدي، غير الزمني الذي لا يُحد، غير
المفحوص غير المُستحيل… “
.

وقد
استخدِم القديس غريغوريوس لاهوت النفي في مواضِع مُتنوِعة في القداس الغريغوري ” غير موصوفة هي قُوَّة حِكمتك، ليس شيء من النُّطق يستطيعُ
أن يحِد لُجة محبتك للبشر “.

ويفهم
القديس غريغوريوس أسقف نيصُص ” اللاهوت الحقيقي “ أنه مجد
الثَّالوث الواحِد
، فيقول في عِظته ” قال الله نعمل الإنسان “:

” أتحدث عن لاهوت واحِد One Godhead لأنَّ هذا اللاهوت الذي أراه في الآب، أراه أيضاً في الابن، والذي
أراه في الروح القدس أراه أيضاً في الابن لأنَّ هيئة واحِدة في كليهِما… هكذا
أيضاً توجد عِبادة واحِدة وذُكصولوجية واحِدة نُسبِّحها… أعني لاهوتاً حقيقياً
واحِداً
One True
Theology
لئلاَّ تُقسِّموا العِبادة، ومن ثمَّ تُقسِّموا الأُلوهية إلى آلِهة
عديدة!! “ (8).

فاللاهوت
(الثيولوچيا) هو التَّسبيح والتَّمجيد الذُّكصولوچي لله، الآب والابن والروح
القدس، وكما أنَّ الثيولوچيا هي الذُّكصولبوجية هي
أيضاً التريادلوچية
.

اللاهوت
هو التثليث، وسِر الثَّالوث المُحيي الإلهي يُشكِّل أساس كل التعليم اللاهوتي كما
يقول القديس غريغوريوس النِّيصي:

كل فِكْر energy يصدُر عن الله ويمتد للخليقة، يُستمد
من الآب ويُباشر بالابن ويُكمل بالروح القدس “ (9).

إذن
عمل الله الثَّالوثي (في الاستعلان والخلاص) نحو الإنسان ومن أجل الإنسان، يجد
نظيره في عمل وذُكصولوجية الإنسان الثَّالوثية، والعقيدة الثَّالوثية هي التي
تربُط الاستعلان بالعِبادة وتربُط الله الواحِد المُثلث الأقانيم بالإنسان العابِد
المُصلِّي.

إنَّ
” عقيدة الثَّالوث “ أو ” التعليم الحقيقي عن الثَّالوث
“ هي تقليد دائِم وأبدي في الكنيسة، وهي ليست من صُنع إنسان بل مُؤسسة على استعلان
الله مكتوباً في الإنجيل المُقدس البِشارة المُفرِحة وتقليداً تسلَّمته الكنيسة،
والقديس غريغوريوس النزينزي يعي ذلك جيداً في قوله:

” أوِد… أن أفهم ولا أقول شيئاً عن الله من عمدياتي “.

لذلك
التفكير أو الحديث عن الله في الثَّالوث ليس مجرد تفكير أو حديث بشري، لأنه فِكْر
إلهي وشَرِكَة في حياة الله… من يستطيع أن يقِف أمامه ومن يستطيع أن يتزكَّى
أمامه ومن عرف فِكْر الرب فيُعلِّمه، وأمَّا نحن فيا لغِنى محبتهِ ورحمتهِ الإلهية
إذ أعطانا فِكْر المسيح.

ويتأسَّس
اللاهوت الثَّالوثي عند الآباء الكبَّادوك على تعاليم الكِتاب المُقدس أيقونة الله
ورسالته إلى خليقته، فمن يجهل الإنجيل يجهل المسيح، ويتأسَّس أيضاً على التسليم
(التقليد الكنسي).

فالكِتاب
المُقدس والكنيسة وطيدا الصِلة بعضهما ببعض فالواحِد لا يُفهم بدون الآخر، إذ أنَّ
الكنيسة هي الإناء الذي حفظ لنا الإنجيل، وهي أيضاً صوت الإنجيل الحسِّي والفم
الذي يُكلِّمنا به الله، تلك هي منهجيِة الآباء الكبَّادوك وتعليم آباء الكنيسة،
الذينَ تمسَّكوا بالعُنصر الشخصي أو الحضور في الكِتاب المُقدس، لأنَّ الإنجيل ليس
كلِمة جامِدة مُطلقة بل كلِمة الحياة وليس تعليماً مُبهماً بلا معنى، لأننا لم
نتبع خُرافات مُصطنعة، إنما هو كلِمة الله التي تُختبر على المستوى الشخصي
ونُعلِنها أيضاً على المستوى الشخصي فهي كلِمة حيَّة تُحيي وكلِمة فعَّالة تفعل
وكلِمة مُميزة تُغيِّر وتُقدِّس إلى التمام.

فالإنجيل
هو المسيح ربنا مُتكلِماً، فهو ليس مجرد كلِمات كتبها مرقُس ولوقا ومتَّى ويوحنا
الإنجيليين، الذينَ هم أنفسهم ساقهم روح الله القدوس فأخذوا ” ينطِقون بالإلهيات – يُلهوِتون “ بعد أن رأوا وسمعوا ولمسوا
وعاينوا شخص الله الكلِمة نفسه ومن ثمَّ صاروا لاهوتيين.

فأنتَ
تحتاج إلى لاهوتي لتنطِق أو تتأمَّل في الإلهيات، تماماً كما تحتاج لشخص اللوغُوس
الله الكلِمة لتُصنع لاهوتياً، فاللاهوت ” الثيولوچيا “
والثيولوغُوس ” الله الكلِمة “ يدُلان على ” وظائِف أو أفعال “ لأنهما يشترِطان أو
يفترِضان مُسبقاً ” أشخاصاً “ و” عِلاقات شخصية “.

وفي
هذا نرى الفارِق بين اللوغُوس البشري في فلسفِة الإغريق أو اللوغُوس التشريعي
لليهودية من جهة، ولوغُوس الآباء الكبَّادوك واللاهوت الآبائي من جهة أخرى.

فلوغُوس
الإغريق عقلاني ادراكي مفاهيمي، واللوغُوس اليهودي فعَّال
Active
بينما لوغُوس الكبَّادوك المسيحي ادراكي وفعَّال في أنٍ واحِد لأنه جوهرياً
وأساساً لوغُوس شخصي
Personal
Logos
.

فالإنسان
ليس لاهوتياً لأنه يعرِف اللاهوت أو لأنه يُمارِس التقوى، بل لأنه هو نفسه في صميم
شخصه يصير ويكون لاهوتياً ومن ثمَّ يعرِف ويُمارِس اللاهوت والتقوى الإيمانية
المسيحية.

وهذه
الأولِية اللاهوتية الشخصية، التي هي التراث المُتميِز للمسيحية، هي أولوية لها
أهميتها وركيزتها الأساسية، إنها الشرط الأساسي للاَّهوت الآبائي المسيحي، وأن
ننسَ هذا معناه أن نُصبِح عقلانيين، ومن ثم نُصبِح بلا نُضج وبلا أساس، لأنَّ الله
لا يتجزأ، هو ” كل الحق “: الشخص وكل حياته فِكراً وعملاً، ومادام لا تحيُّز ولا
تجزِئة في الله فليس هناك تحيُّز أو تجزِئة في اللاهوت.

ويُوضِح النص التالي للقديس غريغوريوس النِّيصي الأبعاد الشخصية
للاَّهوت في الكِتاب المُقدس، فبعد أن تحدَّث عن العهد القديم ” كنهر نبوي يفيض
بالمياه المُحيية “
، وعن العهد الجديد ” كنهر يفيض بالأطياب الإلهية
العَطِرة “
يضيف القديس غريغوريوس:

” كان الإناء المُختار لِسان العِطر بولس، نهراً يفيض بالأطياب
العَطِرة يتدفق وينبُع من فردوس الكنيسة بالروح القدس الذي رافِده كان أريج
ورائِحة المسيح، ومثل هذا النهر كان يوحنا ولوقا ومتَّى ومرقُس وكل الآخرين، نبتات
نبيلة عظيمة الشأن أشجار مُثمِرة في جنة العروس، تُحرِّكهم تلك الريح القوية بأوج
اشراقاتِها فصاروا ينابيع الأطياب التي يفوح عبيرها مُمتزِجاً بعبير الأناجيل “
(10).

ويقول
بلانيو مُشيراً إلى غريغوريوس النزينزي:

” التوقير الذي يكِنُّه غريغوريوس للكِتاب المُقدس يُفسِر المكانة
التي احتلها في عمله وكِتاباته، وقد اعتبر العهد القديم خورساً جديراً بالكرامة،
فكان يحفظه ويستعين به تماماً كما العهد الجديد، فكانت هناك انعكاسات وتأثيرات
سُليمان الحكيم ومراثي إرميا النبي وتنهُدات وصُراخ المُرنِم داود، وفوق ذلك كله
رُؤى اللاهوتي موسى النبي التي لا تُقارن “ (11).

ثم يُكمِل بلانيو في موضِع آخر:

” ربط الآباء الكبَّادوك روحانيتِهِم ربطاً وثيقاً بالكِتاب المُقدس،
فالقديس غريغوريوس النِّيصي مُقتفِياً نهج وخُطَى القديس باسيليوس، يُؤسِّس
هارمونية وتناغُم الأعمال المعروفة بالكلاسيكيات
Classics مع كُتُب سُليمان الثَّلاثة “:

فالأمثال يتناغم مع الرؤيا العملية (النُّسكية)، والجامِعة
مع اللاهوت الطبيعي، وأخيراً نشيد الأناشيد مع اللاهوت “ (12).

ونجِد القديس باسيليوس الذي كانَ كسفينة موسوقة بالثقافة اليونانية،
يصِف اختبار دِعوِته في رسالته أل 223 حيث قال:

” صحوت يوماً كما يصحو النائِم من رُقاده العميق ولمحت النور الباهِر
المُشرِق من تعليم الإنجيل فعرفت بُطلان الحِكمة التي كنت قد تعلَّمتها،
وأدركت زوالها “.

لذلك نجده لم يشتق أفكاره من الميتافيزيقيات الأفلاطونية، مُؤكِداً
على أنَّ القُّوة الحقيقية تكمُن ليس في المعرِفة بل في الحُب الذي هو أساس
الشَرِكَة.

ركِّز القديس باسيليوس على أنَّ الكِتاب المُقدس هو أساس كل معرِفة
لاهوتية لذلك يقول:

” حيث صَمَت الكِتاب المُقدس، على عُلماء اللاهوت أن يصمُتوا أيضاً
وألاَّ يشغِلوا الناس بمُجادلاتِهِم، فالإنسان يعرِف الله بحِفظ وصاياه
وليس باثارِة الأسئِلة عن الأشياء العالية عن أفهامِهِم، وليس بكثرِة التفكير في
الأشياء التي لا يراها الناس “.

وهو بهذا يريد أن يُؤسِس عِلْم لاهوتي مُثمِر يجمع إليه كل
اللاهوتيين الحقيقيين الذينَ يأخذون عِلْم اللاهوت مأخذ الجد في حياتِهِم.

وتأكيداً لدور الإنجيل في الثيولوچيا نجِده يرُد على الهراطِقة
الذينَ جعلوا من اللاهوت لا بلوغاً إلى الحق بل مزيداً من الجَدَل:

” نحن نرفُض أن نقبل إيماناً جديداً، يضعه لنا الآخرون، ولسنا في
جسارة حتى نكرِز بأفكارنا الشخصية ونُحوِّل كلِمة الإيمان إلى كلام بشري لكننا
نكرِز بما علَّمنا إياه تقليد الكنيسة، وكما علَّمنا إياه تقليد الآباء القديسين،
هكذا نتكلَّم ونُعلِن لكل من يسألنا “، وهو في هذا يربُط بين الثيولوچيا والإنجيل
والكنيسة وتفسير الآباء.

ويُوجِه القديس أنظارنا نحو المسيح فيقول:

” ثبِّتوا عيونكم على السماء على شمس البِّر ودعوا وصايا الرب تقودكم،
كما تقود النجوم المُتلألِئة السُّفن “.

 اعتبر
القديس أنَّ اللاهوت هو الصَّلاة:

” الصَّلاة ليست فقط كلِمات نُردِدها، بل هي اتحاد بالله طوال رحلِة
الحياة فتُصبِح حياتك كلها صلاة واحِدة بلا اعاقة ولا انقطاع “.

أمَّا اللاهوت الكامِل في الثَّالوث، فقد وجدهُ الآباء الكبَّادوك في
العهد القديم، وقد وجد الشقيقان باسيليوس وغريغوريوس الثَّالوث في كلِمات التكوين
(1: 26) ” لنعمل الإنسان….
Let us make man “.

وكما يصيغها القديس باسيليوس القيصري:

” هناك تظهر عقيدة الحق “ (13)

ثم
يُضِيف ” أنه نور اللاهوت الذي يُشرِق كما من كُوَى (تك
26: 1) لم يقُل لأعمل الإنسان بصيغة المُفرد بل ” لنعمل الإنسان ” (14)،
يقول ذلك لكي تفهموا معنى السيادة أي لكي لا تجهلوا الابن في معرِفة الآب ولكي
تفهموا أنَّ الآب خلق بالابن والابن خلق بمشيئة الآب وهكذا تُمجِّدون الآب في الابن
والابن في الروح القدس، أنتم هكذا عمل مُشترك كي تصيروا أيضاً عابدين مُشتركين في
بركِة الثَّالوث، دون أن تفصِلوا أو تقسِموا العِبادة، بل تُوحِدون الأُلوهية
ولاهوت القُدرة “ (15).

ويُؤكِد
القديس باسيليوس على قُدرِة الله الخالِق فيقول ” الأمر
في ذاته عمل “.

ثم يُلاحِظ القديس غريغوريوس أنَّ التَّكوين (1: 27) لم يقُل:

” ” وخلقوا الإنسان “…. ولكن ” فخلق الله الإنسان
” حتى توحدوا الأُلوهية لكن لا تُوحِدوا الأقانيم فيكون لكم مجد واحِد غير
مُنفصلين في العِبادة ودونَ أن تُقسِّموا الله إلى آلِهة مُتعدِدة “ (16).

فبالنسبة
للآباء الكبَّادوك، لا يمكن أن يُقرأ العهد الجديد قراءة مُناسِبة وصحيحه بمفرده
خارِج سياق ووجدان كنيسة الله الحي، فالنصان الوارِدان بتكوين (1: 26، 27) هما ” كُوَى “ تنفتِح على اللاهوت الكامِل للكنيسة الكائِن في
الثَّالوث، ويُوجِز هذا المفهوم على يدي القديس غريغوريوس في نفس العمل كالأتي:

” الآب أُقنوم (شخص) حقيقي مُميز Proper والابن حقيقي مُميز والروح القدس حقيقي مُميز، لكن يوجد إله واحِد
(لاهوت واحِد) هذا هو اللاهوت الذي أراه في الآب ونفسه في الابن، اللاهوت الذي
أراه في الروح القدس، ونفسه في الابن، لأنَّ هيئة واحِدة في كلٍ منهم، وهناك بِدء
واحِد (
Aρχή) من الآب في الابن ومن ثمَّ توجد بِنية عبادة
واحِدة وذُكصولوجية واحِدة، و(تك 1: 26) وما بعدها هي بِداية ومُقدمة خِلقتنا
وتكويننا وبدايِة اللاهوت الحقيقي “ (17).

وتوجد
نُصوص أخرى في العهد القديم يرى اللاهوتيون الكبَّادوك أنها تكشِف سِر اللاهوت
الذي في الثَّالوث (18)، وهنا اللاهوت الكامِل حيث التنبؤ بمجئ المسيح في الجسد
(19)، مع أنَّ اللاهوت في العهد القديم قد استُعلِن مُكتنِفاً بالغموض (مستور) كما
في مرآة، لكن بلغ اللاهوت في العهد الجديد كل مِلء قُوَّتِهِ حيث استُعلِن لنا
الآب والابن والروح القدس روح الحق، كما يقول القديس غريغوريوس النزينزي في رسالة
مشهورة:

” لقد أخذت على عاتقي هذه المُهمة، أن أحدِس ما يخُص اللاهوت، هذا
بالنسبة للعهد القديم، لكننا في العهد الجديد نصِل إلى الكمال من خلال الجمع،
لأنَّ العهد القديم أعلن عن الآب فقط جهراً لكن بشكل مستور عن الابن، بينما
استُعلن الابن في العهد الجديد ونبَّهنا إلى أُلوهِيِة الروح القدس “ (20).

هكذا
يكون العهد الجديد ” جديداً “، في أنه يُستعلن مِلء
السِّر الذي كانَ ” مكتوماً منذ الدُّهور في الله “ (أف 3: 9 & كو 1: 26) وهو
جديد بالقدر الذي يتأسَّس فيه على الاستعلان الفائِض بالنِّعمة لله الواحِد
المُثلث الأقانيم
Triune God، فالعهد الجديد ” استُعلِن “ الابن، وأوحى وأشار إلى روح الحق
وعلَّمنا أن نُوقِر ونُكرِّم الله الآب، الله الابن، الله الروح القدس… لاهوت
واحِد، مجد واحِد، جوهر واحِد، وملكوت واحِد… (21).

وهذا
اللاهوت الكامِل للعهد الجديد علَّمه الإنجيليون والرُّسُل (22)، لا من الناس ولا
بإنسان كما يقول القديس بولس في (غل 1: 1) بل ” بقوة
الروح القدس “ (23).

ونجِد
أنَّ القديس باسيليوس الكبَّادوكي دافع عن الأُرثوذُكسية النيقاوية وكان لاهوتياً
ثالوثياً أي لا يُغفِل عمل أي من الأقانيم الثَّلاثة في تدبير الخلاص فربط الثيولوچيا التريادلوچية بالإيكونوميا الإلهية، ورأى في عقيدة الثَّالوث جوهر العقيدة المسيحية فكما أنَّ
الابن تجسَّد ليُكمِل الخلاص للبشرية هكذا الروح القدس يأتي بالتقديس والتثبيت:

” خلاصنا ثابِت على أساس الآب والابن والروح القدس “.

ويُميِز الآباء بين الإيكونوميا (التدبير الخلاصي) والثيولوچيا
(اللاهوت) (24) ويتضِح ذلك في تفسير أعمال الروح القدس (الإبركسيس): ” ليعلم
يقيناً جميع بيت إسرائيل أنَّ الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً “
(أع 2: 36)، ويشرح القديس باسيليوس هذا التمييز، فالابن المُتجسِد لوغُوس (كلِمة)
الله هو مركز الإيكونوميا (التدبير) والثَّالوث المُبارك هو مركز اللاهوت.

والإيكونوميا تستلزِم الاخلاء Kenosis والاخلاء هو سِر المسيح المُخلِّص، السِّر الأعظم مخافة، سِر
التجسُّد وميلاده من عذراء وآلامه وموته على الصليب ونزوله إلى الجحيم وقيامته
وصعوده إلى السموات ومجيئه الثَّاني الآتي من السموات المخوف المملوء مجداً
(الباروسيا
Parousia) (25).

واللاهوت يستلزِم لوغُوس (Λόγοσ) المجد الأبدي، أي مجد الآب والابن والروح القدس (26)، وخليق بنا
أن نُؤكِد على أنَّ الثيولوچيا والإيكونوميا لا يمكن فصلهِما، بل على العكس فإنَّ
كل سِر الثَّالوث يُستعلن في كل سِر المسيح والعكس صحيح، ولكن السِّرين لا خلط
بينهما أبداً.

ويربُط القديس باسيليوس القيصري بين الثيولوچيا التريادلوچية وبين
الذُّكصولوجيا
فيقول:

” أفضل شئ أن نُشارِك خوارِس السماء ونحن لازِلنا على الأرض، فليس
هناك أفضل من أن نبدأ النهار بالصَّلاة وتمجيد الخالِق بالترانيم (27) “.

ويتكلم القديس عن تسبيح الله الثَّالوث فيقول:

” نُسبِّح الآب والابن وروح الله القدوس “ (28).

وعن
عظمِة الثيولوچيا ومجد اللاهوت يقول القديس باسيليوس
القيصري:

” تثِق بلا شك أو تُردِّد مُقتنِعاً أنَّ كل كلِمة قالها الله هي
حقيقة حتى وإن كانت ضد الطبيعة “ (29).

ويُركِز القديس باسيليوس على الإيمان وكلِمة الله كأساس للثيولوچيا
فيقول:

” الإيمان يأتي بالسمع والسمع بكلِمة الله “.

ويذكُر التقليد التاريخي الكنسي أنَّ الآباء الثَّلاثة المُلقبين
بالآباء الكبَّادوك التحفوا بالنُّسك وأحبوا الجمال والعِشق الإلهي بلوغاً إلى
معرِفة أعمق للثيولوچيا… حتى أنَّ القديس غريغوريوس النزينزي، منذ أخذ يعي
التمييز بين الخير والشر، هام بحب التبتُّل بسبب حِلم رأى فيه فتاتين عذراويتين:
العِفة والطهارة، تدعوانه إلى الصعود معهما حتى بهاء اللاهوت (30)، وكلنا
يعرِف أنَّ القديس غريغوريوس وهبته أُمُّه للرب، تلك هي الركائِز التكريسية
النُّسكية التي اعتبرها الآباء كل الآباء أساساً ومدخلاً لمعرِفة اللاهوت…
ويشترِك أيضاً معه في هذه الحياة القديس باسيليوس الكبَّادوكي الذي كان بلا زوجة
بلا قِنية بلا لحم، ويكاد يكون بلا دم.

ويرى الآباء الكبَّادوك أنَّ الإنجيل سبيلنا إلى الثيولوچيا لذلك
يقول القديس إغريغوريوس النِّيصي:

” في فِن الرسم، من يتأمل صورة تكونت باستخدام الألوان بطريقة ماهِرة
لا يقِف بصره عند حدود الألوان، بل بالحري يتطلع إلى الشكل الذي أوجده الفنان
بألوانه، هكذا يليق بنا في قراءِة الإنجيل ألاَّ نقِف عند مادِّة الألوان، بل
ننظُر شكل الملِك (اللاهوت) الذي تُعبِّر عنه مفاهيم الذِهن الطاهِر خلال الكلِمات
“.

” لقد بلغ بهاء اللاهوت إلى الكنيسة عن طريق الأنبياء أولاً،
وأخيراً بإعلان الإنجيل زالت ظِلال الرموز بتمامِها “.

” سِر اللاهوت تحقَّق خلال رسالِة الإنجيل وهو وحده حُلو بالنسبة
لله، ويُحسب أسمى من كل أطايِب الشريعة، فلم يعُد مخفياً وراء رمز أو ظِل، بل تفوح
منه رائِحة إعلان الحق الواضِح والمكشوف أطيب من كل الأطايِب “.

وعن كينونِة الله ووجوده يقول القديس غريغوريوس النزينزي:

” الله دائِماً كان ويكون وسوف يكون، إنه دائِم الكينونة (الوجود)،
جمع في نفسه كل الكينونة، لأنه ليس له بِداية ولن تكون له نِهاية، فهو يُشبِه إلى
حدٍ ما بحراً عظيماً للكينونة بلا حدود وبلا قيود مُتخطِياً كل مفهوم للزمن
والطبيعة “.

ويرتكِز فِكْر الكبَّادوك حول بؤرتين: وحدِة الأُلوهية
(الجوهر)، وتمايُز الأقانيم الإلهية الثَّلاثة، ويختص اللاهوت بالأُلوهية
الواحِدة (اللاهوت أو الجوهر الواحِد) الذي (أي الجوهر) يتمايز أُقنومياً (31).

وهذا ما يتحدَّث عنه القديس غريغوريوس مُفسِراً (يو 1: 9):

” كان النور الحقيقي “ كان هذا هو النور الحقيقي
الذي يُنير كل إنسان أتياً إلى العالم، أي الآب كان هو النور الذي يُنير… أي
الابن كان هو النور الذي… أي الروح القدس الباراقليط.. كان هو، كان هو، كان هو،
لكن ” الواحِد ” (كانَ) النور والنور والنور ولكنه نور واحِد، إله
واحِد، وهذا ما أدركه داود من قبل حينما قال ” بنورك نُعايِن النور “
والآن قد رأينا ونُعلِن، من نور الآب نفهم (نعرِف) الابن نوراً، وفي نور الروح
القدس، نُعلِن لاهوتاً ثالوثياً واضِحاً (32) “.

فاللاهوت الحقيقي إذن يستلزِم بالضرورة الاعتراف بالأقانيم الثَّلاثة
(33)، وأيضاً الإعلان عن وحدانية الجوهر للأقانيم الثَّلاثة (34).

وحينما نُشير إلى طبيعة الله الغير مُنقسِمة والتي هي العِلَّة
الأُولى، نتقابل مع الله الواحِد، وحينما نُشير إلى الثَّلاثة في عِبادتنا الذي
فيهم كائِن اللاهوت، نتقابل مع الثَّالوث (35).

الآب والِد (لاهوتياً وبدون استقصاء)، وباثِق
(لاهوتياً بدون فحص).

والابن مولود (بدون هوى ولا شهوة، ولا زمنياً
ولا جِسدانياً).

والروح القدس مُنبثِق من الآب (36).

وهناك أسماء مُشتركة للاهوت (الأُلوهية) مثل: الله – الكُلي القُدرة –
الرب – الملِك – إلخ، وأسماء خاصة أو ذاتية لكل أُقنوم
Person مثل:

الآب والابن والروح القدس (37).

واللاهوت
كإعلان للأقانيم الثَّلاثة أو كتمجيد وتسبيح لاسم الله الذاتي الآب والابن والروح
القدس لا حدود له، وحق الثَّالوث لا يُعبَّر عنه ولا يُستقصى ولا يُستهلك أو
يُستنفذ.

ويستعمِل
القديس غريغوريوس النزينزي اللاهوتي قول أفلاطون ” من
العسير أن نُفكِّر في الله لأنَّ الحديث عنه مُستحيل للغاية وإلى المُنتهى “ (38).

لذلك
يحِثنا القديس على رؤيِة كمال المعرِفة العظيم، لأنَّ الأمور القديمة عبرت، الحرف
انتهى وتقدَّم الروح، الظِّلال هربت وجاءَ إلينا الحق.

فاللاهوت
لا يمكن اختزاله إلى حقائِق ادراكية موضوعية، ولا يمكن حصره وتحديده في أيَّة
تعريفات أو مدلولات ومقولات!! لهذا يتحدَّث الآباء الكبَّادوك عن سِر اللاهوت (39)
والسِّر لا يعني هنا شئ غامِضاً ومُبهماً على وجه الاطلاق لكن السِّر يُدلِّل على
شئ يسمو فوق محدودية الأفهام ويعلُو على كل المُدركات والمنهجيات، لذلك يقول
النزينزي ” لا تنشغِل في تأمُّلك في كيفية اللاهوت،
لأنَّ هذا أمر عالياً وتكريم هذه الحقائِق ينبغي أن يكون في صمت لأنه أمر عظيم
فائِق “.

فأن ” تعرف الله “ هو أن ” تتلامس مع “ سِرُّه!! لا أن تمسِك هذا
السِّر وتُطبِق به في عقلك وذهنك، ولا أن نُصيغه بلغتنا وأفواهنا البشرية!! لذلك
يقول القديس باسيليوس:

” لا تجرِ وراء فحص غير المفحوص، آمِن فقط بالمكتوب ولا تجرِ وراء ما
لم يُكتب “.

ويرى
الآباء الكبَّادوك أننا حينما نُريد أن نُخضِع اللاهوت للتساؤُلات والجدالات
والمنطِق، نبعِد عن هذا السِّر بل ونُحوِّل الثيولوچيا إلى تكنولوچيا!!

لذلك
نجِد في كِتابات القديس غريغوريوس النِّيصي ضد أُونوميوس الأريوسي، بخصوص سِر
ميلاد الابن الإلهي (التجسُّد الإلهي):

” يختلِف سِر اللاهوت عن فسيولوچية الأجساد البشرية، فكيف تمزِج
بالكلام تلك الكيانات التي لا تقبل المزج؟ (أعني التدبير الإيكونوميا الإلهي مع
المخلوقات؟)، كيف نستطيع أن نتكلَّم بألفاظ رديئة وباهِتة فنُقلِّل من طهارِة
ونقاوِة الميلاد الإلهي؟ كيف تتجاسر يا أُونوميوس وتتحدث بالتقنية الشريرة عن
اللاجسداني باستخدام شهوات الجسد؟ “ (40).

وتحدَّث القديس غريغوريوس النِّيصي في مواضِع مختلفة عن التكنولوچيا
بأنها ” كاكوتيكني “ أي تقنية شريرة وبأنها ” تقنية شريرة أرسطوطالية “، والمقصود
اخضاع الأسرار الإلهية للمنطِق البشري واخضاع تدبير الخلاص للمنطِق الفلسفي
الأرسطوطالي (41).

ويقول
القديس باسيليوس أنَّ ” سِر اللاهوت “ يتطلب قبول
الإيمان البسيط الغير مُشوش ولا مفحوص لأنَّ الإيمان هو اختبار اليقين بحقائِق
منظورة، لذلك علينا أن لا نرتئي في معرِفة أو مُعاينة ما يقع فوق حدود ادراكنا ولا
نجعل من موضوع رجائنا شئ غامِض ومُلتبِس (42).

ويتحدث
القديس باسيليوس عن الاختراعات والابتداعات فيقول:

لقد
أهملنا عقائِد الآباء وأضعفنا التقاليد الرسولية، وصارت ابتداعات الناس
واجتهاداتِهِم هي المعايير الجديدة في الكنيسة!! لهذا راح الناس يتحدَّثون بتقنية
شريرة بدلاً من أن يتأملوا لاهوتياً بحق، لقد صار لحكمة هذا العالم الأولوية على
افتخار الصليب!! (43).

ويُؤكِد
غريغوريوس النزينزي على أنَّ اللاهوت ليس لكل أحد، فهو ليس مجرد شئ من السهل أن
يكون في مُتناول يد كل أحد (44).

لذلك
اكتفى القديس باسيليوس بالصمت مُعترِفاً بأنَّ أفضل شئ أن يعترِف الإنسان بجهله في
الأمور اللاهوتية فهذا أقل خطورة من أي شئ آخر، واعتبر أنَّ التأمُّل الروحي في
السِّر الإلهي والذُّكصولوجيا بالتَّسبيح الخاشِع هو الغاية الحقيقية لكل عِلْم
لاهوتي.

وكان
اللاهوتي الكبَّادوكي باسيليوس القيصري مُشتاق إلى مسيحية أصيلة لها اتصالها
بالعلوم اللاهوتية، ورأى أنَّ ذلك لن يتحقق إلاَّ بالعودة إلى بِدايات المسيحية،
فهي قادرة على التغلُّب على الأخطاء الهرطوقية.

وتبع
القديس غريغوريوس – مثل بقية الآباء الكبَّادوك – النهج النُّسكي للتقليد السكندري
الذي يعود إلى العلاَّمة أوريجانوس، فالتطهُر من الشهوات شرط أساسي وجوهري لمعرِفة
الله:

” يجب أن ترتفِعوا إلى فوق بحياتكم، عليكم أن تقتنوا الطاهِر
بطهارتكم، هل ترغبون في أن تكونوا لاهوتيين مُستحقين للالوهية؟ احفظوا الوصايا،
اسلُكوا بحسب القوانين الروحية لأنَّ الأعمال الصَّالِحة تقود إلى الرؤيا (45) “.

وفي
موضِع آخر في نفس المبحث يكتُب القديس غريغوريوس:

”… لقد أدركت أنَّ لا أحد يستحِق عطية الله العظيم الذَّبيح
والكاهِن الأعظم، إن لم يكن قد قدَّم نفسه قبلاً ذبيحة حيَّة لله، أو لم يعُد بعد
هيكلاً حياً لله الحي، فكيف لي أن أنطِق بالكلِمات الخاصة بالله أو كيف أقدِر أن
أقبل الذي يتناولها باستعلاء وذات… ليست الرغبة كل شئ، لأنَّ النُّطق بالإلهيات
أمر مرغوب وعالٍ عن الأفهام!! لهذا أريد أن أتوب وأُطهِّر نفسي لأتمتع بمُعلِّم
الطهارة… إنَّ التطهير ليس أمراً سلبياً تماماً بل هو جِهاد ايجابي لا يقِف عند
التحرُّر من الشهوات بل يمتد إلى اقتناء الفضائِل (46) “.

والقديس
غريغوريوس يصيغها هكذا:

” الذي انشغل باللاهوت عليه أن يُثبِّت أنَّ حياته مُتفِقة مع
الإيمان، ولا يستطيع أن يفعل ذلك إلاَّ بقمع الجسد واستعباده والنمو في الفضيلة،
والفضيلة توصلنا إلى الشَرِكَة مع الله، وبها نصير في استحقاق لزيت المسحة الإلهي
(47) “.

وبخلاف
التطهُّر (النقاوة) (
Kάθαρσισ) يعتبِر القديس غريغوريوس اللاهوتي أنَّ السكينة والخُلوة
والانقطاع عن ضجيج العالم الذي صاغته الانشغالات هي ضرورة وشرط لازم للاهوت.

والسَّكينة
الداخلية (
Σχολή) تعني الانعتاق من الانشغال بالعالم ارادياً لنتمتع بالهيزيكيا،
لأننا نتأمل الإلهيات فقط حينما نركِن إلى السكون والخلوة والصمت المُقدس مُتحررين
من حمأة طين الخطية والطياشة والارتباك بالأباطيل الخادِعة.

ليس
اللاهوت مجرد واحِد من انشغالاتنا اليومية، فالإنسان لا يستطيع أن يتأمل أو ينطِق
بالإلهيات بنفس الأُسلوب الذي يتحدَّث به عن أمور العالم، فمن الضروري أن نسكُن
ونهدأ عن كل اهتمام بشري، لكي نعرِف الله، وعندئذٍ نتأمل الطريق المُؤدي للاَّهوت.

تلكَ
السَّكينة وهدوء النَّفْس التي بها نرى مجد اللاهوت هي أهم لنا من أن نتنفس (48).

يقول
القديس باسيليوس إنَّ تذكُّر الله أمر تَقَوِي صانِع للخيرات، لكنه يعتبِر الكلام
عن الله أمراً فيه جسارة، فكيف نعرِض أُعجوبة اللاهوت للمُخاطرة بالكلمات وقصُور
اللغة (49).

أخيراً
يتحدَّث القديس غريغوريوس عن الشَرِكَة (ميتوسيا) بأنها الملمح اللاهوتي الصحيح،
وهو يُعلِّم بأنَّ اللاهوت النقي الغير مُختلط يجعل الإنسان مُرتبِطاً بالله (50).

ويعرِض
القديس غريغوريوس النِّيصي نفس الفِكرة:

المعرِفة
من خلال التعمُّق هي الشَرِكَة

فالشَرِكَة
هي السبيل لمعرِفة الله واللاهوت، ولا يقدِر الإنسان أن يدنو إلى أعتاب الإلهيات
بعقله، لأنه لن يجد الله إلاَّ في شَرِكَة الثَّالوث فيستريح المثيل إلى مثيله
(51).

ويكتُب
القديس غريغوريوس النِّيصي في مبحثه اللاهوتي العميق عن
حياة موسى “:

” اللاهوت حقاً هو جبل صعب المُرتقى، قلَّما يقدِر الإنسان بلوغه،
ويصِل معظم الناس إلى سفحه فقط “ (52).

ويستعين
القديس باسيليوس بمقولِة إشعياء النبي:

” هلُمَّ نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب “
(إش 2: 3) فيصِفها قائِلاً: هلُمَّ نصعد إلى ارتفاع اللاهوت… ومع هذا فإنَّ
الطريق لبلُوغ ارتفاع أو قمة اللاهوت ” ذلك الجبل العالي الصعب المُرتقى “ ليس
انجازاً بشرياً أو جِهاداً إنسانياً من خلال النُّسك،
بل هو أساساً هِبة من
الروح القدس، فالروح القدس يُنير الطريق لمعرِفة الله، يُوصي الأنبياء ويُعطي
حِكمة للمُشرعين ويقود الكهنة للكمال، إن قاد العشَّار جعله إنجيلياً، وإن أرشد
صياد السمك جعله لاهوتياً، وإن وجد مُضطهِداً جعله رسولاً للأُمم وكارِزاً لسان
عِطر وإناء مُختار (53).

لذلك
يتحدَّث القديس باسيليوس عن: ” اللاهوتيات التي سُلِّمت
لنا بالروح القدس “، فالإنسان الذي يُجاهِد بطهارة واستنارِة الروح القدس يدخل إلى
” الخبائية الإلهية “ (
Θείοσ
γνώφοσ
) أو السِّر الإلهي المستور والمخفي، الذي يتطلب التلامُس مع
الحضرة الإلهية ومعرِفة الله الغير مُستقصاة.

وبحسب
القديس إغريغوريوس النزينزي فإنَّ السِّرية الإلهية تعني:

” ما نسعى إليه يقع خارِج حدود الفهم البشري لأنه مُغطَّى من كل
ناحية كما هو دائِماً باللاادراك (
Ẩκαταληφία) كما بنوع من السَّحاب لهذا فإنَّ المُرتفِع
يوحنا، الذي دخل في عُمق هذه السَّحابة يقول: الله لم يرهُ أحد قط، فمعرِفة الكيان
الإلهي لا يمكن بلوغها (
Аνέφικτον) لا من جهة البشر فقط بل لكل الطبيعة
الروحانية، (54) حقاً إنه كلما اقترب الفِكْر من الله بالتأمُّل كلما أدرك أكثر
خبائِيِة ولا منظورية الطبيعة الإلهية (55) “.

وقدَّم
القديس غريغوريوس تعبيراً كلاسيكياً عن هذا المبدأ اللاهوتي:

الله
بلا حدود ولا يمكن أن يراه أحد والشئ الوحيد الذي يمكن ادراكه عنه هو لامحدوديته
άπειρία. (56)

وتُؤكِد
كِتابات القديس غريغوريوس النِّيصي على أنَّ اتجاهاته اللاهوتية تقِف على صخرة
إيمان الكنيسة الأُم، فركِّز على التعليم الايجابي بدلاً من مجرد اثبات العقائِد،
واعتبر أنَّ محور كل تأمُّل هو المسيح.

يرى
القديس أسقف نيصُص أنَّ عِلْم اللاهوت ينتهي عند العِبادة، واتحاد الحب مع
الله غير المُدرك وغير المفحوص.

انشغل
بالوحدة الجوهرية داخِل الثَّالوث والتعليم عن التجسُّد والفِداء في كِتابه ” التعليم العظيم “.

ربط القديس بين عِلْم اللاهوت والحياة فَسَدْ الفجوة بين عِلْم
اللاهوت النظري وقضايا الإنسان.

ركِّز على التطهير والتقديس الإلهي للنَّفْس كأساس للمعرِفة
الثيولوچية، مُستنِداً على اهتمام الأسفار بايضاح هذه التداريب الروحية، ففي حياة
موسى النبي كما وفي حياة وكِتابات الرسول بولس في العهد الجديد نجِد هذا التعليم:
” سِفر النشيد وثيقة مُفعمة بالتقوى السِّرية، فالتطويبات التي فاه بها الرب تكمُن
ليس في المعرِفة عن الله، بل في أن يكون الله داخِل النَّفْس “ (57).

فالنَّفْس
مُرتحِلة دائِماً في رحلة طوباوية إلى الله لا يمكن أن تنتهي، وستصِل إلى وحدة من
أعجب ما يمكن بين السَّلام والحركة، والنَّفْس المُنطلِقة تُشبِه مياهاً تنساب نحو
الله، فيها عُمق الينبوع وجريان النهر، إنها مُمتلِئة من الله كما من دفق دائِم
ومُشتعِلة بنور كما من شُعلة ومحمولة عالياً بالروح كما على مركبة، وكل من اختبر
هذا سوف ينقِل ما تعلَّمه.

ونلمس
من تعليم القديس إغريغوريوس النِّيصي، أنَّ البنية العامة لعِلْم اللاهوت ترتكِز
على معرِفة الحياة معرِفة المحبة معرِفة الشَرِكَة لا على المعرِفة
النظرية
، ففي هذا الصدد يقول:

” إنَّ خلاصنا يستمِد كفاءته من شئ أكثر من التعليم، إنه يستمِد
كفاءته من ذاك الذي دخل في شَرِكَة مع الناس “.

ورأى القديس أنَّ الثَّلاثة تقديسات، وتكرار كلِمة ” قدوس “ ثلاث
مرَّات، إنما تُعلِن عن مجد الثَّالوث.. وفي هذا المنهج تتأكد رابِطة
الثيولوچيا الثَّالوثية بالذُّكصولوجية
، فبواسِطة السيرافيم أعلن سِر
الثَّالوث بوضوح، عندما نطقوا بتسبيح كل أُقنوم من الثَّالوث.

يُؤكِد
القديس إغريغوريوس النِّيصي على أنَّ الله يُدرِك في ذاته كل الخليقة العاقِلة لكي
تبقى موجودة مضبوطة بقُّوته التي تضُم الكل.

واللاهوت
عند الآباء الكبَّادوك يتميَّز بمنهجه الخاص الذي يتفِق وطبيعته، فهو يتضمن خبرة
الإنسان الروحي الذي يُوهِب نِعمة الشَرِكَة السامية العالية.

واللاهوت
يتسِم بخاصيته الجموعية، فيجِب أن نكرِز بإنجيل الخلاص للأرض كلها، فالثيولوچيا هي
إنجيل الخلاص، وللاهوت خاصية الجموعية لأنه لاهوت الكنيسة الجامِعة التي
تمتد من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها (58)، فهو يشمل كل الناس كل الشعوب وكل
القُطعان، الذينَ يجدون راحتهم على وجه الخصوص في تلك الهِبة العظيمة (59) ذلك
اللاهوت الذي يجمع البشر مع الملائِكة معاً في رباط وشَرِكَة واحِدة (60).

إنه
المفهوم الذُّكصولوچي، أي استعلان مجد الله الذي يُشارِك فيه الإنسان بالتَّسبيح
والعِبادة الليتورچية، وفي هذا المضمون هناك:

الحياة
والمعرِفة

الله
والإنسان

السماء
والأرض

الزمان
والأبدية

هناك
المِلء – البليروما، الذي يتجاوز كل تجزأة وتفريق ليصِل إلى الانقضائية (باروسيا)،
بلوغاً لتأسيس ملكوت الله الأبدي بين الناس.

===

مراجِع
الفصل

1)           
On Isaiah 1,
P.G. 30, 169 C
.

2)           
P.G. 29, 284
C – 285 A
.

3)           
Orat. 38 On
Theophania, P.G. 36, 320 B, cf. also Orat. 45, On Holy Easter, P.G. 36, 628 C
.

4)           
Sermon 8.

5)           
From Glory
to Glory, N.Y. 1977. ch. 1: 10
.

6)           
Answer to
Eunomins`s Second Book N.P. Frs, Series 2, vol 5, p. 293
.

7)           
Orat. 38 On
Theophania, P.G. 36, 320, B, p. 172
.

8)           
P.G. 44, 260
D
.

9)           
That there
are not three Gods. P.G. 45, 125 C
.

10)       
On the Song
of Songs, Orat. 10 P.G. 44, 985 A B
.

11)       
Ibid., P. 39.

12)       
Ibid. P. 40
cf. J. Danielou: Platonisme et Theologie Mystique, Paris 1944, P. 10
.

13)       
Basil, On
the Exaemeron, 9 P.G. 29, 205 A & Hom. In Mam. Mart. 4, Ep. 140, 2 ad.
Eccl. Ant
.

14)       
Ibid. , P.G.
29, 204 C
.

15)       
Gregory Of
Nyssa, On the “Let us make man … ” P.G. 44, 260 C
.

16)       
P.G. 44, 260
D, cf also St Basil, Ibid. P.G. 29, 208 A
.

17)       
P.G. 44, 260
D
.

18)       
CF. Basil on
Ps. 1, P.G. 29, 213 B
.

19)       
Gregory Naz.
Or, 31, 3, P.G. 36, 136 B C. Gregory Nyssa Ag. Eunom Or. 5 ed. By W. Jaeger,
vol II, P. 110, 1 – 5 or P.G. 45, 684 A
.

20)       
Gregory Naz.
Or, 31: 26 P.G. 36, 161 C
.

21)       
Gregory Naz.
Or, 28, P.G. 36: 164 C D
.

22)       
CF. Basil`s
Statement about St. John Hom. 16, P.G. 31, 477 C D, & P.G. 31, 473 A, 480
A, Or Greg. Nys. Ag. Eunom. IV, P.G. 45, 624 A etc
.

23)       
CF. Basil`s
Statement in Anatreptikos, P.G. 29, 601 B C
.

24)       
Basil, P.G.
29, 577 A, cf. Acts
2: 36.

25)       
CF.
Plagnieux, P. 176 FF
.

26)       
Greg. Naz.
Or, 28, 1. P.G. 36, 25 CD
.

27)       
St. Basil,
Letter 11: 2
.

28)       
St. Basil,
On Holy Spirit, ch. XXIX: 73
.

29)       
St. Basil, The
Morals 8: 1
.

30)       
Carmen IV.
V, or, 1, 77 – Greg. Naz. or. 19
.

31)       
To
Thalassius, P.G. 36, 28 A
.

32)       
Or 31: 3,
P.G. 36, 136 B C, cf. also Or. 23, 11, P.G. 35, 1161 C
.

33)       
CF. Basil
Ep. 258, P.G. 32, 124 D
.

34)       
CF. Greg.
Nyss. P.G. 45, 124 D
.

35)       
Greg. Naz,
Or. , 31, 14 P.G. 36, 144 A
.

36)       
Or. , 28, 2,
P.G. 36, 76 B
.

37)       
Or, 30 – 19,
P.G. 36, 128 B C, cf. Greg. Of Nyssa, P.G. 45, 144 A B, 756 B C, etc
.

38)       
P.G. 36, 29.
& on the Theophany, Or. 38: 2
.

39)       
CF.Basil
P.G. 30, 105 A, 621 A, or Gregory of Nyssa P.G. 45, 625 B
.

40)       
P.G. 45, 625
C D and 300 D and Greg. Naz. Or., 31, 18 P.G. 36, 153 A
.

41)       
P.G. 42, 265
B
.

42)       
P.G. 30, 105
A B
.

43)       
Epistl 90,
P.G. 32, 473 B
.

44)       
Theology Or.,
1, 27, chapter 3 & Contra Sab. et Ar. 24, 6
.

45)       
CF. Gregory
Naz. Or. 20, 12
.

46)       
Ibid., ch. 4.

47)       
On the
inscription of the Psalms. P.G. 44, 577 D
.

48)       
Or. 27, 4,
P.G. 36, 16 B. cf. also 16 B C
.

49)       
Hom. 15,
P.G. 31, 464 B
.

50)       
Gregory Naz.
Orat. 21, 2, P.G. 35, 1084 C
.

51)       
Orat. 28,
17, P.G. 36, 48 C
.

52)       
P.G. 44, 373
DF
.

53)       
Hom. 15,
P.G. 31, 169 C
.

54)       
On the life
of Moses, P.G. 44, 377 A
.

55)       
Ibid. 376 D.

56)       
Orat. 55, 3.
P.G. 36, 628 A
.

57)       
Or. De Beat.
6, Hom. In Cant. 12
.

58)       
P.G. 36, 48
B
.

59)       
P.G. 44, 437
DF
.

60)       
P.G. 46, 600
B.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى