اللاهوت الطقسي

الفصل الثانى



الفصل الثانى

الفصل الثانى

شرائع الكهنة

شاءت الإرادة الإلهية أن لا يعّين فى خدمة
الكهنوت إلا من كان كامل الخَلق صحيح كل أجزاء الجسد، أما من كان فيه عيب خَلقى أو
عرضى فقد مُنع من هذه الخدمة المقدسة بالرغم من كونه من سلالة هارون. فقد قال الله
لموسى: “إذا كان رجل من نسلك فى أجيالهم فيه عيب فلا يتقدم لُيقدم خبز
إلهه”
(لاويين 17: 21). أما من به عيب فيقوم ببعض أعمال كهنوتية
بسيطة مثل إيقاد النار..الخ.

لذا كان فى دار الهيكل رواق يجتمع فيه أعضاء
المجلس الأعلى (السنهدريم) لفحص المرشحين للكهنوت (عندما يبلغ أبناء الكهنة السن
القانونى لاستلام العمل الكهنوتى) فمن وُجد فيهم عيب ما، لبسوا ملابس سوداء وخرجوا
سكوتاً، ومن تبين أنهم بلا عيب ما، لبسوا ملابس بيضاء وخرجوا فى احتفال تدوى فى
أرجائه هتافات الإنتصار التى مطلعها (مبارك الرب، مبارك هو، لأنه لم يُوجد عيب فى
نسل هارون الكاهن).

أما العيوب المانعة فذكرها الله بقوله “لأن
كل رجل فيه عيب لا يتقدم لا رجل أعمى ولا أعرج ولا أفطس
(من انفرش أنفه فى
وجهه) ولا زوائدى (من له إصبع زائدة فى إحدى يديه أو رجليه) ولا فيه كسر
رجلٍ أو كسر يدٍ ولا أحدب ولا أكشم
(الناقص الخَلق) ولا من فى عينيه بياض
ولا أجرب ولا أكلف
(من علا وجهه حبوب سوداء)، ولا مرضوض الخصى (من ألم
بخصيته مرض ما)” (لاويين 21: 18و19).

وقد رأى البابا غريغوريوس (الكبير) فى
الشريعة التى بين أيدينا فهماً رمزياً لشروط الكاهن، إذ يجب ألاَّ يقبل من كان
أعمى أو أعرج أو أفطس.. روحياً، وفيما يلى مقتطفات من كلماته التى وردت فى
حديثه عن “ الرعاية ”:

[ الأعمى هو الذى لا يعرف ضياء التأمل السمائى،
فالذى أدركته ظلمة العالم الحاضر لا يستطيع أن يدرك النور الآتى لأنه لا يشتاق
إليه. لذلك فهو لا يعرف أن يخطو أو يعرف إلى أين يمضى، ومن ثم قالت حنة: “أرجل
أتقيائه يحرس والأشرار فى الظلام يصمتون”
(صموئيل الأول 2: 9).

الأعرج هو الذى يعرف حقاً الطريق لكنه لا يستطيع
أن يسير فيها بثبات بسبب نفسه العليلة، ولأنه لا يستطيع أن يرتفع بعاداته القبيحة
إلى مستوى الفضيلة، فإنه لا يملك القوة ليسلك تبعاً لإرادته لذلك قال القديس بولس الرسول:
“قوِّموا الأيادى المسترخية والركب المخلعة واصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة
لكى لا يَعْتسف الأعرج بل بالحْرىِّ يُشفى”
(عبرانيين 12: 12 و13).

الأفطس هو الذى يعجز عن التمييز، فنحن نميز
بحاسة الشم الروائح الزكية من العفنة. إن هذه الحاسة تشير حقاً إلى حاسة التمييز
التى بها نختار الفضيلة ونرفض الرذيلة. لذلك قيل فى مدح الكنيسة العروس: “أنفك
كبرج لبنان”
(نشيد الأناشيد 7: 4) فالكنيسة المقدسة تدرك تماماً
بالتمييز التجارب التى تثار عليها بأسباب متنوعة، وتعرف مقدماً من فوق برجها معارك
الشر المزعومة أن تحدث.

الزوائدى.. بعض الناس ينشغلون دائماً بأسئلة
فضولية أكثر من اللازم، وهم لا يعترفون أنهم أغبياء، ولكنهم يفرطون فى الثقة
بنفوسهم، لذلك أضاف الكتاب قائلاً: “ولا زوائدى”. ومن الواضح أن الأنف
الكبير المنحنى يعبر عن إفراط فى التمييز، وهذا الإفراط يشوه كمال هذه الحاسة وجمالها.

الرجل الذى فيه كسر رجلٍ وكسر يدٍ هو الذى لا
يستطيع مطلقاً أن يسير فى طريق الله وقد تجرد تماماً من نصيب الأعمال الصالحة.، فى
هذا يختلف عن الأعرج الذى يمكنه ولو بصعوبة الإشتراك فى الأعمال الصالحة، أما
المكسور فقد تجرد منها تماماً.

الأحدب هو الذى يرزح تحت ثقل الهموم العالمية
فلا يمكنه أن يرفع عينيه إلى ما هو فوق بل يثبتها على موطئ الأقدام حيث أدنى
الأشياء. وهو إن سمع أخباراً سارة عن مسكن الآب السماوى فإنه تحت ثقل عاداته
الشريرة لا يستطيع أن يرفع محيا قلبه ولا يستطيع حتى أن يرتفع بفكره الذى ربطته
الهموم العالمية إلى الأرض. هذا الإنسان يقول عنه المرتل داود: “لَوِيت
إنحيت إلى الغاية”

(مزمور 38: 6). ويقول الرب الإله المتجسد عن هؤلاء رافضاً آثامهم: “والذى
سقط بين الشوك هم الذين يسمعون ثم يذهبون فيختنقون من هموم الحياة وغناها ولذاتها
ولا يُنضجون ثمراً”
(لوقا 8: 14)

أما الأكشم أو من على عينيه غشاوة فهو الذى
بنظرته الطبيعية يضيئ بمعرفة الحق لكن عينيه اظلمتا بالأعمال الجسدية، فالعين التى
عليها غشاوة تكون حدقتها سليمة لكن الجفون تضعف وتنتفخ بسبب الإفرازات وتذبل بسبب
سيل الدموع فتضعف حدقة العين. إن البعض تضعف بصيرتها بسبب الحياة الجسدية، هؤلاء
كان لهم قدرة تمييز الخير لكن بصيرتهم اظلمت بسبب إعتيادهم فعل الإثم. الذى على
عينيه غشاوة هو الذى كان له بالفطرة فطنة الحواس لكنه شوهها بحياته الفاسدة. لمثل
هؤلاء يقول الملاك: “كحِّل عينيك بكُحْل لكى تُبصر” (رؤيا
يوحنا 3: 18)
. إن كحِّلنا عيوننا بكحل لنبصر فإننا نقوى عيون أفهامنا بأدوية
الأعمال الصالحة لتبصر بريق النور الحقيقى.

أما الذى فى عينيه بياض فهو الذى حُرم من معاينة
النور الحقيقى بسبب عماه مدفوعاً بإدعاء الحكمة والصلاح. إن حدقة العين تُبصر إن
كانت سوداء لكن إن كان بها بياض فهى لا تُبصر شيئاً، فمن الواضح أنه حينما يدرك
الإنسان أنه أحمق وأثيم فإنه يفهم بقوى عقله مدى وهج الضياء الداخلى، لكنه إذ يعزى
إلى نفسه إشراق الحكمة والصلاح فإنه يحجز عنها ضياء المعرفة الفائق، أما بالنسبة
لكبرياء مجده الذاتى فإنه يعبث إذ يحاول إدراك بريق النور الإلهى فقد قيل عن
البعض: “بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء” (رومية 1:
22)
.

أما الإنسان الأجرب فهو الذى يسوده دائماً بطر
الجسد. ففى حالة الجرب تنتثر الحرارة الداخلية على الجلد، وهذه الحالة تمثل
الدعارة تماماً. هكذا عندما يُترجم إغراء القلب بالأفعال فإننا نستطيع أن نقول إن
الحرارة الداخلية تنتثر كما ينتثر الجرب على الجلد.

أما الأذى الظاهر الذى يلحق بالجسد فإنه يُطابق
هذه الحقيقة. إنه كما أن الشهوة إذا لم تخضع فى الفكر فإنها تسود بالفعل، لذلك كان
بولس مهتماً بتطهيرها كما لوكانت جرباً على الجلد فقال: “لم تصبكم تجربة
إلاَّ بشرية”
(كورنثوس الأولى 1: 13). وكأنه يُريد أن يوضح أنه
كبشر لابد أن نقاسى من تجارب الفكر، ولكن إن تغلبت علينا فى وسط حربنا معها
واستقرت فى قلوبنا فإن هذا يكون من الشيطان.

أما الأكلف فقد أتلف الطمع عقله، فإن لم يضبط
هذا الطمع فى الأمور الصغيرة فإنه سيسود على حياته كلها. إن الكلف يغزو الجسد لكنه
لا يسبب آلاماً، وينتثر على المريض دون أن يُضايقه، لكنه يُشوه جمال الأعضاء،
وهكذا الطمع أيضاً إذ يملأ عقل ضحيته بالسرور إلا أنه يُنجسه. وإذ يضع أمام الفكر
أشياء ليقتنيها فإنه يثيره بالبغضة والعداوة. أما أنه لا يُسبب آلاماً فهذا لأنه
يعد النفس العليلة بأشياء كثيرة وفيرة ثمناً للخطية.

أما إن جمال الأعضاء يتشوه فهذا لأن الجشع يشوه
جمال الفضيلة، أى أن الجسد كله يفسد حقاً إذا ملأت الرذائل نفس الإنسان، لذلك يقول
القديس بولس بحق: “لأن محبة المال أصل لكل الشرور”
(تيموثاوس الأولى 6: 10).

أما مرضوض الخصى، مع أنه لا يفعل النجاسة إلاَّ
أنه يرزح تحت نير التفكير الدائم فيها بإفراط، ومع أنه لم يتدنس أبداً بالفعل الإ
أن قلبه افتتن بلهو الدعارة دون أى وخز للضمير. لأن مرض إرتضاض الخصية يحدث نتيجة
دخول سائل داخلى فى الخصية فيسبب مضايقات وتورم معيب.

فمرضوض الخصى إذن هو الذى يترك لفكره العنان فى
الأمور التى تحرك الشهوة، وبذلك يحمل فى قلبه حملاً دنيئاً لا تستطيع نفسه أن
تلقيه عنها وهو يفتقر فى نفس الوقت إلى القوة ليرتفع بنفسه إلى التدرب العلنى على
الأعمال الصالحة إذ هو يرزح تحت ثقل أعماله الفاضحة الخفية.

إذن فليمتنع كل من به إحدى هذه العيوب التى سبق
ذكرها عن تقديم خبز الرب، لأنه لا يستطيع إنسان أن يكفِّر عن ذنوب الآخرين ما دامت
نقائصه الشخصية تملك عليه ] ([1]).

كانت تُفرض على الكاهن فى حياته ومعيشته قوانين
لم تكن تفرض على غيره من اللاويين أو من عوام الشعب، فلم يكن يُسمح للكاهن بعد
تقلده لوظيفته أن يندب ميتاً أو يتنجس بلمسه إلاِّ إذا كان من الأنسباء الأقربين
له الأب والأم والابن والابنة والأخ والأخت غير المتزوجة (لاويين 21: 2 و3).

هذه الشريعة قدمها رب المجد بفكر إنجيلى حينما
قال “دع الموتى يدفنون موتاهم” (متى 8: 22، لوقا 9: 60)،
إذ يليق بالخادم ألا يرتبك حتى بهذه الواجبات العائلية من أجل خدمته للجماعة كلها.

وكما يقول العلامة
ترتليان
: [ إنه يكرس نفسه.. أظن أنه يليق بالنذير ومن نال وظيفة الكهنوت أن
يُلهم بالكرازة بملكوت الله..] ([2]).
وحتى فى حزنه على هؤلاء يليق به ألاَّ يمارس العادات الوثنية الممنوعة حتى بالنسبة
للشعب مثل حلق شعر الرأس فيصير أقرع، وحلق عوارض اللحية، وتجريح الجسد. إن كانت
هذه الأمور لا تليق بالشعب فكم بالأكثر بالنسبة للكاهن الذى يقرب وقائد الرب ويخدم
الأقداس!

كما لا يجوز للكاهن أن يتزوج من زانية حتى إن
تابت ولا مدنسة أو مطلقة.. حتى يكون هو وزوجته بلا عيب فى عينى الله والناس،
بكونها قدوة صالحة للشعب.

أما رئيس الكهنة فلا يجوز له حتى الزواج بأرملة
بل يتزوج عذراء، لأنه يُشير إلى السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم الذى اقتنى
الكنيسة عذراء عفيفة له (كورنثوس الثانية 11: 2)..

كما كان على رئيس الكهنة ألاَّ يكشف رأسه التى
مُسحت بدهن المسحة، فإن الرأس الممسوحة تشير إلى السيد المسيح (انظر لاويين 21)،
ولا يشق ثيابه (لاويين 21: 10)، لأن الثوب يُشير إلى الكنيسة التى يلتحف
بها السيد المسيح. لتبق كنيسة واحدة بلا إنشقاق، فإن عريسها واحد!

“ولا
يأتى إلى نفس ميتة ولا يتنجس لأبيه أو أمه”
(لاويين 21: 11) أى
لا يلمس ميتاً حتى وأن كان أباه أو أمه.. بكونه رمزاً للسيد المسيح فإنه كواهب
حياة لا يشترك مع الموت، إن مّس ميتاً لا يحتمل الموت لمسته بل يهرب! هكذا إذ حمل
الرسول بولس فى داخله السيد المسيح الذى لا شركة له مع الموت أو الهاوية، بجسارة
قال: “أين شوكتك ياموت؟! أين غلبتك يا هاوية؟! أما شوكة الموت فهى الخطية،
وقوة الخطية هى الناموس، ولكن شكراً لله الذى يعطينا الغلبة بربنا يسوع
المسيح”
(كورنثوس الأولى 15: 55 و56) كما كان عليه ألاَّ “يخرج من المقدس لئلا يدنس مقدس إلهه، لأن
إكليل دهن مسحة إلهه عليه”
(لاويين 21: 12). يعنى بهذا إنه متى
كان يؤدى خدمته فى بيت الله لا يجوز له أن يخرج من خيمة الاجتماع ولا يتوقف عن العمل
أياً كان السبب حتى إن مات له أقرب المقربين، فإن تركه للخدمة يُحسب إمتهاناً لهذا
العمل المقدس واحتقاراً للمجد الذى زينته به المسحة على رأسه.

يعلِّق القديس
جيروم
على هذه الشريعة بقوله: [ بالتأكيد إذ نؤمن بالمسيح نحمله فينا، وبسبب
زيت المسحة التى تقبلناها يلزمنا ألاَّ نفارق الهيكل، أى لا نترك عملنا المسيحى،
ولا نخرج خارجاً فنرتبك بأعمال الأمم غير المؤمنين إنما نبقى فى الداخل على الدوام
كخدام مطعيين لإرادة الرب ] ([3]).

وبما أن وظيفته كانت التقرب إلى الله بالنيابة
عن الشعب كان مطلوباً منه أن يبقى طاهراً فى داخله، وفى مظاهره الخارجية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى