علم

الفصل الثامن



الفصل الثامن

الفصل
الثامن

استعلان
الثالوث ووحدانية الله

على
مستوى المعرفة عند أثناسيوس

 

أولاً: تجسُّد الكلمة كان واسطة لمعرفة الله،

أي لاستعلان الآب والابن والروح القدس([1])

 

التجسُّد
عند أثناسيوس كان من الأسباب الهامة لمعرفة الله في ذاته، لأن الإنسان، بسبب
الخطية، انحجبت عنه معرفة الله كخالق حقيقي للعالم وكمخلِّص للإنسان.

فلا
ناموس موسى، ولا تعليم الأنبياء، ولا الناموس الطبيعي في ضمير الإنسان، ولا
الفلسفة العميقة المعتمدة على العقل الحر؛ استطاعت أن تكشف الله في ذاته لفكر
الإنسان وضميره على مستوى “معرفة الله
Theognosia”.
أمَّا عجز الإنسان هذا عن بلوغ “معرفة الله في ذاته” بالرغم من هذه الوسائط
أي الناموس والأنبياء والعقل والضمير، فهذا يُعزى بالدرجة الأُولى إلى أن الإنسان
تورَّط في التعدِّي، ففقد القدرة على خلاص نفسه أي إدراك النور.

لهذا
تمَّ التجسُّد ليستعلن كلمة الله، لكي بواسطته يبلغ الإنسان إلى معرفة الله في
ذاته أي الدخول في النور وهي المعرفة التي فيها بعينها
يكمن خلاصه الأبدي.

وحينما
أعلن “الكلمة” المتجسِّد نفسه أنه ابن الله، موضِّحاً بالأقوال والأعمال
أنه يقول ويعمل ما لم يقله أو يعمله إنسان قبله قط، شاهداً بهذا أنها أقوال الله
وأعمال الله؛ أعلن صلته بالله كابن، فأعلن بالضرورة صفة الله كآب له. هذا بحد ذاته
كان عند أثناسيوس([2])
أحد الأسباب الجوهرية للتجسُّد، أي استعلان ذات الله في كيانه، أي ذات جوهر الله
أنه آب وابن، بل ولكي يعطي صورة مدركة واقعية محسوسة ومنظورة للآب من خلال حياة
الابن المتجسِّد وأعماله وأقواله وسلوكه بالجسد: “من رآني فقد رأى الآب”. وإليك
كلمات أثناسيوس نفسه:

كتاب “تجسُّد الكلمة”:

[كلمة
الله أخذ لنفسه جسداً، وسلك بين الناس كإنسان، وقابل إحساسات كل بشر في منتصف
الطريق؛ حتى يستطيعوا رؤية الله جسدياً، فيدركوا الحق بما يعلنه الرب في جسده،
فيدركوا الآب فيه.] (فصل 15)

[لأنه
إذ انحطَّ فكر البشرية نهائياً إلى الأمور الحسية، فقد استتر “الكلمة” بظهوره في
الجسد لكي يستطيع كإنسان أن ينقل البشرية إلى ذاته ويركِّز إحساسهم في شخصه، ومن
ثم إذ يتطلَّع إليه البشر كإنسان، فإنهم بسبب الأعمال التي يعملها يقتنعون
في نفس الوقت أنه ليس مجرَّد إنسان، بل هو الإله وكلمة الله الحق
وحكمته.

لهذا
السبب أيضاً لم يتمِّم ذبيحته عن الكل (الخلاص) بمجرَّد مجيئه مباشرة، بتقديم جسده
للموت وقيامته ثانية؛ لأنه لو فعل ذلك لجعل ذاته غير ظاهر، ولكنه صيَّر نفسه
ظاهراً جدًّا (أعلن نفسه بالأعمال التي عملها وهو في الجسد) وبهذه الأعمال والآيات
لم يعد يُعرف كإنسان بعد، بل “كالإله الكلمة”، لأن المخلِّص بتأنُّسهِ
تمَّم عملين من أعماله المحيية:

الأول: رفع الموت عنَّا وجدَّدنا ثانية.

الثاني: إعلان نفسه وتعريف ذاته بأعماله أنه “كلمة
الآب”
ومدبِّر وملك الكون، بعدما كان غير ظاهر.] (فصل16)

[لكي
يستطيعوا، وهم بشر، أن يعرفوه بأوفر سرعة وهو في جسد مماثل لهم، ويعرفوا أباه
مباشرة، وذلك بالأفعال الإلهية التي كان يعملها. إذ كان في مقدورهم
بالمقارنة أن يحكموا على هذه
الأعمال التي يعملها أنها ليست أعمالاً بشرية بل هي أعمال الله.] (فصل
43)

[لأنه
تأنَّس أي صار إنساناً لكي نصير نحن فيه إلهاً، وأظهر
نفسه في جسد لكي يعطينا فكرة عن الآب غير المنظور.

وكما
أنه إذا أراد أحد أن يرى الله غير المنظور بالطبيعة، الذي لا يُرى بتاتاً، فإنه
يمكنه أن يعرفه ويدركه من أعماله؛ كذلك يجب على من يعجز عن رؤية المسيح وإدراكه
بعقله وفهمه أن يدركه على الأقل من أعماله
التي عملها في جسده ويفحص إن كانت هي أعمالاً بشرية أم هي أعمال

الله.

فإن
كانت أعمالاً بشرية جاز له الاستهزاء، أمَّا إذا لم تكن بشرية بل أعمال الله
فليعرف ذلك ولا يستهزئ، بل بالحري يدهش من أنه بوسائل عادية كهذه أُعلنت لنا
الأمور الإلهية، ولأنه بالموت بلغنا عدم الموت، ولأنه بتأنُّس الكلمة عُرفت
العناية الإلهية العامة كما عُرف واهبها وبارئها كلمة الله نفسه.
] (فصل 54)

والقديس
أثناسيوس يكشف كيف ملأ “الكلمة” كل مكان في السماء والأرض والهاوية بقدرة
الله الكلية قبل تجسُّده، بحلوله غير المنظور في الخليقة كلها، كما ملأها
بمعرفة الله بعد تجسُّده، بحلوله في جسد إنسان (أقنومياً)، وبالنهاية غطَّت
معرفة الله الأرض كلها، كما قال إشعياء النبي. لأن المسيح “الكلمة” أسَّس الإنجيل
الذي بشَّر به تلاميذه وعلَّموا جميع الأُمم وعمَّدوهم باسم الآب والابن والروح
القدس.

فتجسُّد
الكلمة كان أول عمل فعَّال استخدمه الله لاستعادة الإنسان معرفته بالله استعادة
كاملة على كل الأرض، ولكل الأجيال، وإلى منتهى الدهور([3]).

[وكما
أنه معروف في الخليقة بأعماله هكذا يجب أن يعمل في الإنسان أيضاً ويُظهر نفسه في
كل مكان، لكي لا يترك شيئاً خالياً من لاهوته ومعرفته. وأعود فأُكرِّر ما سبق أن
ذكرته، أن المخلِّص فعل ذلك حتى كما أنه يملأ كل المخلوقات في كل مكان بوجوده (كلي
الوجود والقدرة)، كذلك أيضاً (تجسّد) لكي يملأ كل الأشياء من معرفته كما
يقول الكتاب المقدَّس: «لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب» (إش 9: 11). وهكذا إذ
أُغلق على الإنسان من كل ناحية (بإعلان الله في كل شيء)، وإذ يبصر لاهوت الكلمة
مبسوطاً في كل مكان أي في السماء والهاوية وفي الإنسان (الرب المتجسِّد) وعلى
الأرض، لا يصير بعد معرضاً للخداع والضلال عن (معرفة) الله، بل يعبد المسيح الذي
به وحده يأتي مباشرة ليعرف الآب.] (فصل 45)

[أمَّا
البشر وحدهم فإذ رفضوا الخير (معرفة الله)، اخترعوا أشياء من العدم عوض الحق،
ونسبوا الكرامة والمعرفة المستحقة لله وحده إلى الشيطان والأصنام البشرية في شكل
حجارة.

وإذ
لم يكن لائقاً بصلاح الله أن يتغاضى عن أمر خطير كهذا، ولأن البشر كانوا لا يزالون
عاجزين عن أن يدركوا أنه هو ضابط الكل ومدبِّرهم؛ لذلك كان صواباً أن يتخذ لنفسه
(جسداً) أي جزءًا من الكل (العالم)، لكي يكون جسده أداة يتحد به
الإنسان حتى لا يعجز البشر عن أن يدركوه في الكل (العالم كله)؛ وحتى
بعد أن عجزوا عن إدراك سلطانه غير المنظور (على الكون كله)، يستطيعوا على أي حال
أن يدركوه ويتأمَّلوه في (الجزء) الجسد الذي يشبههم.] (فصل43)

ويعود
أثناسيوس ويتعرَّض لأكبر مشكلة اعترضت اللاهوتيين قديماً وحديثاً وهي الحلول الكلي
والتنزيه بالنسبة لحضور الله وكلمته في العالم.

فحضور
كلمة الله الكلي
Omnipresence في الخليقة لا يشكِّل أي صعوبة لاهوتية عند أثناسيوس، فهو لا يفصل بين تنزيه الكلمة أي تفوُّقه Transcendence، وبين حلوله في الخليقة Immanence. فالكلمة عند أثناسيوس هو في كل شيء وفي كل مكان، كلياً
وجزئياً، حاضر ومتفوقٌ معاً، حالٌ في الشيء ومنزَّه عن عجز كل شيء ودناءته وخطيئته
بآن واحد([4]).

[ولو
كان سخافة كما يدَّعون أن يُعرف الكلمة بأعمال الجسد
(بتجسُّده)، لكان سخافة أيضاً أن يُعرف بأعمال الكون كله، لأنه كما أنه موجود في
الخليقة (قبل التجسُّد) ومع ذلك لا يشترك في طبيعتها
بأي حال من الأحوال، بل بالعكس أن كل الأشياء تشترك في سلطانه؛ كذلك عندما اتخذ
جسداً أداة له، لم يشترك في خواصه (الخطية والجهل بالله) الجسدية بل إنه بالعكس هو
الذي قدَّس الجسد.] (فصل 43)

[هكذا
يجب على مَنْ يسلِّم ويؤمن أن كلمة الله في كل الكون، وأن كل الوجود يستضيء
ويتحرَّك ويوجد به، يجب عليه أن لا يحسب سخافة بالتالي أن يحظى منه جسد بشري واحد
(جسد المسيح) بالحركة والنور.

أمَّا
إن كانوا يتوهَّمون أن ظهور المخلِّص في الإنسان أمر غير لائق لأن الجنس البشري
مخلوق ومخلوق من العدم، فإنه يجب عليهم بالتالي أن يخرجوه من الخليقة كلها لأنها
هي أيضاً وُجِدَت من العدم “بالكلمة”.

وأي
شيء يستوجب الاستهزاء في ما نقوله أن “الكلمة” استخدم جسد الإنسان الذي حل
فيه كأداة ليعلن ذاته فيه؟

لأنه
بسلطانه اتحد بكل شيء وبكل الأشياء، وهو يضبط كل الأشياء بقدرة لا حدود لها … إذ
هو ممسك الكل في وقت واحد، وهو في الواقع ليس موجوداً في الكل وحسب بل موجوداً
أيضاً في الجزء، ذلك الذي نتحدَّث عنه أي الجسد الذي
أظهر فيه ذاته بطريقة غير منظورة ليعلن فيه الحق ومعرفة الآب.] (فصل 42)

وقد أعلن المسيح مراراً أن ما يتكلَّم به هو ليس من ذاته بل
من الآب، كاشفاً بذلك سر علاقته
الشخصية مع
الآب باعتباره “كلمة الآب الذاتي
ر ‡dioj lزgojكما أعلن مراراً وتكراراً أن الله هو “أبوه
الخاص”،
بمعنى “العلاقة المتحدة”
وليس الصلة التكريمية، معبِّراً عن ذلك بكل وضوح: «أنا في الآب والآب فيَّ»، «أنا
والآب واحد»،
كاشفاً بذلك سر “بنوَّته في ذات الله” “كابن ذاتي لله
‡dion
gڑnnhma, ذ ‡dioj uƒزj
.

ولكن
ليس بمفهوم أي ابن لأي أب:

أولاً: لأن أي ابن لأي أب يعني ليس ابناً وحيداً، حتى
ولو كان ابناً وحيداً، لأنه كان يمكن أن يكون غير وحيد. فأي أب قابل أن يكون له
أبناء أكثر من واحد إذا تهيَّأت الظروف الجسدية الملائمة لذلك. في حين أن “الكلمة”
هو ابن الله الذاتي الوحيد، بمفهوم أنه الله آب وابن في ذات واحدة، وأن الابن ليس
أقل من الآب ولا الآب سابق على الابن أو مترئِّس عليه، بل هما واحد متساوي في كل
شيء. أُبوَّة وبنوَّة متحدة في ذات واحدة.

ثانياً: أن أي ابن لأي أب لم ينشأ من الأب فقط بل ومن
أُم أيضاً، في حين أن الكلمة هو ابن في الآب بالجوهر، بدون وسيط ولا حدث ميلاد
زمني، فالميلاد أو البنوَّة عند الإنسان وسيلة للوجود، أمَّا في الله فالبنوَّة هي
الوجود ذاته، وعلَّة كل موجود آخر.

[لأنه
إن كان الابن على المستوى البشري يأخذ من الآب بداية فقط لوجوده، فعند الله
الآب تُعتبر البنوَّة وجوداً دائماً أزلياً أبدياً معاً.

فالبنوَّة أو الميلاد لدى البشر وسيلة للوجود، أمَّا عند ابن
الله فهو الوجود ذاته، حيث الميلاد لا ينتهي بمجرَّد الوجود
(كما هو عند
البشر حيث يصبح الابن بعد ذلك أباً)، بل الميلاد أو الابن هو الكمال في ذاته
وهو النهاية
tڑloj kaˆ tڑleion]([5])

هذا
هو المفهوم من معنى “الابن الذاتي للآب” عند أثناسيوس، الذي يعني “الابن
الوحيد”
القائم مع الآب وفي الآب بلا افتراق.

كتاب ضد الأريوسية: (رقم الرسالة ورقم
الفصل)

[وهوذا
نحن نتمسَّك بالأسفار المقدَّسة، وحينئذ نتكلَّم بحرية بإيمان وتقوى، ونقيم الحجة
كنور على منارة: نقول:

ابن
حقيقي للآب، طبيعي وأصيل من جوهره الذاتي، وحيد، حكمته، وهو ذاته الكلمة الحقيقي
والوحيد لله، ليس من الخليقة ولا مصنوعاً، ولكنه ابن لذات جوهر الآب، لذلك فهو
إله حقيقي كائن كياناً واحداً مع ذات الآب،
فهو بذلك “رسم جوهره” (التعبير
الموضِّح لذات الآب) كنور من نور «بنورك نعاين النور»
وهو قوة الآب ونفس الصورة الحقيقية لجوهر الآب. من أجل ذلك يقول الرب: «الذي رآني
فقد رأى الآب» (يو 9: 14)، وهو كائن منذ الأبد، ويكون أيضاً، ويستحيل قط أن لا
يكون.

لأن
الآب إذ هو قائم منذ الأزل وإلى الأبد، هكذا يكون أيضاً “كلمته” و“حكمته”.]([6]) (9: 1)

[إنجيل
يوحنا يقول عنه: «في البدء كان “الكلمة” والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله».
وسفر الرؤيا يقول: «الكائن الذي كان والذي يأتي»، إذن فمن ذا الذي يستطيع أن يسرق
ويسلب شخص “الكائن” “الذي كان” من الأبدية؟ هذا هو الذي قال عنه بولس الرسول
مقاوماً اليهود: «ومنهم المسيح حسب الجسد “الكائن” على الكل إلهاً مباركاً
إلى الأبد آمين» (رو 5: 9).

كما
كان يقاوم اليونانيين بقوله عن الكلمة: «المسيح قوة الله وحكمة الله»، ويعود
قائلاً: «لأن أموره غير المنظورة منذ خلقة العالم تُرى
بوضوح! حتى أن قوته الأزلية ولاهوته تُدرك بواسطة الأشياء المخلوقة»، وبولس بكل
تأكيد لا يقصد هنا الآب بهذه الكلمات بل يقصد الكلمة … بقوته المنظورة في
الخليقة، لأن الإنجيل يقول: «كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان» (يو 3: 1).

وهنا يتحتَّم بالتالي أن الذي يتأمَّل الخليقة تأملاً صادقاً
وصحيحاً، فهو سيتأمَّل “الكلمة” الذي صاغها، وبواسطة “الكلمة” يبدأ ليدرك الآب.
ولكن:

يقول المخلِّص: «ليس أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومَنْ أراد
الابن أن يعلن له»، ولأن
الرب لم يقل
لفيلبُّس لمَّا سأله: «أرنا الآب وكفانا»، لم يقل له: “تأمَّل في الخليقة” بل قال
له: «مَنْ
رآني فقد رأى الآب»، فإن
بولس الرسول عن حق وأصالة كان يقصد “الكلمة الكائن
في
الخليقة”، عندما قال: «قوته الأزلية ولاهوته تُدرك
بواسطة الأشياء المخلوقة» مشيراً بذلك إلى الابن الذي يقول عنه الكتاب:
«كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي
به أيضاً عمل
العالمين (الدهور)
ages»
(عب 2: 1).] (11: 1)

[وحينما
قال الرب: «أنا هو الحق»، كان دائماً يقول أنا هو (أنا الكائن
™gè eچmi)
«أنا هو الراعي»، «أنا هو النور»، «تدعونني رباً ومعلِّماً حسنا وأنا
هو
» … إذن فلا تتردَّدوا قط في فهم هذه الحقيقة، لأنه بقوله: «أنا هو»
= أنا كائن
™gè
eچmi
يعني أن الابن كائن منذ البدء ولا بداية له!

وقبل
إبراهيم أنا كائن = أنا هو
™gè eچmi.] (12: 1و13)

[إن الآب والابن لم يتولدا من أصل سابق عليهما حتى يمكن أن
نعتبرهما أخوين، ولكن الآب هو مصدر الابن، والابن متولد منه، والآب هو آب ولم يلد
الابن من شيء آخر.] (14: 1)

هنا
لا يُقصد بالميلاد
gڑnnhsij عملية أو حدثاً أو
فعلَ ولادة، ولكن حقيقة قائمة غير متغيِّرة ولا مستحدثة أزلية في جوهر اللاهوت.
وهنا يشرح القديس كيرلس([7])
كلمة مولود من الآب بقوله: إن الأفعال العملية وتعبيرها اليوناني
œrga إنما تتم من الخارج œxwqen،
ولكن كما يقول أثناسيوس هنا بخصوص الرب إن ميلاده ليس هو فعلاً عملياً يتم من
الخارج، وحينئذ كما يقول أثناسيوس أيضاً([8]) بينما أن الناس يكونون آباءً أولاً بالقدرة ثم بالفعل، نجد الله أباً
بالقدرة والفعل معاً وبصورة دائمة (لأنه فعل جوهري)([9])
dun£mei te
™nerge…v pat»r
([10]).

[وحينما
نقول: إن الابن أزلي فهو حقا كذلك، لأن جوهر الآب لم يكن قط ناقصاً أو غير كامل
حتى يُضاف إليه في ما بعد ما هو من خاصته الذاتية.

ولم يولد “الابن” كما يولد الإنسان من الإنسان فيكون
ابن الله متأخراً في وجوده عن الآب،

ولكونه ابن الله والله أزلي، فهو موجود أزلي بوجود الآب
الأزلي.

أمَّا الناس فبسبب عدم الكمال والعجز في طبيعتهم (المادية)،
كان مناسباً لهم أن يلدوا في حدود الزمن.

هو
الابن كما يقول الآب نفسه وكما تقول الأسفار المقدَّسة، و“الابن” لا
يمكن أن يكون إلاَّ مولوداً من “الآب”، ونحن نعلم أن المولود من الآب هو “كلمته”
و“حكمته” و“إشعاع نوره”.
فإذا قالوا إنه كان وقت لم يوجد فيه ابنٌ، فهم
يسلبون الله كلمته وحكمته، وكأن نوره كان في وقت ما بلا شعاع، أو أن الينبوع كان
في وقت ما عقيماً وجافاً … وكان الله وقتاً ما بلا عقل.

إنه
خطأ فظيع أن يكون لديهم هذه التصورات المادية لمن هو غير مادي …] (14: 1)

[وإذ
نتأمَّل الابن (المتجسِّد) نرى الآب، لأن الفكر في الابن وإدراكه هو هو المعرفة
المختصة بالآب،
لأنه هو ابنه الذاتي الذي من جوهره.] (16: 1)

[إن الحيوانات والبشر بعد أن خلقهما الله إنما تتوالد
بالتتابع، فالابن بعد أن يولد من أب يصير بالتالي أباً لابن، وارثاً من أبيه ما قد
صار له، وهنا إن توخَّينا الحقيقة لا يوجد أب أو ابن بالمعنى الدائم فلا الأب ولا
الابن يحتفظ كلٌّ منهما بلقبه. فالأب كان ابناً والابن سيصير أباً،

ولكن
في اللاهوت ليس الأمر كذلك لأن ليس الإنسان كالله.

فالله
الآب ليس له أب لذلك لا يتولد منه ابن يكون أباً،

ولا
الابن لأنه مجد الآب يمكن أن يلد.

فقد
صار في اللاهوت أن الآب هو بصفة محددة آب، والابن بصفة محدَّدة ابن، ومنهما وحدهما
يبقى الآب أباً على الدوام والابن ابناً على الدوام.

كذلك
فإنه كما أن الآب هو دائماً أب، ولا يمكن أن يكون ابناً، كذلك الابن هو دائماً ابن
ولا يمكن أن يكون أباً.

وفي
هذا يتضح بالفعل معنى أن الابن هو صورة جوهر الآب، وهو باقٍ كما هو لا يتغيَّر
واحداً مع الآب بالتمام،

فإن
كان يمكن للآب أن يتغيَّر، كان ممكناً للصورة أن تتغيَّر،

لأنه
هكذا ينبغي أن تبقى الصورة والشعاع بالنسبة لذلك الذي هما له.

لذلك
فإن كان الآب غير متغيِّر قط، وإن كان باقياً كائناً كما هو، كان حتماً له (الابن)
وهو الصورة أن يبقى كما هو لا يتغيَّر أيضاً.] (21: 1)

[وبالرغم
من كل ما يقولونه (الأريوسيون)، فإن الكلمة كائن، لأن كل الخليقة بواسطته خرجت إلى
الوجود، و“الكلمة” ليس خارجاً عن الله، ولكنه الكلمة الذاتي. لذلك نكرِّر ونقول:
إنه إن كان الله له قدرة الإرادة، وإرادته فعَّالة وصانعة، فإن كلمة الله
يتحتَّم بالتأكيد أن يكون هو الإرادة الحية للآب، والقدرة الجوهرية
Essential energy، والكلمة الحقيقية، الذي فيه يقوم الكل ويصير تحت الانضباط
والحكم.] (2: 2)

[لأنه
بينما المخلوقات كثيرة ولكن “الكلمة” واحد، فالابن يختلف عن الجميع، وهو
ليس على مستوى المخلوقات (بالنسبة لله)، بل هو ابن لذات الآب، لذلك لا يوجد “كلمات”
كثيرة ولكن “كلمة واحد” لآب واحد، وصورة واحدة لله الواحد.] (27: 2)

[إن
“الابن” هو “كلمة” الآب، و“حكمة” الآب، ومن هذين اللقبين نحن نستدل
على “نوع الصلة” والاشتقاق غير المنقسم وغير المتألِّم الكائن بين الابن
والآب،

وهذا
ندركه بصورة ما على مستوى كلمة الإنسان، فهي ليست جزءًا من الإنسان، ولا هي تخرج
(أو تتولد) من الإنسان بالألم، فكم بالحري كلمة الله تكون؟

كذلك
فإن الله يدعوه ابنه، لئلاَّ حينما نكتفي بالقول إنه “كلمة الله” نظن أنه مثل كلمة
الإنسان المجرَّدة غير الشخصية، في حين أن لقب الابن يوضِّح أنه الكلمة ذو الكيان
الشخصي وأنه الحكمة الذاتية.]([11])
(27: 2)

[لأنه
حينما يُقال: «أنا في الآب والآب فيَّ» فليس معنى ذلك كما يتوهَّم
الأريوسيون أن كل واحد يملأ الآخر كما في الأوعية الفارغة، وكأن
الابن يملأ فراغ الآب والآب يملأ فراغ الابن، ويبقى كل واحد منهما غير كامل
وناقصاً بذاته، حاشا! لأن هذا يليق فقط بالأجسام
ولكن الآب هو كامل والابن كذلك، وهو فيه كل ملء اللاهوت
.]([12])
(1: 3)

[إنه
بحق قيل: «أنا والآب واحد»، مضيفاً: «وأنا في الآب والآب فيَّ»، لأنه بهذا يُظهر
(المسيح) ماهية اللاهوت ووحدة الجوهر (أي أن اللاهوت آب وابن وهما جوهر واحد أي
إله واحد).

فهما واحد، ولكن ليس مثل الشيء الواحد المنقسم إلى اثنين
ويبقى واحداً، ولا هما شيء واحد ذو اسمين حتى أن الواحد يكون في وقت ما أباً ثم هو
بذاته يصير في وقت آخر ابنه، فهذه هرطقة سابيليوس.

ولكنهما
اثنان، لأن الآب هو آب وليس ابناً، ولأن الابن ابن وليس أباً، ولكن الطبيعة واحدة
وكل ما للآب فهو للابن.

ولكن
ليس أن الابن إله آخر لأنه ليس خارجاً عن الآب بل إن
الآب والابن هما طبيعة واحدة، وخواص واحدة للطبيعة الواحدة، ولاهوت واحد.

فلاهوت الابن هو بذاته للآب، لذلك فهو غير منقسم لذلك
يوجد إله واحد لا إله إلاَّ هو!
] (4: 3)

[ولأن اللاهوت واحد في الآب والابن، فإنه نشأ عن ذلك
بالضرورة أن كل الصفات التي
تُقال على الآب قيلت هي بعينها عن الابن، إلاَّ
صفة (جوهرية) واحدة وهي أن الآب أب. فمثلاً:

+
عن كون الابن إلهاً يقول إنجيل يوحنا: «وكان “الكلمة” الله.» (1: 1)

+
وعن كون الابن قادراً على كل شيء (بانتوكراتور)، يقول: «الذي كان والذي يأتي
القادر على كل شيء.» (رؤ 8: 1)

+
وكون الابن رباً: «ورب واحد يسوع المسيح.» (1كو 6: 8)

+
وكون الابن نوراً: «أنا هو نور العالم.» (يو 12: 8)

+ وكون الابن يغفر الخطايا: «إن لابن الإنسان سلطاناً على
الأرض أن يغفر الخطايا.» (لو 24: 5)

وهكذا بقية الصفات لأن الابن نفسه يقول عن ذاته إن «كل ما
للآب هو لي» (يو
15: 16)، «وكل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي.» (يو 10:
17)

ولكن حينما نسمع من الابن صفات الآب (الخصوصية)، فإننا نكون
قد رأينا الآب في الابن، ونعود فنتأمَّل الابن في الآب عندما نجد أن كل ما قيل عن
الآب، يُقال عن الابن أيضاً.

ثم
لماذا تكون صفات الآب هي بعينها صفات الابن؟ إلاَّ لكون الابن هو من الآب وحاملاً
لذات جوهر الآب. وهكذا فبسبب أن الابن هو من ذات جوهر الآب لذلك فإنه ينسب لنفسه
كل خواص الآب قائلاً: «حتى تدركوا أني أنا في الآب والآب فيَّ»، «وأني
أنا والآب واحد»، وأن «كل مَنْ رآني فقد رأى الآب».
وفي هذه الثلاث آيات معنى
واحد … وهكذا بواسطة الابن وفيه يمكن تأمُّل كل لاهوت الآب.

ونحن
أيضاً ندرك هذا من صورة الإمبراطور، لأن في صورة الإمبراطور يوجد شكل وهيئة
الإمبراطور، وفي الإمبراطور الشكل والهيئة التي في الصورة، لأننا نفترض أن شَبَه
الإمبراطور الذي في الصورة هو بالضبط والتمام، حتى أن كل مَنْ ينظر إلى الصورة يرى
الإمبراطور، وبالتالي كل مَنْ يرى الإمبراطور يتذكَّر أنه هو هو الموجود في
الصورة، حتى أنه بلسان الصورة يمكن أن يُقال: “أنا والإمبراطور واحد، لأني أنا فيه
وهو فيَّ، وكل ما ترون فيه ترون فيَّ وكل ما فيَّ ترونه فيه”.

وبالتالي
كل مَنْ يعبد الصورة فإنه بالتالي يعبد الإمبراطور.

هكذا
أيضاً فإن الابن هو صورة الآب، ويتحتَّم بذلك أن ندرك أن كل لاهوت الآب والصفات
والخواص التي للآب هي بذاتها كيان الابن. لذلك قيل عن الابن: «الذي إذ كان في صورة
الله لم يحسب خلسة (لم يعتبر ذلك امتيازاً) أن يكون معادلاً لله» (في 6: 2)

وليس يمكن أن تكون هذه الصورة (الهيئة eچdoj) التي للاهوت هي جزئية، بل إن كل ملء اللاهوت الذي
للآب هو نفسه كيان الابن، لذلك فالابن هو إله كامل. من أجل هذا قيل إن «الله
كان في المسيح
مصالحاً العالم لنفسه» (2كو 19: 5)، فإن كل ما يخص جوهر الآب هو
للابن، الذي فيه الخليقة تصالحت مع الله. لذلك قال المسيح إن كل الأعمال التي
يعملها هي أعمال الآب.] (4: 36)

[ولكون
“الكلمة” هو كلمة الآب الذاتي، فهذا لا يسمح لنا أن نحسب أن إرادة الله تسبق كلمة
الله، لأن كلمة الله هي بعينها مشورة الآب الحية وقوته الصانعة لكل ما هو صالح لدى
الآب، كما يقول “الكلمة” عن نفسه في سفر الأمثال: «أنا الحكمة … لي المشورة
والرأي. أنا الفهم لي القدرة» (8: 12و14). وهنا بالرغم من كونه هو (الكلمة) الفهم
الذي به دبَّر وهيَّأ خلقة السماء، وهو القوة والقدرة (المسيح قوة الله وحكمة
الله) (1كو 24: 1)؛ فهو هنا يعود ويقلب موضع الصفات ويقول: «لي المشورة ولي
القدرة»، التي منها يتضح تماماً أن الكلمة هو نفسه المشورة الحيَّة التي للآب كما
نعرف ذلك من النبي القائل إنه صار «ملاك المشورة العظمى» (انظر: إش 6: 9).] (63:
3)

[وأكثر
من هذا فإنهم إذا قالوا إن الآب خلق الابن بالإرادة، فيتحتَّم عليهم أن يقولوا إنه
خلقه بالفهم أي بالمعرفة أيضاً، لأني أعتبر أن الإرادة الخالقة والفهم هما واحد،
لأن الإنسان عندما يشير بمشورة فذلك يعني أنه يفهم ما يشير به.

ولكن
المخلِّص يدعوهم أن يعودوا كعاقلين إلى النص القائل: «لي المشورة والرأي أنا الفهم
لي القدرة». هذا يعني أن الرب هو هو بنفسه المشورة والرأي والفهم والقدرة (لله
الآب).

ولكن
هؤلاء الكفرة يريدون … أن يفصلوا بين الآب والابن، فيدعون الابن مخلوقاً
بالإرادة عوض كونه الكلمة الذاتي للآب.

ثم
ليت كل واحد يصدِّق ما قاله سليمان سابقاً، إن الكلمة هو الحكمة والفهم و«الرب
بالحكمة أسَّس الأرض، أثبت السموات بالفهم.» (أم 19: 3)

هكذا
داود النبي أيضاً يعود ويكشف عمل الكلمة لكل هذا: «بكلمة الرب صُنعت السموات.» (مز
6: 33)

ويعود بولس الرسول يقول: «لأن هذه هي مشيئة (إرادة) الله
في المسيح يسوع.
» (1تس 18: 5)

إذن،
فابن الله هو “الكلمة” و“الحكمة” و“الفهم” و“المشورة الحيَّة”، وفيه تكمن “مسرَّة
الله الآب” و“الحق” و“النور” و“القدرة”
التي للآب!!

فإذا
كانت إرادة الله هي الحكمة والفهم،

والابن
هو الحكمة والفهم؛

فالذين
يقولون إن الله خلق الكلمة بالإرادة فهذا يعني:

أن
الحكمة خُلقت بالحكمة؟

وأن
الابن خُلق بالابن؟

وأن
الكلمة خُلقت بالكلمة؟

فإن
هذا يكون مخالفاً ومضاداً لله وللأسفار المقدَّسة.

لأن
الرسول يعلن أن الابن هو رسم وشعاع، ليس لإرادة الله، بل لجوهر الآب!!] (65: 3)

[ولكن
إن كان الابن هو ابن بالطبيعة وليس بالإرادة، فهل نفهم من هذا أنه بدون مسرَّة
الآب أو على غير الإرادة مع الآب؟

هذا
خطأ لأن الابن هو موضوع مسرَّة الآب «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»، أو كما
يقول المسيح نفسه: «الآب يحب الابن ويريه كل شيء».

إذن
فالابن هو موضوع مسرَّة الآب وحبه … كذلك فالآب هو موضوع مسرَّة الابن وحبه
وتكريمه. فالمسرَّة الصالحة التي للآب في الابن، والتي للابن في الآب …

فكما
أن الآب هو صالح بالطبيعة، كذلك هو دائم الأُبوَّة والبنوَّة
generative.

(كلمة:
Divine gڑnnhsij لا تعني الولادة أو حدثاً زمنياً ولكن حقيقة جوهرية غير مرتبطة
إطلاقاً بالمادة ولا بالتصور المادي أو الزمني، فالأُبوَّة والبنوَّة حقيقة
دينامية وإينارجية
dun£mei te ka… ™nerg…v، أي قدرة وتواجد معاً يكوِّنان حقيقة موجودة بذاتها غير
مستحدثة)
([13]) وأن مسرَّة الآب هي الابن! ومسرَّة الابن هي الآب. لا يسبقهما إرادة ما بل
طبيعة واحدة ذات خواص متساوية في جوهر واحد.

كالشعاع
والنور، لا يصح أن تقول إن الإرادة تسبق الشعاع بالنسبة للنور، ولكن هو انبعاث طبيعي أو جوهري، وهو بحسب توافق النور الذي يبعثه
أو
يولِّده.] (66: 3)

ومن
أقوال أثناسيوس السابقة، يتضح لنا صفاء رؤيته بالنسبة لتساوي الآب والابن في
القدرة الكلية والإرادة الكلية بالنسبة لخلقة العالم، فلا يتميَّز الآب عن الابن
إلاَّ بالأُبوَّة، ولا يتميَّز الابن عن الآب إلاَّ بالبنوَّة. على أن هذا التمايز
الذي يجعلهما اثنين في واحد لا يخرج عن كونه “علاقة” داخلية جوهرية تختص بالله في
ذاته الواحدة وجوهره الواحد. ولكن رغم أنها علاقة خاصة وذاتية وجوهرية، إلاَّ أنها
تفيض علينا بغنى من جهة انعكاس هذه العلاقة الجوهرية القائمة بين الآب والابن على
الخليقة، وبالأخص على الإنسان، لأن علاقة الآب بالابن هي هي الحب والمسرَّة.

فحب
الله للعالم ومسرَّته لبني الإنسان هما انعكاس خارجي لصفات جوهرية في الله بين
الآب والابن.

ولكن
ما فحصه أثناسيوس بوضوح أمامنا من جهة تساوي كلية القدرة وكلية الحضور التي للآب
والتي للابن، يعطينا انطباعاً أن الكلمة الأزلي كان في العالم لمَّا خُلق العالم،
فكل شيء به كان وظل به يقوم «وبغيره لم يكن شيء مما كان».

وهكذا
بدخول “الكلمة” العالم منذ لحظة خلقة العالم، بحضوره الكلي، بدأت في الحال رسالة
“الكلمة” لخلاص العالم، بجوار الخلق والتدبير والتقويم؛ فمعروف أن “الكلمة”
كان منذ البدء الضابط لكل الخليقة.

كتاب: “تجسُّد الكلمة”:

[فإن
كان كلمة الله في الكون الذي هو جسم، وإن كان قد اتحد أو سكن
بكل الكون (للتدبير) وبكل أجزائه فما هو وجه الغرابة إن قلنا إنه قد اتحد بالإنسان
أيضاً (للخلاص).

لأنه
إن كان حلوله في جسد أمراً غير معقول، لكان غير معقول أن يتحد بكل الكون ويعطي
ضياءً وحركة لكل الأشياء بعنايته. امَّا إن كان قد لاق به أن يتحد بالكون، وأن
يُعرف في الكل، فيجب أن يليق به أيضاً أن يظهر في الجسد البشري وأن يستضيء به ذلك
الجسد ويعمل.

ولو
كان أمراً غير لائق أن يتخذ جزءًا من الكون كأداة يعلِّم البشر بها عن لاهوته،
لكان أمراً في غاية السخافة أن يعرف ذاته بواسطة كل الكون أيضاً.] (فصل 41)

[لأنه
بسلطانه اتحد بكل شيء وبكل الأشياء، ويضبط كل الأشياء بقدرة لا حد لها. فلو أراد
أن يتحدَّث ويعلن ذاته ويعلن أباه بواسطة الشمس أو القمر أو السماء أو
الأرض أو المياه أو النار، لما تجرَّأ أحد أن يقول ذلك في غير محله إذ هو ممسك
الكل في وقت واحد، وهو في الواقع ليس موجوداً في الكل فحسب، بل موجوداً
أيضاً في ذلك الجزء الذي نتحدَّث عنه والذي أظهر فيه ذاته بطريقة غير منظورة. هكذا
أيضاً لا يمكن أن يكون سَخفاً، إن كان وهو ضابط كل الأشياء ومانحٌ إيَّاها الحياة،
ثم أراد أن يعلن نفسه في البشر؛ أن يستخدم جسداً بشرياً كأداة يعلن فيه الحق
ومعرفة الآب.] (فصل 42)

هكذا
يوجِّه أثناسيوس أنظارنا، أن دخول “الكلمة” إلى العالم كان تداخلاً دقيقاً
في كل الخليقة، سمَّاه حضوراً أو سكنى أو اتحاداً بالكل والجزء، “بكل شيء وبكل
الأشياء”. والقصد المباشر من ذلك أن يكون الخلق متصلاً اتصالاً وثيقاً بمعرفة
الله الكلمة والآب في الخليقة كلاًّ وجزءًا، في الوجود كله وفي الحياة التي
تتخلَّل هذا الوجود.

فالحضور الكلي للكلمة في العالم منذ البدء عند أثناسيوس هو
تمهيد لإعلان الله أولاً في الكون كله، وثانياً: إعلان الله في الإنسان، عندما
أكمل الحضور فيه باتخاذه جسد إنسان: «الله ظهر في الجسد».

ثم
بطريقة غير مباشرة يوضِّح أثناسيوس أن معرفة الله من خلال المخلوقات أمرٌ حتميٌّ
ومقطوع به، ولا عذر للإنسان في أن يتعامى عن ذلك، لأن “الكلمة” يتخلَّل كل
شيء وهو على صلة وثيقة بكل الأشياء، وحضوره يكاد ينطق للعقل المتأمِّل، لأنه حضور
كلي يشمل: الخلق من العدم، فكل خليقة عليها بصمات الحكمة والتدبير بقوانين غاية في
الدقة لمواجهة كل ظروف التغيير والضبط بسلطان يفوق العقل، والتقويم بالتجديد
والنماء والتعويض لاستمرار الوجود، وهذه كلها عمليات مترابطة.

ولأن
الإنسان جزء من كل، أي جزء طبيعي وأساسي من هذا العالم المخلوق، فهو يحظى بنفس
الحضور والوجود اللذين للكلمة، الذي يسميه أثناسيوس “بالشركة”. فمن خلال هذه
الشركة بين الخليقة والكلمة عَبْر الإنسان تحدث المعرفة وتنفتح أبوابها،
لذلك
لا يوجد عذر لمن يغلق على نفسه دون معرفة الله: «وكما لم يستحسنوا أن يُبقوا الله
في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض.» (رو 28: 1)

[لأن
كل مَنْ يدير ظهره مبتعداً عن “كلمة” الله الكائن والموجود (في العالم)
ويصيغ لنفسه معرفة أخرى هي في الحقيقة ليست كائنة، فإنه يسقط حتماً إلى العدم.]([14])

لذلك
فإن تجسُّد الكلمة كان في الحقيقة تكميلاً لعمل حضوره المستمر في الخليقة، ثم
كشفاً مفاجئاً لفكر الإنسان عن مدى إمكانية وقدرة “الكلمة” للاتصال والاتحاد
بالخليقة الممثَّلة في الإنسان المخلوق على صورة الله. وهكذا يبرز بالتجسُّد عمل
الكلمة كمركز لخطة الخلاص العظمى التي تبدأ منذ بدء الخليقة وتُستعلن جهاراً في
ملء الزمن، بتقديس الإنسان وتبنِّي الله له ورفعه بالقيامة.

ولو
تتبعنا بدقة عمل الكلمة في الخليقة، كما سرده أثناسيوس على مدى كتاباته كلها، نرى
أن دور “الكلمة” منذ بدء خلقة العالم وفي كل مراحل ظهوره وعمله على مدى الدهور كان
مع الآب عاملاً في الخليقة على مستوى التساوي الكلي في الحضور الدائم والفائق:
«أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل»، «يملأ الكل» لأنه هو الملء الحقيقي الذي
يملأ الكل.

فما يقوله بولس الرسول باختصار: «فإنه فيه يحل كل ملء
اللاهوت جسدياً، وأنتم مملوؤون فيه»
(كو 9: 2و10)، يعود أثناسيوس يشرحه بدقة
واستطراد وتكرار متواصل موضِّحاً أن:

(أ)
المسيح الكلمة واحد مع الآب: لذلك فهو:

(ب)
يعمل بالتساوي مع الآب: «أنا أعمل حتى الآن وأبي يعمل»، أي منذ بدء الخليقة حتى الآن!

أي
لأن المسيح يحل فيه كل ملء اللاهوت جسدياً، لأنه الكلمة المساوي للآب في ملء
الجوهر، لذلك هو يملأ الكل «وأنتم مملوؤون فيه»!!

لذلك
فالتجسُّد عند أثناسيوس هو استعلان لملء اللاهوت الحال في المسيح، وهو هو واسطة
لملئنا منه، وما هو ملؤنا من المسيح إلاَّ معرفة الآب والابن: «أن يعرفوك
أنت الإله الحقيقي
وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته.» (يو 3: 17)

وهكذا،
بحسب القديس أثناسيوس، فإن التجسُّد هو المدخل الأخير الذي دخل به الله إلى عالمنا
هذه المرَّة جهاراً، ليكشف ليس فقط سر الخليقة وسر حضوره الدائم وسر الخلاص الذي
أكمله بالمسيح، بل وبالدرجة الأُولى ليكشف لنا سر نفسه، سره الذاتي، سر الآب
والابن والروح القدس، الذي هو في الحقيقة وفي الختام سر المجد.

ونلاحظ أن أثناسيوس يوضح بأجلى بيان لماذا أن الكلمة، بحسب
الأسفار المقدَّسة، “ملأ كل شيء”؟

+
«ليجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك.» (أف 10: 1)

+
«مستنيرة عيون أذهانكم، لتعلموا … الذي عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات،
وأجلسه عن يمينه في السماويَّات، فوق كل رياسةٍ وسلطانٍ وقوَّةٍ وسيادةٍ، وكل
اسمٍ يُسمَّى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيءٍ تحت
قدميه، وإيَّاه جعل رأساً فوق كل شيءٍ
للكنيسةِ، التي هي جسده، ملءُ الذي
يملأُ الكلَّ في الكلِّ.
» (أف 1: 1823)

+
«لذلك رفَّعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسمٍ لكي تجثو باسم يسوع كل ركبةٍ
ممن في السماءِ ومَنْ على الأرضِ ومَنْ تحت الأرضِ (الأموات في الهاوية)، ويعترف
كل لسانٍ أن يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله الآب.» (في 2: 911)

+ «الذي فيه أيضاً (مماتاً في الجسد) ذهب فكرز للأرواح التي
في السجن (الهاوية)» (1بط 19: 3)

والآن إذا عدنا إلى ما سجَّله أثناسيوس بخصوص منهج الكلمة
الذي يجمع كل شيء في ذاته، ويملأ الكل في الكل، نراه يصوِّبه نحو هدف واحد هو
معرفة الآب والابن.

[وكما
أنه معروف في الخليقة بأعماله، فيجب أن يعمل في الإنسان أيضاً ويُظهر نفسه في كل
مكان، لكي لا يترك شيئاً خالياً من لاهوته ومعرفته!

وإن
المخلِّص فعل ذلك لكي حتى كما أنه يملأ كل الأشياء في كل مكان بوجوده، كذلك
أيضاً يملأ كل الأشياء من معرفته!!

أمَّا
إذا نزل الإنسان حتى إلى الهاوية … يستطيع أن يرى قيامة المسيح وغلبته على
الموت،
ويتيقَّن أن المسيح نزل بينهم أيضاً وهو وحده الإله الحق ورب.

لأن
الرب لمس كل أجزاء الخليقة، فأخلاها كلها من كل خداع … لكي لا يعود الإنسان أن
ينخدع بأي حال من الأحوال، بل يجد في كل مكان كلمة الله الحق.

وهكذا
أُغلق على الإنسان (في دائرة معرفة الله في كل مكان) من كل ناحية. وإذ يبصر لاهوت
الكلمة مبسوطاً في كل مكان، أي في السماء، وعلى الأرض، وفي الإنسان، وفي الهاوية، لا
يصير بعد معرضاً للخداع والضلال عن الله، بل يعبد المسيح
وحده (دون أي آلهة أخرى)
= «لكي تجثو باسم يسوع كل ركبةٍ ممن في السماءِ ومَنْ على الأرضِ ومَنْ
تحت الأرضِ، ويعترف كل لسانٍ أن يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله الآب»!]
(تجسد الكلمة فصل 45)

وهكذا،
في رأي أثناسيوس أيضاً، فإن المسيح تعقَّب خداع الشياطين التي أضلَّت العالم
وطاردهم حتى ظفر بهم على الصليب، فجرَّدهم من سلطانهم ورئاساتهم، لكي يؤمِّن
للإنسان طريق الخلاص الذي وضعه له بالصليب، حتى لا يعود يُستعبد مرَّة أخرى لضلالة
الشياطين.

لأن
أخطر معوقات الخلاص وأشد عوامل النكوص في الإيمان ومتابعة السير في طريق المعرفة
والتقوى والعفة، هي ضلالة الشياطين وغواياتهم.

ومنهج
أثناسيوس هذا القائم على مطاردة الشيطان وأعماله وأفكاره وغواياته المنظورة وغير
المنظورة يظهر بغاية الوضوح في سيرة القديس أنطونيوس، وهو يحاول في جميع كتاباته
أن يبرز أمامنا خطة الله الواضحة في الإنجيل من جهة استعلان يسوع المسيح كابن ذاتي
له، الذي «أُعطي كل سلطان مما في السماء وما على الأرض» الذي هو بعينه سلطان الآب،
لكي يهب الإنسان الغلبة على كل القوى المعادية لخلاص الإنسان، التي منعت عنه في كل
الدهور السابقة معرفة الحق والبصيرة النيِّرة لإدراك الله في ذاته.

ولا
شك أن مفهوم حلول كلمة الله في جسد إنسان للاتحاد الكامل به “لإنارته” (فصل
41و42)، حسب قول أثناسيوس، يتجه اتجاهاً مباشراً نحو إبطال قوى الشياطين الفكرية
وكشف “وإنارة طريق الحياة والخلود” أمام الإنسان عامة. على هذا الأساس قال المسيح:
«أنا هو نور العالم».

ونخلص
من هذا أن التجسُّد، الذي استُعلن به الله كآب وابن، بالإضافة إلى معطياته
التي لا حد لها، سواء الفداء أو الخلاص أو القيامة، أو من جهة بداية كشف
الله في الثالوث الأقدس،
أي في ذاته؛ فالتجسُّد أيضاً عند أثناسيوس هو
لإعطاء “الكلمة” من داخل جسد الإنسان سلطاناً فائقاً على كل أعمال الظلمة التي
للشيطان وكسر سلطانه وغواياته وضلالاته،
ولإبطال مفعولها في كل العالم، حتى
يستطيع الإنسان من خلال نور المعرفة للحق أن يعبد الله ويدركه في ذاته كآب وابن،
حيث تلتحم معاً رسالة الكلمة النظرية هنا كمعلِّم للحق برسالة الكلمة العملية
كقاهر للباطل.

[متى
بدأ البشر يهجرون عبادة الأوثان، إلاَّ عندما حلَّ الله كلمة الله
الحقيقي بين البشر؟ ومتى بطلت استشارة الأصنام في كل مكان وصارت
باطلة، إلاَّ عندما أظهر المخلِّص نفسه على الأرض؟

ومتى
ظهرت حقيقة أُولئك الشعراء الآلهة، واتضح أنهم مجرَّد بشر يفنون، إلاَّ منذ أن
أتمَّ الرب نصرته على الموت وحفظ الجسد الذي اتخذه بلا فساد حتى أقامه من بين
الأموات؟

ومتى
احتُقرت غواية وجنون الشياطين إلاَّ عندما تنازل “قوة الله”، “الكلمة” وظهر
على الأرض من أجل ضعف البشر؟

ومتى ابتدأت صناعة السحر ومدارسها تُداس، إلاَّ عندما صار
ظهور الله “الكلمة” بين بني البشر؟

كان
البشر لا يعتقدون في أي شيء آخر سوى آلهة الأوثان، أمَّا الآن ففي العالم كله تجد
البشر يهجرون خرافة الأوثان ويلتجئون للمسيح. وإذ يعرفونه أنه هو الإله يعبدونه
فيعرفون به أيضاً الآب الذي كانوا يجهلونه …

وهكذا
أقنع المسيح كل العالم ليعبدوا رباً واحداً وفيه يعبدون الله أباه.] (فصل 46)

[وبعد
أن امتلأ كل مكان في القديم بغواية الجحيم والعرافة وآلهة التنبُّؤات، بطل الآن
جنونهم ولم يعد أحد منهم ينجِّم بعد، وذلك منذ بُشِّر بالمسيح في كل مكان.

(وهنا
يربط أثناسيوس بين قول الإنجيل: “اذهبوا بشِّروا العالم أجمع” وبين إرادة الله في
تعقُّب ضلالات الشيطان في كل أنحاء العالم، حتى يتهيَّأ العالم كله لمعرفة الحق
وعبادة الله).

وبعد
أن أضلَّت الشياطين عقول البشر قديماً، إذ احتلت الينابيع والأنهار والأشجار
والحجارة، هكذا أثَّرت على البسطاء بشعوذتها، والآن بطلت غوايتها بعد الظهور
الإلهي “للكلمة”،
لأن بعلامة الصليب يستطيع حتى الإنسان العادي أن يفضح
ضلالتها.] (فصل 47)

ويبدأ
أثناسيوس يدلِّل على صدق إيمانه ورؤيته لأسباب التجسُّد من جهة إبطال ضلالات
الشيطان في كل أنحاء العالم وفي كل نواحي النشاط الآدمي، فيستشهد بقيام أنظمة
العفة والطهارة والعبادة الجماعية:

[على
أن هذه البراهين التي قدَّمناها، لها اختبارات عملية تشهد لصحتها، فليذهب من أراد
ويعاين دليل العفة في عذارى المسيح والشبَّان الذين يعيشون الحياة النسكية
المقدَّسة، أمَّا دليل الخلود وقيامة الأجساد فيراه في
ذلك العدد الضخم من الشهداء.

وليأتِ
مَنْ أراد أن يختبر أقوالنا السابقة عملياً، وفي وسط خداع الشياطين وخزعبلات
المنجمين وأعاجيب السحر، ليستعمل علامة الصليب الذي يُهزأ به بينهم، فيرى كيف أنه
بواسطته تهرب الشياطين ويبطل التنجيم ويُباد السحر والعرافة.

إذن
مَنْ هو المسيح هذا؟ وما هي عظمته، الذي بمجرَّد اسمه وحضوره يستطيع أن يطرح كل
هذه القوى ويبيدها، والذي ملأ العالم بتعليمه (الحق)؟

إنه
هو ابن الله الحقيقي كلمة الآب، وحكمته، وقوته منذ البدء!] (فصل 48)

 

ثانياً: المعرفة الكاملة المتبادلة بين الآب والابن

 

على
مدى تعاليم أثناسيوس وحججه ودفاعه، لم يخطئ قط في إبراز التكافؤ الكامل في عملية
استعلان ذات الله للإنسان من خلال التجسُّد. “فالكلمة” جاء ليعلن الآب، ومن
أجل ذلك كان يعلن نفسه بالأقوال والأعمال، حتى إذا أدركوا حقيقة كونه “كلمة
الله”، يدركون في الحال الآب الحالّ فيه.

أمَّا
الآب بدوره فهو الذي أرسله إلى العالم معلناً فيه مسرَّته، ومُظهراً به مجده
وقوته، حتى يُعرف «أن يسوع المسيح هو رب، لمجد الله الآب.» (في 11: 2)

ولكن
إعلان الابن للآب وإعلان الآب للابن، في منهج أثناسيوس اللاهوتي، لا يشملان
مرحلتين، بل هما عمل واحد. فكل استعلان للابن هو نفسه بالتالي وبالضرورة استعلان
للآب، وكذلك كل استعلان للآب هو نفسه حتماً استعلان للابن([15]).

أي
أن بالتجسُّد تمَّ استعلان متبادل بين الآب والابن (والروح القدس)([16])،
ولكن هذا الاستعلان المتبادل لا يقوم أساساً على كرم الابن أو سخاء الآب أو المحبة
المتبادلة أو الطاعة، أي أنه لا يقوم على أساس أخلاقي أو مجرَّد صفات شخصية، ولكن
أساسه هو وحدة الجوهر الذاتي؛ فالآب والابن جوهر واحد وذات واحدة، وهنا منبع فكر
أثناسيوس ومصبُّه بآن واحد، أو أن هذا يشكِّل الأساس الذي يستمد منه أثناسيوس
دفاعه والغاية التي ينتهي إليها كل دفاع، وهو أن التساوي المطلق بين الآب والابن
ناشئ من وحدة الجوهر، أي وحدة الكيان والوجود الذاتي. ووحدة الجوهر هي التي أنشأت
التساوي المطلق بينهما وتبادل المعرفة والاستعلان، كضرورة حتمية.

وهنا
يلزم أن نضع في الاعتبار أن أساس منهج أثناسيوس اللاهوتي كان هو التزام الدفاع
والصراع، الأمر الذي جعل أثناسيوس يستلهم كل الإنجيل وكل الحق الإلهي، ويكرِّس
قلبه وفكره وروحه لإدراك الحق ثم الدفاع عنه.

فأريوس
أنكر هذا التساوي المطلق بين الآب والابن، وكان منشأ هرطقته هو أن العلاقة التي
تربط الآب بالابن هي علاقة عمل (خلقة) فقط. فالآب بحسب زعم أريوس
خلق الابن ليخلق به العالم وحسب، وهذه العلاقة تخلَّلتها علاقة أخلاقية نشأت في
ذهن أريوس من كلمة آب وابن، اعتباطاً، لأنها واردة في الإنجيل. وهكذا جهل أريوس
وتجاهل وأنكر، عن عمد، وحدة الجوهر، الأمر الذي أنشأ في الحال منطق عدم التساوي
بين الآب والابن إلى الدرجة التي أنكر فيها أريوس أن الابن يعرف الآب، لأنه مخلوق،
بل وأن الابن لا يستطيع أن يرى الآب([17])
بل ولا يستطيع أن يعرف جوهر نفسه([18]).

وينطلقون
من ذلك إلى اعتبار أن الثالوث ذو جواهر ثلاثة، وأن كل أقنوم منفصل عن الآخر، وأن
الثلاثة غير متشابهين لا في الطبيعة ولا في المجد([19]).

أثناسيوس يصمِّم على المعرفة الكاملة والمطلقة التي يتبادلها
الابن مع الآب،

معتمداً أساساً على الإنجيل:

[+
«كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب» (يو 15: 10)

+
«ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن» (مت 27: 11)

+
«ليس أن أحداً رأى الآب إلاَّ الذي من الله» (يو 46: 6)

+
«بالمسيح قوة الله وحكمة الله» (1كو 24: 1)

+
«والمسيح المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم» (كو 2: 2و3)

ثم
بعد ذلك، أليس أن هؤلاء الأريوسيين أعداء الله الذين يقولون إن الابن لا يرى الآب
ولا يعرفه تماماً. فإن كان الرب نفسه يقول إنه كما يعرفني الآب، هكذا أيضاً أنا
أعرف الآب، وهنا الآب لا يظهر كأنه يعرف الابن جزئياً، فكيف يقولون بجنون إن الابن
إنما يعرف الآب جزئياً وحسب وليس كلياً؟]

وأثناسيوس
كما قلنا يعزي التكافؤ الكامل في المعرفة أو العمل أو الاستعلان بين الآب والابن على أساس الوحدة في الطبيعة والجوهر والإرادة، فمن
جهة الإرادة لا توجد إرادتان متساويتان
واحدة للآب وأخرى للابن، لأن الابن
كما سبق وقلنا هو «الإرادة الحية للآب»([20])أنظر صفحة 511.

من
هنا تنتفي الثنائية بين الآب والابن نهائياً في ذات الله، وذلك بسبب وحدة الجوهر.

كذلك
لا يوجد رأيان أو فكران أو عقلان متساويان، واحد للآب وآخر للابن، بل رأي وفكر
وعقل واحد لله، لأن الابن هو “كلمة الآب وحكمة الآب”.

كذلك
لا توجد قدرتان متساويتان، واحدة للآب وأخرى للابن، بل قدرة واحدة لله، كليَّة،
وضابطة للكل، هي للآب وهي للابن، لأن الابن “هو قوة الله”.

[إذن
فابن الله هو “الكلمة”، و“الحكمة”، و“الفهم”، و“المشورة الحيَّة”، و“المسرَّة”،
و“الحق”، و“القوة” التي للآب.
]([21])

[إذن
فليهلك رأي الأريوسيين، فالثالوث ليس فيه مستحدث إنما لاهوت واحد أبدي، ومجد واحد
للثالوث المقدَّس، وهو الخالق والصانع.

إن إيمان المسيحيين يعلن أن الثالوث المبارك غير متغيِّر
وكامل، وهو كما هو منذ الأزل، لا
يُضاف إليه
ما هو أكثر، ولا يُنسب إليه نقصان، وهو غير منقسم، معبود، في وحدانية الله.]([22])

[إن
الله أبا يسوع المسيح هو واحد، وهو رب وخالق الخليقة بواسطة “كلمته”
الذاتي. كذلك فإن “كلمة” الله واحد هو، فهو الابن الوحيد من جوهر الآب وله
خاصة، وهو مع أبيه لاهوت واحد غير منقسم كما علَّم
المخلِّص نفسه به خلق الآب الخليقة وفيه يعلن ذاته لمن يريد وينير
الجميع.

واسم الابن يُذكر مع الآب في المعمودية والروح القدس
… وإنه من الضروري أن أقرر وأعلن إيماني، أن اسم الابن يُذكر مع الآب، ليس
لأن الآب غير كافي، ولا هو يُذكر بدون معنى أو مصادفة، ولكن لأن الابن هو “كلمة
الله” و“حكمته” الخاصة، وهو شعاع مجده، فهو ملازم للآب وحتماً وأبداً معه. لذلك
فمن المستحيل، عندما يهب الآب “النعمة”، أن يعطيها إلاَّ “في الابن”، لأن الابن هو
في الآب كالشعاع في النور، ولا يُذكر كأنه عن حاجة خلق الآب الأرض بحكمته، وصنع كل
الأشياء بكلمته، الذي هو منه، كذلك في الابن ثبَّت المعمودية المقدَّسة.

لأنه حينما يكون الآب يكون الابن، وكل ما يعمله الآب يعمله
من خلال الابن “وكل ما أرى أبي يعمله هذا أنا أعمله أيضاً”.

هكذا عندما تُمنح المعمودية، فكل من يعمده الآب يعمده الابن،
وكل من يعمده الابن فإنه يتقدَّس في الروح القدس.
]([23])

يخرج
أثناسيوس من هذا ضمناً بتأكيده أن عمل الخلاص الكلِّي على مدى التاريخ هو أيضاً
وبالضرورة نتيجة لجوهر الاتفاق التام بين الآب والابن، لأن عمل الخلاص مترتِّب
أصلاً على عمل الخلق، فإن كان الله الآب خلق كل شيء بكلمته، فهو بالضرورة يخلِّص
ما خُلق بكلمته.

أمَّا التجسُّد الإلهي فكان النقطة الحرجة التي برزت إلى
الوجود المعلَن في حيِّز التاريخ، والتي فيها استُعلن الله من داخل التدبير الإلهي
لعمل “الثالوث المقدَّس”. حيث دخل استعلان اللاهوت في حيِّز المحدود، إذ استُعلن
“حكمة الله” و“قوة الله” و“إرادة الله” و“فكر الله” بصورة واقعية ومفهومة، بل
ومحسوسة في شخص يسوع المسيح، بالقدر الذي يكشف حضور الله الفعلي والعملي في
الإنسان وفي الوجود المحسوس والمنظور.

ولكن وبالرغم من هذا الاستعلان الواضح، ظلَّ تدبير
الله هذا في قياس محدود بالنسبة لفكر الإنسان ومنطقه، وليس استعلاناً مطلقاً، أي
ظلَّ مخفياً ومعلناً بآن واحد!! لإعطاء فرصة للإيمان والاختيار!!

 

ثالثاً: الابن “الكلمة” بتجسُّده

أعلن الآب، وسيظل يعلنه إلى الأبد

 

لقد
ورث القديس أثناسيوس عن الآباء، وخاصة القديس إيرينيئوس، التعليم اللاهوتي للدور
الذي يضطلع به الابن في إعلان الآب بتجسُّده. ولكن كانت هناك بعض المؤاخذات
اللاهوتية لمن سبقه من بعض اللاهوتيين والمعلِّمين، مثل أوريجانوس([24])،
الذي كان يرى انتهاء دور الابن بعد أن يخضع كل شيء للآب (1كو 24: 15). وكانت هذه
أخطر نقطة ضعف في مفهومه للابن بالنسبة للآب، وقد استخدمها الأريوسيون ضد لاهوت
الابن المساوي للآب.

أمَّا
في تعليم أثناسيوس، “فالكلمة” هو صورة جوهر الآب، ليس بالنسبة لإرسالية عمله في
العالم، ولكن بالنسبة لصميم جوهر الثالوث وصميم ذات الله وحياته.

لذلك
فالابن قائم في الآب قبل إنشاء هذا العالم، وسيظل قائماً في الآب بعد انتهاء هذا
العالم. ويقول القديس أثناسيوس تعليقاً على الآية: «وبعد ذلك النهاية متى سلَّم
المُلك لله الآب متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة، لأنه يجب أن يملك حتى يضع
جميع الأعداء تحت قدميه … ومتى أُخضع له الكل فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع
للذي أَخضع له الكل كي يكون الله الكل في الكل» (1كو 15: 24و25و28)، حينئذ سيظل
الابن، كما هو، الصورة الأزلية لجوهر الآب:

[فالابن
غير مفترق عن الآب، ولم يكن زمان قط لم يكن فيه الابن موجوداً، ولكنه دائماً أبداً
صورة الآب وشعاعه، وله أزلية الآب.]([25])

[“عرشك
يا الله إلى دهر الدهور. قضيب البر هو صولجان مُلكك. لقد أحببت البر وأبغضت الإثم.
لذلك مسحك الله إلهك بزيت البهجة أكثر من رفقائك (شركائك)”.

انظروا أيها الأريوسيون واعترفوا بالحق، فالمرنِّم (داود) يتكلَّم
عنا جميعاً كرفقاء أو شركاء للرب، فلو كان (المسيح) جاء من عدم (كما تدَّعون)،
لكان هو أيضاً واحداً من هؤلاء الرفقاء. ولكن لأن المزمور يسبِّحه أنه الإله
الأبدي بقوله: «عرشك يا الله إلى دهر الدهور»،
لذلك فهو وحده كلمة الآب
الحقيقي والشعاع والحكمة الذي يشترك فيه كل ما هو مخلوق حينما يتقدَّس بالروح.]([26])

[فإذا
كانوا يتصوَّرون أن المخلِّص لم يكن ربًّا وملكاً قبل أن يتجسَّد ويصير
إنساناً ويحتمل الصليب، فإنهم بذلك يُحيون بدعة بولس الساموساطي. ولكن كما سبق أن
أوضحنا بالشواهد أنه رب وملك أبدي كما يقول داود: «مُلكك مُلك كل الدهور» (مز 13:
145)، فإنه واضح أنه، حتى وقبل أن يصير إنساناً، كان ملكاً ورباً أبدياً، لأنه
صورة وكلمة الآب، ولأن “الكلمة” هو رب وملك أبدي … أمَّا قول بطرس أنه صار
«ربًّا ومسيحاً» فإنما يتكلَّم عن ربوبيته علينا، حينما صار إنساناً وفدانا على
الصليب، فصار ربًّا وملكاً على الكل … أي اكتسبنا نحن لملكوته وربوبيته.]([27])

[فإذا
كان قد مُسح (بالروح القدس) فليس لكي يصير إلهاً، لأنه كان إلهاً حقا، ولا ليصير
ملكاً لأنه إذ هو صورة الله فهو يحكم أبدياً.]([28])

وهكذا
يضع أثناسيوس الأساس اللاهوتي القوي لعلاقة الابن بالله الآب، أنها علاقة صميمية
أبدية وأزلية، وعلى هذا الأساس يبني مفهوم علاقة المعرفة الذاتية والجوهرية التي
بين الابن والآب، ثم يتطرَّق إلى التجسُّد باعتباره مرحلة إعلان وتعريف بالله الآب
اضطلع بها الابن من نحو البشرية، من واقع علاقته الجوهرية والذاتية بالآب، وليس من
واقع إرساليته أو عمله الزمني المؤقَّت.

وهنا
يكشف أثناسيوس عن سر من أسرار التجسُّد الهامة جدًّا، وهو القصد المباشر الذي قصده
الله بتجسُّد ابنه، لكي نعرف الله معرفة حقيقية صميمية بواسطة ابنه المتجسِّد،
الذي هو وحده القادر أن ينقل لنا صورة حيَّة واقعية للآب، لأنه واحد معه؛ وذلك من
واقع تجسُّد الابن نفسه، أي بصورة مدركة ومحسوسة وملموسة للعقل البشري، وفي نفس
الوقت هذه الصورة التي ينقلها لنا عن الله هي من صميم جوهر الله غير المدرك وغير
المنظور «مَنْ رآني فقد رأى الآب».

على
أن عمل الابن في تعريفه وإعلانه للآب لن يتوقَّف أبداً بتوقُّف عملية الخلاص
والدينونة، فحتى بعد أن يُخضع المسيح كل شيء لله وتصير الخليقة كلها خاضعة لله،
ويسلِّم المسيح غنيمته التي اغتنمها لحساب الآب وهي خلاصنا وإخضاع أعداء الخلاص؛
فإن الابن سيظل صورة الآب الجوهرية وشعاعه المعلن عنه، كما كان كذلك سيكون إلى أبد
الآبدين. فالآب والابن والروح القدس الثالوث الأقدس لذات الله حقيقة دائمة قبل
إنشاء هذا العالم وبعد انتهاء هذا العالم.

 

رابعاً: العلاقة بين النور وبهاء (شعاع) النور

كأساس لإدراك حقيقة الله

 

كان
أثناسيوس كثير الشغف باستخدام العلاقة بين جوهر النور وبين الشعاع الخارج منه في
توصيل معرفة حقيقة الله إلينا، بواسطة “الكلمة” كلمة الله، الذي هو شعاع «وهو بهاء
مجده.» (عب 3: 1)

[إنه
هو وحده الذي يكشف ويعلن الآب.

كما يقول بولس الرسول: «نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب
يسوع المسيح» (رو 7: 1)،
لأن بهذا تتم البركة وتكون كاملة وفي أمان بسبب
عدم انقسام الابن عن الآب، ولأن النعمة المعطاة منهما هي واحدة! إذ بالرغم من أن
الآب هو معطيها، إلاَّ أنها تُعطى في الابن وبواسطته توهب، فالآب هو الذي يمدنا
بالنعمة من خلال الابن، وهذا يُفصح عنه بولس الرسول أيضاً بقوله في موضع آخر:
«أشكر إلهي في كل حين من جهتكم على نعمة الله المعطاة لكم في يسوع المسيح.»
(1كو 4: 1)

وهذا
يمكن للإنسان إدراكه في تشبيه النور والشعاع:

لأن
ما يجعله النور مضيئاً هو الذي يقع في دائرة الإشعاع، وإضاءة الإشعاع هي بعينها
إضاءة النور ذاته، كذلك تماماً حينما يُرى الابن يُرى الآب، لأن الابن هو شعاع
الآب، فالآب والابن هما واحد. (وهكذا يثبت أثناسيوس أن النور والشعاع الصادر منه
هما واحد دائماً، ثم يبني على التشبيه أن أتباع يسوع يعرفون الله غير المنظور، على
أساس أن ما يكشفه ويعلنه الشعاع هو هو حقيقة النور ذاته)([29]).

لذلك
فالإنسان يرى الله حينما يرى “الكلمة”، لأن “الكلمة” هو شعاع (بهاء) الله.
وهذا حق مطلق لأن للآب وجود واحد مع الابن «أنا والآب واحد» (يو 30: 10).]([30])

والقديس
أثناسيوس يأخذ معنى “الصورة لجوهر الآب” أو الشعاع بالنسبة للنور
أخذاً لاهوتياً عميقاً، معتبراً أن صورة الجوهر الإلهي ليست إلاَّ الله ذاته.

فعند
أثناسيوس “صورة الله هي الله”:

[إن
كلمة الله ليست مجرَّد نطقٍ، ولا هي صوت مقاطع تُسمع، ولا ابن الله يعني مجرَّد
أمره، ولكنه الشعاع للنور، كامل من كامل، وهو بكونه صورة الله، فهو الله؛ كما
قيل في الإنجيل: «والكلمة كان الله».

وكلمة
الإنسان لا تصلح أن تكون فعلاً أو عملاً، فالإنسان لا يعمل بالقول، بل يعمل بيديه،
لأن اليدين لهما وجود فعلي، أمَّا كلمة الإنسان فليس لها كيان وجودي فعلي: «أمَّا
كلمة الله (وهي كائنة) فتدوم إلى الأبد»، كما يقول بولس
الرسول: «حيَّة وفعَّالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح
والمفاصل والمخاخ، ومميِّزة أفكار القلب ونياته» (عب 12: 4).]([31])

[و“الكلمة”
باعتباره صورة الله ليس هو خارج جوهر الآب، ولكنه:

§ من ذات جوهر الآب ”Idioj tءj
osiaj

§ مساوي مع الآب ذmooعsioj.]([32])

وهكذا
يخرج أثناسيوس بمحصِّلة لاهوتية: لأن الكلمة هو شعاع وصورة وبهاء الآب، فإنه يكفي
للإنسان أن يتأمَّل في صفات “الكلمة”، ليعرف كلاًّ من الكلمة والآب([33]).

وحينما
نتطلَّع إلى الابن، فنحن نرى الآب، لأن الكلمة لا يختلف عن الآب، فهو صورة ذات
الآب أو صورة جوهر الآب([34]).

لذلك
يعتبر أثناسيوس أن كل إدراك ومعرفة يتحصَّل عليها الإنسان من الكلمة، تصبح هي
بعينها المعرفة الأصيلة والإدراك الحقيقي الذي للآب، لأن الكلمة هو الابن الوحيد
الذاتي للآب([35]).

[لأنه
حينما نشترك في الابن ذاته، يُقال إننا نشترك في الله، وهذا ما قاله بطرس:
«حتى تصيروا شركاء الطبيعة الإلهية»، كما يقول الرسول بولس أيضاً: «ألا تعلمون
أنكم هيكل الله» (1كو 16: 3)، «أنتم هيكل الله الحي» (2كو 16: 6)، وإذ نتطلَّع إلى
الابن نرى الآب، لأن فكر ومعرفة الابن هي معرفة الآب، لأنه ابنه الذاتي الذي من
جوهره …

وأنه
حكمة الله وكلمته، الذي فيه وبواسطته خُلقت كل الأشياء، وهو بهاء نوره، الذي كل
الأشياء تستنير به، والذي يعلن الآب لمن يشاء، وهو رسمه وصورته الذي حينما نتأمَّل
فيه نتأمَّل في الآب وندركه: «لأنه هو والآب واحد»، فكل مَنْ يتطلَّع إليه يتطلَّع
إلى الآب، وهو المسيح الذي فيه تمَّ افتداء كل
الخليقة، وبه صُنعت الخليقة من جديد (على
صورته).]([36])

[وهكذا
تمتلئ الأرض كلها من معرفته، لأن معرفة الآب تتم من خلال الابن، ومعرفة الابن التي
هي من الآب هما معرفة واحدة ومطابقة.

والآب
يُسَرُّ بالابن، وكذلك الابن أيضاً يُسرُّ بالآب (أم 30: 8). والآب إنما يُسرُّ
بالابن، لأنه يرى فيه صورته الذي هو كلمته.

ولكن
وإن كان الله سُرَّ أيضاً بالإنسان عندما خلقه وأكمل خلقة العالم، كما هو أيضاً
مكتوب في سفر الأمثال (18: 3 السبعينية)، ليس كأن السرور أُضيف إلى الله، ولكن
برؤيته الأعمال التي أُكملت على صورته، فسرور الله دائماً يتجه نحو صورته.

وفيما
تكون مسرَّة الابن، إلاَّ بأن يرى نفسه في الآب؟ وأليس هذا هو المكتوب: «من رآني
فقد رآى الآب»، «وأنا في الآب والآب فيَّ».]([37])

وعلى
ضوء اللاهوت عند أثناسيوس، الذي يجمع معاً معرفة الآب ومعرفة الابن في وحدانية
كيانية، فالمعرفة الواحدة للآب والابن أساسها وحدانية الجوهر والذات؛ والعكس صحيح،
أي أن الوحدانية في الجوهر الكياني الذاتي لله يُنشئ حتماً وحدانية في المعرفة([38])،
كالنور مع الشعاع، والجوهر مع الصورة، والعقل مع الكلمة؛ هذه الوحدانية في المعرفة
تنير أمامنا مفهوم بولس الرسول في قوله: «ربٌّ واحِدٌ، إيمانٌ واحِدٌ، معموديةٌ
واحِدةٌ، إلهٌ وآبٌ واحِدٌ للكلِّ، الذي على الكل وبالكل وفي كلكم.» (أف 4: 5و6)

فالله
في المسيح والمسيح في الله وجود واحد جوهري وذاتي معاً، هذا الوجود الواحد قائم
على أساس وحدة الثالوث الذي نؤمن به، إلهاً واحداً، ونعتمد له، وإن كان «باسم الآب
والابن والروح القدس» فهي معمودية واحدة لإله واحد لا تتكرر. وهنا ندرك القيمة الهائلة
التي نخرج بها من تعليم أثناسيوس عن المعرفة الواحدة المتطابقة بين الابن والآب
التي نتلقَّنها من الروح القدس عن الابن، فنبلغ الإيمان الواحد بالإله الواحد الذي
يؤهِّلنا للمعمودية الواحدة.

أي
أن تشديد أثناسيوس على وحدة التطابق في المعرفة التي نتلقَّنها بالروح القدس من
الابن عن الآب ومن الآب عن الابن، التي يؤكِّدها إنجيل يوحنا على مدى أصحاحاته، هي
أصلاً قائمة على أساس وحدة الجوهر، أي وحدة الوجود الذاتي لله في أب وابن، وكما
أنه لا توجد ثنائية في جوهر الله أو في ذاته المفردة، كونه أباً وابناً، كذلك
تماماً لا توجد ثنائية في معرفة الابن وإدراكه وفي معرفة الآب وإدراكه، فالمعرفة
الواحدة منبعها الجوهر الواحد والذات الواحدة لله. ولكن كان يستحيل علينا إدراك
الآب ومعرفته وهو الإله المحتجب «حقًّا أنت إله محتجب يا إله إسرائيل» (إش 15:
45)، الذي لم يره أحد قط ولا يستطيع أن يعرفه أحد قط، إلاَّ بتجسُّد الابن، الذي
هو في الآب ومع الآب وفي حضن الآب، فهو الذي خبَّرنا عن الآب: «لو كنتم قد
عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه، قال له فيلبُّس يا سيد
أرنا الآب وكفانا (رؤية الآب هي منتهى كمال سرور الإنسان)، قال له يسوع أنا معكم
زماناً هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟ الذي رآني فقد رأى الآب، فكيف تقول أنت أرنا
الآب؟ ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيَّ، الكلام (المعرفة) الذي أُكلِّمكم به
لست أتكلَّم به من نفسي (المسيح ليست له ذات منفصلة عن ذات الآب)، لكن الآب الحال فيَّ
هو يعمل الأعمال (بي)، صدِّقوني أني أنا في الآب والآب فيَّ.» (يو 14: 711)

[كون
الابن المتجسِّد جلس عن يمين الآب، فماذا يشير هذا إلاَّ إلى أصالة بنوَّة المسيح
لله؟ وأن لاهوت الآب هو لاهوت الابن، فلكون الابن يحكم ويملك في ملكوت أبيه، لذلك
يجلس على نفس عرش الآب، ويُرى بلاهوت الآب، لذلك فإن “الكلمة” هو الله وكل
مَنْ يرى الابن يرى الآب، ولهذا فلا يوجد إلاَّ إله واحد.

والابن المتجسِّد إذ يجلس عن
اليمين، فليس هذا معناه أنه يضع أباه شماله، ولكن يعني أن كل ما هو للآب هو أيضاً
للابن حسب القول: «كل ما هو للآب فهو لي»، وهكذا فالابن رغم أنه قيل إنه يجلس عن
اليمين فإنه يُرى أيضاً الآب عن اليمين، هذا يكشف ويوضِّح لنا بالأكثر أن الابن في
الآب والآب في الابن، لأنه إذ يكون الآب عن اليمين يكون الابن أيضاً عن اليمين،
فالابن حينما يجلس عن يمين الآب يكون الآب في الابن.
]([39])

يبدو
هنا أن معنى كلمة “اليمين” هو المساواة في الكرامة والمجد.

وهنا
يبلغ أثناسيوس ذروة السمو في توضيح ماهية اللاهوت، فالله مهما تشبَّه بالإنسان،
يظل كيانه فائقاً جدًّا عن مفهوم ما للإنسان من جلوس وقيام ويمين وشمال …
وبالتالي كل الأوصاف الجوهرية من أبوَّة وبنوَّة، فالله مُدرك كامل يُدرك ولكن لا
يُدرَك كماله … والآب والابن بالرغم من كونهما أقنومين، إلاَّ أنه بسبب جوهرهما
الواحد فلا ثنائية في كيانهما إطلاقاً، فالتساوي المطلق بينهما لا يجعل الثنائية
العددية قائمة بينهما على الإطلاق. وهذا هو مفهوم “الصورة الجوهرية” في اللاهوت: “فالآب
هو الجوهر غير المنظور للابن والابن هو الجوهر المنظور للآب”
كقول القديس
إيرينيئوس (ضد الهراطقة 5: 4).

وهذا
القول أعاد أثناسيوس صياغته هكذا:

[لأنه
صار إنساناً لكي فيه نصير إلهاً، وظهر في الجسد ليستعلن الآب غير المنظور.]([40])

ومرَّة
أخرى ننبِّه ذهن القارئ أن التساوي المطلق بين شيئين لا يجعلهما اثنين بل
يجعلهما واحداً، وهذا مستحيل في الأمور المخلوقة، إذ لا يوجد في الخليقة كلها
تساوي مطلق بين اثنين، أمَّا في الله فالتساوي المطلق صفة جوهرية في الثالوث،
ويشمل كلية الوجود، وكلية القدرة (بانتوكراتور)، وكلية المعرفة، وكلية الصلاح،
للآب والابن والروح القدس: لذلك نقول: “إله واحد”. وهكذا فالتساوي المطلق بهذه
الصورة الفائقة هو حقيقة الآب والابن، التي تجعل من الآب والابن ذاتاً واحدة،
كياناً واحداً جوهرياً، تتميَّز فيه الأبوَّة والبنوَّة فقط من داخل التساوي
المطلق، ليبقى الكيان أي الجوهر واحداً، وفي الذات الواحدة لله المتساوية والمطلقة
لا يمكن أن يُرى اختلاف أو انقسام أو تجزُّء، فإن رئي الابن ولم يُرَ الآب، فلأن
البنوَّة الذاتية التي في الله هي التي لبست جسداً ظاهراً دون الآب، فظهر الله
الابن متجسِّداً «الله ظهر في الجسد»، وإن رُئي الابن جالساً عن يمين الآب، فهذا
بسبب الجسد الذي اتخذه الابن لنفسه، فصار الابن المتجسِّد عن يمين الآب، مع أنه في
الآب والآب فيه وهما واحد.

لذلك
يشدِّد أثناسيوس في رده على الأريوسيين، كما كان يرد على الوثنيين، أن تجسُّد الابن
كان الواسطة الوحيدة لمعرفة الآب، لأن كل ما علَّم به وكل ما قاله المسيح هو هو
لمعرفة الآب، وكل قوة وعمل عمله المسيح، كان توضيحاً وتعبيراً عن قوة وعمل الآب([41]).

في
كل تعاليمه، لم يحِدْ أثناسيوس، ولا قيد شعرة، عن التقليد الثابت الذي استلمته
الكنيسة من الرب مباشرة، عن الرؤية الثابتة الكاملة لله الواحد في الثالوث
المتساوي في كل شيء:

[لنتأمَّل
في تقليد الكنيسة الجامعة وتعاليمها وإيمانها منذ البدء، التي أعطاها الرب وكرز
بها الرسل وحفظها الآباء، على هذه تأسَّست الكنيسة، ومن يسقط منها لا يُحسب
مسيحياً، ولا يُدعى مسيحياً بعد. إذن، فهناك ثالوث مقدَّس كامل، معترف به أنه
الله الواحد، الآب والابن والروح القدس،
لا يختلط معه شيء غريب أو خارجي، لا
يتكوَّن من واحد يخلق وواحد يبدع، بل الثالوث (الكل) خالق متساوي، ومن جهة الطبيعة
غير قابل للتجزئة، نشاط واحد: فالآب يعمل كل الأشياء بالكلمة في الروح القدس، هكذا
تقوم الوحدة في الثالوث، وهكذا يُنادَى بإله واحد في الكنيسة «الذي على الكل
وبالكل وفي الكل».]([42])

وإذا
عاد القارئ الباحث إلى التقليد الكنسي المبكِّر، نجد في دفاع كليمندس الروماني في
رسالته ثبتاً لهذه النظرية اللاهوتية الحيَّة التي تحمل في طيَّاتها كل حقيقة
لاهوت الكلمة وقيمة التجسُّد، إذ يقول كليمندس: [إن غياب لاهوت المسيح يقابله
بالتالي فقدان كل معرفة عن الآب.]
([43])

وأثناسيوس
كان حريصاً كل الحرص في تعليمه اللاهوتي الطويل والعريض أن يجمع التقليد الكنسي في
اختصار وفي قوة ووضوح، ليعلن أن سبب التجسُّد ليس هو لاستعلان الآب وحسب، بل
ولتكميل الخلاص، إنما في رباط واحد محكم، بمعنى أنه يستحيل تكميل رسالة الخلاص
إلاَّ باستعلان الآب، كما يستحيل استعلان الآب إلاَّ في عمق الخلاص.
وهنا يدخل
أقنوم الروح القدس كأقنوم المعرفة الإلهية، أقنوم كشف أسرار اللاهوت «الروح
يفحص كل شيء حتى أعماق الله»، «روح الحق الذي يعرِّفكم بكل شيء»، «يعرِّفكم كل
الحق».

وهكذا
فإن نظرية أثناسيوس في المعرفة الإلهية تبدو مترابطة، وليست لمجرَّد المعرفة، بل
لهدف الخلاص. فالابن تجسَّد ليعلن الآب، والآب يجذب الإنسان سرًّا لمعرفة
الخلاص الذي في المسيح، بواسطة الروح القدس. لذلك أصبحت مقولة الإيمان الذي
للخلاص، للعماد، هي بعينها خلاصة اللاهوت «عمِّدوهم باسم الآب والابن والروح
القدس».

 

خامساً: الآب يعلن الابن (اللوغس)

 

+ «لا يقدر أحد أن يأتي إليَّ إن لم يُعطَ من أبي.»
(يو 65: 6)

+ «أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لي الآب الذي أرسلني
(يو 18: 8)

+
«لا يقدر أحد أن يُقبل إليَّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني.» (يو
44: 6)

+ «أبي هو الذي يمجدني الذي تقولون أنتم إنه إلهكم.»
(يو 54: 8)

يشدِّد
أثناسيوس على أن قول المسيح «كل شيء قد دُفع إليَّ من أبي، وليس أحد يعرف الابن
إلاَّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومَنْ أراد الابن أن يعلن له
» (مت
27: 11)، هذا يعني أنه قد أُعطي للإنسان أن يعرف الآب بواسطة الابن، ولكن بواسطة
الابن وحده وبمحض مشيئته يُعلَن الآب، ولكن لمن؟ يشدِّد أثناسيوس أن كشف سر الآب
يستحيل أن يمنحه المسيح للإنسان إلاَّ وهو في حالة تناسب إدراك أسرار اللاهوت، أي
يكون مهيَّئاً بالروح، مستعداً، وطاهراً نقياً بالقلب. وهذا يقوله أثناسيوس في
شرحه على سفر المزامير وخاصة على مزمور 6: 144.

وعلى
هذا الأساس يشرح أثناسيوس قول إنجيل يوحنا “جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله”، قائلاً:
إنهم لم يقبلوه لأنهم لم يجوزوا حالة التطهير الداخلي الضرورية التي تؤهِّلهم إلى
حالة الاستعداد الروحي لقبول المسيح!!

فالمسيح
لا يمكن أن يعلن صورة ناقصة أو مشوَّهة للآب، بل لابد أن يعطي ويسلِّم صورة كاملة
للآب، يعطيها ويصوِّرها في نفسه بنفسه، لتكون مطابقة تماماً للآب، ولكن يستحيل على
الإنسان أن يطَّلع على هذه الصورة الكاملة التي للآب في المسيح، إلاَّ إذا تأهَّل
أولاً أن يرى المسيح كما هو فينطبق نور وجه المسيح على قلب الإنسان، فينيره كما
تنطبق الصورة على أصلها.

[وبالأكثر
يلزم أن يرتفع ويتلاشى من الوسط أي حائل جسدي مادي، إذا بدأنا أن ندخل في هذا
الموضوع، بل ويلزم أن نتسامى ونتعالى بأي تصوُّر حسِّي، نعم يتحتَّم علينا هذا لكي
ندرك ونفهم العلاقة الأصيلة بين الابن والآب حتى ندخل إليها بمعرفة طاهرة وبعقل
نقي، حتى نبلغ سر العلاقة الخاصة بين الكلمة اللوغس والله، تماماً. كما نتحقَّق من
التطابق الكلِّي غير المتغيِّر بين الشعاع والنور.
]([44])

ويعود
أثناسيوس يستقصي مبدأ تعريف وإعلان الكلمة اللوغس للآب، بل تعريف وإعلان الآب
لنفسه بواسطة الكلمة أيضاً، مبيِّناً أنه كان منذ بدء خلقة الإنسان منذ بدء
العهد القديم،
حيث “كلمة الله” كان، ولا يزال، الواسطة لاستعلان الآب بصفة
دائمة وأصيلة وطبيعية، لا تتأثَّر بالعوامل الزمانية، ولا تقل أو تتغيَّر، لأن
“الكلمة” هو الصورة الجوهرية الناطقة للآب دائماً منذ الأزل وإلى الأبد، المدرَكة
في الخليقة ككل، والمدرَكة في الإنسان بصفة خاصة «الله، بعد ما كلَّم الآباءِ
بالأنبياءِ قديماً، بأنواعٍ وطُرُقٍ كثيرةٍ، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في
ابنه، الذي جعله وارثاً لكل شيءٍ، الذي به أيضاً عَمِلَ العالَمِينَ، الذي، وهو
بهاءُ مجدِهِ، ورسمُ جوهرهِ، وحاملٌ كُلَّ الأشياءِ بكلمة قدرتهِ.» (عب 1: 13)

وفي
موضع آخر يقول:

[إن
“حكمة” الله الذي تجسَّد في الخليقة، التي هي صورته، أعلن بذلك نفسه أولاً،
ثم من خلال ذاته أعلن أباه، ثم بعد ذلك  إذ
هو “كلمة الله” الذي صار جسداً كما يقول يوحنا
  فبعد أن
أباد الموت (بقيامته) وخلَّص الجنس البشري، فإنه أعلن بذلك نفسه أكثر، ومن خلال
إعلانه لنفسه أعلن عن الآب قائلاً: «هب لهم أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك
ويسوع المسيح الذي أرسلته»، من أجل هذا امتلأت الأرض بمعرفة الله في المسيح لأن
معرفة الآب في الابن، ومعرفة الابن من الآب، هي معرفة واحدة بذاتها.

لأن
الآب يسرُّ بالابن، وفي نفس هذه المسرَّة يفرح الابن بالآب «لمَّا ثبَّت
السموات كنت هناك أنا، لمَّا رسم دائرة على وجه الغمر. لمَّا أثبت السُّحُبَ من
فوق لمَّا تشدَّدت ينابيع الغمر. لمَّا وضع للبحر حدَّه فلا تتعدَّى المياه تُخمهُ
لمَّا رسم أُسس الأرض كنت عنده صانعاً وكنت كل يومٍ لذَّته فَرِحَةً دائماً
قُدَّامه، فَرِحَةً في مسكونةِ أرضِهِ ولذَّاتي مع بني آدم.
» (أم 8: 27و31).]([45])

لذلك
يستشهد أيضاً أثناسيوس بما يقوله بولس الرسول من جهة أن صورة الابن المطبوعة في
الخليقة هي صورة ناطقة عقلياً بوجود الآب نفسه وحضرته وصفاته ولاهوته هكذا: «لأن
غضب الله معلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم، إذ
معرفة الله ظاهرة فيهم،
لأن الله (الآب) أظهرها لهم (في صورة ابنه) لأن أموره
غير المنظورة (جوهره) تُرى منذ خلق العالم (في عمل ابنه) مُدركة بالمصنوعات قدرته
السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر.» (رو 1: 1820)

ثم
يعود أثناسيوس ويتعرَّض للعلاقة الجوهرية القائمة بين الآب والابن، على مستوى الحب
والفرح والمسرَّة بينهما، ليثبت أن الأُبوَّة والبنوَّة في ذات الله الواحد ليست
مجرَّد أسماء أو ظهورات أو وجوه يلغي الواحد منها الآخر، فيقول:

[وهذا
يثبت أن الابن ليس غريباً عن ذات جوهر الآب الخاص، لأنه ليس من أجلنا وُجِد الابن
كما يدَّعي عديمو الدين، ولا هو خُلق من لا شيء، لأن
الله لا يخلق لنفسه مسرَّة خارجاً عن ذاته، ولكن الكلمات (أم 8: 29و30) تشهد
وتوضِّح أن الابن كالآب وهو خاصته، وهل يمكن أن يكون الآب وقتاً ما بدون مسرَّة
خاصة؟ ولكن إن كان الآب حقا هو دائماً في مسرَّة، فلابد إذن أن مصدر مسرته كان
دائماً في ابنه الذي فيه سروره، (الاكتفاء في الذات الإلهية).

وفي
مَنْ تكون يا تُرى مسرَّة
الله
الآب؟ إلاَّ عندما يرى ذاته
تماماً في
صورته الذي هو  كلمته 
(الفعَّالة بإرادته حسب كل مسرَّته)؟

وبالرغم
من أن الله سُرَّ أيضاً في بني الإنسان بعد أن أكمل خلقة العالم، إلاَّ أن القول
بهذه المسرَّة أيضاً له أصالته من جهة المعنى، فحتى هذه المسرَّة التي في بني آدم
لم تكن مسرَّة مُضافة إليه، ولكن بسبب أنه رأى الأعمال صُنعت على صورته الخاصة،
فحتى هذه المسرَّة التي في الإنسان هي بسبب وعلى أساس ما له أي صورته.

وأيضاً
فيم تكون مسرَّة الابن إلاَّ حينما يرى نفسه في الآب؟ لأنه هكذا قيل بالحرف الواحد
«كل مَنْ رآني فقد رأى الآب»، «وأنا في الآب والآب فيَّ».]([46])

وهنا لا يسعنا إلاَّ أن نكشف سرًّا عميقاً من أسرار
أثناسيوس هذا العملاق اللاهوتي، إذ يضمر أثناسيوس ويكشف معاً أن معرفتنا لله الآب
ولله الابن ليست هي المعرفة التي تقوم على النظريات أو المنطق العقلاني، كمقولات
تختص بالفكر وحسب؛ بل هي تقوم على أساس الحب والمسرَّة والفرح والتقوى. فالمعرفة
القائمة أصلاً في جوهر الله بين الآب والابن هي معرفة قائمة على أعلى مستوى الذات
الكاملة المتكاملة من التعاطف والحب والسرور، هذه الأمور العجيبة التي تفوق كل
إدراك الإنسان وهذه كانت قائمة قبل الخلق وأثناء الخلق وبعد الخلق وحتى إلى الآن،
وهي التي نستمد لذواتنا منها كل المواهب الإلهية عن طريق الروح القدس: فرح، سلام،
لطف، وداعة، تعفُّف … إلخ

هكذا
وبالتالي يوحي إلينا هذا القديس العملاق أن معرفتنا لسر العلاقة التي تربط الابن
بالآب هي مصدر غنى البشرية الفائق ومصدر تكامل الشخصية الإنسانية من جهة أعلى
القيم الأخلاقية والسلوكية، التي لا تتم إلاَّ في هذا المجال عينه، أي مجال الحب
الإلهي.

فمن
خلال الاستعلان الإلهي بالصلاة وبالسرور المفرط يتم انكشاف سر الدالة التي تربط
الآب بالابن «الآب يحب الابن»، وتعلنه
لنا بسكب هذه المعطيات في أعماق كيان
الإنسان بالروح القدس. وهذا يكون بسبب أن “حكمة” الله وهو “كلمته” الجوهرية
تكون قد سكنت فكرنا وضميرنا واتحدت بكل كياننا، فأدخلنا سرًّا داخل دائرة المعرفة
الخاصة جدًّا لله: «أمَّا نحن فلنا فكر المسيح»، التي تقوم بحسب جوهرها على هذا
الحب. وهذا هو الذي يقصده بولس الرسول بقوله إن «الروح (الذي أخذناه) يفحص كل شيء
(لنا) حتى أعماق الله»، وما هو عمق الله إلاَّ هذه المعرفة القائمة بين الآب
والابن على أساس هذا الحب وهذا السرور؟ وما قيمة أن الروح يفحص لنا أعماق الله
إلاَّ لكي يعلن في أعماقنا صورة حيَّة لقوة الروابط؟

وأثناسيوس
يعتبر جميع الأسفار المقدسة إنما تقدِّم لنا حلقة متكاملة من استعلانات الله
الآب بواسطة ظهورات أو إعلان الابن التي تحمل كل مسرَّة الآب وإعلاناته ثم
تجسُّده،
الذي عبَّر عنه يوحنا الرسول أنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه
الوحيد، بمعنى أنه لمَّا أراد الله الآب أن يعلن عن حقيقة ذاته وحبه الأبوي من نحو
العالم، لم يجد أمامه إلاَّ ابنه لكي يعلن فيه هذا الحب، فتجسُّد الابن كان هنا
قمة مشيئة الآب في الإعلان عن نفسه وعن حبه وعن سر ابنه.

وأثناسيوس
يستخدم نفس التساوي في الإعلان بين الآب والابن بهذه الصورة الفائقة في الحب
المتبادل أساساً وبرهاناً معاً للتساوي الديناميكي المطلق في الجوهر الإلهي،
معتمداً اعتماداً قوياً على قول الرب: «عمِّدوهم باسم الآب والابن والروح
القدس»،
لأنه من خلال اسم الآب يُستعلن لنا ونفوز باسم الابن، وباسم الابن
يُستعلن لنا ونفوز باسم الروح القدس: حضرة واحدة للإله الواحد الكامل في الثالوث
المتساوي المطلق. الآب في الابن في الروح القدس: هذا السر الذي كان قائماً في الله
منذ الأزل، غير معروف ولا مُدرَك حتى استُعلن لنا بالتجسُّد ونلناه واشتركنا فيه
بالإيمان والعماد، أي بالاستنارة، فصار لنا أعظم مصدر للحب والسرور وبهجة الخلاص
حيث انتهت معرفتنا لسر الثالوث المقدَّس إلى شركة حب وحياة فرح للآب في ابنه، هذه
هي عظمة التعليم اللاهوتي عند أثناسيوس، كيف انتقل بالجدل والمناظرة والمقارنة
الجافة إلى الدخول الحقيقي والعملي في سر الشركة المفرحة والحياة الأبدية الدسمة
بالثالوث وفي الثالوث.

[لذلك
فنحن، من جهة التقوى والدقة في التحديد والوصف، علينا أن نتعرَّف على
الله من الابن،
داعين إيَّاه “الآب” أكثر جدًّا مما نصفه وندعوه من
جهة أعماله وبالنسبة لصفات الخلق، كأن ندعوه “غير المخلوق”
(مع بقية الأوصاف
التجريدية: غير المنظور غير المحوي غير المدرك … إلخ)؛ لأن مثل هذا اللقب لا
يزيدنا من معرفة الله (في ذاته) شيئاً بل يدلنا إليه بالنسبة إلى أعماله وحسب. في
حين وصف الله بالآب يكشف لنا عن عظمة ما يتضمَّنه من وجود آخر فيه هو “الكلمة”
الذي يفوق كل المخلوقات.

وهكذا
وبما أن كلمة الله يفوق كافة المخلوقات، أصبح وصف الله ب“الآب” يرتفع بمفهوم الله
بوصف يفوق كل الخلائق طُرًّا أكثر كثيراً مما يوصف بأن الله “غير مخلوق” وحسب!!
لذلك نبَّه المسيح أذهاننا حينما نصلِّي إلى الله لكي نخاطبه «أبانا الذي في
السموات»، وتحدَّدت إرادة الله أن يكون مجمل إيماننا وعقيدتنا ملزَماً أن يحمل نفس
هذا الطابع، وذلك عندما أمرنا أن نعتمد لا باسم “الله غير المخلوق” بل
«باسم الآب والابن والروح القدس»، لأنه بهذا الانفتاح وهذه الاستنارة نحصل أن نكون
في الحال أبناء لله، مع كوننا من خليقته، مستخدمين كلمة “الآب” لأنفسنا
بسبب اعترافنا “بالكلمة” الذي هو في الآب نفسه.]([47])

لذلك
يقوم التعليم اللاهوتي عند أثناسيوس في تبادل المعرفة، أي التعريف بين الأقانيم،
على أساس أنه يستحيل التحدُّث عن “الكلمة” بمفرده، أي اللوغس، إذا اقتصرنا في
حديثنا على أعمال الله الآب وحسب، لأن كل عمل يعمله المسيح هو وسيلة موجَّهة نحو
تعريفنا بالثالوث جملة، وبالأخص الآب، كالأصل والمنبع. وهذا الشرح نجده مئات
المرَّات على مدى كل كتابات أثناسيوس حتى صارت العقيدة عبارة عن تسبحة يُختم بها
كل حديث ويدور حولها كل تفسير: «كل شيء يعمله الآب بالابن في الروح القدس».

نص
الفقرة 31 من الرسالة الأولى لأثناسيوس عن الروح القدس:

[هذه
الحقيقة أيضاً تبيِّن أن عمل الثالوث واحد، فالرسول لا يعني أن ما يُعطَى يُعطى
بالتجزئة وعلى حدة من كل أقنوم، بل أن ما يُعطَى يُعطَى في الثالوث، وأن كل ما
يُعطَى هو من الله الواحد. إذاً فذاك (الروح القدس) الذي ليس هو بمخلوق، بل هو
واحد مع الابن كما أن الابن واحد مع الآب، ذاك الذي هو ممجَّد مع الآب والابن،
المعترَف به بأنه إله مع الكلمة، الذي يعمل الأعمال التي يعملها الآب بالابن
ألا يُعتبر الشخص مجرماً إذا دعاه مخلوقاً، وأنه يجدِّف تجديفاً مباشراً على الابن
نفسه؟ لأنه لا يوجد شيء لم يُبدَع ولم يُعمَل بالابن في الروح القدس. هذا ما
ترنَّم به المزمور: «بكلمة الرب صُنعت السماوات، وبروح فيه كل
جنودها» (مز 6: 33)، وكذلك «يُرسل كلمته فيذيبها. يهب بروحه فتسيل
المياه» (مز 18: 147). «ونحن قد تبرَّرنا» كما يقول الرسول
«باسم الرب يسوع وبروح إلهنا» (1كو 11: 6)، لأن الروح غير منفصل عن الكلمة.
فعندما يقول المسيح «إليه نأتي (الآب وأنا)» (يو 23: 14)، فإن الروح يأتي معهما
ويسكن فينا بكيفية لا تقل عن الابن، كما كتب بولس إلى أهل أفسس «لكي يعطيكم بحسب
غنى مجده، أن تتأيَّدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن ليحل المسيح بالإيمان في
قلوبكم» (16: 3و17)، وإن كان الابن فينا فالآب فينا أيضاً، كما يقول الابن: «أنا
في الآب والآب فيَّ» (يو 10: 14)، لذلك فعندما يكون الكلمة في الأنبياء فإنهم
يتنبَّأون في الروح القدس، فإذا قال الكتاب: «كانت كلمة الرب» (إر 2: 1، مي 1: 1)
إلى هذا النبي، كان معنى هذا أنه تنبَّأ في الروح القدس. ورد في زكريا: «لكن
اقبلوا كلامي وفرائضي التي أوصيت بها عبيدي الأنبياء بروحي» (6: 1 مترجمة من
النص)، وعندما وبَّخ النبي الشعب بعد ذلك بقليل قال: «جعلوا قلبهم ماساً لئلاَّ
يسمعوا الشريعة والكلام الذي أرسله رب الجنود بروحه عن يد الأنبياء الأولين» (12:
7)، وقال بطرس في سفر الأعمال: «أيها الراجال الإخوة كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب
الذي سبق الروح القدس فقاله» (أع 16: 1)، وصرخ الرسل معاً قائلين: «أيها السيد أنت
هو الإله الصانع السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، القائل (بالروح القدس) بفم
داود فتاك …» (أع 4: 24و25)، وعندما كان بولس في رومية تكلَّم بجسارة إلى اليهود
الذين أتوا إليه قائلاً: «حسناً كلَّم الروح القدس آباءنا بإشعياء النبي» (أع 25: 28)،
وورد في الرسالة إلى تيموثاوس «الروح يقول صريحاً إنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم
عن الإيمان تابعين أرواحاً مضلَّة.» (1تي 1: 4)

وهكذا
نرى أنه عندما يُقال إن الروح القدس في أي واحد فإن هذا يعني أن الكلمة حالٌّ فيه
مانحاً الروح القدس. عندما تمَّت النبوَّة: «أني أسكب روحي على كل بشر» (يؤ 28: 2)
قال بولس: «بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح» (في 19: 1). وكتب إلى أهل كورنثوس
قائلاً: «إذ أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلِّم فيَّ» (2كو 3: 13). وإن كان الذي
تكلَّم فيه هو المسيح، فواضح أن الروح الذي تكلَّم فيه هو روح المسيح، لأنه عندما
كان المسيح يتكلَّم فيه قال مرَّة أخرى في سفر الأعمال: «والآن ها أنا ذاهب إلى
أُورشليم مقيَّداً بالروح لا أعلم ماذا يصادفني هناك، غير أن الروح القدس يشهد في
كل مدينة قائلاً إن وُثُقاً وشدائد تنتظرني.» (أع 22: 20و23)

لذلك
فإن قال القديسون: «هكذا قال الرب» (انظر مثلاً عاموس 3: 1) فإنهم إنما يتكلَّمون
بالروح القدس لا سواه. وإن تكلَّموا بالروح القدس تكلَّموا بأمور الروح في المسيح.
وعندما قال أغابوس في سفر الأعمال: «هذا يقوله الروح القدس» (11: 21)، لم يكن ذلك
سوى أن الروح القدس منحه بالكلمة الذي أتى إليه القوة
ليتكلَّم ويشهد، بما كان ينتظر بولس في أُورشليم. وهكذا أيضاً عندما شهد الروح
القدس لبولس، كان المسيح يتكلَّم فيه كما قدَّمنا، وهكذا كانت الشهادة التي أتت من
الروح تنتمي إلى الكلمة. وعندما افتقد الكلمة العذراء القديسة مريم، أتى الروح
القدس إليها معه، وصاغ الكلمة الجسد بالروح القدس وشكَّله لذاته، إذ أراد أن يُتحد
كل البشرية بالله ويُحضرها إليه بواسطة نفسه، وأن يصالح به الكل عاملاً الصلح …
سواء كان ما على الأرض أم ما في السموات. (كو 20: 1)]([48])

وهكذا
سيظل الآب مستعلناً دائماً “بالكلمة” باعتبار الكلمة اللوغس
مصدر الإلهام والخلاص المباشر للإنسان، وفي الإنجيل فإن الابن يظهر بوضوح
مستعلَناً في الخلق «به خلق العالمين»، «كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان،
فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس»، «الكل به وله قد خُلق.» (كو 16: 1، يو
3: 1و4، عب 2: 1)

كما
أن الآب يستعلن بوضوح في الفداء: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي
لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 15: 3). «هذه هي الحياة
الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو 3: 17)،
“عرفتهم اسمك وسأُعرِّفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم.” (يو
26: 17)

وهكذا
يبدو واضحاً جدًّا أنه لا يوجد أي تعارض بين استعلان الابن في الخلق واستعلان الآب
في الفداء لأن الخلق والفداء عملان متكاملان، وكل استعلان يوصِّل إلى الآخر، وذلك
يعود به دائماً القديس أثناسيوس لسر الوحدة الكيانية الجوهرية بين الآب والابن.

غير
أن أثناسيوس بحسب الإنجيل يجعل دائماً استعلان الابن هو
الواسطة الأُولى بالدرجة الأُولى لمعرفة الآب،
بالرغم من أن الآب هو الذي يعلن الابن سرًّا للإنسان «لا يقدر أحد أن يأتي إليَّ إن
لم يجتذبه الآب»، «هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا»، غير أن في إعلان الآب للابن
يكمن بالدرجة الأُولى إعلان الآب نفسه، وهذا يتضمَّنه أحد أسرار اللاهوت الدقيقة،
إذ في اللحظة التي ينفتح فيها قلب الإنسان على الله (الآب)، فإنه ينجذب في الحال
نحو الابن، فيظل استعلان الآب متفوقاً من جهة الآنيَّة الزمنية!!
«قال لهم
وأنتم مَنْ تقولون إني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس وقال أنت هو المسيح ابن الله الحي،
فأجاب يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن
أبي الذي في السموات.
» (مت 16: 1517)

ولكن بإدراك الفداء الذي أكمله الآب في ابنه، يتم الانجذاب
إليه، فيبدأ الآب يأخذ تعريفه الكامل لدى أعماق الإنسان من جهة هذا الحب الغامر
السبَّاق: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد».

وواضح
جدًّا، من كل دفاع أثناسيوس، أن تجسُّد الابن كان بقصد إعلان الآب، ولكن
تأملنا المستمر في ما أكمله المسيح بالجسد من فداء وخلاص هو وحده الذي يعطينا
الصورة الكاملة عن الآب وعن حبه نحونا وإدراك مشيئته فينا وقصده من خلقتنا،

تلك المشيئة المباركة والقصد المبارك الذي تسجَّلت فيه أسماؤنا، إذ اختارنا في
المسيح من قبل إنشاء العالم. وهنا يوصِّلنا الوحي المقدَّس إلى أن معرفة
الآب لنا هي سابقة ليس فقط على ميلادنا بالجسد أو بالروح بل وعلى خلقة العالم كله
فهي معرفة الحب وهذا بالتالي يوضِّح أن معرفتنا للآب بنفس مضمون
هذا الحب يلزم أن تأخذ بالنهاية وضعها المناسب كما هي من نحونا «ليكون فيهم الحب
الذي أحببتني به»،
حيث تتلاحم المعرفة بالحب بالاتحاد.

ويستخدم
أثناسيوس هذا التبادل المتصل جدًّا والمتشابك جدًّا بين تعريف الآب للابن في
الخليقة وتعريف الابن للآب في الفداء، واسطة لإدراك عمق الاتحاد القائم في
الثالوث!! فاستحالة إدراك الابن بدون الآب واستحالة إدراك الآب بدون الابن، هذا
الإدراك القائم في صميم اتحاد خلقتنا وفدائنا وخلاصنا وحياتنا يوضِّح مدى استحالة
التفريق أو التقسيم في أقانيم الثالوث!!

[لأن
مَنْ يؤمن بالآب فإنه يعرف الابن
في الآب، وهو لا يعرف الروح القدس بدون
الابن، لذلك يؤمن أيضاً بالابن والروح القدس، لأن لاهوت الثالوث واحد وقد أُعلن
من واحد، أي من الآب.
]([49])

[لأنه
كما أن الإيمان بالثالوث يوحِّدنا بالله، فكل مَنْ يعتمد باسم الآب وحده أو
باسم الابن وحده أو باسم الآب والابن بدون الروح القدس لا ينال شيئاً بل يظل عديم
النفع، ولا يحصل على الانضمام إلى الكنيسة …

لأنه
كما أن المعمودية التي تتم باسم الآب والابن والروح القدس هي واحدة، لأنه يوجد
إيمان واحد في الثالوث، هكذا أيضاً الثالوث المقدَّس هو متساوٍ مع ذاته ومتحد
بنفسه في وحدة غير متجزِّئة، والإيمان به إيمان واحد.
]([50])

 

ملخَّص الفصل الثامن

استعلان الثالوث ووحدانية الله

على مستوى المعرفة عند أثناسيوس

 

(1) تجسُّد الكلمة كان واسطة لمعرفة الله:

+
فالإنسان بالتعدِّي فقد القدرة على بلوغ
«معرفة الله في ذاته»، وبالتالي القدرة على خلاص نفسه.

+
تجسُّد ابن الله كان من أهم أهدافه معرفة الله في ذاته باستعلان الثالوث الأقدس.

+
من أجل هذا أخذ كلمة الله لنفسه جسداً لكي يعطي صورةً مدرَكَةً واقعية ومحسوسة
للآب من خلال حياة الابن المتجسِّد وأعماله وأقواله وسلوكه بالجسد «مَنْ رآني فقد
رأى الآب».

+
كانت معرفة الله قبل التجسُّد بالتأمُّل في قدرته الإلهية وحكمته الظاهرة في
المخلوقات، لأنه ملأ الخليقة كلها في كل مكان بوجوده، ولكن البشر رفضوا هذه
المعرفة، وعجزوا عن إدراك الله في خليقته، لذلك تجسَّد ابن الله (كلمة الله
وحكمته) لكي يكون جسده أداة يتحد به الإنسان حتى لا يعجز البشر عن أن يدركوه في كل
شيء.

+
ولكن حضور الله الكلِّي في الخليقة يشكِّل صعوبة لاهوتية عند اللاهوتيين قديماً
وحديثاً، لكون الله منزَّه عن كل عجز في الخليقة. أمَّا عند أثناسيوس فالكلمة هو
كل شيء وفي كل مكان، كليًّا وجزئياً، حاضر
ومتفوّق معاً، حال في الشيء ومنزَّه عن عجز كل شيء بآنٍ واحد.

+
المسيح هو “ابن الله الذاتي” و“الوحيد”، والله هو “أبوه الخاص” بمعنى “العلاقة
المتحدة”، وقد أعلن عنها المسيح مراراً بقوله: «أنا في الآب والآب فيَّ»، «أنا
والآب واحد».

+
البنوَّة أو الميلاد لدى البشر وسيلة للوجود، أمَّا عند الله فهو الوجود ذاته. لأن
بنوَّة الله لا تحتاج إلى وسيط ولا الميلاد ينتهي بمجرَّد الوجود، مثل البشر.

+
بينما الناس يكونون آباء أولاً بالقدرة ثم بالفعل، نجد الله أباً بالقدرة وبالفعل
معاً وبصورة دائمة، لأنه فعل جوهري نابع من جوهر اللاهوت منذ الأزل.

+
لا يوجد في البشر أب وابن بالمعنى الدائم، فالآب كان ابناً والابن سيصير أباً،
ولكن في اللاهوت الآب هو آب على الدوام والابن كذلك، لأنها صفات جوهرية في ذات
الله.

+
الابن أزلي في الآب لأن جوهر الآب لا يمكن أن يكون ناقصاً أو غير كامل حتى يُضاف
إليه في ما بعد ما هو من خاصته الذاتية.

+
الابن هو الإرادة الحيَّة للآب، والقدرة الجوهرية، والكلمة والحكمة الحقيقية الذي
فيه يقوم الكل وتنضبط سائر الأشياء.

+
“الآب في الابن والابن في الآب” بمعنى وحدة الجوهر على الرغم من أنهما أقنومان
متمايزان في إله واحد.

+
كل صفات الآب قيلت عن الابن إلاَّ صفة الأُبوَّة، وذلك لأن الابن هو من ذات جوهر الآب
وحامل لخواصه، فهو صورة الآب «مَنْ رآني فقد رأى الآب».

+
الأبوَّة والبنوَّة في الله قدرة وتواجد معاً يكوِّنان حقيقة موجودة بذاتها غير
مستحدثة كانبعاث الشعاع من النور.

+
الابن هو مسرَّة الآب وموضوع حبه، وحب الله للعالم ومسرَّته لبني الإنسان هما
انعكاس خارجي لعلاقة جوهرية في الله بين الآب والابن.

+
الحضور الكلِّي للكلمة في العالم منذ البدء هو تمهيد لإعلان الله عن ذاته من خلال
الكون كله أولاً، ثم إعلان الله في الإنسان عندما أكمل الحضور فيه باتخاذه جسد
إنسان.

+
لذلك فتجسُّد الكلمة هو تكميل لعمل حضور الله المستمر في الخليقة، وإعلان لقدرة
الله واستعداد محبته للاتحاد بالخليقة ممثَّلة في الإنسان المخلوق على صورة الله
من أجل تقديسه ورفعه ليصير مثل الله!!

+
بالتجسُّد حل كل ملء اللاهوت جسدياً في المسيح، لأنه كلمة الله المساوي للآب في
الجوهر، لذلك فهو واسطة ملئنا نحن أيضاً: «وأنتم مملوؤون فيه».

+
ملؤنا من المسيح هو معرفة الآب والابن: «أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع
المسيح الذي أرسلته».

+
التجسُّد إذن هو المدخل الأخير لمعرفة الله وسر الثالوث الذي هو في الحقيقة سر
المجد وسر الحب «الذي يحبني … أنا أحبه وأُظهر له ذاتي».

+
بالتجسُّد أُزيلت كل معوِّقات المعرفة، إذ أُبطلت كل ضلالات الشيطان، الذي طارده
المسيح حتى ظفر به على الصليب، وأُعطي الإنسان سلطاناً على كل أعمال الظلمة
والضلال، حتى يستطيع من خلال نور المعرفة للحق أن يعبد الله ويدركه في ذاته كآب
وابن وروح قدس.

+
الدليل العملي على ذلك هو ما نراه في العالم بعد تجسُّد المسيح وموته وقيامته من
جهة إبطال ضلالات الشيطان وعبادة الأصنام، وقيام أنظمة العفة والطهارة والعبادة
الجماعية، ثم هذا العدد الضخم من الشهداء الذين آمنوا بالخلود وقيامة الأجساد.

(2) المعرفة الكاملة المتبادلة بين الآب والابن:

+
كل استعلان للابن هو بالضرورة استعلان للآب، كما أن كل استعلان للآب هو نفسه حتماً
استعلان للابن، وذلك بسبب الوحدة في الطبيعة والجوهر والإرادة.

+
أثناسيوس يعتمد على الإنجيل في إثبات المعرفة الكاملة والمطلقة والمتبادلة بين
الآب والابن.

+
حينما يكون الآب يكون الابن، وكل ما يعمله الآب يعمله من خلال الابن، وكل مَنْ
يعمِّده الآب يعمِّده الابن، وكل مَنْ يعمِّده الابن فإنه يتقدَّس في الروح القدس.

+
عمل الخلاص مترتِّب أصلاً على عمل الخلق، فالله الآب الذي خلق كل شيء بكلمته، هو
بالضرورة يخلِّص ما قد خلق بكلمته أيضاً.

+
بالرغم من استعلان الله الواضح بالتجسُّد، إلاَّ أنه ليس استعلاناً مطلقاً، بل ظل
تدبير الله مخفياً إلى حد ما، لإعطاء الفرصة للإيمان والاختيار.

(3) الابن “الكلمة” بتجسُّده أعلن الآب، وسيظل يعلنه إلى
الأبد:

+
فالابن هو صورة جوهر الآب قبل التجسُّد وبعده وإلى الأبد.

+
التجسُّد مرحلة إعلان وتعريف بالله الآب اضطلع بها الابن من نحو البشرية، من واقع
علاقته الجوهرية بالآب.

+
بعد أن يُخضِع المسيح الخليقة كلها للآب سيظل هو صورة جوهر الآب وشعاع مجده الذي
لا يعتريه تغيير إلى الأبد.

+
النور والشعاع هما واحد، كذلك الابن الذي هو شعاع مجد الآب، فهو واحد مع الآب.

+
كلمة الله هو فكر الآب وحكمته النابع من ذات جوهر الآب، الذي بواسطته خُلقت كل
الأشياء، لذلك فكلمة الله يُعبِّر تعبيراً كاملاً عن كل فكر الآب. فهو الصورة
الكاملة للآب.

+
معرفة الآب هي ذاتها معرفة الابن لأنها قائمة على أساس وحدة الجوهر، فالمعرفة
الواحدة منبعها الجوهر الواحد والذات الواحدة لله.

+
جلوس الابن عن يمين الآب هو تشبيه مناسب لفهم الإنسان، ولكن معناه هو مساواة الابن
في الكرامة والمجد للآب. فالابن حينما يجلس عن
يمين الآب يكون دائماً أبداً في الآب والآب فيه.

+
التساوي المطلق صفة جوهرية في الثالوث لا يوجد لها مثيل في الخليقة كلها، ولم
يعتريها أي تغيير بتجسُّد الابن الذي هو الواسطة الوحيدة لمعرفة الآب.

+
سبب التجسُّد ليس هو لاستعلان الآب وحسب، بل ولتكميل الخلاص: فالابن تجسَّد ليعلن
الآب، والآب يجذب الإنسان سرًّا لمعرفة الخلاص الذي في الابن المتجسِّد يسوع
المسيح، بواسطة الروح القدس. لذلك كان عمادنا «باسم الآب والابن والروح القدس».

(3) كما أن الابن يعلن الآب كذلك الآب أيضاً يعلن الابن،
وذلك بسبب العلاقة الجوهرية بينهما القائمة على أساس الحب والتعاطف والسرور،
فالابن هو مسرَّة الآب، والآب هو مسرَّة الابن.

+
معرفتنا لسر العلاقة التي تربط الآب بالابن هي مصدر غنى البشرية الفائق من جهة
أعلى القيم الأخلاقية والسلوكية عند البشر، التي لا تتم إلاَّ في مجال الحب
الإلهي.

+
جميع الأسفار المقدَّسة تقدِّم لنا حلقة متكاملة من استعلانات الله الآب بواسطة
ظهورات الابن التي انتهت بتجسُّده، لأنه هكذا أراد الآب أن يعلن عن حبه للعالم حتى
انتهى ببذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية.

+
دعاؤنا لله باسم “الآب” بقولنا “أبانا”، هو اعتراف ضمني بوجود الابن في الآب،
وبأننا أبناء الله، مع كوننا من خليقته، وبهذا الاعتبار صرنا في وضع يفوق كافة
الخلائق، وارثين مع المسيح لكل ما للآب.

+
“كل شيء يعمله الآب بالابن في الروح القدس”، هذه هي تسبحة أثناسيوس التي يختم بها
كل حديث ويدور حولها كل تفسير، وهي تبيِّن أن عمل الثالوث واحد لا يتجزَّأ.

+
يستحيل إدراك الابن بدون الآب، كما يستحيل إدراك الآب بدون الابن في الروح القدس.

+الآب
عرَّفنا بابنه في الخليقة، والابن عرَّفنا بالآب في الفداء.

+
بالرغم من أن الآب هو الذي يعلن الابن سرًّا للإنسان، غير أنه في اللحظة التي ينفتح
فيها قلب الإنسان على الله الآب فإنه ينجذب في الحال نحو الابن، فاستعلان الآب
سابق لاستعلان الابن … «لا يقدر أحد أن يأتي إليَّ إن لم يجتذبه الآب».



اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى