علم المسيح

الرسل



الرسل

الرسل

.
انتدب المسيح أعواناً يؤازرونه في قيادة تلك الكُتل البشرية التي سوف تدين
بشريعته. ولقد تمّ ذلك –على ما يبدو- في أوائل حقبة البشارة العلنية، ولا شك، منذ
اللحظة التي بدأت تتصدّى له مهاجمات خصومه، وتنذره بوجوب تجهيز المستقبل، وإعداد
من يخلفه في مواصلة العمل. ولا يخفى أن تلك ” الهيئة الرسولية ” التي
أشرف على وضعها المسيحُ بالذات، هي على جانب عظيم من الأهمية. أجل، لقد كان
لفلاسفة الإغريق، ولأنبياء إسرائيلً، في العهد القديم، حتى المعمدان، أتباعٌ يردّ
عون تعاليمهم؛ ولكنهم ما كانوا لينوبوا مناب المعلّم أو ليتولّوا سلطته. فالمذهب
” الرواقي ” [هو مذهب فلسفي قديم (القرن الرابع ق.م)، منسوب إلى الرواق
الذي كان يجتمع فيه أنصار المذهب حول معلمهم ومنشئهم ” زينون “. وقد
اشتهر الروايون بنظامهم الخلقي الشديد، واعتقادهم بالقدر المحتوم]، مثلاً، كان يضم
أفراداً مشتّتين، تجمعهم عقيدة واحدة من غير أن تقضي على فرديتهم واستقلالهم.
وأمّا الكنيسة فقد بات لها، وهي في المهد، قادتها. ولسوف يضع لها مؤسسّسهُا، بعد
فترة من الزمن، هيئة رسولية ثانية، مؤلفة من ” السبعن رسولاً “، وهي
نواة الهيئات الإدارية المستقبلة! لقد كان للأسّينين أيضاً نظام تسلْسُلي، يشُرف
عليه قادة منتخبون، وزعيم أكبر –” معلّم البرّ ” – كانت في يده مقاليد
السلطة العليا. ولا يستبعد أن يكونَ يسوع قد وقف على طريقة ذاك التنظيم؛ ولكنه
ذهب، في توسيع نطاقه وتطبيق مبادئه، إلى حدّ بعيد، فشمل به مجموعة المؤمنين كلهّم..
لا شك إذن أن النظام التسلسُليّ الذي تتميزّ به الكنيسة حتى اليوم له مصادر5ه
التاريخية في الانجيل؛ وذلك واقع لا جدال فيه. إذا استندنا إلى جُملة ما ترويه
الأناجيل الثلاثة المؤتلفة، في شأن تلك الدعوة، استقام لنا النصّ التالي: ”
خرج يسوع إلى الجبل ليصليّ. وأمضى الليل في الصلاة إلى الله. ولما كان النهار دعا
إليه تلاميذه الذين أرادهم، وأقام منهم اثني عشر ليكونوا معه، ويرسلهم للكرازة؛
وسمّاهم رسلآ، وقلّدهم سلطاناً لكي يطردوا الأرواح النجسة، ويشفوا كل مرض وكل سقم
” (متى 10: 1؛ مرقس 3: 13؛ لوقا 6: 12). مشهد جميل: فالمسيح قد قضى الليل
كلّه في تبصّر القرار الذي أزمع اتخاذه، واستلهام الآب لما كان مقدماً عليه من
تعيين وانتداب؛ ثم أولئك الرجال المصعّدون في الجبل، والمتحلّقون حول معلّمهم، وهو
يفرز المختارين من بينهم؛ ثم ذاك الموقع المنعزل، الموحش، حيث تمّ الانتخاب في جوّ
من العظمة والجلال!.. ونلاحظ أن المسيح، في تلك المناسبة، قام بمهمّة الانتداب،
بقرار شخصي لم يعمد فيه إلاّ إلى إرادته. ولا بدَعْ، فاللّه يوم ينتدب أمثال تلك
النفوس الكبيرة، إنما هو الذي يستحوذ عليها، فلا يطلب منها سوى أن تنقاد له
انقياداً راضياً متواضعاً. ولسوف يقول يسوع لأعوانه يوماً: ” لستم أنتم قد
اخترتموتي بل أنا اخترتكم وأقمتكم.. ” (يوحنا 15: 16). والواقع أن أندراوس
ويوحنا، عند ضفاف الأردن، ثم سمعان بطرس، ثم، من بعدهم، فيلبس ونثنائيل، هم أيضاً
لم يستبقوا الله إلى الاختيار!.

 

. ان
لفظة ” رسول ” – ويعادلها باليونانية ”
Ahoatolos“، كانت تطلق على موفدي السنهدرين الى الجاليات اليهودية
النائية، في مهمّات معيّنة. وقد ندر استعمالها في أناجيل مرقس ومتى ويوحنا. وأمّا
البشير لوقا فهو الذي عمّم استعمالها في انجيله وفي ” أعمال الرسل “.
ولا شك أن بين لفظتي ” تلميذ ” و” رسول ” تدرّجاً في المفهوم،
وترًسّخاً في الإلتزام، وأن الذين أطلقت عليهم اللفظة الثانية هم أعلى شأناً من
عامّة التلاميذ. وأمّا رقم ” الاَثني عشر ” فلا شك أنه من وضع يسوع
بالذات، بدليل ما جرى، بعد خيانة يهوذا وموته، من مبادرة إلأحد عشر الباقين إلى
انتخاب متّيا خلفاً للخائن، وردّ الجوقة إلى عددها السابق. وربما كان ذاك الرقم من
مؤدّيات التقليد الأسّيني؛ فقد كان يشرف على أمور تلك الجماعة الرهبانية، مجلس
يتألّف من اثني عشر زعيماً. وأمّا أن يكون له أيضاً هدفٌ رمزي، فيبدو من الصعب أن
نضع ذلك موضع الشك. فلسوف يعد المسيح تلاميذه بأنهم ” سوف يجلسون على اثني
عشر كرسيّأ ليدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر ” (متى 19: 28): وتلك نقطة من
النقاط التي يلتقي فيها العهدان، القديم والحديث

 

. لقد
وردت لائحة الاثني عشر ثلاث مرّات في الأناجيل، ومرّة في سفر ” أعمال الرسل
” (متى 10: 2-4؛ مرقس 3: 16-19؛ لوقا 6: 14 -16؛ أعمال 1: 13). وإنما يتعذّر
مطابقة هذه اللوائح، اثنتين اثنتين، بوجه محكم. فلئن ورد اسم بطرس دئماً في الرأس،
واسم يهوذا في الذيل، ولن احتلّ فيلبس ويعقوب بن حلفا نفس الموضع في اللوائح
الأربع، فإننا نصادف، في ما عدا ذلك، بعض الإشكال. وسبب ذلك أن عدد الأسماء
المتداولة عند اليهود كان ضئيلا، فشاع استعمال النظائر الاسميه، ووجب، من ثم،
اللجوء إلى الألقاب. وهكذا كان يهوذا -وهو نظير يوداس – يلقّب بتدّاوس، أي ”
العظيم الصدر “، أو بلبّاوس، أي ” الواسيم القلب “. وأمّا يهوذا الآخر،
الرسول الخائن، فكان يلقّب بالإسخريوطي. وقد شاع تنسيق اللائحة، على الوجه التالي:
سمعان بطرس، وأندراوس أخوه؛ يعقوب الكبير ويوحنا أخوه، (وكلاهما ابنا زبدى)؛ فيلبس
وبرثلماوس، (أي نثنائيل)؛ توما ومتى العشّار؛ يعقوب الصغير ابن حلفا؛ يهوذا (أو
تدّاوس)؛ سمعان الملقّب بالغيور؛ ويهوذا.الاسخريوطي الخائن

 

.
وليس الرسل كلّهم، في الإنجيل، على وتيرة واحدة من البروز. فهناك من لا نعرف منهم
سوى اسم أو لقب يثُبت أحد ملامحهم الخلقية أو الطبيعية. فعن سمعان، مثلاً، (وهو
سميِّ سمعان بطرس) لا ندري هل لقّب ” بالغيور “، بسبب حميّته فيَ العمل
(إلاّ أننا لا نجد لتلك الحميّة أثراً في الانجيل)، أم بسبب انتمائه إلى حزب
” الزيلوتيين ” (أي الغيورين).. وقد لقّب أحياناً ” بالقانوني
“، ربما تحريفاً عن لفظة ” قانا “، ومعناها، بالعبرية: ”
الغيور “.. وعن يعقوب الصغير أيضاً، لا ندري هل دعي كذلك، لأنه كان قصير القامة،
أم لأنه كان أقلّ شأناً من سميهّ، يعقوب بن زبدى. وقد كتب هيجيسيبس، حوالي سنة 70،
عن رجل، اسمه يعقوب، كان ” نذيراً “، أي محرّراً لله، لا يشرب خمراَ،
ولا يأكل لحماً، ولا يحلق شعراَ، ولا يتطيب، بل ولا يغتسل، وكان، من مواصلته
الصلاة، قد ” جسأت جلدة ركبتيه، فصارت بصلابة جلود الإبل “.. ولكنّ
كثيراَ من المفسّرين قد شكّوا في أن يكون يعقوب هذا، المدعوّ ” أخا الرب
“، والذي أصبح أوّل أسقف على أورشليم، هو نفس ” يعقوب بن حلفا ”
الرسول

 

.
وأمّا الرسل الذين تبسّط الإنجيل في ذكر أخبارهم، فما أيسر أن نستعيد ملامحهم الإنسانية،
ونتمثل شخصيتهم. وإن ذاك التنوّع في أداء الأوصاف الخلقية، لهو من أبلغ الأدلّة
على صحة الكتاب؛ والذي ألف مطالعة القصص الروائي لا يمكنُه إلاّ أن يعُجب بتلك
الظاهرة الفنية.. في صفحة رائعة من صفحات ” سواعية الملك رينه “، في
المكتبة الوطنية (باريس)، رسمَ للفنّان صورة يسوع، وحوله الإثنا عشر. ويتجلى
اختلاف الأمزجة من خلال تلك القسمات الني دبّجها، في القرن الخامس عشر، بارع
مجهول. ولا بدّ أن ذاك الفناّن القديم كان قد تمعنّ في الانجيل، برواياته الأربع،
حيث برز بطرس، ويوحنا، وفيلبس، وتوما، في تميَزّ ملامحهم، وصمود شخصيّاتهم، خلال
النصوص الأربعة

 

. هذا
بطرس: قلب قويم، ونفس لاهبة! فكلّ مرة يأتي البشير مرقس – وهو راويته الخاص – على
ذكر تصرفاته لا يخلو من أن يضيف: ” وللحال “. سريع العزم والقول؛ لا
يتردّد في استجواب المعلّم: ” كم من مرّة ينبغي أن أصفح عن أخي؟أإلى سبع
مرّات.. “. وفي الليلة التي اعتقُل فيها معلّمه نراه، وحده، يندفع ويشهر
السيف. وقد يتفق له أن ينساق للعنف والانفعال. فعندما وصل المسيح، إلى بطرس، ليلة
العشاء الأخير، ليغسل رجليه، اعرض واحتح: ” لا، لن تغسل رجليّ أبداً!”
فأجابه يسوع: ” إن لم أغسلك، فليس لك نصيب معي! “. فقال له سمعان، على
الفور: ” يا رب! لا رجليّ فقط، بل يديّ ورأسي أيضاً! “. لقد كان يهودياً
صميمأ، من وجوه كثيرة، يستصعب التسليم بالماسويةّ في مفهومها الصحيح؛ ولكنه كم
كان، إلى ذلك، مخلصأ صريحاً، شغفاً بذاك الذي مشى في اثره! وكما كان اسمه، عموماً،
في مطلع اللائحةَ، نراه أيضاً عند العمل، في طليعة الرسل. وقد يتفق للآخرين أن
يتذبذبوا؛ أمّا هو، فعلى صخر! فيوم قال يسوع للاثني عشر، وقد ” استصعبوا
” تعليمه – في خبز الحياة (يوحنا 6: 59 – 71) -: ” وأنتم أفلا تريدون
أيضاً أن تذهبوا.. ” أجاب بطرس: ” وإلى من نذهب، يا رب؟ إن عندك كلام
الحياة الابدية! “. قال بطرس ذلك، نيابةً عن الاخرين؛ كما أنه هو الذي أفصح
عن فكرتهم، يوم استجوبهم يسوع، قائلاً: ” وأنتم، من تقولون إني هو..”
فأجاب بطرس: ” أنت المسيح ابن الله الحيّ!”

 

. ثم
ها هم الرسل الآخرون: يوحنا، ” الذي كان يسوع يحبّه “، وقد ارتسمت
قسماته الفنّية، في غير واحدة من صفحات الانجيل الرائعة؛ فهو الذي ” اتكأ على
صدر المعلّم “، وتبعه، من دون الآخرين، إلى بيت قيافا وإلى الجلجثة. ولقد
أفرغ ربيع شبابه على حياة الإله الإنسان، مدة مكوثه بالأرض، لوناً من ألوان
الصداقة الرقيقة. ومع ذلك فقد لقّبه المسيح ” بابن الرعد “؛ وفي ذلك
إيماء إلى مزاجه الناريّ، وروحه الصوفية، وشبه إنباء بذاك الذي سوف يسجّل فيَ
إنجيله أروع ما أوحى به الله، والذي سوف يدوّن في ” رؤياه “، – عن لسان
الشهداء- هذه الكلمة الصاعقة: ” حتى متى، أيها القدّوس والحق، لا تقضي ولا
تنتقم لدمنا، من سكان الأرض؟ ” (رؤيا 6: 10)

 

.
وأما فيلبس، فقد غلبت ثروة إيمانه، على نباهة ذهنه؛ فهو الذي أعيا عن الجواب يوم
اختره يسوع، فيَ قضية إطعام الخمسة الآلاف، في البرية، قبل معجزة الخبز؛ وهو الذي
التمس من يسوع، ليلة العشاء الأخير، أن: ” أرنا الآب، وحسبنا! “،
فاستجرّ هذا الجواب المحزون: ” أنا معكم الزمان، ولم تعرفني، يا فيلبس؟ من
رآني فقد رأى الآب! ” (يوحنا 14: 8 – 9). وفي ما سوى ذلك، كان رجلاً طيباً،
نشيطاً، ألوفاً، نموذجاً عالياً من تلك النفوس الصافية التي يختار منها الله
أولياءه

 

.
وتوما الذي بات اسمه رمزاً ” للريبة “، من يوم اشتهر بتكذيبه لظهور
المسيح، بعد قيامته!.. أجل، لقد كان من فصيلة الذين يأنسون إلى الشك والحذر؛ وهو
الذي، إذ قال يسوع لتلاميذه، ليلة العشاء الأخير: ” أنتم تعرفون الطريق إلى
حيث أذهب ” أجابه: ” يا رب، لسنا ندري إلى أين تذهب، فكيف نعرف الطريق؟
“. (يوحنا 14: 4 – 6). ولكنه كان، إلى ذلك، رجلاً صلباً، شجاعاً. فهو، عندما
أوجس الرسل خيفة، وأحجموا عن مرافقة المسيح إلى اليهودية، في رحلته الأخيرة، صاح
بهم متشائماً، ولكن بطلاً: ” هلموا لنموت نحن أيضاً معه!.. ” (يوحنا 11:
16)

 

. إن
أكثر الرسل غموضاً، في ملامح شخصيته، إنما يهوذا، آخر من في اللائحة. فقد بات وجهه
القاتم عنصراً في أحداث ” الذبيحة ” التي بها حل الخلاص في صلب
التاريخ.. وقد قام فيها بمهمة مرعبة مجدية معاً. كل شئ فيه حالك، مستغلق!.. لماذا
لقب بالإسخريوطي؟.. لقد ذهب البعض إلى أنه لُقب كذلك نسبة إلى إشارة منشأه؛ وقد
التمسوه في قرية، جنوبي اليهودية، اسمها خريوط، استناداً إلى إشارة غير موثقة وردت
في تاريخ إفيلافيوس يوسيفوس. وذهب البعض الآخر إلى أن الأحرف التي يتألف منها لقبه
(س. خ. ر) تلهم، في العبرية، معنى ” التسليم ” و” الخيانة “؛
وتوسموا، في ذاك اللقب، علاقة بالعمل المنكر الذي ارتكبه.. ثم أليس من علاقة بين
اسمه (يهوذا) والنظرية القائلة بأن ” أهل اليهودية ” هم المسؤولون عن
قتل المسيح؟.. هذا، ويبقى صحيحاً – على حدّ ما جاء في ” الموسوعة الكاثوليكية
الأمريكية “- ” أن كل المعضلات المبنوية والمسائل الجزئية تبدو زهيدة
إلى جانب المعضلة الأدبية الكبرى التي يواجهها الباحث في بواعث سقطته وخيانته
“. فإنه من الثابت أن ذاك الرجل قد اشترك، مدة سنتين، في أعمال الرسالة،
فعلّم الجماهير، وأبرأ المرضى، وطرد الشياطين؛ واحتل، بين الرسل، مركزاً مرموقاً،
وقد وُكلت اليه أمانة الصندوق المشترك؛ ومع ذلك، فقد خان المسيح! لماذا؟.. ليس
هناك من تعليل – والتعليلات أكثر من أن تحصى- إلاّ ويبقى دون مستوى الإقناع. وهناك
ما هو أشدّ إبهاماً: لماذا أبقاه المسيح في جماعته مع علمه بالخيانة قبل وقوعها:
” واحد منكم هو شيطان! ” (يوحنا 6: . 7). لكي نحاول الوقوف على شيء من
تلك النفس المظلمة، نودّ أن نتذكّر تلك النزوات الراغمة التي تحملنا على الشرّ مع
كُرهنِا له، فيتهيأ أ لنا، اذ ذاك، أن نرثي لذاك الرجل التاعس الذي أمسى، بين يدي
قدر فاجع، آلة ضعيفة: ولكم يتفق لنا أن نضعف، نحن أيضاً، وإن في ظروف أخفّ
عاقبة!.. في القرون الأولى من تاريخ الكنيسة، اضطرّ ترتليانُس وإيرناوس أن يناهضا
بعض المندفعين الذين راحوا ينادون بالثناء على يهوذا، لأنه بالخيانة، مهّد السبيل
إلى الفداء.. من جهة، لا شكّ أن يهوذا – كما اتضحت مهمته في الكتاب، المقدّس –
مذُنبٌ، مسؤول عن ذنبه، على نحو ما أذنب آدم وحواء، في الزمان الأوّل. ولكن، من
جهة أخرى، لولا خطيئة ادم وحوّاء، لما كان المسيح؛ ولولا جريمة الاسخريوطي، لما
كان الصليب!.. أجل، هناك من الأسرار ما يخفى عن مدارك الإنسان

 

. لقد
كان الرسل كلّهم -على ما يبدو- من بيئة اجتماعية واحدة: لا من أهل العازة، ولا من
ذوي اليسار. ” وكانوا أميّين ومن عامّة الشعب ” على حدّ ما ورد عنهم في
سفر أعمال الرسل (4: 13). فأمّا الستة الأولون، فقد مرّ بنا أنهم كانوا من طبقة
الصيادين الريفين من أهل!لجليل. رزقهم من شباكهم وزوارقهم، يحرزون، بفضلها، كفايةً
شريفة مستمدّة من الكدّ، دون سواه. وأمّا متى العشّار – وهو سابعهم – فقد كان، ولا
شك، أوسع ثقافة، وربما على شيء من الثروة؛ ولكنه كان، مع ذلك، بمستوى زملائه.
والواقع أن يسوع قد اتخذ أعوانه ممّا كان في متناول يده. فالروح قادر، إذا شاء، أن
يغيرّ الإنسان. فيسوع لا يطالب أتباعه بما هو مُنيف من صفات العقل، ولا بما هو
نافع من العلاقات البشرية. وإنما يطالب بالخلق العظيم، شرط كل عظيم على هذه الأرض

 

.
ولكم كان الرسل بحاجة إلى مثله، لكي يتهيأ لهم اتّباع المسيح في المناهج التي
رسمها لهمم. فلقد طُلبَ منهم ألاّ يقتصروا، في زهدهم، على ما كان قد شغل حياتهم
اليومية، حتى ذاك، من مزاولة مهنتهم العريقة، والعناية بشباكهم ومحاريثهم، وتصريف
محاصيلهم، والانصراف كل مساء – بعد سحب الزوارق، ونشر الشباك -إلى مجالس السمر
الطويلة، تحت جنحٍ من الليل، خفّاق النجوم. بل لقد كان عليهم، علاوة على ذلك، أن
يخضعوا لألوان من القطيعة، أشدّ إيلاماً! إن مقتضيات المسلكيّة الإنجيلية باتت في
نظرنا، اليوم – أقلّه نظرياً.. – من الأمور المألوفة. ولكن أيَ انقلاب كان لا بدّ
أن يفرض على أولئك اليهود التقُاة، الذين تعوّدوا ألاّ ينظروا إلى الدين إلاّ من
خلال طقوسهم الشكلية، وأن يحسبوا انقباضهم القوميّ لوناً من التقوى، وأن يترقبوا
يوم الثأر.. وإذا بهم يطُالعَون، فجأة، بدين جديد قِوامه الروح، وحبّ الأعداء،
والشمول المطلق

 

. إن
حياة الترحّل التي أخلد إيها الرسل مع معلّمهم، مدة سنتين كاملتين، لم تكن -في
ذاتها- لتنغص على أولئك الشرقيين حياتهم، إلى حدّ بعيد. وإنما كان عليهم أن
يضحّوا، في سبيل المسيح، بحياتهم العيلية. ولا بدّ أنهم – باستثناء يوحنا- كانوا
كلهّم متأهلين.. وكانوا يتقلّبون في الأرض، من قرية إلى قرية. فإذا وقعوا على
صديق، حلوّا عليه ضيوفاً؛ وإلاّ اتخذوا العراء لهم مائدةً، يولمون فيه على يسير من
الخبز والملح والعنب والعسل والثمر، أو على بعض سمك البحيرة، إذا اتسع لهم وقت
للصيد. فإذا ما أطبق الليل التحفوا بعباءاتهم، وافترشوا الثرى تحت الزيتون أو
الجمّيز. لم يكن لهم أن يخطبوا في الناس، في حضرة المعلم: فكل تلميذ تجرّأ على
التعليم في حضرة أستاذه، ارتكب منُكراً، كان عقابه الموت في شرع التلمود. وأماّ في
غيابه، فكان عليهم أن يقوموا مقامه في تبليغ الحقائق التي أخذوها عنه. فإذا ما
احتشدت الجموع حول المسيح، متعطشةً إلى سماعه، كانت مهمتّهُم أن يعنوا بتحويطهم،
وتوجيههم، ومَراقبتهم. وتلك المهمة المزدوجة، أليست هي، حتى اليوم، مهمّة خلفائهم
الأساقفة

 

!
فلكي يرضوا بذاك الإنسلاخ عن سالف عاداتهم، ويأنسوا إلى مقتضيات ذاك المصير
الجديد، هل كان الرُسُل من السمو بحيث يتعذّر أن نتبينّ فيهم ما نصادفه، في
ذواتنا، من أوهان؟ كلاّ! بل إننا نجد، في غير واحدة من صفحات الإنجيل، تفنيد من
يتوهّم أن القديسين هم بمنجاة من الإغراء ات الي تعبث بمصير الإنسان، وأنهم
راسخون، في تقواهم، رسوخ التماثيل الجامدة. أجل، لقد كانوا على الإيمان. ولكن هل
الإيمان إلاّ نعمة يصُار إليها، كل لحظة، بالجهاد المرير! لقد قال لهم يسوع يوما:
” أعرف أنّ فيكم من لا يؤمنون! ” (يوحنا 6: 46). لقد خانت بطرسَ ثقته
بالمسيح، يوم استند إلى ذراعه، فوق اللجّة العاتية؛ ولا أحد يجهل تلك الساعة
العصيبة، حيث فارقته قواه، فأنكر المسيح ثلاثاً، في تلك الليلة، ليلة التخليّ.
ونرى الرسل – وهم نخبة المؤمنن – يستنكرون أسمى ما نطق به المسيح من وحي كان
عليهم، في المستقبل، أن يقوموا بتبليغه. فإنهم، يوم قال لهم المسيحً: ” أنا
خبز الحياة. من يأكل جسدي، ويشرب دمي، فله الحياة الأبدية”، طفقوا ينظرون
بعضهم إلى بعض –والاستغراب على شفاههم – ويقولون: ” هذا الكلام صعب، من
يستطيع سماعه؟ ” (يوحنا 6: 60). وبطرس، بطرس نفسه، يوم أنبْى بالنهاية
الفاجعة التي باتت تترصّد المسيح، أظهر من عُنف التنكّر ما ألجأ يسوع إلى مبادرته
بهذا الجواب الهاثل: ” إذهب خلفي، ياشيطان! إنك لي معثرة! لأن أفكارك ليست
أفكار الله، بل أفكار الناس “. وفي الواقع، أليسوا هم إلاّ أناساً، مثلنا
جميعاً؟.. أو ليس فيهم من الصغائر، ما بات من مألوف اختبارنا.. ” وداخلتهم
هذه الفكرة! من تراه الأعظم فيهم. ” (لوقا 9: 46). مثل تلك المطامح لا تزال حتى
اليوم، وقد اندسّت في أقدس الأوساط، وتسرّبت إلى الحُصون والأديرة! إنها آفة
التواضع

 

. لقد
كانوا إذن بشراً، أولئك الرسل؛ بشراً ليس إلاّ. وإنما عليهم هبّ روح الحياة،
فظلوّا به منطلقين حتى الاستشهاد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى