مقالات

الجمال والإبداع الفني – فاض قلبي بكلام صالح. متكلم أنا بإنشائي للملك

” فاض قلبي بكلام صالح. متكلم أنا بإنشائي للملك. لساني قلم كاتب ماهر. أنت أبرع جمالاً … انسكبت النعمة على شفتيك … كل ثيابك مُرٌّ وعُود وسليخة ( أنواع مختلفة من العطور الطبيعية الثمينة ) ” (مز45: 1و2و8 )
الجمال والإبداع الفني - فاض قلبي بكلام صالح. متكلم أنا بإنشائي للملك” كالتفاح بين شجر الوَعر كذلك حبيبي بين البنين .. شماله تحت راسي ويمينه تعانقني … حبيبي شبيه بالظبي أو بَغُفْر الآيائل … حبيبي ابيض وأحمر. مُعلم بين ربوة. رأسه ذهب إبريز. قُصصهُ مسترسلة حالكة كالغراب. عيناه كالحمام على مجاري المياه مغسولتان باللبن..” (راجع نشيد الأناشيد )

أخوتي الأحباء في الرب

في البدء خلق الله المحبة، الخليقة بإبداع فائق، ووضع فيها ملامحه الخاصة ولمساته المبدعة، حتى تصير لحن هادئ مقدس، يُعَّبر عنه لمحبوبة الإنسان الذي أبدعه على صورته ومثاله !!!

_____مقدمة_____

لقد وضع الله الإنسان في جنة عدن ليصير فيها اللقاء المحبب جداً في جمال فني مبدع في هذه الجنة المخلوقة في جو جمالي خاص ليليق باللقاء الحلو بين الإنسان والله القدوس …

الله المحب، بكلمته وروحه أبدع الخليقة كلها في انسجام عجيب وتناسق مبدع حقيقي، وأعطى الإنسان أن يكون متطبع بالطبع الإلهي، أي يكون مثله، أي يكون فيه ملامح الله نفسه، فهو الوحيد الذي أُعطيَّ الصورة الإلهية، ولذلك أعطانا الله جميعاً روحه القدوس أن يسكن فينا لأنه جعلنا هيكله الخاص: ” أنتم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم ” ( كما قال القديس بولس الرسول )

روح الله يسكن فينا، لذلك نرى جمال الخليقة كلها بحس مرهف ونتحقق من بصمات الله في كل ما يُحيط بنا فنحبه ( أي الله ) ويزداد حبنا له، ونردّ الحب بالحب بتسبيح صامت، مُعبرين عنه بصور فنيه مختلفة …

الروح القدس الذي عاد واستقرّ في الإنسان، بصعود ربنا يسوع المسيح، وألهمه اكتشاف الجمال في الخليقة في أروع جمالها الأصيل، فاستطاع الإنسان بكل برؤية ثاقبة وحس عميق، أن يرى الله بوضوح وفي منتهى البهاء لذلك القديس بولس الرسول الملهم بالروح القدس يقول : ” لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدركة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته … ” ( رو1: 20 )

وهكذا صار الجمال والإبداع الفني لروح الله واسطة لمعرفة القدير، فالجمال وحي وإلهام إذا أحسن الإنسان تقبُّله واستخدامه، دخل في مجال الرؤيا الكاشفة لمجد الله وحكمته، وصار لاهوتياً بجدارة، أي إنسان ممتلئ من الله الحي وحضوره المحيي …

1- ما هوَّ الجمال ومعناه:

الجمال هوَّ حس باطني، حس مرهف داخلي، يُثير في النفس النشوة والفرح والبهجة، وهو باعث للراحة ويُعطي استرخاء للنفس والجسد معاً، وأيضاً يُعطي لروح الإنسان نشوة خاصة فيتحول الكيان كله لعبادة صامته يتجلى فيها سرّ الشكر؛ فالشكر لا يأتي من فراغ بل من نشوة خاصة تُثار في داخل النفس من مفعول حس باطني أو حس مرهف في الباطن بالجمال..

وما الذي يُحقق الجمال بالنسبة للإنسان

الذي يحقق الجمال هو الفن… لأن غاية الفن هو تحقيق الجمال أو بالمعنى المسيحي الأصيل تجلي الجمال بشدة ظهوره، أي العمل على إظهاره بصور مختلفة.. والعامل الفعال فيه هوَّ عمل الروح القدس أي مسحة الروح القدس.

الفن هوَّ الامتداد الطبيعي للتجسد في الجمال والبهاء، فمصدره الوحيد هوَّ الفنان الأعظم الذي أبدع الكون كله، الله الآب بشخص المسيح الكلمة المتجسد الذي به كان كل شيء، وهوَّ الذي يشع من خلاله كل وجه من أوجه الجمال الحقيقي، بل وكل ما يصوره الفن شرط أن يكون الفنان ممتلئ من الروح القدس روح الجمال الحق.

فالروح القدس هوَّ الذي يتغلغل في كل شيء. الروح القدس كله نور، وهوَّ ينبوع كل نور. أنه يشع من خلال الجسد والثياب والألوان بل ويغمر كل شيء ضياءً وبهاء.
فالمسيحية يا إخوتي الأحباء جداً، ليست مجرد عقيدة، ولا مجموعة مقولات عقلية أو بحثيه، ولا صيغة فكرية، بل هيَّ في حقيقتها عمل وحدث، فالفن الأصيل يستند وجوده في الكنيسة الأرثوذكسية إلى حدث تم في داخل الزمن وأثر فيه، وهذا الحدث هو حدث التجسد الإلهي، فاستخدام المواد الطبيعية في الكنيسة كالخشب والطوب والمقاعد والستائر والشموع والأيقونات …الخ.. تُبين استمرار هذا الحدث وتؤكد دوامه.
والرب الإله الذي تجلى لنا في الكون كله وجماله: [ من أفواه الأطفال والرُّضع أسست حمداً..إذ أرى سماواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها.. أيها الرب سيدنا ما أمجد أسمك في كل الأرض] (مز8: 2و3و9)
[ السماوات تُحدث بمجد الله. والفلك يُخْبر بعمل يديه يومٍ إلى يوم يُذيع كلاماً وليل إلى ليل يُبدي علماً…] (مز19: 1-2)

فهو الرب الإله الذي يتجلى لنا في روعة الألوان المتآلفة والحركات الهادئة في الطبيعة التي خلقها والتي حركت وجدان كل فنان وأسرته بروعة جمال الخالق المستتر ورائها، فحركت مشاعره وجعلته ينفعل ويقع في تجربه شعورية حتى أنه لم يستطع أن يهدأ بل أنفعل وعبر عن انفعاله بصورة فنيه رائعة تُعبر عن إحساسه المرهف بالطبيعة وان يُعبر عما في داخله من مشاعر وأحاسيس لا تُعبر إلا عن روعة الفنان الأعظم الذي خلقنا على صورته…

وقد عَبر الإنسان عن روعة الألوان والحركات الهادئة في الطبيعة عن طريق الرسم والنحت والبناء والشعر وتصميم الملابس الخ..، ويظهر الإنسان في هذا كله أنه قد تشرب من نعمة الله وتذوق عمق غنى التجسد فاستنار بكل ثنايا جسده.

والفن عموماً هوَّ تجلي الخليقة كما بدا على وجه الكلمة المتجسد، الله الكلمة.. فلما اتخذ الله جسداً “والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا (وبحسب الترجمة اليوناني فينا)”، تغلغلت الإلوهة في الكون بأسره، وصار قناة لصلاحه، فبحسب قول الآباء إن دم المسيح أنساب على الأرض فتطهرت المسكونة والمادة وأصبحت جواً مناسباً لعمل الله وتجليه؛ لذلك تبدو لنا المادة في الفن المسيحي الأصيل وكأنها لا ثقل لها، إذ أن النعمة قد غمرتها والسماء ملأتها.

حقيقي وفي منتهى الإبداع، لقد نسج اللاهوت الشرقي للكنيسة بالفن، جو إلهي يتجلى فيه سر التجسد والقيامة، ومن هنا نرى سرّ الأسرار، فالغاية النهائية للتجسد هوَّ انجماع كل شيء في المسيح ويتجلى سر الله وألوهيته في الإنسان والخليقة كلها.

2 – تجسيد الإحساس الشخصي بالفن ليعبر عن خبرة الله في الحياة العملية

من منطلق الكتاب المقدس وبالتحديد سفر نشيد الأناشيد والمزامير، نستطيع أن نقول بكل تأكيد ، أن الإنسان أستطاع – بالنعمة – أن يُجسد أحساسة عن اللاهوت أي الله، مستخدماً إحساسه الفني والشعري – بمنتهى الدقة – بحس مرهف ومشاعر فياضة من حب أصيل ” الحب المنسكب في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا (رو5: 5 ) “، وعلى الأخص في العهد الجديد، عهد تجديد الطبيعة والميلاد من فوق ونوال سرّ الروح القدس وسكناه، أصبح قادر أن يفصح عن جمال الله وانسجامه مع البشر وسائر المخلوقات.
فالفن، هو فن مصنوع باليد إنما نابع من حركات النفس الممتلئة بالروح، أي الجسد تحرك بالحب وأصبح مملوكاً بروح الله الذي مسح الموهبة ونقاها لتخرج إبداع فني يعبر عن حلاوة مجد الله في الإنسان …

لذلك الفن الكنسي يتطلب من صانعه لأن يكون لاهوتياً من الدرجة الأولى، إنسان يحيا التوبة بكل أتساعها ممتلئ بالروح وحياة التقوى، ويحيا في جو الليتورحيا وشركة الإفخارستيا وكما يقول سمعان اللاهوتي : [ إننا لا نتكلم إلا بما تأملنا فيه، لذلك، كل ما نقوله في اللاهوت يجب ألاَّ يكون مجرد نقل لأفكار وصلت إلينا، بل تعبيراً عن ما تأملنا فيه واختبرناه في عمق ذواتنا ]

لذلك الفن الحقيقي والأصيل هو : ” صلاة تأمل “، والفنان المسيحي يعتني بنقل حرارة الروح القدس والجو الإلهي الذي يتدفق كالسيل في حياته، ويجتهد في أن يشع إيمانه من خلال عمله الذي يتجرد فيه من نظرته الخاصة للأشياء، بل يُعلن بفنه الأمور كما هي في جوهرها، التي تعكس صورة الله وبهاء مجده التي رآها ولمسها بنفسه وعملت بالسرّ في أعماق قلبه من الداخل، وخُطت على جدران قلبه بنور الله وعمل الروح القدس …

عموماً الفن هو الوجه المنظور لعمل الله غير المنظور في أعماق القلب البشري بالروح القدس . فالفن مرآة التجسد الإلهي – في الكنيسة – والمثل الظاهر الحي لإعادة المادة إلى ما أراده الله منذ البدء من بهاء وتناسق وانسجام لتعكس صورته أمام الجميع في صمت المحبة التي تنطق بها .

آه يا رب
شوقنا إليك يلهب قلوبنا ويشعلها رغم شعورنا أننا لا نستحق شيئاً على الإطلاق بسبب ميلنا المنحرف في شهوات قلوبنا، ولكن في داخلنا لهيب نحوك، فمن يطفئ هذا اللهيب المتقد سوى رؤياك
أعطنا نعمة البصيرة المفتوحة بنورك لنراك متجلياً في الخليقة كلها وكل ما تمتد إليه أيدينا، وهبنا أن نُخبَّر بفضل نعمتك بمواهبك التي أنعمت بها علينا.

________________________________________
أيها الأحباء الغاليين جداً في ربنا يسوع
أنها الآن ساعة لنستيقظ ونطلب الله، كي ما يكسينا ثوب النعمة، ويجعلنا منقادين بروحه القدوس الذي أنسكب وتدفق على آبائنا العظام، حتى نصير للعالم كله حركة وبركة وقوة ونور وقيادة صالحة . وأن يصير لنا الروح القدس عوناً وقائد عظيم نستسلم له، وتيقنوا أن حتى في ضعفنا الشديد ستظهر قوة الله بوضوح، فالروح القدس لا يبالي بضعفنا ولا كم نحن خائرين ولا نقوى على النهوض، لأنه يُقيم نفوسنا مهما ما كان موتنا بل وقد نصل لحد أن يقال عنا [ لقد أنتن ] لأن عمل الله هو أن يُقيم الأموات، هذا إذ كنا حقاً نطلبه ونشتاق إليه ونسعى في أثره…

يا أحبائي، لا تنظروا إلى أنفسكم وكم أنتم ضعفاء أو خطاة أو أشرار أو فجار حتى، بل أنظروا إلى شخص المسيح الحي وملامحه التي فيكم، فأنتم جديرين بالله لأنكم صورته ومثاله بل وأبناءه …

لو كنا نشعر بخطيئتنا الثقيلة جداً وكم نحن عراة من النعمة وكل بر وليس فينا صلاح إطلاقاً، فلنأتي إليه لأنه هو بحر غفراننا الأبدي، لا تصدقوا أنفسكم وتظنوا أنكم غير مقبولين عنده، هذا خداع الشر الزائف، لأن من منا سيكون مقبولاً عنده إذ أنه لا يتبرر مخلوق امامه، فإن أردتم يسوع تمسكوا بيه واصرخوا إليه لن نتركك أبداً مهما كنا في ضعف أو موت أو مرض أو خسارة كل شيء حتى كل ما نملك…

لا تجعلوا مواهبكم بعيدة عن مسحة الروح القدس بل تقدموا لله بتوبة وإرادة واعية وبإصرار أن تتمسكوا به للنفس الأخير، ودعوه يمسح مشاعركم ومواهبكم وكل حركات نفوسكم بالروح القدس

لنقوم بثورة على أنفسنا ولا نكف قط عن مناداته مهما كانت أحوالنا أو ظروفنا أو مشاكلنا الجسدية أو النفسية أو الروحية، ولنتقدم للكتاب المقدس والإفخارستيا والصلاة بكل حب وإصرار وبلا توقف، وإن توقفنا لا نخور بل نعود نمسك به مرة أخرى بإصرار، حتى لو سقطنا وضعفنا آلاف مؤلفة من المرات، لأننا سننتظر أوقات الفرج من عند الرب وهو قادر أن يُقيمنا مهما ما كانت الأحوال لأن لنا ثقة فيه لأنه أمين لا يقدر أن ينكر نفسه.

يا أحبائي – أكرر ما قلته سابقاً آلاف المرات – لا تنظروا أبداً على أنفسكم وكم أنتم ضعفاء أو خطاه، أنظروا لشخص المسيح وملامحه فيكم، فأنتم حقاً جديرين بالله، ,اتلكم عن خبرة شخصية، لأني حينما أكون ضعيف خائر وتحت ضعف خطيئتي العظيمة صارخاً غليه ارحمني ونجيني واغسلني واشفيني أجده حاضراً فاتحاً أحضانه الأبوية ليغسلني من وسخ الخطية الملوث للنفس، ويُشفيني من مرضها القاتل…

وأحب أن أختم بقصيدة شعرية للقديس غريغوريوس النزينزي :

[ + نحن نباركك يا أبا الأنوار ،
المسيح كلمة الله، بهاء مجد الآب ،
نور من نور، ومنبع النور ،
الروح النار، نسمة الابن كما هو نسمة الآب .

+ أيها الثالوث القدوس، النور غير المنقسم ،
أنت بدَّدت الظلمات، لكي تخلق
عالماً مضيئاً، منسَّقاً حسناً ،
يحمل شبهك.

+ أضأت الإنسان بالفهم والحكمة ،
وأنرته بختم صورتك ،
لكي بنورك يعاين النور ( مز36: 9 ) ،
ويصير هو بكليته نوراً .

+ أنت جعلت السماء تلمع ببريق أنوار لا حصر لها ،
ونسَّقتها نهاراً وليلاً .
لكي تعمل على تقسيم الزمن .
من دورٍ إلى دورٍ بكل هدوء .

+ فالليل يضع حداً للعمل للأجساد المتعبة ،
والنهار يُنهضنا للأعمال التي تحبَّها ،
فنتعلَّم أن نهزم الظلمة، ونُسرع
نحو هذا النهار الذي لن يعقبه بعد ليل ]
Hymn XXXII. PG 37, 511 – 512

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى