بدع وهرطقات

التعيين وسبق المعرفة



التعيين وسبق المعرفة

التعيين
وسبق المعرفة

الأنبا
بيشوى

 

سوف
نتكلم عن سبق التعيين والاختيار، سواء فى عقيدة كنيستنا أو العقائد الأخرى فى هذا
الموضوع.

وقبل
أن نشرح عقيدة كنيستنا سنقرأ جزءاً من كتاب أصدرته الكنائس المصلحة بعنوان
Understanding the Reformation، عن مجمع الكنائس الإنجيلية المصلحة عن مجمع عقد فى دوردريخت سنة
1618، 1619. بعد أن نقرأ هذا الجزء سوف ندرس معاً إلى أى مدى يتفق هذا الكلام مع
الكتاب المقدس ومع عقيدة كنيستنا.

 

تكلم
الكتاب عن مارتن لوثر وكالفن وزوينجلى وقيادات الإصلاح فى القرون الوسطى فى أوربا،
ورد الفعل ضد عقائد معينة وأساليب معينة أتبعتها الكنيسة الكاثوليكية، مما أحدث
الثورة البروتستانتية التى يسمونها حركة الإصلاح. بعد ما إنتهى الكتاب من ذكر
تاريخ القرن السادس عشر بدأ يذكر ما حدث فى القرن السابع عشر.

 

ذكر
الكتاب فى صفحة 48 ما يلى:

The
century was also a time ofcontroversy over the purity of Reformed doctrine. The
countless faculties oftheology now established throughout the continent upheld
the orthodox doctrines. The most divisive controversy started in the
Netherlands
with Jacobus Arminius, it focused on the question of grace and predestination.
A former student of “Beze”, Arminius distanced himself from Calvinist theology
by arguing thatChrist died not only for the elect but for all people, who could
be saved ifthey made good use of the divine grace offered to all. His colleague
at theUniversity of
Leiden, Franciscus Gomarus defended the orthodox doctrine: notonly
did Christ die for the elect only, but one can neither resist nor losegrace
once it has been conferred by God
.

 

وترجمته:
كان القرن السابع عشر أيضاً عصر صراع على نقاوة عقيدة الإصلاح (يقصد عقيدة
البروتستانت الأوائل التى يسمونها ثورة الإصلاح). إن كليات اللاهوت العديدة التى
تأسست فى الوقت الحاضر فى كافة القارة حافظت على نقاوة العقيدة الأرثوذكسية
(يقصدون التعليم البروتستانتى). وأشد صراع مسبب للشقاق أو الشرخ بدأ فى نذرلاند
(هولندا) بسبب تعاليم “ياكوبوس أرمنيوس”، وانصب حول موضوع النعمة وسبق
التعيين. ولكونه أحد تلاميذ “بيز”، أبعد أرمنيوس نفسه عن لاهوت
“كالفين”، حيث قال إن المسيح لم يمت فقط من أجل المختارين، ولكن من أجل
كل البشر الذين من الممكن أن يخلصوا لو استخدموا النعمة الإلهية المقدمة للجميع
استخداماً حسناً. وزميله فى جامعة “ليدين”، “فرانسيسكوس
جومارس”، دافع عن العقيدة الأرثوذكسية (أى المستقيمة والمقصود هنا
البروتستانتية) وقال: إن المسيح لم يمت فقط من أجل المختارين، ولكن أى شخص لا
يستطيع أن يقاوم النعمة الإلهية الآتية من الله ولا يقدر أن يفقدها مادام الله قد
قدمها له.

 

ومنشور
فى الكتاب صورة للمجمع البروتستانتى الذى حكم على أرمنيوس ويظهر فى الصورة حراس
للمجمع بأسلحة ومكتوب تحت الصورة ما يلى:

 

The
Synod ofDordrecht (1618-1619) condemned the Arminians and refined the doctrine
of dualpredestination: by his decree, God decides freely – and not based on anyforeknowledge
of a believer’s faith- who will be save and who will be damned.
Dordrecht
contributed to the formation of a “Reformed orthodoxy
”.

 

وترجمته:
مجمع دوردريخت سنة (1618 – 1619) أدان أرمنيوس وكل مدرسته، ونقى التعليم الخاص
بسبق التعيين الثنائى: بحكمه، إن الله الله يقرر بحريته من سيخلص ومن سيهلك وليس
بناءً على سبق معرفته بإيمان المؤمنين. ساهم مجمع دودريخت فى تشكيل
“أرثوذكسية الإصلاح”.

 

والعبارة
الموجودة تحت الصورة هى رأى الهيئة الناشرة للكتاب فى جنيف سنة 2007، وهذه الهيئة
هى أعلى سلطة بروتستانتية فى العالم كله، حيث عاش “كالفن” وعلَّم؛ وهناك
متحف كبير مزين بكثير من الصورة عن تاريخ الإصلاح. وهذا الكتاب الذى قرأنه منه هذه
الفقرة هو ال
best sellerفى مكتبة
مجلس الكنائس العالمى.

 

وهناك
كتاب آخر أورده نيافة الأنبا موسى، هذا الكتاب أصدرته دار الثقافة المسيحية باللغة
العربية سنة 1971 اسمه “علم اللاهوت النظامى” يؤكد على نفس المعانى
فيذكر فى الباب الثامن ما يلى: (إن الله سبق فعيّن كل ما يحدث سواء كان حدوثه
اضطرارياً أم اختيارياً وسواء كان صالحاً أم شريراً أى أن كل الحوادث على الإطلاق
داخلة فى قصد الله ولابد من وقوعها. إن الذين سبق فعرفهم عرفهم بمسرة مشيئته
وبمقتضى القصد والنعمة لا لأجل أعمالهم التى سيعملونها، الألفاظ “سبق
فأعد” و “مهيأة” تدل على إعداد الله السابق خلائقه العقلية أو
تعيينهم إما للخلاص أو للهلاك لإظهار مجده. قضى الله سابقاً على بعض الناس
والملائكة بالحياة الأبدية وآخرون بتعيينهم سابقاً للموت الأبدى. هؤلاء الملائكة
والناس المقضى عليهم سابقاً والمعينون سابقاً هم مقصودون خصوصيون لا يتغيرون
وعددهم معلوم محدود بحيث لا يزاد ولا ينقص. إن الإيمان والتوبة والطاعة الإنجيلية
هى ثمار الاختيار لا أسبابه ولا يصح جعل الأسباب ثماراً ولا جعل الثمار أسباباً.
إن الإيمان والتوبة هى عطايا الله وأنه يهبها بقصده الأزلى ولذلك لا يجوز أن
نحسبها شروط بشرية يتوقف عليها اختيار الله. إن المؤمنين يؤمنون لأنهم معينون. إن
الاختيار غير مبنى على الأعمال الصالحة مطلقاً، إن الاختيار هو مجرد مشيئة الله.
إن الله باختياره للبعض لم يظلم الذين لم يخترهم لأن الاختيار هو من أعمال الرحمة
التى هو غير ملزَم بها، ولذلك هو متروك لاستحسانه تعالى، فإذا شاء أن يصنع إحساناً
خاصاً مع المختارين فلا يكون قد ظلم بذلك غير المختارين.

 

إن
الله فى إجراء عدله لا ينظر إلى الوجوه، ولكن فى إجراء رحمته يكون له أن يختار من
يشاء ويرفض من يشاء. إن اختيار الله للبعض من أعمال إرادته المطلقة).

 

هذا
هو كلامهم باستفاضة وبالتفصيل وباللغة العربية. وهذا يوضح أن هذا الفكر ليس فقط
موجود فى الخارج ولكنه منتشر ومتشعب كأحد العقائد الأساسية جداً عند البروتستانت
فى جميع أنحاء العالم. لدرجة أنه فى المجتمع المصرى الذى يعتبرون فيه أقلية فيكون
من المتوقع أن يتأثروا بفكرنا إلى حد ما؛ إلا أن هذه النقطة لم تهتز عندهم، بل على
العكس يتوسعون فيها، بهذا الشكل الذى قرأناه من الكتاب الصادر فى مصر. هم يترجمون
ترجمة بالنص من شروحات “كالفين”، وهو أكبر معلّم عند البروتستانت، وإن
كان “مارتن لوثر” هو مؤسس حركة الإصلاح. وكان “لوثر” يعتبر أن
رسالة رومية هى أساس عقيدته، وهم يعتبرون أن تفسير “مارتن لوثر” لرسالة
رومية هو أعظم عمل قام به فى حياته كلها. وأحياناً يقولون ما معناه أن من لا يقرأ
تفسير “لوثر” لرسالة رومية يكون كأنه لا يعرف شيئاً.

نحن
لا ننكر أن رسالة رومية فعلاً بها جزء صعب الفهم إلى حد ما فى الإصحاح التاسع، ويحتاج
على شرح وتفسير. ولذلك قال معلمنا بطرس الرسول “كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ
أَخُونَا الْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضاً بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَهُ،
كَمَا فِى الرَّسَائِلِ كُلِّهَا أَيْضاً، مُتَكَلِّماً فِيهَا عَنْ هَذِهِ
الأُمُورِ، الَّتِى فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ
الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ كَبَاقِى الْكُتُبِ أَيْضاً، لِهَلاَكِ
أَنْفُسِهِمْ” (2بط 15: 3-16). هنا حذّر القديس بطرس الرسول من أن رسائل
معلمنا بولس بها بعض فقرات عسرة الفهم، ومن الممكن أن تؤدى إلى تفاسير ضد الإيمان
الحقيقى، ولكن من يفعل ذلك هو المخطئ، ليس العيب فى بولس الرسول.. لأن معلمنا بطرس
الرسول كتب عنه أنه يكتب “بحسب الحكمة المعطاة له”. أعتقد أن بطرس
الرسول حينما قال عبارة “فيها أشياء عسرة الفهم” كان يشير إلى رسالة
بولس الرسول إلى أهل رومية الإصحاح التاسع.

 

من
المعروف أن بولس الرسول استشهد فى مدينة روما، وإن كان لم يؤسس كنيسة روما.
وغالبية الظن هى أن القديس بطرس الرسول قد اطلع على هذه الرسالة إما وهو فى روما
أو قبل أن يذهب إليها. وكانت روما فى ذلك الحين هى عاصمة الإمبراطورية الرومانية
كلها قبل تقسيمها، فالرسالة إليها لم تكن هينة، حتى تهمل أو حتى أن تعتبر مثل باقى
الرسائل.

 

لا
تقلقوا سوف نفسّر لكم رسالة رومية الإصحاح التاسع.

من
ضمن الآيات التى يجب أن تكون فى خلفية تفكيرنا ونحن ندرس هذه القضية الآيات
التالية:

 


“الَّذِى يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ
الْحَقِّ يُقْبِلُونَ” (1تى 4: 2).


“إِنِّى لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ, بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ الشِّرِّيرُ
عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا” (حز 11: 33). أى إن الله لا يشاء موت الخاطئ مثلما
يرجع وتحيا نفسه..


“هَكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ الَّذِى فِى السَّمَاوَاتِ
أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ” (مت 14: 18).

 

فكيف
تتفق هذا الآيات مع العبارات التى وردت فى الكتب التى تليت أجزاء منها على
مسامعكم، مثل عبارة “الرحمة التى هو (الله) غير ملزَم بها، ولذلك هو متروك
لاستحسانه تعالى”؟ إن عبارة أن الله غير ملزم بالرحمة فى حد ذاتها تفترض أن
كل الخليقة خاطئة، ولكنهم قالوا أيضاً أنه حتى بالنسبة إلى الملائكة فقد عيّن الله
ملائكة أبرار وملائكة أشرار. فحتى لو قلنا أن كل البشر كانوا تحت الغضب الإلهى،
وبناء عليه فإن الله غير ملزم بالرحمة، مع أن الله من زاوية معينة ملزم بالرحمة،
لكن كيف يطبق هذا الكلام على الملائكة؟

 

دعونا
نتمشى مع هذا الفكر للنهاية: أن جميع البشر سقطوا تحت الموت والفساد، والله من
رحمته يخلص البشر الذين سوف يخلصون، فالحجة هنا هى أن البشر جميعاً كانوا تحت حكم
الموت الأبدى والله غير ملزم بخلاصهم، فإذا خلّص البعض منهم يكون له الشكر. لكن قد
فاتهم أنهم قالوا أنه حتى الملائكة الأبرار فإن الله هو الذى عينهم: “قضى
الله سابقاً على بعض الناس والملائكة بالحياة الأبدية وآخرون بتعيينهم سابقاً
للموت الأبدى”، والمعروف أن الملائكة كانوا كلهم قديسين. هنا نجد تناقض فى
الكلام لأنهم يقولون “إن الله غير ملزَم بالرحمة”، فنرد: وماذا عن
الملائكة الذين لم يكن بينهم أشرار، ما الذى جعل فيهم أبراراً وأشراراً؟

 

إن
حجم الخطأ فى كلامهم عن البشر أقل من حجمه فى الكلام عن الملائكة. فالنظرية التى
بناها الكاتب فى أول الأمر ضمّن فيها الملائكة فى قوله “هؤلاء الملائكة
والناس المقضى عليهم سابقاً والمعينون سابقاً”. إذن حجة أن الرحمة الله غير
ملزم بها هى حجة واهية لأنه حتى الملائكة الذين لم يكونوا فى احتياج إلى رحمة أصبح
فيهم أبرار وأشرار. والأبرار منهم لم يصيرون أبرار نتيجة للرحمة، لأنه لم يتم عمل
خلاص بالنسبة لهم، ولكنهم استمروا فى حالة القداسة التى خُلقوا عليها. إذن
الملائكة الذين سقطوا، سقطوا بكامل إرادتهم ولم يخلصوا، والملائكة الذين استمروا
أبراراً، استمروا أبراراً بكامل إرادتهم ولم يسقطوا. والله لم يصنع خلاصاً
للملائكة ولا تداركتهم مراحمه كما فعل مع البشر. فالملائكة لا تنطبق عليهم هذه
النظرية الخاصة بمراحم الله والتى تنطبق على البشر.

 

عقيدة
“أرمنيوس”

هل
عقيدته قريبة من عقيدتنا وهل لما أدانه هذا المجمع كان مخطئاً؟ الرد هو أن أفضلهم
كان أكثر منهم خطاءًا..

 

لقد
أغلق على أرمنيوس فى عقيدة أراد أن يوجد لها مخرج، فكان المخرج خطأ. هو لم يعجبه
أن يكون الله هو الذى يحدد من يخلص ومن يهلك، فحفر ثغرة لكى يفلت من هذه العقيدة،
فما عمله كان خطاءً أيضاً، مع أن نيته كانت أفضل، لكنه وضع عقيدة أخرى خاطئة فوق
العقيدة الأخرى الخاطئة.

 

قال
أرمنيوس إن الخلاص ليس فقط للمختارين ولكن لغير المختارين الذين يستطيعون أن
يستفيدوا من النعمة الإلهية المقدمة للجميع، وأن المسيح مات لأجل الجميع، فهؤلاء
أيضاً من الممكن أن يخلصوا، وليس المختارين فقط. هو هنا وقع فى خطأ آخر لأن مدخله
للموضوع كان خطأً، وبنى نظريته على أساس خطأ…

 

من
هم الذين اختارهم الله؟

هذه
هى فاتحة القضية؟ هل هم الذين اختارهم الله بإرادته الحرة، أم الذين بسبق معرفته
سبق فعلم أنهم سيؤمنون ويطيعونه ويعملون أعمالاً صالحة… إلخ؟ من هم الذين
سيستخدمون النعمة الإلهية استعمالاً حسناً؟ هؤلاء هم المختارون.. وحتى المختارون
أنفسهم لابد أن يستخدموا النعمة الإلهية استعمالاً حسناً لكى يخلصوا.

 

“أرمنيوس”
أضاف أن هناك مختارين وهناك من يستخدمون النعمة الإلهية استخداماً حسناً. لكن
الصحيح أن من يستخدمون النعمة الإلهية استخداماً حسناً هؤلاء هم المختارون.

 

حاول
أرمنيوس أن يصلح خطأً كبيراً بخطأ إضافى، لكن حينما أنظر إلى إتجاهه العام أجد أنه
حاول أن يحل المشكلة التى وجدها قائمة ولكنه لم يستطع أن يحلها.. فلم تكن لديه
الشجاعة الكافية أن يقول عمن سبقوه أن مفهومهم عن المختارين هو مفهوم خطأ.

 

ماذا
قال الكتاب المقدس فى موضوع سبق المعرفة والاختيار؟


“وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ
لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ. لأَنَّ
الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ
صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ. وَالَّذِينَ
سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ
فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ
مَجَّدَهُمْ أَيْضاً” (رو 28: 8-30).

 

الآية
الأولى حتى عبارة “حَسَبَ قَصْدِهِ” تؤكد كلامهم، لكن القديس بولس
الرسول يفسّر المقصود بكلمة “قَصْدِهِ” مكملاً “لأَنَّ الَّذِينَ
سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ”. إذن سبق المعرفة
foreknowledge هو السبب فى سبق التعيين predestination.
والآن سوف نرد عليهم من كلامهم.

هم
يقولون أنه “لا يصح جعل الأسباب ثماراً ولا الثمار أسباباً”، ونحن نرد
بتطبيق نفس النظرية: إن سبق التعيين هو نتيجة لسبق المعرفة لأن الكتاب يقول
“لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ”. إن سبق
المعرفة هى السبب وسبق التعيين هو النتيجة أو الثمرة. ثم يكمل معلمنا بولس الرسول
بقوله “وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ
أَيْضا”. إذن السبب الأصلى هو سبق المعرفة، والنتيجة الأولية هى سبق التعيين،
والنتيجة الثانوية هى الدعوة. هذا بالنسبة لله، أما بالنسبة للبشر فإن النتيجة
الأولية هى الدعوة، والنتيجة الثانية هى سبق التعيين.

 

بمعنى
أن الإنسان يكتشف أنه معيّن أو مختار بأن يُدعى، ونتيجة لذلك يؤمن، وحينما يؤمن
يشعر أنه مختار. أين ومتى يكتشف ذلك؟ يكتشف ذلك فى اليوم الأخير فى الحياة
الأبدية. لذلك قال السيد المسيح “لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ
يُنْتَخَبُونَ” (مت 14: 22). كل شخص مسيحى يمكنه أن يقول: أنا مدعو، وهذا
صحيح؛ ولكن لا يستطيع أن يقول: أنا مختار، لأنه لا يستطيع أن يُثبِت ذلك.

 

السيد
المسيح يقول: “مَنْ يَغْلِبُ… وَلَنْ أَمْحُوَ اسْمَهُ مِنْ سِفْرِ
الْحَيَاةِ” (رؤ 5: 3) فحتى لو قال الشخص المسيحى: أنا اسمى مكتوب فى سفر
الحياة، فهذا صحيح ولاشك فيه، ولكنه رغم ذلك من الممكن أن يُمحى اسمه من سفر
الحياة.

من
الممكن أن يكون الشخص مدعو، واسمه مكتوب فى سفر الحياة، وعضو فى جسد المسيح، ذاق
الموهبة السماوية، وقوات الدهر الآتى، واستنار، ولكن رغم كل ذلك يسقط ولا يتوب
ويُمحى اسمه من سفر الحياة (عب 4: 6-6).

 

إن
سفر الأعمال يذكر لنا فى قصة سيمون الساحر أنه كان قد آمن واعتمد، والروح القدس
نفسه هو الذى أوحى بما كتب فى سفر الأعمال من أنه آمن:

 


“وَسِيمُونُ أَيْضاً نَفْسُهُ آمَنَ. وَلَمَّا اعْتَمَدَ كَانَ يُلاَزِمُ
فِيلُبُّسَ وَإِذْ رَأَى آيَاتٍ وَقُوَّاتٍ عَظِيمَةً تُجْرَى انْدَهَشَ…
وَلَمَّا رَأَى سِيمُونُ أَنَّهُ بِوَضْعِ أَيْدِى الرُّسُلِ يُعْطَى الرُّوحُ
الْقُدُسُ قَدَّمَ لَهُمَا دَرَاهِمَ قَائِلاً: أَعْطِيَانِى أَنَا أَيْضاً هَذَا
السُّلْطَانَ حَتَّى أَىُّ مَنْ وَضَعْتُ عَلَيْهِ يَدَىَّ يَقْبَلُ الرُّوحَ
الْقُدُسَ. فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: لِتَكُنْ فِضَّتُكَ مَعَكَ لِلْهَلاَكِ
لأَنَّكَ ظَنَنْتَ أَنْ تَقْتَنِىَ مَوْهِبَةَ اللهِ بِدَرَاهِمَ. لَيْسَ لَكَ
نَصِيبٌ وَلاَ قُرْعَةٌ فِى هَذَا الأَمْرِ لأَنَّ قَلْبَكَ لَيْسَ مُسْتَقِيماً
أَمَامَ اللهِ. فَتُبْ مِنْ شَرِّكَ هَذَا وَاطْلُبْ إِلَى اللهِ عَسَى أَنْ
يُغْفَرَ لَكَ فِكْرُ قَلْبِكَ لأَنِّى أَرَاكَ فِى مَرَارَةِ الْمُرِّ وَرِبَاطِ
الظُّلْمِ. فَأَجَابَ سِيمُونُ: اطْلُبَا أَنْتُمَا إِلَى الرَّبِّ مِنْ أَجْلِى
لِكَىْ لاَ يَأْتِىَ عَلَىَّ شَىْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُمَا” (أع 13: 8،18-24).

 

ونلاحظ
أن السفر نفسه يذكر أن سيمون آمن، وليس سيمون هو الذى يقول عن نفسه. ولكنه لما رأى
الآيات التى يعملها الرسل أعجب بها، فأحضر أموالاً للرسل لكى يعطوه هذه الموهبة.
أى أنه بعد أن آمن عاد واشتهى أن يقتنى موهبة الله بدراهم، فقال له معلمنا بطرس
الرسول: “لأَنِّى أَرَاكَ فِى مَرَارَةِ الْمُرِّ وَرِبَاطِ الظُّلْمِ”
(أع 23: 8). وعلى الرغم من إيمانه إلا أن الشيطان دخل إليه من ناحية أخرى وهى
السيمونية، أى الرغبة فى اقتناء موهبة الله بدراهم. على أن معلمنا بطرس لم يغلق
أمامه طريق التوبة، ولا قال له أنه ليس له خلاص، بل دعاه لأن يتوب ويطلب إلى الله
“فَتُبْ مِنْ شَرِّكَ هَذَا وَاطْلُبْ إِلَى اللهِ عَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَكَ
فِكْرُ قَلْبِكَ” (أع 22: 8).

 

وكلمة
“عَسَى” تدل على أنه ليس هناك تحديد قطعى إن كان من المختارين أم لا رغم
أنه: مدعو، وآمن، واعتمد، وأصبح عضو فى جسد المسيح. لكن نجد القديس بطرس الرسول
يقول له “عَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَكَ”. أما سيمون فلم يصمم على العناد
ولكنه طلب صلواتهم من أجله، فالمسألة احتاجت إلى صلوات، ومع ذلك لم نعرف النتيجة
إلى الآن. فكلمة “عَسَى” تعنى على قدر استجابته لعمل النعمة.

 


“لأَنَّ الَّذِينَ اسْتُنِيرُوا مَرَّةً، وَذَاقُوا الْمَوْهِبَةَ
السَّمَاوِيَّةَ وَصَارُوا شُرَكَاءَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَذَاقُوا كَلِمَةَ اللهِ
الصَّالِحَةَ وَقُوَّاتِ الدَّهْرِ الآتِى، وَسَقَطُوا، لاَ يُمْكِنُ
تَجْدِيدُهُمْ أَيْضاً لِلتَّوْبَةِ، إِذْ هُمْ يَصْلِبُونَ لأَنْفُسِهِمُِ ابْنَ
اللهِ ثَانِيَةً وَيُشَهِّرُونَهُ” (عب 4: 6-6).

 

معلمنا
بولس الرسول هنا يتكلم عن حالة أناس ليس فقط أنهم آمنوا ولكن أكثر من ذلك:
“اسْتُنِيرُوا مَرَّةً” إشارة إلى المعمودية، ثم “وَذَاقُوا
الْمَوْهِبَةَ السَّمَاوِيَّةَ” إشارة إلى الميرون، “وَصَارُوا
شُرَكَاءَ الرُّوحِ الْقُدُسِ” هذا هو سر الميرون أيضاً أى المسحة المقدسة،
“وَذَاقُوا كَلِمَةَ اللهِ الصَّالِحَةَ” هذا يتم من خلال قراءة الأسفار
المقدسة ومعرفة أقوال الله، “وَقُوَّاتِ الدَّهْرِ الآتِى” أى ربما
يكونوا قد رأوا ملائكة ورأوا معجزات وأموراً عجيبة، ورغم كل ذلك سقطوا!!

 

وعبارة
“لاَ يُمْكِنُ تَجْدِيدُهُمْ أَيْضاً لِلتَّوْبَةِ” المقصود بها إنهم لا
يمكن أن ينالوا المعمودية ثانية. هؤلاء أمامهم سر التوبة والاعتراف
“فَاذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ…” (رؤ 5: 2)، أما إذا لم
يتوبوا فبقية الآية: “وَاعْمَلِ الأَعْمَالَ الأُولَى، وَإِلاَّ فَإِنِّى
آتِيكَ عَنْ قَرِيبٍ وَأُزَحْزِحُ مَنَارَتَكَ مِنْ مَكَانِهَا، إِنْ لَمْ تَتُبْ”
(رؤ 5: 2).

 

إذن
“كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ” (مت 14: 22)
والسؤال هنا من هم المنتخبون؟ هؤلاء هم المختارين. إذن ليس كل المدعوين مختارين
ولكن كل المختارين مدعوين، وحتماً مدعوين، هذا دليل ضد من ينادوا بخلاص غير
المؤمنين.. لأنه ليس أحد مختار ويكون غير مدعو، والدليل هو “لأَنَّ الَّذِينَ
سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ… وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ
فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً” (رو 29: 8-30).

 

إذن
مسحيل أن أحداً فى سبق معرفة الله من الممكن أن يشهد بالإيمان ولا يُدعى، حتى إذا
كان فى غانا أو فى مجاهل أفريقيا. لقد ظهر الملاك لكرنيليوس وقال له استدعى بطرس،
وكما ظهر السيد المسيح بنفسه لبولس الرسول فى الطريق. لم يفلت أحد من يد السيد
المسيح مهما كان متعصباً مثل بولس، أو حتى أممياً مثل كرنيليوس.

 

عندما
شاهد بطرس الرؤيا وذهب إلى كرنيليوس رفضت الكنيسة بطرس، ولكن عندما سمعوا القصة
والرؤى والإعلانات قالوا “إِذاً أَعْطَى اللهُ الأُمَمَ أَيْضاً التَّوْبَةَ
لِلْحَيَاةِ” (أع 18: 11). لا يوجد شئ يستطيع أن يقف عقبة أمام الله أبداً.
حينما وقفت الكنيسة كلها أمام شئ، بإستثناء بطرس الذى قام بهذه المأمورية، لم
تستطع أن تبطل عمل الله، بل خضعت للدعوة الإلهية بقبول الأمم.

وكذلك
عندما خافت الكنيسة كلها من شاول الطرسوسى، ثم قال الله “هَذَا لِى إِنَاءٌ
مُخْتَارٌ… سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِى أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِى”
(أع 15: 9-16) خضعت الكنيسة. وكأن الله يريد أن يقول: أنا إخترته لأنى دعوته،
ولأنى دعوته لذلك بررته بالمعمودية. فقال حنانيا لله عن شاول أنه عمل الكثير ضد
الكنيسة، فكان رد الرب “هَذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ”، وأمر الله حنانيا
أسقف دمشق أن يذهب إلى شاول ويعمده، فذهب وشفى له عينه وعمده.

 

كذلك
فى قصة فيلبس الذى خطفه روح الرب من وسط المياه فوجد فى أشدود (انظر أع 8). الذين
هم لله لا يفلتون من يده. الله كان يستطيع أن يخطف فيلبس ويرسله إلى الهند أو إلى
أبعد مكان على الأرض.

 

ثم
اختار الله الخصى الحبشى، فقال الملاك لفيلبس “تَقَدَّمْ وَرَافِقْ هَذِهِ
الْمَرْكَبَةَ” (أع 29: 8)، فعمل كما أمره الملاك. فلم يقل الرجل أنا يهودى،
أنا من نسل سليمان وملكة سبأ (كما يقول الأحباش)، أنا الأسد الخارج من سبط
يهوذا… لكن إذ وجده فيلبس يقرأ فى سفر إشعياء، سأله وعمن يقول النبى إشعياء
“مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ إِلَى الذَّبْحِ” (أع 32: 8، إش 7: 53)، فرد: كيف
يمكننى أن أعرف ما لم يعلمنى أحد؟!، فقال له أنه يتكلم عن يسوع، الذى صلبه اليهود.

 

فتعجب
الخصى الحبشى وكأن لسان حالة يقول: هل ذهبت لأحيى هؤلاء الناس وهم قد وقفوا ضد
الله؟!! ماذا أعمل؟ فقال له فيلبس إن الذى يؤمن لابد أن يولد ولادة جديدة، فسأله
الخصى كيف يكون هذا؟ ولم علم طلب أن يعتمد، “فَقَالَ فِيلُبُّسُ: إِنْ كُنْتَ
تُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ يَجُوزُ. فَأَجَابَ: أَنَا أُومِنُ أَنَّ يَسُوعَ
الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللهِ. فَأَمَرَ أَنْ تَقِفَ الْمَرْكَبَةُ فَنَزَلاَ كِلاَهُمَا
إِلَى الْمَاءِ فِيلُبُّسُ وَالْخَصِيُّ فَعَمَّدَهُ” (أع 837: 7-38). وبعد
أن تعمّد خطف روح الله فيلبس ثانية فلم يره الخصى الحبشى بعد..

 

إن
عمل الله هو أن يفتش على الذين له، وفى سفر إشعياء يقول: “هَا إِنَّ يَدَ
الرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّصَ وَلَمْ تَثْقَلْ أُذُنُهُ عَنْ أَنْ
تَسْمَعَ” (إش 1: 59).

 

إن
الذين ينادون بخلاص غير المؤمنين يقولون أن غير المؤمنين سوف يخلصون بدون إيمان أو
معمودية، وحجتهم فى ذلك إننا لم نقدم له شهادة قوية مثل شهادة بطرس وبولس. هم سوف
يخلصون حتى إذا كانوا قد عرفوا

 

بوجود
السيد المسيح والصليب لكنهم لم يجدوا بشارة قوية مثل بشارة بطرس وبولس.. وأصحاب
هذه العقيدة تارة يقولون لم تصل لهم البشارة وتارة أخرى يقولون لأن المسيحيين
أصبحوا ضعفاء ولا يقدمون شهادة قوية، ويحتجون بحجج كثيرة…

كل
المختارين مدعوين… بمعنى أن الله لا يمكن أن يفلت منه شخص واحد مستعد لقبول
الحياة الأبدية.. بل سوف يحاسبنا نحن إذا فلتت منا نفس واحدة لم نهتم بها.

 

تعالوا
نتخيل سوياً السيناريو التالى وكأنى أنا واقف فى يوم الدينونة أمام السيد المسيح
وكأنى أؤمن بعقيدة خلاص غير المؤمنين:

 

يسأل
الله: تعالى نتحاسب، كم نفس فى إيبارشيتك لم تخلصهم؟


الأنبا بيشوى: كم مليون فى العالم لم تبشرهم؟ طبعاً لا يليق أبداً أن أقول لله هذا
الكلام!!

 

وسائل
الله لخلاص البشر وعوائق الخلاص

 

الكتاب
يقول “هَا إِنَّ يَدَ الرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّصَ وَلَمْ
تَثْقَلْ أُذُنُهُ عَنْ أَنْ تَسْمَعَ” (إش 1: 59). وقال “مَاذَا
يُصْنَعُ أَيْضاً لِكَرْمِى وَأَنَا لَمْ أَصْنَعْهُ لَهُ” (إش 4: 5). وأيضاً
“هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِى
وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِى” (رؤ
20: 3). الله يريد حشداً… ونفس واحدة لا يمكن أن تفلت من يد الله، مهما كانت فى
أقصى أقصاء الأرض، وفى مجاهل أفريقيا أو غيره. لا يمكن أن تفلت نفس من يده.

 

لماذا
منع الروح القدس بولس وبرنابا من أن يتكلما بالكلمة فى أسيا فى سفر الأعمال
“وَبَعْدَ مَا اجْتَازُوا فِى فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلاَطِيَّةَ
مَنَعَهُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكَلِمَةِ فِى
أَسِيَّا” (أع 6: 16)؟ لأنه علم أن أحداً لن يستجب لنداء الرسل، وبالتالى سوف
يكون هذا ضياع للوقت، فأرسل ل مكدونى فى حلم لبولس الرسول يطلب إليه قائلاً
“اعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا” (أع 9: 16). وكذلك أيضاً ظهر
السيد المسيح نفسه فى رؤية لبولس وقال له “لاَ تَخَفْ بَلْ تَكَلَّمْ وَلاَ
تَسْكُتْ. لأَنِّى أَنَا مَعَكَ وَلاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ لأَنَّ لِى
شَعْباً كَثِيراً فِى هَذِهِ الْمَدِينَةِ” (أع 9: 18-10) وهى مدينة كورنثوس.
أليست هنا عبادة الأصنام فى عقر دارها؟ كل هذا سوف يهتز… فدخل بولس الرسول بقلب
قوى إلى كورنثوس وإلى أثينا وإلى تسالونيكى..

 

هل
تقولون لا يمكن أن يؤمن أحد فى أفغانستان أبداً؟! يوجد شخص آمن فعلاً فى هذه
الأيام، ولكنهم حكموا عليه بالإعدام، وتدخّل العالم كله لإنقاذه، فقالوا إنه
مجنون، وربما يكونوا قد تركوه يسافر أحد الأماكن. هو شخص واحد فقط وفى القرن
الواحد والعشرون. فعندما منع الروح القدس بولس أن يتجه إلى أفغانستان كان يعلم
أنها رحلة سيعود منها كما ذهب.. إذن لم يكن الله هو الذى منعه عن أن يبشرهم ولكنهم
هم الذين لم يكن ينفع معهم التبشير.

 

لما
أكون فى غرفة العمليات فى أى مؤسسة ضخمة مثل مصنع كبير به معدات تتحرك بال
remote control وخلافه، فيجلس بها كبار الفنيين ويديرون كل المعدات من غرفة
العمليات، مثل أن يجعلوا ونش يتحرك ويحمل حمولة، ويرون ذلك على شاشات أمامهم. هكذا
يجلس الله فيما نسميه غرفة عمليات – إن جاز التعبير – ليدير عملية الكرازة
بالإنجيل فى العالم كله.

 

وأيضاً
فى رسالة القديس بولس الرسول إلى العبرانيين يقول عن الملائكة: “أَلَيْسَ
جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ الْعَتِيدِينَ
أَنْ يَرِثُوا الْخَلاَصَ” (عب 14: 1).

 

وقد
شاهد يوحنا الحبيب فى رؤياه ربوات ربوات من الملائكة، وربوة الربوة هى عشرة آلاف
عشرة آلاف، أى مائة مليون. ويقول عنهم معلمنا بولس أنهم “جَمِيعُهُمْ
أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً”.

 

“جَمِيعُهُمْ”
أى جميع الملائكة بإستثناء الأربعة الحيوانات غير المتجسدة التى تحمل العرش. مع
أنه حتى الأربعة حيوانات يخدموننا بالرموز التى قدموها لنا من خلال حملهم للعرش:
فأحدهم له شكل إنسان ويرمز إلى التجسد، والثانى له شكل عجل ويرمز إلى الذبيحة
والصليب، والثالث له شكل أسد ويرمز إلى القيامة، والرابع له شكل نسر ويرمز إلى
الصعود. هذه هى أربع أفعال الخلاص التى بها يملك الله على عروش قلوبنا. وفى
التدبير الإلهى منذ الأزل أن الله سوف يتمم الفداء.

 

“جَمِيعُهُمْ
أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ الْعَتِيدِينَ أَنْ
يَرِثُوا الْخَلاَصَ” (عب 14: 1). وإن كانوا مرسلين للخدمة فلماذا هم صامتون
ولا يعملون شيئاً؟؟! هل هم غائبين عن الإدراك أو فقدوا النطق؛ أم أنهم يعملون؟؟
وإن كانوا يعملون فهل العيب فيهم أم فى البشر الذين لم يستجيبوا؟

 

ما
الذى كان يميّز كيرنيليوس حينما ظهر له الملاك؟؟ لقد قال له الملاك “يَا
كَرْنِيلِيُوسُ سُمِعَتْ صَلاَتُكَ وَذُكِرَتْ صَدَقَاتُكَ أَمَامَ اللهِ”
(أع 31: 10)، وكان كرنيليوس أممى ويهودى الديانة فكان يصلى وقبلت صلواته فأرسل له
الله ملاك يقوده إلى طريق الخلاص. وأرشده إلى بطرس لكى يعمده، فأرسل واستدعى بطرس
الذى عمده هو وكل من معه.

 

نكمل
شرح عبارات القديس بولس الرسول فى رسالته إلى أهل رومية:

 


“َالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً.
وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. والَّذِينَ بَرَّرَهُمْ
فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً” (رو 28: 8-30).

 

“والَّذِينَ
بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً” هذه هى المعمودية وعطية وشركة
الروح القدس. سجل واضح جداً أن سبق التعيين مبنى على سبق المعرفة.

 

ننتقل
إلى رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل أفسس:

 


“مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِى بَارَكَنَا
بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِى السَّمَاوِيَّاتِ فِى الْمَسِيحِ، كَمَا
اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ
لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِى الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّى
بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ” (أف 3:
1-5).

 

هذه
الآية ربطت الاختيار بسبق التعيين. الآية السابقة كانت “الذين سبق فعرفهم سبق
فعينهم” وهنا يقول “اخْتَارَنَا فِيهِ… سَبَقَ فَعَيَّنَنَا
لِلتَّبَنِّى”. إذن سبق التعيين مرتبط بالاختيار. إذن من سبق فعينهم هم
المختارين. بهذه الآيات نكون قد عملنا منظومة، ما هى؟

 

أن
سبق المعرفة أدت إلى سبق التعيين (سبق التعيين = الاختيار السابق أى قبل تأسيس
العالم).


سبق التعين أدى إلى الدعوة. – والدعوة أدت إلى التبرير. – والتبرير أدى إلى
التمجيد.

 

إذن
الأساس هو سبق معرفة الله، سبق معرفته بأى أمر؟

 

أولاً:
بقبول الإيمان. ثانياً: بالسلوك فى الوصية إلى النهاية.

بمعنى
أن عبارة “سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّى” هذا بناء على سبق معرفته.
وماذا عرف عنهم؟ عرف أنهم يقبلون الإيمان، ويسلكون فى الوصية إلى النهاية.

 

قال
قداسة البابا شنودة الثالث عبارة جميلة جداً وهى:

“إن
سبق معرفة الله لا يلغى حرية إرادة الإنسان”

 

وقال
تشبيهاً لطيفاً: إن المدرس الذكى جداً يعرف من هو الطالب الذى سيكون الأول على
الفصل، وليس معنى ذلك أن المدرس هو الذى فرض على هذا الطالب أن يصبح الأول. وأيضاً
المدرس الذكى جداً يعلم من سوف ينجح ومن سوف يرسب فى الإمتحان، وليس معنى هذا أنه
هو الذى فرض عليهم ذلك النجاح والرسوب. طبعاً بالنسبة للمدرس فهو مجرد أنه يتوقع
وقد تتحقق توقعاته كلها أو تسعون بالمائة منها، أما الله فمعرفته كاملة. طبعاً
المدرس مداركه ليست مثل الله.

 

هناك
نقطة أخرى لابد أن تعرفوها وهى أن الله يعمل نوع من ال
Pre-Test
أى الاختبار السابق، بمعنى أنه مثلاً إختبر بيلاطس البنطى فى موضوع الحق، فقدم له
الحق الأصغر قبل أن يقدم له الحق الأكبر. وكأنه يقول له إذا نجحت فى الإمتحان
سأخبرك بأسرار الخلاص والحياة الأبدية. لأن بيلاطس كان قد سأل السيد المسيح
“مَا هُوَ الْحَقُّ؟” (يو 38: 18)، فلم يجبه السيد المسيح ولكن أرسل له
برسالة من خلال زوجته حينما قالت له: “إِيَّاكَ وَذَلِكَ الْبَارَّ لأَنِّى
تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيراً فِى حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ” (مت 19: 27). هذه
رسالة وصلته، فهل حقق فى الأمر بنفسه قبل أن يحكم بالموت، بل قال “إنِّى
بَرِىءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ” (مت 24: 27) ثم حكم عليه بالإعدام!!!
تحكم بالإعدام على البار ثم تسأل “مَا هُوَ الْحَقُّ؟” لذلك لم يرد عليه
السيد المسيح…

 

هناك
اختبار يعمله الله وهدف هذا الإختبار هو أن يرى الله إن كان هذا الإنسان سيقبل أم
لا يقبل؟ هل لديه الإستعداد؟ هل هو حقانى؟

لذلك
حينما قال معلنا بولس الرسول “أنَا الَّذِى كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً
وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً. وَلَكِنَّنِى رُحِمْتُ، لأَنِّى فَعَلْتُ بِجَهْلٍ
فِى عَدَمِ إيمَانٍ” (1تى 13: 1)، “أَنِّى كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ
اللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا” (غل 13: 1). هنا معلمنا بولس الرسول يقول
أنه رُحم ولكن ليس بدون سبب إنما رُحم لأنه عمل بجهل فى عدم إيمان. كانت له
“غَيْرَةً لِلَّهِ وَلَكِنْ لَيْسَ حَسَبَ الْمَعْرِفَةِ” (رو 2: 10).
لم يكن يقصد أن يضطهد الكنيسة، بل كان يظن أن عليه أن يعمل ذلك لكى يرضى الله.
ولأن الله رأى أن له غيرة مقدسة، مع أنها لا تتجه فى الاتجاه السليم، رأى من واجبه
– إن صح التعبير – كمعلم أو يعرِّفه الصواب. وإن لم تكن هذه طريقة الله فهذا يعنى
أن أى أستاذ بالجامعة هو أبر من الله، وحاشا طبعاً!! لأن الأستاذ إذا شرح المحاضرة
ووقف طالب وقال ما فهمه وكان ما فهمه هو عكس ما قصده الأستاذ، فالأستاذ فى هذه
الحالة يشرح ما يقصده ويصحح المفهوم الخاطئ للطالب. فهل الله يجد أن أى شخص يفهم
شئ خطأ ولا يفهمه الصواب؟!؟ كيف؟؟ وقد قرأنا لكم من يقولون “الرحمة التى هو
(الله) غير ملزم بها”! كيف يكون الله غير ملزم بالرحمة؟ أليست الرحمة من صفات
الله؟! وإن كانت من صفاته فكيف لا يكون ملزم بها؟

 

لقد
قال القديس أثناسيوس فى كتاب “تجسد الكلمة” الفصل التاسع:

“وإذ
رأى الكلمة أن فساد البشرية لا يمكن أن يبطل إلا بالموت كشرط لازم، وأنه مستحيل أن
يتحمل الكلمة الموت لأنه غير مائت ولأنه إبن الآب، لهذا أخذ لنفسه جسداً قابلاً
للموت حتى باتحاده بالكلمة الذى هو فوق الكل، يكون جديراً أن يموت نيابة عن الكل،
وحتى يبقى فى عدم فساد بسبب الكلمة الذى أتى ليحل فيه وحتى يتحرر الجميع من
الفساد، فيما بعد، بنعمة القيامة من الأموات. وإذ قدم للموت ذلك الجسد، الذى أخذه
لنفسه، كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة فقد رفع حكم الموت فوراً عن جميع من ناب
عنهم، إذ قدم عوضاً عنهم جسداً مماثلاً لأجسادهم”().

وكلمات
القديس أثناسيوس كأنها أغنية وليست كلاماً عادياً. فكيف يقولون أن الله غير ملزم
بالرحمة؟!

 

فى
رسالة القديس بولس الرسول إلى تيطس يقول:


“وَلَكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا اللهِ وَإِحْسَانُهُ لاَ
بِأَعْمَالٍ فِى بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ
خَلَّصَنَا بِغَسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِى وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ،
الَّذِى سَكَبَهُ بِغِنًى عَلَيْنَا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا” (تى
4: 3-6).

 

ما
معنى كلمة “بمقتضى”؟! كلمة “بمقتضى” تعنى بما تُلزم به رحمته.
فى اللغة العربية حينما يقولون “وكان أمراً مقضياً” تعنى أنه أمر لابد
وضرورى ولا يمكن أنه لا يحدث.

 

وفى
سفر الأعمال يقول معلمنا بطرس الرسول عن السيد المسيح:


“هَذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّما ًبِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ
وَعِلْمِهِ السَّابِقِ وَبِأَيْدِى أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ”
(أع 23: 2).

 

ما
معنى كلمة “المحتومة”؟! عبارة “مشورة الله” تعطى معنى أنه حر،
لكنه أضاف “مَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ”، أى حتماً ستحدث. مثلما
يقول أحد: أنا حتماً سوف أفعل الشئ الفلانى. هو هنا يربط سبق معرفة الله بحتمية
إجراء الفداء.: ما أن الخلاص أيضاً مبنى على علم الله السابق.

 


نيافة الأنبا موسى: من الممكن أن يفهم أحد الآية بطريقة خاطئة بمعنى أن الله هو
الذى حتم عليهم ذلك!.. لا.. ولكن “المحتومة” هنا مقصودة من جهة أنه يرسل
ابنه للخلاص. فالخلاص لابد أن يحدث، لكنكم أنتم الذين تفعلون ذلك، ليس لأنى قلت
لكم أصلبوه، أو فرضت عليكم هذا الأمر، لكنى عالم أنكم سوف تصلبوه.

 


نيافة الأنبا بيشوى: قال السيد المسيح هذا المعنى بوضوح حينما قال ليهوذا
“إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنْ وَيْلٌ
لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِى بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً
لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ” (مت 24: 26) بمعنى أنه بيهوذا أو بدون
يهوذا ابن الإنسان سوف يسلّم، وسوف يصلب، لكنه لم يكن يرد أن يكون ذلك بواسطة
يهوذا.

 


نيافة الأنبا موسى: أنا عارف أنك أنت الذى تتمم هذا الفعل وكما يقولون
God knows but does not impose.

بمعنى
أن الله يعلم كل شئ لكنه لا يفرض أى شئ، لأنه أعطانى الإرادة.

 

وفى
سفر دانيال هناك كثير من العبارات عن أن الله قضى ببعض الأمور، فيقول على سبيل
المثال:

 


“هَذَا الأَمْرُ بِقَضَاءِ السَّاهِرِينَ وَالْحُكْمُ بِكَلِمَةِ
الْقُدُّوسِينَ لِتَعْلَمَ الأَحْيَاءُ أَنَّ الْعَلِىَّ مُتَسَلِّطٌ فِى
مَمْلَكَةِ النَّاسِ فَيُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ وَيُنَصِّبَ عَلَيْهَا أَدْنَى
النَّاسِ” (دا 17: 4).

 

فكرة
أن هناك أمور كثيرة يقضى الله فيها هى فكرة تتكرر كثيراً فى سفر دانيال.

 


نيافة الأنبا موسى: أن كلمة “دانيال” نفسها معناها “الله
يقضى”.

 


نيافة الأنبا بيشوى: نحن الآن عرفنا أن الاختيار مبنى على سبق المعرفة، وأن
المدعوين ليسوا جميعاً مختارين “لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ
يُنْتَخَبُونَ” (مت 14: 22)، والسؤال هنا هل لابد أن كل المختارين يؤمنوا؟
إثبات هذا الأمر وارد فى آيات كثيرة جداً لكنى سوف أقدم الآن الآية التالية:

 

يقول
معلمنا بولس الرسول فى رسالته الثانية إلى تيموثاوس:


“افْهَمْ مَا اقُولُ. فَلْيُعْطِكَ الرَّبُّ فَهْماً فِى كُلِّ شَىْءٍ.
اُذْكُرْ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الْمُقَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ
بِحَسَبِ إنْجِيلِى، الَّذِى فِيهِ احْتَمِلُ الْمَشَقَّاتِ حَتَّى الْقُيُودَ
كَمُذْنِبٍ. لَكِنَّ كَلِمَةَ اللهِ لاَ تُقَيَّدُ. لأَجْلِ ذَلِكَ أنَا أصْبِرُ
عَلَى كُلِّ شَىْءٍ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ، لِكَىْ يَحْصُلُوا هُمْ ايْضاً عَلَى
الْخَلاَصِ الَّذِى فِى الْمَسِيحِ يَسُوعَ مَعَ مَجْدٍ أبَدِىٍّ” (2تى 7:
2-10).

 

وردت
هنا كلمة “المختارين”. فالرسول يقول أنه يصبر على كل شئ لأجل المختارين.
وعبارة “كلمة الله لا تقيد” تعنى أنه سوف يبشّر ويحتمل المشقات حتى
القيود كمذنب، لكى يحصل المختارين هم أيضاً على الخلاص. كيف يحصلون على الخلاص؟
بأن تصل إليهم البشارة عن طريقه. فهو هنا يؤكد على حتمية وصول البشارة إلى
المختارين لكى يحصلوا هم أيضاً على الخلاص.

 

بهذا
نكون قد قدمنا الرؤيا المعتادة بأن الله “يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ
يَخْلُصُونَ وَإلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ” (1تى 4: 2)،
“وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ
إِلَى التَّوْبَةِ” (2بط 9: 3)، وقال “إِنِّى لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ
الشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ الشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا”
(حز 11: 33).

 

رسالة
بولس الرسول إلى أهل رومية الإصحاح التاسع:

 

هنا
وتواجهنا مشكلة فى رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية الإصحاح التاسع، وهى المشكلة
عند مارتن لوثر وكالفن والبروتستانت… لكن لماذا نترك كل آيات الكتاب المقدس،
ونعتمد على أصحاح واحد فقط لاستخراج عقيدة؟!

 

وهنا
لا نفوتنا أن نشير إلى رسالة القديس يعقوب الذى يقول:


“لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ هَكَذَا الإِيمَانُ أَيْضاً
بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ” (يع 26: 2).

 


“أَرِنِى إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِى
إِيمَانِى” (يع 28: 2).

فلماذا
قال هذا الكلام؟!! إذا كانت الأعمال الصالحة غير ضرورية للخلاص، فلماذا قال القديس
يعقوب الرسول هذا الكلام وما أهمية الأعمال؟!! يقول البروتستانت أن الأعمال ليس
لها أى دخل فى الخلاص، فلو كان هذا الكلام صحيح فلماذا قال السيد المسيح:


“اَلَّذِى عِنْدَهُ وَصَايَاىَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِى
يُحِبُّنِى” (يو 21: 14).


“اذْهَبُوا عَنِّى يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ
لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ. لأَنِّى جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِى. عَطِشْتُ فَلَمْ
تَسْقُونِى. كُنْتُ غَرِيباً فَلَمْ تَأْوُونِى. عُرْيَاناً فَلَمْ تَكْسُونِى.
مَرِيضاً وَمَحْبُوساً فَلَمْ تَزُورُونِى…” (مت 41: 25-42).

 

لماذا
سبب الرب هلاك الأشرار بأنهم لم يطعموا إخوتهم الجائعين؟؟

 

ويضيف
معلمنا يعقوب الرسول:


“أَلَمْ يَتَبَرَّرْ إِبْرَاهِيمُ أَبُونَا بِالأَعْمَالِ، إِذْ قَدَّمَ
إِسْحَاقَ ابْنَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ؟ فَتَرَى أَنَّ الإِيمَانَ عَمِلَ مَعَ
أَعْمَالِهِ، وَبِالأَعْمَالِ أُكْمِلَ الإِيمَانُ، وَتَمَّ الْكِتَابُ
الْقَائِلُ: فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً… لأَنَّهُ
كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ، هَكَذَا الإِيمَانُ أَيْضاً بِدُونِ
أَعْمَالٍ مَيِّتٌ” (يع 21: 2-26).

 

فعبارة
“آمن إبراهيم بالله” يكملها بقوله عن إبراهيم “وبالأعمال أُكمل
الإيمان”. أى أن الإيمان يعتبر ناقصاً بدون الأعمال. لكن البروتستانت اختصروا
الموضوع وقالوا أن الإيمان لم يأتيه الإنسان بنفسه وكذلك الأعمال، لكن كل شئ مفروض
على الإنسان من الله.

 

جوهر
القضية هى أن الله ظالم!!! خلق أناس خصيصاً لكى يكونوا أشرار، وخلق آخرين خصيصاً
لكى يكونوا أبرار. وخصص للأشرار الشر الذين يفعلونه، كما خصص للأبرار البر الذين
يفعلونه.

 

هنا
وتواجهنا مشكلة أخرى أكثر من إتهام الله بالظلم، وهى أنه بما أن الله رسم للأشرار
ما يفعلونه فهذا معناه أن الله صانع شر، وشر هنا بمعنى الخطية!!! فالإنسان الذى
يزنى والله هو الذى رسم له أن يزنى، فإن كان الله هو الذى خطط له أن يزنى إذن الله
مشترك فى خطية الزنى. فمثلاً لو خطف سفاح مجموعة من البنات عمرهن عشر سنوات، وهتك
عرضهن، ثم ذبحهن وتخلص من الجثث، واعتبرنا أن الله قد خلقة لكى يفعل هذا، وخطط له
ذلك، هنا يصبح الله نفسه مشترك مع هذا السفاح فى هذه الجرائم. مع أن الكتاب يقول
“لأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً
وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ”
(يع 13: 1). وهذه الآية كثيراً ما تقرأ بطريقة خاطئة، القراءة الصحيحة هى
“غَيْرُ مُجَرَّبٍ” (بفتح الراء) بمعنى أنه هو لا يجرَّب بالشر. إن الله
غير مُجَرب بالشرور، وبناء عليه فهو لا يجرِّب (بكسر الراء) أحداً، فكيف يرسم الله
لإنسان أن يرتكب الفضائح والأمور الإباحية مثل الشذوذ وهتك الأعراض؟ كيف؟!!

هذه
الأمور يمكننا أن نقول أنها تتم بسماح من الله لكن ليس بإرادة الله.. هناك فرق بين
السماح وبين الإرادة.. لكننا فى الأجزاء التى قرأناها من كتاباتهم ينسبون كل شئ
إلى لله، ويقولون أنه هو الذى رسم لهؤلاء أن يفعلوا ذلك. وقد علّق نيافة الأنبا
موسى على العبارة التالية “تدل على إعداد الله السابق خلائقه العقلية
وإعدادهم إما للخلاص أو للهلاك لإظهار مجده” بقوله “هذا لإظهار ظلمه
وليس لإظهار مجده”. بل ليس هناك مجد على الإطلاق لأنه هو الذى يجهز الشر حتى
يتم عمله. وهو مشترك فى مسئولية الشر.

 

المشكلة
هنا لا تقف عند حد أن الله ظالم، ولكنه مشترك فى مسئولية ارتكاب الشرور، بما فى
ذلك العصيان ضده، وحتى خطية الشيطان نفسه. هل خلق الله الشيطان لكى يكون مضاداً
له، هل خلقه خصيصاً لكى يعاكسه ويكون إسمه عدو الله وعدو كل بر؟!!! إنها صورة
قاتمة جداً عن الله، مع الأسف..

 

ويعود
الله فيقول:


“اِسْمَعِى أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَأَصْغِى أَيَّتُهَا الأَرْضُ لأَنَّ
الرَّبَّ يَتَكَلَّمُ: رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ أَمَّا هُمْ فَعَصُوا
عَلَىَّ” (إش 2: 1).


“الاِبْنُ الْحَكِيمُ يَسُرُّ أَبَاهُ وَالاِبْنُ الْجَاهِلُ حُزْنُ
أُمِّهِ” (أم 1: 10).


“الاِبْنُ الْجَاهِلُ غَمٌّ لأَبِيهِ وَمَرَارَةٌ لِلَّتِى وَلَدَتْهُ”
(أم 25: 17).


“يَا ابْنِى لاَ تَنْسَ شَرِيعَتِى بَلْ لِيَحْفَظْ قَلْبُكَ وَصَايَاىَ.
فَإِنَّهَا تَزِيدُكَ طُولَ أَيَّامٍ وَسِنِى حَيَاةٍ وَسَلاَمَةً. لاَ تَدَعِ
الرَّحْمَةَ وَالْحَقَّ يَتْرُكَانِكَ. تَقَلَّدْهُمَا عَلَى عُنُقِكَ.
اكْتُبْهُمَا عَلَى لَوْحِ قَلْبِكَ فَتَجِدَ نِعْمَةً وَفِطْنَةً صَالِحَةً فى
أَعْيُنِ اللَّهِ وَالنَّاسِ” (أم 1: 3-4).


“يَا ابْنى لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ وَلاَ تَكْرَهْ
تَوْبِيخَهُ” (أم 11: 3).

فلماذا
يقول الله كل هذا أليس لكى يصلح من حال الإنسان؟!

“إِذَا
دَخَلَتِ الْحِكْمَةُ قَلْبَكَ وَلَذَّتِ الْمَعْرِفَةُ لِنَفْسِكَ. فَالْعَقْلُ
يَحْفَظُكَ وَالْفَهْمُ يَنْصُرُكَ. لإِنْقَاذِكَ مِنْ طَرِيقِ الشِّرِّيرِ وَمِنَ
الإِنْسَانِ الْمُتَكَلِّمِ بِالأَكَاذِيبِ” (أم 10: 2-12).وعندما يتحدث عن
الشعب الذى لا يسمع كلام الله يقول:

 


“لأَنِّى دَعَوْتُ فَأَبَيْتُمْ وَمَدَدْتُ يَدِى وَلَيْسَ مَنْ يُبَالِى.
بَلْ رَفَضْتُمْ كُلَّ مَشُورَتِى وَلَمْ تَرْضُوا تَوْبِيخِى” (أم 24:
1-25).


“لأَنَّهُمْ أَبْغَضُوا الْعِلْمَ وَلَمْ يَخْتَارُوا مَخَافَةَ
الرَّبِّ” (أم 29: 1).


“قَدْ جَعَلتُ قُدَّامَكَ الحَيَاةَ وَالمَوْتَ. البَرَكَةَ وَاللعْنَةَ.
فَاخْتَرِ الحَيَاةَ لِتَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ (تث 19: 30).

 

الكتاب
المقدس مليئ بأمثال هذه المعانى فهل نضيع كل هذا ونتجاهله مقابل فهم غير سليم لجزء
من الإصحاح التاسع من رسالة معلمنا بولس الرسول إلى أهل رومية؟!

لنبدأ
فى شرح الجزء المقصود من الإصحاح التاسع:

فى
الإصحاح الثامن بعدما وضع بولس الرسول الأساس الراسخ فى سبق المعرفة الذى هو
الأساس على سبق التعين يقول الآتى: “وَلَكِنْ لَيْسَ هَكَذَا حَتَّى إِنَّ
كَلِمَةَ اللهِ قَدْ سَقَطَتْ. لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ
هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ. وَلاَ لأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ
جَمِيعاً أَوْلاَدٌ. بَلْ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ أَىْ لَيْسَ أَوْلاَدُ
الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً.
لأَنَّ كَلِمَةَ الْمَوْعِدِ هِىَ هَذِهِ: أَنَا آتِى نَحْوَ هَذَا الْوَقْتِ
وَيَكُونُ لِسَارَةَ ابْنٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ فَقَطْ بَلْ رِفْقَةُ أَيْضاً وَهِىَ
حُبْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَبُونَا. لأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا
بَعْدُ وَلاَ فَعَلاَ خَيْراً أَوْ شَرّاً لِكَىْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ
الاِخْتِيَارِ لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِى يَدْعُو” (رو 6:
9-9).

 

وفى
آخر الإصحاح سيبين ما هو المقصود بالجزء الذى سوف نتعرض له الذى يقال أنه صعب
فيقول: “وَلَكِنَّ إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يَسْعَى فِى أَثَرِ نَامُوسِ الْبِرِّ
لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ الْبِرِّ! لِمَاذَا؟ لأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لَيْسَ
بِالإِيمَانِ بَلْ كَأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. فَإِنَّهُمُ اصْطَدَمُوا
بِحَجَرِ الصَّدْمَةِ. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هَا أَنَا أَضَعُ فِى صِهْيَوْنَ
حَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ وَكُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ
يُخْزَى” (رو 31: 9-33).

 

إن
معلمنا بولس الرسول هنا يكتب حول قضية رومية نفسها، وهى القضية الخاصة بالناموس
واليهود الذين يعتزون بناموسهم، ويتكلون عليه، وعلى أعمال الناموس. هو يريد أن
يوضح لهم أن هذا السعى الحثيث غير مجدى. يوجد أناس يعذبون أنفسهم لكى يصلوا إلى
الله لكن بطريقة خطأ، وفيها اتكال على الذات، ولا يريدون أن يقبلوا النعمة، فابتدأ
أن يوضح لهم أنه ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل لله الذى يرحم.. فماذا يقصد هنا؟ أى
نوع من السعى يقصد هنا؟

 

هو
يتكلم عن “إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يَسْعَى فِى أَثَرِ نَامُوسِ الْبِرِّ لَمْ
يُدْرِكْ نَامُوسَ الْبِرِّ”، والله يرحم من يقبل نعمته، ليس لأن الله يفعل
ما يريد فيعيّن أناس للخلاص وأناس أخرى للهلاك… القديس بولس هنا كان يواجه مصاعب
كثيرة فى التفاهم مع اليهود فكان يحاول أن يدخل إليهم من أكثر من مدخل. وأحياناً
يقيمها فى صورة حوار مع أحد ومن يقرأ يظن أن هذا كلام هو كلام معلمنا بولس.

 

أما
مدخله إلى هذا الموضوع فهو كالآتى:

“لَيْسَ
أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ” بمعنى أن اليهودى لا تتكل على انه
من نسل اسحق ويعقوب ويظن بذلك أن هذا هو كل شئ وأنه سوف يدخل الملكوت على هذا
الأساس.. لا..

 

“أَوْلاَدُ
الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً. لأَنَّ كَلِمَةَ الْمَوْعِدِ هِىَ هَذِهِ: أَنَا
آتِى نَحْوَ هَذَا الْوَقْتِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ابْنٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ فَقَطْ
بَلْ رِفْقَةُ أَيْضاً وَهِىَ حُبْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَبُونَا.
لأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ وَلاَ فَعَلاَ خَيْراً أَوْ شَرّاً لِكَىْ
يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاِخْتِيَارِ لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ
الَّذِى يَدْعُو”.

 

أى
أعمال يقصدها هنا؟ هو هنا يخاطب اليهود على أساس أنهم يتكلون على أعمال الناموس
وفى آخر الإصحاح نفسه قال “لأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لَيْسَ بِالإِيمَانِ بَلْ
كَأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ”. فالهدف الذى يريده من هذه الفقرة هو أنه
يريد أن يزعزع اتكالهم على الذبائح الحيوانية والختان وأعمال الناموس. وحينما
يقول: “لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِى يَدْعُو”.. ماذا قال
عن الدعوة فى الإصحاح الثانى؟ قال: “لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ
سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ… وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ
أَيْضاً. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ
بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً” (رو 29: 8-30).

 

إذن
الدعوة مبنية على سبق المعرفة وبحسب الإختيار.

ومما
استخلصناه من رسالة أفسس عرفنا أن سبق الإختيار يساوى سبق التعيين. ومن رسالة
رومية عرفنا أن سبق التعيين مبنى على سبق المعرفة.

 

هم
يقولون أن الآية التالية: “قِيلَ لَهَا: إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ
لِلصَّغِيرِ. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ
عِيسُوَ” (رو 12: 9-13) تثبت أن الأعمال الصالحة ليس لها معنى! لا… لم يكن
هذا هو قصد معلنا بولس الرسول أبداً. هذا ينطبق عليه ما قاله معلمنا بطرس عما ورد
فى رسائل بولس الرسول: “يحرفها غير الفاهمين لهلاك أنفسهم”.

 

فى
مواضع أخرى كثيرة جداً أكد معلمنا بولس الرسول على أهمية سلوك الإنسان فى الأعمال
الصالحة، فيقول مثلاً “حَارِّينَ فِى الرُّوحِ عَابِدِينَ الرَّبَّ” (رو
11: 12) إلخ… والكتاب المقدس ملئ بهذه المعانى، وكلام بولس الرسول نفسه يؤكد هذه
المعانى، ولكنه فى هذه الفقرة يتكلم بنفسية شخص يناقش اليهود، ويريد أن يزعزع
مفهومهم عن أعمال الناموس.

 

الفقرة
التالية هى الفقرة التى استخلصوا منها عقيدتهم:

“فَمَاذَا
نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْماً؟ حَاشَا! لأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى:
إِنِّى أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ. فَإِذاً
لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى بَلْ لِلَّهِ الَّذِى يَرْحَمُ.
لأَنَّهُ يَقُولُ الْكِتَابُ لِفِرْعَوْنَ: إِنِّى لِهَذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ
لِكَىْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِى وَلِكَىْ يُنَادَى بِاسْمِى فِى كُلِّ الأَرْضِ.
فَإِذاً هُوَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ. فَسَتَقُولُ لِى:
لِمَاذَا يَلُومُ بَعْدُ لأَنْ مَنْ يُقَاوِمُ مَشِيئَتَهُ؟ بَلْ مَنْ أَنْتَ
أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِى تُجَاوِبُ اللهَ؟ أَلَعَلَّ الْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا:
لِمَاذَا صَنَعْتَنِى هَكَذَا؟” (رو 14: 9-20).

 

فكيف
نفسرها:

يقول
الرسول لماذا تجاوب الله؟ هناك خزّاف يصنع إناء إما للكرامة أو للهوان. فهل من حق
هذه الجبلة أن تسأل الخزّاف أنت صنعتنى إناء للكرامة أو إناء للهوان؟ هو يصنع
حسبما يشاء.

التطرف
هو فى استخدام هذا المثل وتحويله إلى عقيدة.. هذه هى المشكلة… ولكن لابد أن نفهم
ما يقوله بولس الرسول، وما الذى يناقشه، لأنه فى النهاية يقول: “فَمَاذَا
نَقُولُ؟ إِنَّ الأُمَمَ الَّذِينَ لَمْ يَسْعَوْا فِى أَثَرِ الْبِرِّ أَدْرَكُوا
الْبِرَّ الْبِرَّ الَّذِي بِالإِيمَانِ. وَلَكِنَّ إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يَسْعَى
فِى أَثَرِ نَامُوسِ الْبِرِّ لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ الْبِرِّ! لِمَاذَا؟
لأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لَيْسَ بِالإِيمَانِ بَلْ كَأَنَّهُ بِأَعْمَالِ
النَّامُوسِ” (رو 30: 9-32).

 

إذن
هو هنا يحارب أعمال الناموس وليس أعمال الإيمان.. ولا يحارب الأعمال الصالحة التى
تنتج عن الإيمان الحقيقى.

ثم
نعود إلى الفقرة الأصلية فنجد بها كلمة اعتراضية هى كلمة
“حاشا”.”فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْماً؟
حَاشَا! لأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى: إِنِّى أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ وَأَتَرَاءَفُ
عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ”.

إذا
حذفنا كلمة “حاشا” يتضح لنا المعنى المقصود. هو قال “حاشا”
لأن وصف الله بأن عنده ظلم أفزعه. فبكلمة “حاشا” هو يريد فقط أن يقول إن
الله لا يمكن أن يكون ظالم.

 

الجملة
بغير “حاشا” تصبح: “فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ
ظُلْماً؟ لأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى: إِنِّى أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ وَأَتَرَاءَفُ
عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ”. بمعنى هل عند الله ظلم لأنه يقول لموسى إنى أرحم من
أرحم؟.. هذا مجرد سؤال… ثم يستطرد السؤال نفسه ويقول وبناءاً على ذلك:
“لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى بَلْ لِلَّهِ الَّذِى
يَرْحَمُ”. ثم يستطرد أيضاً قائلاً فإذاً “لأَنَّهُ يَقُولُ الْكِتَابُ
لِفِرْعَوْنَ: إِنِّى لِهَذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ لِكَىْ أُظْهِرَ فِيكَ
قُوَّتِى وَلِكَىْ يُنَادَى بِاسْمِى فِى كُلِّ الأَرْضِ” (رو 17: 9) إستطراداً
للسؤال “فَإِذاً هُوَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ”
(رو 18: 9).

 

كل
هذه الكلمات هى سؤال أفترض بولس الرسول أن شخصاً يقدمه له…

ثم
بدأ بولس يدخل فى المناقشة فقال: “فَسَتَقُولُ لِى: لِمَاذَا يَلُومُ بَعْدُ
لأَنْ مَنْ يُقَاوِمُ مَشِيئَتَهُ؟” (رو 19: 9). أى بما أنك أوردت كل هذه
التساؤلات فسوف تكمل وتقول: لماذا يلوم بعد لأن من يقاوم مشيئته… بمعنى لماذا
يدين الأشرار ويكافئ الأبرار؟ إذا كان الأمر مفروضاً على الإنسان أن يكون شرير أو
لا يكون.

 

هذه
العبارات كلها هى تساؤلات وضعها بولس وتحتاج إلى إجابة، وليست أقوال يقولها هو كما
لو كان يسردها، لأنه يقول “ألعل” فى عبارة “فماذا نقول ألعل عند
الله ظلماً.. لأنه يقول لموسى…”.

 

أولاً،
عندما قال الله لموسى “إِنِّى أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ وَأَتَرَاءَفُ عَلَى
مَنْ أَتَرَاءَفُ”، وقال له أيضاً “يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُقَسِّي
مَنْ يَشَاءُ”، وهذه كلها مقتبسة من حوار دار بين الله وموسى فى التوراة.
وكانت المسألة هى أن الله قال لموسى أنه سوف يقسى قلب فرعون لكى لا يطلق الشعب.

 

لكن
كيف يقسى الله قلب فرعون، ولماذا؟ أوضح الله ذلك لموسى بقوله: “لِتَكْثُرَ
عَجَائِبِى فِى أَرْضِ مِصْرَ”

(خر
9: 11). لكن هل يقسى الله قلب فرعون لكى لا يؤمن أو يتوب؟ أم أنه يقسى قلبه لكى
يصمم أن لا يفرج عن هذا الشعب الذى كان تعداده حوالى ثلاثة ملايين ولم يكن يريد أن
يخسر خدمتهم له؟! إن تقسية قلب فرعون كانت فى زاوية واحدة فقط لا غير: وهى أن يظل
فرعون مصمماً ألا يطلق الشعب. وفى هذه النقطة قال قداسة البابا شنودة الثالث
تعليقاً جميلاً جداً: لم يقسى الله قلب فرعون بمعنى أنه أوعز إليه أن يفعل الشر أو
دفعه إلى الشر، ولكن مجرد أنه سحب منه النعمة، لكى لا يتصرف بما فيه مصلحته.
فعبارة “أقسى قلب فرعون” تعنى أنى لا أجعل النعمة تعمل فيه لكى لا يتصرف
لمصلحته.

 

وأنا
أضيف أيضاً إلى هذا المفهوم الهام جداً، أن الله لم يقسى قلب فرعون لكى لا يتوب
لأن هذا مستحيل حيث أن الله يريد أن الجميع يخلصون؛ بل فرعون قال فى قلبه أنه لن
يطلق الشعب، فجعله يصمم أن لا يفرط فى الثلاثة ملاين فرد الذين يخدموه. كانوا ست
مائة ألف رجل من سن 20 سنة إلى 60 سنة. علماً بأنه قد قتل الكثير من رجال هذا
الشعب على مدى سنوات طويلة عندما كانوا يلقون الصبيان فى النهر. وبالتالى يكون عدد
الإناث أكثر من الذكور. فإذا كان الرجال ست مائة ألف من سن 20 إلى 60 فتعداد الشعب
كله من رجال والنساء من سن صفر إلى سن 120 سنة لا يقل عن ثلاثة ملايين، حتى إن
افترضنا أن عدد النساء مساوى لعدد الرجال. لأن 600000 + 600000 = 1,2 مليون.
بالإضافة إلى تعداد من هم أقل من 20 سنة ومن هم أكبر من 60 سنة.

 

ونحن
نعلم أن الأعمار كانت طويلة فقد عاش موسى 120 سنة وكذلك يعقوب. فلو فرضنا أن أقل
من 20 سنة عددهم 1,2 مليون، ونفس العدد من هم أكبر من 60 سنة سيكون إجمالى العدد
3.6 مليون. وإذا قلنا أن النساء أكثر من الرجال فسوف يقترب العدد من أربعة ملايين.
كل هذا العدد كان يخدم فرعون وبلا مقابل.

لذلك
استخسر فرعون أن يطلق هذا الشعب، فقال الله لموسى أنه لن يدع فرعون يطلق الشعب لكى
تكثر عجائب الله فى أرض مصر، ولسبب آخر أيضاً هو أن يتمجد الله بكل آلهة المصريين.

هذا
النهر الذى قد غرق فيه أطفال مظلومين كثيرين سأجعله يتحول إلى دم. وقد كان
المصريون يعبدون النهر فصيره الله دماً لكى يعرفوا أن دماً برئياً قد سُفك فيه وهو
دم الأطفال الذين غرقوا فى مياهه بدون ذنب.

 

وكانت
الضربة الأخيرة هى ضربة الأبكار وهى التى صنع فيه شعب إسرائيل الفصح فعبر الملاك
المهلك عنهم. وكانت هذه الضرية ترمز إلى قضية الخلاص والفداء، والأمجاد كانت عجيب
جداً فتمجد الله بفرعون ومركباته فى البحر الأحمر الذى كان عبوره رمزاً للمعمودية
والخلاص من فرعون العقلى. أما إن كان الله يعلم أن شعب مصر سوف يؤمن هو وفرعون فما
كان هناك داعى من إرسال الضربات العشر وكان الله يقدر أن يعمل رموزاً أخرى وبطرق
أخرى.

 

الرموز
عنده ليس لها حصر: فالإثنى عشر عيناً والسبعون نخلة فى إيليم يرمزون إلى الإثنى
عشر تلميذاً والسبعين رسولاً، وعبور البحر الأحمر كان يمكن أن تكون له مسببات أخرى
غير فرعون، مجرد مثلاً أنهم يريدون أن يكملوا الطريق إلى أرض الموعد.. المهم فى
الموضوع هو أن الله يختار شخصاً شريراً مثل يهوذا الإسخريوطى ليسلمه، وبيهوذا تكمل
النبوات، لكن الله لم يدفع يهوذا ليصنع الشر، بل قال “لَيْسَ أَنِّى أَنَا
اخْتَرْتُكُمْ الاِثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ” (يو 70: 6).
“َوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ” لكى يقوم بدوره كخائن، لكن الله لم يدفعه
لكى يخون. لقد حاول السيد المسح منعه ولكنه لم يستجب لكى يبقى الله أميناً.

 

لا
يمكن أبداً أن يقسى الله قلب إنسان حتى لا يتوب.

بهذا
نكون قد فهمنا الحوار الذى دار بين الله وموسى عندما قال له “إِنِّى أَرْحَمُ
مَنْ أَرْحَمُ وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ” . فعبارة “هُوَ
يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ” لا تؤخذ بالمعنى الذى قرأه
نيافة الأنبا موسى من كتاب “علم اللاهوت النظامى”، الباب الثامن، ولكن
بمعانى أخرى مختلفة تماماً عن المعنى المقصود فى هذا الكتاب وغيره.

هى
مجرد تساؤلات إقتبسها بولس ونقلها عن حديث الله مع موسى، لكى يثبت فى النهاية أن
“إسرائيل وهو يسعى فى إثر ناموس البر لم يدرك ناموس البر”. وضعها معلمنا
بولس الرسول فى قالب الحوار والتساؤل، لئلا يأخذها أحد ويطبقها كقاعدة.

 

ثم
ننتقل لأقوال معلمنا بولس الرسول التالية: “أَلَعَلَّ الْجِبْلَةَ تَقُولُ
لِجَابِلِهَا: لِمَاذَا صَنَعْتَنِى هَكَذَا؟ أَمْ لَيْسَ لِلْخَزَّافِ سُلْطَانٌ
عَلَى الطِّينِ أَنْ يَصْنَعَ مِنْ كُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ
وَآخَرَ لِلْهَوَانِ؟ فَمَاذَا إِنْ كَانَ اللهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ
غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ
مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ. وَلِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ
رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ. الَّتِى أَيْضاً دَعَانَا نَحْنُ
إِيَّاهَا لَيْسَ مِنَ الْيَهُودِ فَقَطْ بَلْ مِنَ الأُمَمِ أَيْضاً. كَمَا
يَقُولُ فِى هُوشَعَ أَيْضاً: سَأَدْعُو الَّذِى لَيْسَ شَعْبِى شَعْبِى والَّتِى
لَيْسَتْ مَحْبُوبَةً مَحْبُوبَةً” (رو 20: 9-25).

 

هنا
هو يكلم عقلية يهودية متحجرة، تعتبر أن الأمم كلاب وإسرائيل فقط هم شعب الله. فهو
يريد أن يقول لهم أليس من حق الله أن يجعل هؤلاء الأمم شعبه؟! أم أن الجبلة تقول
لجابلها لماذا صنعتنى هكذا؟ أليس من حق الله أن يجعل من هؤلاء الأمم قديسين؟!
ويصيرون أولاداً له؟! “آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا
لِلْمَجْدِ. الَّتِي أَيْضاً دَعَانَا نَحْنُ إِيَّاهَا لَيْسَ مِنَ الْيَهُودِ
فَقَطْ بَلْ مِنَ الأُمَمِ أَيْضاً”.

 

اليهود
يعتبرون أن الله عمل فى القديم مع إبراهيم وإسحق ويعقوب ثم استقال، أى لم يعد له
سلطان أن يحدد من هم آنية المجد، إذا كانوا من الأمم أو من اليهود.. وكأن الله لم
يعد له سلطان.. فبدأ معلمنا بولس يدخل فى قضية “بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا
الإِنْسَانُ الَّذِى تُجَاوِبُ اللهَ؟” (رو 20: 9).. من أنت لكى تحدد من هم
آنية الهلاك ومن هم آنية الخلاص؟! الله هو الذى يحدد أم أنت؟! هنا التشبيه الذى
إستخدمه لا تستخرج منه عقيدة. لأن العقيدة موجودة فى الكتاب المقدس من أوله إلى
نهايته. لكن كل الموضوع هو أن معلمنا بولس الرسول يريد أن يقنع اليهود أنه من حق
الله أن يُدخِل الأمم فى الإيمان، ويرفض بعضاً من اليهود الذين يعتبرون أنه بما
أنهم من نسل إبراهيم وإسحق ويعقوب وبالتالى هم شعب الله. ولذلك فى بداية الكلام
يقول “لَكِنْ لَيْسَ هَكَذَا حَتَّى إِنَّ كَلِمَةَ اللهِ قَدْ سَقَطَتْ.
لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ”
(رو 6: 9)، وفى موضع أخر قبلها قال “فَإِنِّى كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ
أَنَا نَفْسِى مَحْرُوماً مِنَ الْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِى أَنْسِبَائِى حَسَبَ
الْجَسَدِ” (رو 3: 9). قبل أن يقول لهم أنهم ليسوا كلهم مختارون وقبل أن يقول
أن هناك مختارون من الأمم، قال كنت أتمنى أن أكون محروماً من المسيح لأجل هؤلاء
اليهود. فهل نفهم قول معلمنا بولس فى هذه الفقرة “كنت أود أن أكون
محروماً” على أنه من الممكن أن يكون هو محروماً؟!! هو قال هذا الكلام لكى
يقول أنا لست ضد السامية ولست ضد اليهود، بل أنا أريد أن يخلصوا “إِنَّ لِى
حُزْناً عَظِيماً وَوَجَعاً فِى قَلْبِى لاَ يَنْقَطِعُ.. لأَجْلِ إِخْوَتِى
أَنْسِبَائِى حَسَبَ الْجَسَدِ” (رو 2: 9-3).

 

أنا
متألم جداً من أجل هؤلاء اليهود، ولكن لابد أن تفهموا أنهم ليسوا بالضرورة محسوبين
أنهم من نسل إبراهيم، لأنهم رفضوا المسيح ولم يؤمنوا به “إِسْرَائِيلَ وَهُوَ
يَسْعَى فِى أَثَرِ نَامُوسِ الْبِرِّ لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ الْبِرِّ! لِمَاذَا؟
لأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لَيْسَ بِالإِيمَانِ بَلْ كَأَنَّهُ بِأَعْمَالِ
النَّامُوسِ” (رو 31: 9-32).

 

فى
الجزء الخاص بتشبيه الخزاف والطين، كأن معلمنا بولس الرسول يراد أن يقول لليهود هل
تريدون أن تسلبوا سلطان الله فى تحديد من هم آنية المجد؟! هل لابد أن يكونوا من
نسل يعقوب؟! أليس الجميع من نسل آدم، ومن نفس الطين. فهل ليس للخزاف سلطان على
الطين أن يصنع منه إناء للكرامة وإناء للهوان؟! “بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا
الإِنْسَانُ الَّذِى تُجَاوِبُ اللهَ؟” (رو 20: 9).

 

هنا
يكلم معلمنا بولس اليهودى المتعصب، ويذكر اليهود أن الجميع هم أولاد آدم، ولذلك
قال “أَمْ لَيْسَ لِلْخَزَّافِ سُلْطَانٌ عَلَى الطِّينِ”؟.. هل نسيتم
أنكم كلكم طين؟ ألم يجبل آدم من الطين؟! ولكى تتأكدوا أن معلمنا بولس الرسول لم
يقصد أن الله هو الذى فرض عليهم أن يكونوا هكذا، قال فإنه عندما بدأ يتكلم عن آنية
الهلاك: “فَمَاذَا إِنْ كَانَ اللهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ
وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً
لِلْهَلاَكِ” (رو 22: 9). احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ.. “بَسَطْتُ
يَدَىَّ طُولَ النَّهَارِ إِلَى شَعْبٍ مُتَمَرِّدٍ سَائِرٍ فِى طَرِيقٍ غَيْرِ
صَالِحٍ وَرَاءَ أَفْكَارِهِ” (إش 2: 65).

 

نختصر
كل هذه الفقرة فى جملتين: هل الله عندما يأخذ من نسل إبراهيم أناس يعتبرهم آنية
غضب مهيأة للهلاك وهم من نسل آدم مثل الآخرين، هل ليس له هذا السلطان أن يعتبر أن
هؤلاء آنية غضب، لأنهم رفضوا الإيمان بالمسيح؟! هل ليس عنده هذا السلطان أن يقول
أن هؤلاء رغم أنهم من نسل إبراهيم لكنهم آنية غضب مهيأه للهلاك، مثل قيافا رئيس
الكهنة ومثل يهوذا الإسخريوطى؟! أليس من سلطانه أن يعتبر من الهالكين أشخاص من نسل
إبراهيم؟!

 

هذا
هو مضمون هذه الجزئية والدليل على ذلك هو مدخل الإصحاح ومخرجه. فى مدخل الإصحاح
قال “لَيْسَ هَكَذَا حَتَّى إِنَّ كَلِمَةَ اللهِ قَدْ سَقَطَتْ. لأَنْ
لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ” (رو 6:
9). وفى نهايته يقول “إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يَسْعَى فِى أَثَرِ نَامُوسِ
الْبِرِّ لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ الْبِرِّ! لِمَاذَا؟ لأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ
لَيْسَ بِالإِيمَانِ بَلْ كَأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ” (رو 31: 9-32).
ثم نخس اليهود حتى يزعزع تشبثهم بالاعتزاز بكونهم من نسل إبراهيم. وهذا هو ما قاله
السيد المسيح لليهود، قال “لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ لَكُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ” (يو 39: 8) وقال “أَنْتُمْ مِنْ
أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا” (يو
44: 8) فَقَالُوا لَهُ: “إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ
وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كَانَ اللَّهُ أَبَاكُمْ
لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِى” (يو 42: 8-43).

فهل
من المعقول أن أحداً يحب الله ولا يحب إبنه الوحيد؟!

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى