اللاهوت العقيدي

البَابُ السَّادس

 

البَابُ
السَّادس

سِرُّ
الزَيت المقدّس
أو
مسحَة المرضى

مُقدّمَة

إنّ
سرّ مسحة المرضى، في عُرف الشعب المسيحي، من الواجبات الدينية الأخيرة التي لا بدّ
للعائلات المسيحية من تأمينها لجميع أفرادها قبل موتهم. إلاَّ أنّ معظم المسيحيين
لا يدعون الكاهن لمنح هذا السرّ لمرضاهم إلاَّ متى يئسوا من شفائهم. لذلك دُعي هذا
السرّ “سرّ المسحة الأخيرة”، واقترن ذكره بالموت، وأصبحت دعوة الكاهن
إلى جانب أحد المرضى مدعاة للتشاؤم والخوف وترقّب الموت.

إن
الحالة المؤسفة التي وصل إليها الشعب المسيحي اليوم في هذا الموضوع لبعيدة كلّ
البعد عن حالة الناس الذين عاشوا مع المسيح. فإذا تصفّحنا الانجيل المقدس نعجب من
كثرة الأشفية التي صنعها يسوع ومن تدفّق المرضى الذين كانوا يتوافدون إليه من جميع
أنحاء فلسطين وسورية وفينيقية طالبين إليه أن يشفيهم (راجع مثلاً متّى 4: 24
“وذاع خبره في سورية كلها، فأتوا إليه بكلّ من كان به سوء: المعذَّبين بشتّى
الأمراض والأوجاع، والمجانين، والمصروعين، والمخلَّعين، فشفاهم”).

إنّ
سرّ مسحة المرضى ليس من اختراع الكنيسة بل هو استمرار للعمل الذي قام به يسوع طوال
حياته تجاه المرضى وللعمل الذي قام به الرسل في حياة يسوع ومن بعد قيامته. فيسوع
لم يكتفِ بشفاء المرضى بنفسه بل كان يرسل تلاميذه اثنين اثنين بعد أن “يعطيهم
سلطاناً على الأرواح النجسة” (مر 1: 7). وكان التلاميذ “يمضون ويكرزون
بالتوبة ويُخرجون الشياطين، ويدهنون بالزيت مرضى كثيرين ويشفونهم” (مر 1: 12-
13).

مقالات ذات صلة

ومن
بعد قيامة يسوع تابع الرسل مسح المرضى بالزيت، حتى أصبح ذلك تقليداً في الكنيسة
منذ القرن الأول، كما نقرأ في رسالة القديس يعقوب: “هل فيكم مريض؟ فليدْعُ
كهنة الكنيسة وليصلّوا عليه، ويمسحوه بالزيت باسم الرب. فإن صلاة الإيمان تخلّص
المريض، والرب يُنهضه، وإن كان قد اقترف خطايا تُغفر له” (5: 14- 15). ليست
الكنيسة سوى استمرار لشخص يسوع ورسالته، وإذا كان الكهنة اليوم أيضاً يذهبون إلى
المرضى “ليمسحوهم بالزيت باسم الرب” فما ذلك إلاَّ تكملة لعمل يسوع
ورسله.

فما
هو دور سرّ مسحة المرضى في تاريخ الخلاص وما هي النعمة التي يمنحها، مَن هو خادمه
ومن يحقّ له أن يتقبّله؟

أوّلاً-
سرّ مسحة المرضى في تاريخ الخلاص

الإنسان
في نظر المسيحية، كائن خُلق لأجل الله، ولا يجد كمال كيانه وملء سعادته إلاَّ في
الاتحاد بالله. تلك هي الغاية الأخيرة من وجوده على هذه الأرض ومن حياته بعد الموت.
وتؤمن المسيحية أنّ الله نفسه قد أتى لملاقاة الإنسان في شخص يسوع المسيح الذي هو
إله وإنسان معاً. فكلمة الله أخذ في التاريخ جسداً ليملأ كلّ جسّد على مدى التاريخ
من حضور الله، وابن الله صار إنساناً في الزمن ليجعل من كل إنسان على مدى الزمن
ابناً لله. وبدخول الله في التاريخ والزمن تغيّر معنى التاريخ والزمن، إذ أصبحنا
ممتلئين من حضور الله، فيهما يلاقي الإنسان الله ويحيا حياته ويصير ابنه، حسب قول
بولس الرسول: “لما بلغ ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً
تحت الناموس ليفتدي الذي تحت الناموس وننال التبنّي” (غلا 4: 4). وبلوغ ملء
الزمان هو أيضاً ما أعلنه يسوع في بدء كرازته “لقد تمَّ الزمان واقترب ملكوت
الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل” (مر 1: 15).

إنّ
الله قد التقى الإنسان في شخص يسوع الذي عاش حياتنا البشرية ولم يدخل بقيامته في
المجد إلاَّ بعد أن خضع مثل جميع الناس للعذاب والموت. فالله لم يلتقِ الإنسان
كسيّد مطلق، بل كأخ يشارك إخوته الألم والموت: “بما أن الأولاد مشتركون في
الدّم واللحم، اشترك هو كذلك فيهما لكي يُبيد بالموت من كان له سلطان الموت، أعني
إبليس.. وإذ انه هو نفسه تألّم وابتُلي، صار في طاقته أن يُغيث المبتَلين”
(عب 2: 14- 18).

لقد
شارك يسوع الناس آلامهم وأوجاعهم، وتحنّن على المعذّبين وشفى المرضى. ويعتبر
الإنجيليون شفاء يسوع للمرضى العلامة المميّزة لمجيء الملكوت. فعندما أرسل يوحنا
المعمدان اثنين من تلاميذه إلى يسوع يسألانه: “أأنت مَن يأتي أم ننتظر
آخر؟” أجابهما يسوع: “إذهبا وأعلما يوحنا بما سمعتما ورأيتما: ان العمي
يبصرون والعرج يمشون، والبرص يطهرون والصمّ يسمعون والموتى يقومون والمساكين
يبشّرون.. وطوبى لمن لا يشكّ فيّ” (لو 7: 18- 23).

إلاَّ
أن يسوع لم يهدف، في شفائه المرضى، إلى تغيير طبيعة الإنسان ليجعل منه إنساناً غير
قابل للمرض والموت، بل أراد أن يُظهر للناس محبة الله لهم. فهو إذاً سرّ الله، تلك
العلامة الحسيّة التي بها أُتيح للإنسان التقاء الله والامتلاء من محبته.

وأسرار
الكنيسة هي بدورها امتداد على مدى الزمن لشخص يسوع ورسالته. فإن يسوع، بقيامته من
بين الأموات، قد دخل في مجد الله، وهو الآن حيّ في الكنيسة يتابع فيها ولاسيّما في
أسرارها السبعة، العمل الذي ابتدأه في حياته على الأرض.

في
هذه النظرة، يمكننا القول إنّ سرّ مسحة المرضى هو استمرار لحضور يسوع إلى جانب
المريض حضوراً حياً يتجلّى فيه بشكل حيّ حنان الله ومحبته للمتألِّمين والمعذَّبين.

فعندما
ندعو كاهناً لمنح سرّ مسحة المرضى لأحد المرضى، إنما ندعو يسوع نفسه ليسكب في نفس
هذا المريض قوّته ونعمته.

ثانياً-
نعمة سرّ مسحة المرضى

1-
الاتحاد بسرّ المسيح

الأسرار
هي نقطة التقاء بين الله والإنسان. فإنّها تتيح للإنسان أن يلتقي الله في مختلف
مراحل حياته منذ ولادته حتى مرضه وموته. وتساعده في جميع تلك المراحل على أن يحقّق
في ذاته صورة المسيح ليحيا حياة ابن الله. فالمسيحي الذي يصير بالمعمودية ابن الله،
عليه أن يقتدي بالمسيح يسوع ابن الله في كل لحظة من لحظات حياته، في ساعات الفرح
والحزن، في حالات العافية والمرض، في سني الطفولة والشيخوخة.

في
هذا الإطار يمنح سرّ مسحة المرضى الإنسان المريض نعمة خاصة ليقتدي في عذابات مرضه
بيسوع الذي تحمّل العذاب محبة للبشر وتكفيراً عن خطاياهم، كما يثبّت إيمانه بأن
مرضه سيكون له طريقاً إلى الحياة، على مثال يسوع الذي لم يصل إلى القيامة والمجد
إلاَّ بعد عذاب الصليب ومرارة الموت.

فالمسيحي،
في ساعة مرضه، لا بدّ له من أن يسأل نفسه: إذا كان الله محبة، فلِمَ العذاب؟ يقول
أحد الكهنة الذين قضوا حياتهم في خدمة المرضى: “كثيرون من المرضى الذين
نلتقيهم يختبرون الاختبار نفسه: انهم يعتقدون ان وجه الآب السماوي قد غاب عنهم في
موقف لا مبالاة. وإذا كانت تلك اللامبالاة لا تهمّ الفاترين، إلاّ أنها يستحيل
احتمالها على المسيحيين الورعين الأتقياء الذين ضحّوا بكل شيء في سبيل الله، وأصبح
الله كل فيء في حياتهم. تلك هي خبرة المسيحي في أوقات مرضه. ان الذي يحبه يتوارى
عنه. وتلك هي أقسى محنة يمكن أن يختبرها الإنسان. أن الإله الحي لم يعد في وسط
مصيره وحياته”.

الإنسان
كائن مرتبط بالله ومرتبط بالآخرين في علاقات محبة. إلاَّ أنّه في حال مرض ثقيل
يشعر بانقطاع تلك العلاقات. فكأنّ الله قد أهمله وتخلّى عنه، وكأنه قد أصبح
“حملاً ثقيلاً على الآخرين. فيتسرّب اليأس إلى نفسه ويشعر بالفراغ في حياته: فلا
رجاء له بعدُ في هذه الحياة ولا معنى لوجوده على هذه الأرض.

إزاء
تلك الخبرة القاسية، يقترب المسيح في سرّ مسحة المرضى من المريض ليقول له إنّ مرضه
ليس علامة تخلّي الله عنه، وتقترب الكنيسة منه لتعيد إليه ثقته بمحبة الآخرين له
في وسط مرضه.

2-
مفعول السرّ: شفاء الجسد أم خلاص النفس؟

لقد
تساءل اللاهوتيون في تاريخ المسيحية عن “مفعول” سرّ مسحة المرضى: هل هو
شفاء الجسد أم خلاص النفس؟

فحتى
القرن العاشر كان التركيز العام على شفاء الجسد. ومن القرن العاشر حتى القرن
العشرين تحوّل الانتباه تدريجياً من شفاء الجسد إلى خلاص النفس ومغفرة الخطايا. في
هذا يقول المجمع التريدنتيني: “إنّ مفعول السرّ هو نعمة الروح القدس الذي
بمسحته ينقّي من الذنوب، إنْ بقي ما يجب التكفير عنه، ومن عواقب الخطيئة. وهذا
السرّ يريح نفس المريض ويقوّيها، ويحثّ المريض على الثقة الكبيرة برحمة الله.
وهكذا يتمكّن المربض من احتمال أوجاع المرض ويقوى على تجارب الشيطان الذي لا يزال
“يرصد العَقِب”. وفي بعض الأحيان يحصل على الصحة الجسدية، إن كانت مفيدة
لخلاص النفس”.

إنّ
التركيز على ناحية واحدة في الكلام عن مفعول سرّ مسحة المرضى لم يعد مقبولاً اليوم.
فالفكر اللاهوتي المعاصر يؤكّد وحدة الكائن البشري. فالإنسان ليس جسداً أو نفساً
منفصلين بل وحدة جسدية وروحية في آنٍ واحد. ويسوع المسيح في رسالته يتوجّه إلى
الإنسان الحيِّ بكامل كيانه لمجنحه الخلاص الشامل.

فنعمة
سرّ مسحة المرضى هي إذاً محبة الله في يسوع المسيح التي تملأ المريض لكي يحيا ملء
حياته الروحية والجسدية، على الرغم من الضيق الناتج عن المرض. إنّ حضور يسوع إلى
جانب المريض يمنحه الخلاص الشامل في روحه وجسده. والخلاص يعني علائق الإيمان
والرجاء والمحبة بين المريض والله وبين المريض والآخرين. فلا تعود أوقات المرض
والنزاع أوقات يأس وفراغ، بل أوقات إيمان ومحبة فيها يستسلم المريض بين يدي الله
على رجاء الدخول في حياته الأبدية. والخلاص يعني أيضاً التخفيف من أوجاع الجسد
لئلا يعوق اندفاع الروح نحو الله.

أمّا
شفاء الجسد شفاءً تاماً من جرّاء تقبّل المريض سرّ مسحة المرضى فقد يبدو للبعض من
نسج الخيال أو من مخلَّفات العقليّات القديمة المتعلّقة بالسحر والشعوذات. لكني
أرى أن الروح والجسد في الإنسان مرتبطان ارتباطاً وثيقاً أحدهما بالآخر بحيث يمكننا
تحديد الإنسان أنه روح يعبّر عن ذاته في جسد. لذلك يجب ألاّ نستبعد إمكانية الشفاء
الجسدي لمن يتقبّل سرّ مسحة المرضى ويمتلئ كيانه من نعمة الله ومحبته.

غير
أنه، احتراماً لسرّ الله وسرّ الإنسان، لا يليق بنا أن نربط شفاء الإنسان أو موته
بإرادة الله وحدها. كأنّ الله يميّز بين أبنائه: فيشفي الواحد لأنّه يرى في شفائه
فائدة لخلاصه الأبدي، ويميت الآخر لأنه يعرف بعلمه السابق أنّ الموت أفضل له من
الحياة. فشفاء الإنسان من المرض أو موته متعلّقان بعوامل كثيرة يستحيل حصرها.
فمنها أولاً الجسديّ ومنها أيضاً النفسيّ ومنها الروحيّ. لذلك لا بدّ من اللجوء
إلى مختلف الوسائل الطبية والنفسية والروحية للإحاطة بالمريض والعمل على خلاصه.
ولكن أسواء شفي المريض أم لا، فإنّ سرّ مسحة المرضى يجعل المسيح حاضراً إلى جانبه
ويثبّت إيمانه بأنّه لا يزال ابناً لله وموضوع محبته، ويحمله على القول مع بولس
الرسول: “إنّي لواثق بأنّه لا موت ولا حياة، لا ملائكة ولا رئاسات، لا حاضر
ولا مستقبل ولا قوات، لا علوّ ولا عمق، ولا خليقة أخرى أية كانت، تقدر أن تفصلنا
عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربّنا” (رو 8: 38- 39).

الأسرار
هي السبل المتنوّعة التي يسلكها السيّد المسيح ليتّصل بالإنسان على مدى الزمن،
ويُبلغه محبة الله، ويُدخله في ملكوته، كما فعل في أثناء حياته على الأرض. المسيح
يؤمن أنّه حصل منذ الآن على ملكوت الله، وذلك على الرغم ممّا يتعرّض له في حياته
من مرض وألم وموت. فإنّه قد امتلأ من محبّة الله، ومن تلك المحيّة يحيا، سواء أكان
في حال المرض أم في حال الصحة والعافية. لذلك يمكنه أن يقول أيضاً مع بولس الرسول:

“إنّنا
نحمل في الجسد كلّ حين موت يسوع، لتظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا. لأنّا، نحن
الأحياء، نُسلَم دائماً إلى الموت من أجل يسوع، لتظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا
المائت” (2 كو 4: 10- 11).

إنّ
تقرّب المسيحي من سرّ مسحة المرضى هو إعلان لإيمانه بأنّ المرض والموت ليسا نهاية
كلّ شيء بالنسبة إلى حياته. بل إنّه، حتى من خلالهما، يستطيع، على مثال المسيح، أن
يصل إلى القيامة:

“إنّ
مُنيتي أن أعرفه هو، وأعرف قدرة قيامته والشركة في آلامه، فأصير على صورته في
الموت، على رجاء البلوغ إلى القيامة من بين الأموات” (في 3: 10- 11).

ثالثاً-
خادم السرّ

إن
خادم السرّ هو، في العُرف الكنسيّ، الشخص الذي يحقّ له أن يمنح السرّ، فاستناداً
إلى قول القديس يعقوب: “هل فيكم مريض؟ فليدْعُ كهنة الكنيسة وليصلّوا عليه
ويمسحوه بالزيت باسم الرب”، درجت العادة في الكنيسة أن يُعهَد بمهمّة منح سرّ
مسحة المرضى إلى الأساقفة والكهنة.

إلاَّ
أنّه في القرون الأولى والقرون الوسطى كان يُسمَح للعلمانيين منح هذا السرّ لنفسهم
أو لذويهم. وتشهد على ذلك رسالة وجّهها سنة 416 البابا إينوشنتيوس الأول إلى
ديشنتيوس أسقف غوبليو، يقول فيها: “إنّ المرضى يمكن مسحهم بالزيت المقدّس.
وهذا الزيت يباركه الأسقف، ويُسمح باستخدامه ليس فقط للكهنة، بل أيضاً لجميع
المسيحيين، فيقوموا بالمسحة وقت الضرورة لأنفسهم أو لذويهم”.

أما
اليوم فيُحفظ منح هذا السرّ للأساقفة والكهنة.

رابعاً-
لمن يمكن منح سرّ مسحة المرضى؟

1-
المرضى

يقول
المجمع الفاتيكاني الثاني: “إنّ المسحة الأخيرة، التي يمكن ويُفضَّل أن تسمّى
مسحة المرضى، ليست فقط سرّ الذين يكونون في خطر الموت الشديد. وبالتالي فإنّ الوقت
المناسب لقبولها هو حقاً عندما يبدأ المؤمن بالدخول في خطر الموت نتيجة ضعف جسدي
أو بسبب الشيخوخة” (دستور في الليتورجيا، 73).

إنّ
سرّ مسحة المرضى ليس سرّ مسحة المنازعين الذين أصبحوا في خطر الموت الشديد.
والتقليد الكنسي القديم ولاسيّمَا في الكنائس الشرقية يفرض أن يأتي المريض نفسه
إلى الكنيسة ليتقبّل فيها سرّ مسحة المرضى. وهذا يعني أنه ليس في خطر الموت القريب.

2-
التائبون

إلاَّ
أن المجمع الفاتيكاني يتكلّم عن “البدء بالدخول في خطر الموت”. فيجب من
ثمّ أن يكون المريض في خطر الموت البعيد أو القريب ليحقّ له تقبّل هذا السرّ. وفي
هذا الأمر يختلق التقليد الشرقي عن التقليد الغربي. فالكنائس البيزنطية تمنح هذا
السرّ ليس فقط للمرضى، بل أيضاً لجميع التائبين، معتبرة سرّ مسحة المرضى تكملة
لسرّ التوبة، وتدعوه “زيت التائبين” أو “زيت الصلاة”. يقول
إفدوكيموف اللاهوتي الارثوذكسي الروسي “كلّ إنسان معرّض للمرض والموت. لذلك
في اليونان يعطى هذا السرّ مراراً للمتناولين. وفي روسيا يُمنَح لجميع المؤمنين
يوم الخميس العظيم المقدّس”.

إنّ
بعض كنائس الروم الكاثوليك في الشرق قد حافظت هي أيضاً على هذه العادة أن تمنح هذا
السر لجميع المؤمنين يوم خميس الأسرار. قد يبدو هذا التقليد انحرافاً عن نصّ رسالة
القديس يعقوب الذي لا يتكلم إلاّ عن المرض “مَن فيكم مريض فليدْعُ كهنة
الكنيسة..” إلاَّ أن الأسرار ليست تأسيساً جامداً أُنشئ منذ البدء على قواعد
ثابتة لا يمكن تعديلها. بل هي علامات حسيّة فيها تستمرّ حياة يسوع في المؤمنين.
ويحقّ للكنيسة أن تعدّل فيها كلّ ما تراه مناسبا لتبقى مصدر حياة للمؤمنين، دون أن
تمسّ جوهر السرّ ومعناه الأساسي. والمعنى العميق لسرّ مسحة المرضى هو انحناء الله
على الإنسان المعذّب الضعيف المعرّض لشتى الأمراض والآلام.

وبما
أن الإنسان لا يخلو من المرض والضعف الجسدي، فإعطاء هذا السرّ مرة في السنة لجميع
المؤمنين يساعدهم على إدراك محبة الله لهم، وعلى احتمال العذابات والآلام اشتراكاً
مع آلام المسيح، ويقوّي إيمانهم بالقيامة مع المسيح.

ثم
إنّ هذا السرّ، وفقاً لما جاء في رسالة القديس يعقوب، يغفر الخطايا: “وإن كان
قد اقترف خطايا تُغفر له” (5: 15). إنّ التقليد المتَّبع في الكنائس الشرقية
والغربية على السواء يقضي بأن يتقبّل المريض سرّ مسحة المرضى بعد سرّ التوبة.

أمّا
إنْ كان في حالة مرض شديد بحيث يستحيل عليه التقدّم من سرّ التوبة، فيجوز منحه سرّ
مسحة المرضى مباشرة. وفي كلتا الحالتين إنّ مغفرة الخطايا التي يمنحها سرّ مسحة
المرضى لا تعني أن سرّ التوبة غير ضروري أو غير مفيد للمريض. فالأسرصار ليست مجرّد
أدوية تمنحها الكنيسة لمرضاها، بحيث إنّ أن تناول أحد الأدوية يستطيع أن يستغني عن
الآخر. إنّ أسرار الكنيسة هي طرق مختلفة بها يتمّ لقاء المحبة بين الله والإنسان.
وتتنوّع هذه الطرق بتنوّع الحالات التي يوجد فيها الإنسان. فحالة الخاطئ الذي يعود
في سرّ التوبة إلى حياة البنوّة الإلهية تختلف عن حالة المريض الذي يتقبّل في سرّ
المسحة نعمة الله وغفران خطاياه علىِ رجاء القيامة مع المسيح في المجد الأبديّ.
إنّها محبة الله اللامتناهية التي تنسكب بلسماً على جراح الإنسان في مختلف الحالات
التي يوجد فيها.

3-
الأطفال والمجانين

استناداً
إلى هذا المفهوم لمحبة الله اللامتناهية ترى الكنسية الشرقية أنه يجب منح سرّ مسحة
المرضى لجميع المسيحيين دون استثناء. بينما تحظّر الكنيسة الغربية منح هذا السرّ
للأطفال الذين لم يعترفوا ويتناولوا بعد، وللمجانين والفاقدي الصواب.

خامساً-
رتبة مسحة المرضى

1-
مادة مسحة المرضى

هي
زيت الزيتون، الذي هو دهن بهجة وشفاء. وقد شاع استعماله منذ العهد القديم لمعالجة
الجروح والأمراض الجلدية وتليين عظام المفاصل. فهو من طبيعته يرمز إلى مفعول السرّ،
أي إلى شفاء النفس والجسد.

2-
صلوات السرّ

ان
صلوات السرّ في مختلف الطقوس تشير إلى شفاء النفس والجسد.

أ)
ففي الطقس البيزنطي، يقدّس الكاهن الزيت في بدء كل رتبة. فيتلو عليه الصلاة
التالية:

“أيها
الربّ الشافي برأفته ومراحمه نفوسَنا وأجسادَنا المنسحقة، أنت أيها السيِّد قدِّس+
هذا الزيت، لكي يُصبح للممسوحين به واسطةً للعافية والشفاء من كل الآلام والأمراض
الجسدية، ومن كل أدناس الجسد والروح، ومن كلّ الأسواء.

لكي
يُمجَّدَ في ذلك اسمك القدّوس، أيها الآب والابن والروح القدس، الآن وكل أوانٍ
وإلى دهر الداهرين. آمين”.

وبعد
قراءة رسالة القديس يعقوب (5: 10- 20)، وإنجيل السامري الصالح (لو 10: 25- 37)،
يستدعي الكاهن الروح القدس ليحلّ على الزيت:

“أيها
الأزلي الذي لا مصدرَ له، الأبديّ، يا قدُّوسَ القديسين، يا مَن أرسل ابنه الوحيد
شافياً كل مرض وكل ضعفٍ في نفوسنا وأجسادنا، أرسل روحَك القدّوس وقدِّس+ هذا الزيت،
واجعله لعبدك هذا (أو لأمتكَ كره) المدهونِ به وسيلةً لتمام الخلاص من خطاياه
ولوراثة ملكوتِ السماوات.

لأن
لك أن ترحمَنا وتخلِّصَنا يا إلهنا، وإليكَ نرفع المجد، أيها الآب والابن والروح
القدس، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين”.

ثم
يتلو الكاهن الصلاة التالية. وعند قوله: “وأحيه بنعمة مسيحك..” يأخذ من
الزيت المقدس ويدهن به المريض، راسماً شكل صليب على جبهته ومنخريه وخدّيه وفمه
وصدره ويديه من الداخل ومن الخارج، مكرّراً عند كل مسحة: “وأحيه..”:

“أيها
الآب القدُّوس، يا طبيبَ النفوس والأجساد، يا مَن أرسلَ ابنه الوحيد ربَنا يسوع
المسيح شافياً كل مرض ومنقذاً من الموت، إشفِ عبدك هذا (فلاناً) [أو أمتك هذه
(فلانة)] من الأمراض النفسيّة والجسديّة، المستحوذة عليهِ وأحيه + بنعمة مسيحك
بحسب ما يرضيك، ليقدّم لك الشكر الواجب بأعماله الصالحة. بشفاعة سيدتنا والدة
الإله الفائقة القداسة الدائمة البتولية مريم، وبقدرة الصليب الكريم المحيي،
وبتفرعات القوات السماوية المكرَّمة التي لا جسدَ لها، والنبي الكريم السابق
المجيد يوحنا المعمدان، والقديسين المجيدين الرسل الجديرين بكلّ مديح، والقديسين
المجيدين الشهداء الظافرين، وآبائنا الأبرار اللاّبسي الله والقديسين الأطباء
الزاهدين في المال والصدّيقَين جدَّي الإله يواكيم وحنة، وجميع القديسين.

لأنك
أنت ينبوعُ الأشفية يا إلهنا، وإليك نرفعُ المجد، أيها الآب والابن والروح القدس،
الآنَ وكلَّ أوانٍ وإلى دهر الداهرين. آمين”.

ثم
يمنح المريض الحلّة من خطاياه، قائلاً الصلاة التالية، وهو واضع على رأس المريض
الإنجيل المقدّس مفتوحاً:

“أيها
الملكُ القدّوس، الربُّ الرؤوفُ الكثيرُ الرحمة يسوعُ المسيحُ ابن الله الحيّ
كلمته؛ يا مَن لا يريد موت الخاطئ بل أن يرجع ويحيا، ليست يدي الخاطيّة هي التي
أضعها على رأس المتقدّم إليك بآثامه والملتمس منك بواسطتي غفرانَ زلاَّته، بل
يدُكَ العزيزة المقتدِرة التي في هذا الإنجيل المقدس. فيا أيها الإله مخلِّصُنا،
يا مَن وهب بواسطة ناتانَ النبيّ المغفرةَ لداود النادمِ على خطاياه الشخصية،
وقَبِل صلاةَ منسَّى التائب، أتوسَّل إلى محبتك الوافرة الحنان والمتغاضية عن
الشرور، أنتَ اقبَل أيضاً، بعطفك المألوف، عبدَك هذا (أو أمتَك هذه) النادمَ على
ما فرط منه من الذنوب، متغاضياً عن جميع زلاّته. لأنك أنت إلهنا الذي أمر أن
يُغفَر للساقطين في الخطايا سبعين مرة سبع مرات.

لأن
رحمتك على قدر عظمتك، ولكَ ينبغي كل مجدٍ واكرام وسجود، أيها الآب والابن والروح
القدس، الآن وكل أوانٍ وإلى دهر الداهرين. آمين”.

ب)
في الطقس الماروني

أن
الصلوات التي تُتلى في رتبه السرّ تذكر ما فعله يسوع في حياته على الأرض، إذ شفى
المرضى وأخرج الشياطين، ومنح رسله سلطان متابعة عمله الخلاصي:

“يا
شافي جميع الأمراض، وضامد كل الجراح، يا من شفى المخلّع من سقمه، والنازفة من
ضيقتها؛ أيها الرب الذي أعطى رسله القدّيسين السلطان وقال لهم: باسمي تخرجون
الشياطين، وتشفون المرضى، وتفتقدون المتضايقين، أنت يا رب، بنعمتك وبمراحمك
الغزيرة، أرسل الصحة والشفاء والفرج والعزاء والنشاط لعبدك هذا..، وعافِ جسمه من
الأسقام ونفسه من الخطايا، واطرد عنه كل قوة العدو، وإذ يصبح معافى بنفسه وجسمه،
وثابتاً بروحه، ومحتفظاً بإيمانه، يُصعد لك المجد ولأبيك ولروحك الحيّ القدوس،
الآن وكل آنٍ إلى الأبد. آمين”.

وكذلك
يقدّس الزيت بصلاة استدعاء الروح القدس عليه، ليصبح “مسكناً لقوّة الله”:

“وليأتِ
يا رب روحك الحيّ والقدوس، ويقدّس هذا الزيت، ولتتمّ فيه قوّتك، وليحلّ لاهوتك في
داخله، ليكون هذا الزيت زيت الفرح بالروح القدس، زيتاً مقدّساً، درعاً ملائكياً
ضدّ قوّة العدو..”

أما
الصلاة التي ترافق مسح المريض بالزيت شكل صليب على وجهه من جبهته إلى منخريه
فشفتيه فذقنه، ومن أذنه اليمنى إلى عينه إلى أُذنه اليسرى، فهي الصلاة التالية
التي تطلب شفاء النفس والجسد:

“أيها
الآب القدوس، الطبيب السماوي للنفوس والأجساد، يا من أرسلت ابنك ربنا يسوع المسيح
ليشفي كل مرض ويولي النجاة من الموت، آشفِ بهذه المسحة المقدسة عبدك هذا..+ من كل
مرض في النفس والجسد، بنعمة مسيحك الذي يليق لك المجد معه ومع الروح القدس، الآن
وكل آن وإلى الأبد. آمين”.

3-
الاحتفال بهذا السر بطريقة جماعية

هناك
نزعة اليوم في الكنيسة الغربية إلى الاحتفال بهذا السرّ بطريقة جماعية في الكنيسة
وبحضور جميع أفراد الرعية. وذلك يساعد المرضى على الشعور بأنهم، على الرغم من
مرضهم، لا يزالون أعضاء حيّة في جسد الكنيسة، ويحمل الأصحّاء على إدراك مسؤوليتهم
تجاه إخوتهم المتألّمين. وهكذا يتأمّل الجميع معاً في سرّ المرض والعذاب، ويجدّدون
إيمانهم بان المحبة أقوى من الخطيئة والحياة أقوى من الموت.

استناداً
إلى تقليد الكنسية الشرقية البيزنطية والى النزعة المعاصرة في الاحتفال بهذا السرّ
بشكل جماعي، نؤكّد رغبتنا في تعميم التقليد الشرقي على جميع الكنائس، فيتمّ فيها
الاحتفال بسرّ مسحة المرضى يوم خميس الأسرار ويتقبّله جميع المؤمنين من مرضى
وأصحّاء مجدّدين إيمانهم بمحبة الله لهم في وسط ضعفهم، ومستمدّين من المسيح يسوع
الذي تألّم ومات وقام من بين الأموات، قوّة لاحتمال الآلام والشدائد والأمراض التي
تنتابهم في حياتهم. ثم يُعاد منح هذا السرّ لكلّ من يمرض مرضاً ثقيلاً أو يشرف على
الموت. ويمكن للمسيحي تقبّل هذا السرّ مرّات متعدّدة لدى كل مرض ثقيل. ومما لا شكّ
فيه أنّ من يتقبّل هذا السرّ مرة كل سنة لا يعود يخاف من تقبّله في ساعة مرضه أو
لدى دنو أجَلِه، ولا يعود الناس يتشاءمون لدى رؤيتهم كاهنا يدنو من مريض ليمنحه
سراً يتقبّلونه هم أنفسهم مرة كل سنة. بل يرون في حضور الكاهن تجسيداً في لحظة من
الزمن لشخص يسوع الحاضر أبد الدهر في ما بيننا.

خلاصة

هناك
أمر هام لا بدّ من الإشارة إليه أخيراً، وهو أنّ السرّ الذي يتقبّله المؤمن ليس
عملاً منفصلاً عن سائر أعماله. بل هو تعبير في لحظة حاسمة من حياته عن كامل علائقه
بالله وبالآخرين. لذلك لا يقتصر سرّ مسحة المرضى على الرتبة الدينية التي لا تدوم
سوى بضع دقائق بل يشمل كل ما يتقبّله المربض من عناية وسهر ومحبة وحنان من قِبَل
ذويه وأقاربه وكذلك من قِبَل الأطبّاء والممرّضين والممرّضات. إنّ الله محبة وجميع
أبناء الله مدعوون إلى تجسيد تلك المحبة في علاقاتهم بعضهم ببعض على مدى التاريخ.

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى