علم

الباب الثاني



الباب الثاني

الباب
الثاني

القسم
اللاهوتي

صراع
أثناسيوس اللاهوتي ضد الهرطقة الأريوسية

مع
عرض مختصر للأصول اللاهوتية
قبل قيام
الأريوسية

 

مقدِّمة

شخصية القديس أثناسيوس الروحية واللاهوتية

[لقد صار أثناسيوس معيار الأرثوذكسية الحي.] بوييه([1])

لكي
نقدِّم للقارئ منهج أثناسيوس اللاهوتي يجدر بنا أن نعطي لمحة عن الخلفية الروحية
التي كان يتحرَّك فيها هذا القديس، أو بالحري المنابع الروحية التي كان يستمد منها
هذا العملاق اللاهوتي الطاقة الروحية الجبَّارة التي كفَّلت له هذه الأصالة
اللاهوتية وهذا الصمود إزاء كافة المقاومات والاضطهادات والأجواء المعاكسة.

ومن
أهم هذه المقوِّمات الروحية:

أولاً: علاقته الشخصية بالمسيح.

ثانياً: تمسُّكه بوسائط النعمة:

(أ) الأسرار (وعلى الخصوص الإفخارستيا).

(ب) الكتاب المقدَّس.

ثالثاً: تمسُّكه الشديد بالتقليد الكنسي.

رابعاً: اتصاله المستمر بالأوساط الرهبانية منذ شبابه
المبكِّر.

وقد
أثَّر ذلك فيه من عدة نواحي:

(أ)
تقواه ونسكه الشخصي.

(ب)
ربطه الدائم بين العقيدة والتقوى في كتاباته.

(ج)
امتلاكه حاسة روحية خاصة كان يستشف بها الجانب الروحي من كل عقيدة.

(د)
استقراؤه لصحة العقيدة من واقع ممارسات الرهبان العملية.

خامساً: إدراكه الواضح لمحدودية العقل في المعرفة اللاهوتية.

سادساً: تأكيده أن علاقتنا بالمسيح هي علاقة كيانية أي علاقة
ثبات متبادل.

سابعاً: روحه الكنسية العالية جداً.

 

أولاً: علاقته الشخصية بالمسيح

لقد
كان قلب أثناسيوس يجيش بمحبة شديدة للمسيح. لقد كتب عنه أحد المعاصرين:

[إن
أثناسيوس كان مشتعلاً بنار الحب للمسيح، ونحن نحتسب أن ما خاطب به أثناسيوس أحد
أصدقائه يصلح أن يُقال عنه هو: “إني واثق أنك تقيم في معرفة المسيح وحبه فوق أي
شيء آخر”([2]).
كما أنه يصلح أن يُلقَّب أثناسيوس بما لقب به هذا الصديق “فيلوخريستو
filocristJ([3])
كلقب يُعبِّر عن الحب نحو المسيح. فمحبة أثناسيوس للمسيح هي المفتاح لفهم كل حياة
أثناسيوس وكل كتاباته.]([4])

لقد
كان مثل بولس الرسول في اعتباره أن محبة المسيح هي نبراس الإيمان الصحيح. فبدون
هذا الحب لا يمكن أن نبلغ الإيمان الصحيح. ولذلك كتب في نهاية رسالته للرهبان:

[إن كان أحد لا يحب ربنا يسوع المسيح كما يقول
الرسول
(1كو
22: 16) فليكن أناثيما.]([5])

وفي
نهاية رسالته إلى أدلفيوس:

[سلِّم على جميع الذين يحبون ربنا يسوع المسيح.]([6])

لقد
كان اللقب المعتاد الذي يشير به إلى الأريوسيين هو “أعداء المسيح
Cristom£coi” وكان يدعو هرطقتهم بالهرطقة المعادية للمسيح:

[لا
يمكن أن تكون أي شركة بين الهرطقة المعادية للمسيح
Cristom£cJ
aƒrڑsei
وبين
الكنيسة الجامعة.
]([7])

وهذا
في الواقع يكشف لنا حقيقة الصراع بين أثناسيوس والأريوسيين، فهو كان يحب المسيح
فوق كل شيء وهم كانوا يعادون ذلك المسيح بعينه، إذ يريدون أن يجرِّدوه من لاهوته.
فلو كان الأمر مقتصراً على عداء الأريوسيين لأثناسيوس شخصياً وما يقع عليه من
اضطهادات وافتراءات، لكان الأمر هيناً عليه وأقل من أن ينتبه إليه أو يرد عليهم،
إذ لم يكن محباً لنفسه على الإطلاق، بل كانت كل محبته مركَّزة في المسيح فاديه
الحبيب. فمحبته الشديدة للمسيح هي التي تفسِّر لنا مقاومته المستميتة للأريوسيين
حتى شهد له يوليوس أسقف روما أنه كان يستهين بالموت نفسه في سبيل ذلك([8]).
فنحن نصدِّق على قول أونجار: “إن محبة أثناسيوس للمسيح هي المفتاح لفهم كل حياة
أثناسيوس وكل كتاباته”.

لقد
كان أثناسيوس يثبِّت نظره في المسيح في كل حين ويجتهد أن يتمثَّل به في كل
تصرُّفاته:

[لم
يكتفِ المخلِّص بأن يعلِّم الفضيلة بل قد مارسها هو أيضاً بنفسه، حتى إذا ما
سمعناه ونظرنا إليه وجدنا فيه المثال الحي العملي لما يجب أن نفعله. فنحن نسمعه
يقول: «تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب»
(مت 29: 11). فلا يمكن أن نجد
تعليماً عن الفضيلة أكمل من الذي قدَّمه المخلِّص بشخصه في حياته الخاصة. فنحن نجد
فيه المثال الأعلى في الاحتمال ومحبة البشر والصلاح والقوة والرحمة والبر. فالذي
يتأمَّل حياة الرب البشرية لا يعوزه شيء من الفضيلة. وقد أدرك بولس ذلك جيِّداً إذ
قال: «كونوا متمثِّلين بي كما أني أنا أيضاً
بالمسيح» (1كو 1: 11). إن مشرِّعي الأُمم لا يعرفون إلاَّ أن يضعوا التشريعات

فقط. وأمَّا الرب الذي هو سيد الكون كله،
فبسبب عنايته بخليقته لم يكتفِ بأن يضع لها
النواميس، بل قدَّم نفسه أيضاً مثالاً لها،
حتى يتعلَّم منه
طالبو الفضيلة كيف ينبغي أن يسلكوا.]([9])

وكان
أثناسيوس يضع باستمرار نصب عينيه الآيات الرئيسية التي عبَّر بها الرسول عن علاقته
العميقة بالرب يسوع:

+
«مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ.» (غل 20: 2)

+
«حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع ..» (2كو 10: 4)

+
«وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم
وقام.» (2كو 15: 5)

فأثناسيوس
يكرِّر هذه الآيات بلا ملل ويوصي بها المؤمنين بتكرار ملحوظ على مدى رسائله
الفصحية:

[فلننكر
ذواتنا بالتمام ونقدِّم نفوسنا للرب كما فعل القديسون، فلا نعيش بعد لنفوسنا بل
للرب الذي مات من أجلنا. وهكذا كان يفعل بولس الطوباوي قائلاً: «مع المسيح صُلبت
فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ» .. فإننا نتشبَّه بالقديسين حينما نعترف بذاك
الذي مات من أجلنا فلا نعود نعيش لنفوسنا بل المسيح هو الذي يحيا فينا.]([10])

[لقد
كتب بولس الطوباوي إلى أهل كورنثوس أنه كان دائماً يحمل في جسده إماتة يسوع، ليس
كأنه هو وحده له أن يفتخر بهذا بل كأن هذا يحق لهم، بل ولنا أيضاً يا إخوتي، فيا
ليتنا نتشبَّه به في ذلك! يا ليتنا نفتخر بذلك في كل حين! فإن داود أيضاً يقول:
«مِنْ أجلك نُمات كل النهار، قد حُسبنا مثل غنم للذبح» فالذي يتحد بالرب بشبه موته
يصير نشيطاً في كل فضيلة إذ يكون قد أمات أعضاءه التي على الأرض (كو 5: 3)، وصلب
الجسد مع الأهواء والشهوات، فهو بذلك يعيش بالروح ويسلك بحسب الروح (غل 5: 24و25)،
وهو يذكر الله في كل حين ولا ينساه أبداً ولا يعمل الأعمال المائتة. والآن لكي
نستطيع أن نحمل في الجسد إماتة يسوع يرشدنا
بولس إلى الوسيلة قائلاً: «إذ لنا روح الإيمان عينه …
عالمين أن الذي أقام ربنا يسوع سيقيمنا نحن أيضاً
بيسوع ويحضرنا معكم!» (2كو 4: 13و14).]([11])

[إن
القديسين الذين ماتوا عن العالم ورفضوا إغراءات العالم وبذلك ربحوا ميتة كريمة
بحسب المكتوب: «كريم أمام الرب موت قديسيه» (مز 5: 115 السبعينية) هؤلاء يستطيعون
أن يقولوا مثل الرسول: «مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ» (غل
20: 2). فإن الحياة الحقَّة هي هذه، أعني الحياة التي يحياها الإنسان في المسيح.
فمع أنهم قد ماتوا عن العالم، إلاَّ أنهم يسكنون السماء بنوع ما، ويتفكَّرون
بالأمور العلوية. كما قال أيضاً أحد محبي هذه الأمور: “مع أننا نسلك على الأرض إلاَّ
أن مسكننا في السموات”.]([12])

[لقد
وعد الرب قائلاً: «أنا هو خبز الحياة. مَنْ يُقبل إليَّ فلا يجوع ومَنْ يؤمن بي
فلا يعطش أبداً» (يو 35: 6). فإننا نحن أيضاً نستحق هذه الأمور إن كنا في كل
حين نلتصق بمخلِّصنا
… وإن كنا ندوم بقربه ولا نبتعد منه أبداً قائلين له:
«إلى مَنْ نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك» (يو 68: 6) …

وهكذا
إذ تقتات نفوسنا منه ههنا نشترك مع الملائكة في تلك المائدة السمائية الروحانية،
ولن نكون قارعين مرفوضين مثل الخمس عذارى الجاهلات، بل بالحري ندخل مع الرب مثل
الحكيمات اللواتي أحببن العريس. لأننا حينما نُظهِر إماتة يسوع في أجسادنا فحينئذ
ننال منه الحياة والملكوت!]([13])

إننا
نلاحظ في هذا القول الأخير عبارة: “إن كنا في كل حين نلتصق بمخلِّصنا”. نعم
لقد كان أثناسيوس بالحق في كل حين يلتصق بالمخلِّص؛ بل كان هذا هو سر قوته الروحية
غير العادية.

ومع
أنه لم يكن يميل إلى أن يتكلَّم عن نفسه أو يفصح عن حياته الداخلية([14])،
إلاَّ أننا نستطيع أن نستشفها مما يقوله هو نفسه عن الآخرين. فقد كتب في مقدِّمة
رسالته إلى أورسيزيوس (تلميذ باخوميوس الذي خلفه):

[أيها
الأب .. يا مَنْ ترتقي في السلم الروحاني وتلتصق بالجوهر الإلهي.]([15])

نعم
لقد كان أثناسيوس في كل حين يتحد بالمسيح ويلتصق بالجوهر الإلهي، وهذه كانت أعظم
قوة ضمنت له استقامة الرأي مع الصمود أمام كافة الاضطهادات والتيارات المضادة!

ثانياً: تمسُّكه بوسائط النعمة

(أ) الأسرار (الإفخارستيا):

سبق
أن عرضنا في كتاب “الإفخارستيا والقداس”([16])
أقوالاً عديدة للقديس أثناسيوس بخصوص الإفخارستيا والطقوس الكنسية عامة، وسنورد في
ما يلي أهم ما جاء فيها بالإضافة إلى بعض الأقوال الجديدة.

وسيتبيَّن
منها القارئ مدى روحانية أثناسيوس في ممارسة هذا السر:

+
[مأكل فائق سماوي .. طعام روحاني .. يناله كل واحد روحياً فيصير في الجميع
حافظاً لقيامة الحياة الأبدية.]([17])

+
[نحن نتألَّه باشتراكنا ليس في مجرَّد جسد
إنسان بل بتناولنا من جسد الكلمة نفسه.]
([18])

+
[إننا نحن جميعاً إذ نتناول من الرب الواحد
بعينه

 ™k toà aظtoà metalamb£nontej

نصير جسداً واحداً إذ يكون لنا في أنفسنا الرب الواحد

 tصn ›na Kعrion œcontej ™n کauto‹j]([19])

+
[(الإفخارستيا) “طعام سماوي” .. لذلك علينا أن نستعد لكي نقترب من الحمل الإلهي
ونلمس الطعام السمائي.
]([20])

+ [كما دعا تلاميذه إلى العلية هكذا يدعونا “الكلمة” معهم
إلى الوليمة الإلهية غير الفاسدة.]([21])

+
[أمَّا هم اليهود فكانوا يحفظون العيد بأن يمتلئوا بلحم
خروف غير ناطق، أمَّا الآن فنحن نأكل من “كلمة الآب”!]([22])

+
[إننا نغتذي من “طعام الحياة” فبينما نعطش إليه على الدوام تتلذَّذ نفوسنا في كل
حين إذ ترتوي من دمه الكريم كما من ينبوع.]([23])

+
[الذي يشترك في “الخبز الإلهي” يشتاق ويجوع دائماً إليه .. فجيد للقديسين والذين
يحبون الحياة في المسيح أن يُنهضوا نفوسهم بالاشتياق إلى هذا الطعام قائلين: «كما
يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله
الإله الحي. متى أجيء وأتراءى قدَّام الله» (مز 42: 1و2).]([24])

وفي
رسائل أخرى يدعو الإفخارستيا:

+
[العشاء العظيم السماوي
tص de‹pnon tص mڑga kaˆ oظr£nion.]([25])

+ [ذلك العشاء العظيم الذي يفوق العالم
de‹pnon ™ke‹no tص mڑga tص طperkزsmion
]([26])

+
[«إن المسيح فصحنا قد ذُبح لأجلنا» إذن فليأكل منه كل واحد منا وليشترك بفرح
واشتياق
في هذا المأكل، فإن الرب يعطي نفسه بالتساوي للجميع ويصير في كل واحد
«ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية».]([27])

+
[يا إخوتي، إن هذا الخبز لا يكون ههنا فقط طعاماً للأبرار، فليس القديسون على
الأرض فقط يتذوَّقون هذا الخبز وهذا الدم، بل إننا سنتناولهما أيضاً في السماء حيث
يكون الرب نفسه هو طعام الأرواح العليا والملائكة، فهو الفرح الحقيقي لجميع
الأرواح السمائية .. فمنذ الآن قد أعطانا الرب “خبز الملائكة”
(مز 25: 78).

وقد وعد الذين يصبرون معه في تجاربه قائلاً: «أنا أجعل لكم
كما جعل لي أبي ملكوتاً لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي ..»
(لو 22:
29و30). فيا لها من وليمة عظيمة يا إخوتي، وما أعظم توافق الذين يأكلون من
المائدة السمائية وما أعظم تهليلهم! لأنهم يتلذَّذون ليس بالطعام البائد الذي
يندفع إلى الخارج بل بالطعام الذي يعطي الحياة الأبدية. فمن يُحسب أهلاً لهذا
المحفل؟ ومَنْ يسعد بأن يُدعى ويُحسب أهلاً
لهذا العيد الإلهي؟ بالحق «طوبى لمَنْ يأكل خبزاً في
ملكوت الله»!
(لو 15: 14).]([28])

فهذا
الوصف الحي الشيِّق للأبدية بصفتها عيداً سماوياً سنسعد فيه على الدوام بالتناول المستمر
من الحمل المذبوح، يعكس لنا في الحقيقة مقدار الحرارة الروحية التي كان يعيشها
أثناسيوس، وعلى الأخص محبته الشديدة لسر الإفخارستيا وتطلُّعه المستمر للعالم
الآخر.

(ب) الكتاب المقدَّس:

يقول
غريغوريوس النزينزي في عظته عن أثناسيوس:

[إنه
ظل يهِذّ في كافة أسفار العهد القديم والعهد الجديد بعمق لم يبلغه أحد نظيره،
فشبَّ غزير التأمُّل، رصين السلوك، وجمع هذا بذاك كما برباط ذهبي
قلَّما استطاع أحد أن يجمع بينهما، مستخدماً
السلوك في الحياة كمدخل
للتأمُّل، والتأمُّل جعله ختماً على الحياة كلها.]([29])

إذن،
فقد تربَّى أثناسيوس منذ شبابه المبكِّر على الهذيذ في الكتاب المقدَّس بعهديه:
“بعمق لم يبلغه أحد نظيره”، بل إن قراءة الكتاب المقدَّس ظلَّت هي شهوته المفضَّلة
كل أيام حياته. نستنتج ذلك مما يقوله هو بنفسه في رسالته لصديقه مرسللينوس:

[عرفت
من حامل الرسالة أنك تصرف وقتك في قراءة الكتاب المقدَّس كله ولا سيما سفر
المزامير. وإني أمتدحك لأني أنا أيضاً مثلك أجد لذَّتي العظمى في قراءة
المزامير بل والكتاب كله أيضاً.
]([30])

فكان
يعتز بهذه القراءة أفضل من أي شيء آخر:

[إن
الكتاب المقدَّس يكفينا عوضاً عن أي شيء آخر.]([31])

[إن
الكتب المقدَّسة الملهمة كافية لإعلان الحق.]([32])

ويقول
عنه الأب بوييه:

“إن
أثناسيوس هو الذي أمسك بدفة الكنيسة لينقذ تعليمها اللاهوتي من الانحراف وراء النظريات الفلسفية اليونانية عن اللوغس إلى الالتزام
بالأمانة المطلقة للوحي الكتابي عن
الله.”([33])

وفي
ذلك يقول أثناسيوس نفسه:

[إن
تعليم الحق يكون أدق ما يمكن حينما نستمده من الكتاب المقدَّس وليس من مصادر
أخرى.]([34])

وكان
دائماً يقرن العهد القديم بالجديد:

[إن
العهد الجديد يقوم على العهد القديم ويشهد له. فإن كانوا يرفضون القديم فكيف
يستطيعون أن يقبلوا الجديد؟ لذلك قال ربنا: «فتِّشوا الكتب لأنها هي التي تشهد
لي»، فكيف يستطيعون أن يعترفوا بالرب بدون أن يفتِّشوا الكتب المكتوبة عنه؟]([35])

لذلك
لم يكن أثناسيوس يكف عن أن ينصح رعيته بقراءة الكتاب المقدَّس بعهديه، ويظهر ذلك
على الخصوص من رسائله الفصحية:

[إن
عبيد الرب الصالحين والأمناء الذين صاروا «متعلِّمين في ملكوت السموات ويخرجون من
كنوزهم جدداً وعتقاء» (مت 52: 13)، الذين يلهجون بكلام الله «حين يجلسون في
البيت وحين يمشون في الطريق وحين ينامون وحين يقومون» (تث 7: 6) يصيرون ثابتين في
الإيمان، فرحين في الرجاء، حارين في الروح … فبالتأمُّل في الوصية يثبتون
أمام ما يقع عليهم من الضيق ويُرضون الله ويقولون بثقة: «ضيق وشدة أدركاني ولكن وصاياك
هي درسي
» (مز 143: 119) … إذن فتأمُّل الوصية ضروري يا أحبائي مع اللهج
المستمر بالفضيلة «لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهِّباً لكل عمل صالح» (2تي 17:
3). فبهذه الأمور نربح موعد الحياة الأبدية كما كتب بولس إلى تيموثاوس داعياً
التأمل رياضة روحية قائلاً: «روِّض نفسك للتقوى لأن الرياضة الجسدية نافعة لقليل،
ولكن التقوى فنافعة لكل شيء إذ لها موعد الحياة الحاضرة والعتيدة» (1تي 4: 7و8).]([36])

ويعلِّق
العالِم
Resch على هذا النص من أثناسيوس قائلاً: “إذن فالتقوى التي تشمل ممارسة
جميع دروب الفضيلة يعتبرها أثناسيوس مرادفة للتأمُّل في الكتاب المقدَّس. فمن هذا
يظهر أن التأمُّل ليس في رأي أثناسيوس مجرَّد دراسة فكرية نظرية ولكنه يؤول
بالضرورة إلى الممارسة العملية التقوية لجميع أوجه الفضيلة ”([37]).
وهذا يعود بنا إلى ما سمعناه من غريغوريوس النزينزي عن منهج أثناسيوس العملي
في دراسة الكتاب المقدَّس: [إنه جمع التأمُّل بالسلوك كما برباط ذهبي].
وهذا المنهج العملي نجده على الخصوص في تفسير أثناسيوس للمزامير وفي رسالته إلى
مرسللينوس عن المزامير، وقد كتبهما ليساعد النُّسَّاك على الاستفادة العملية من
تلاوة المزامير([38]):

[اعكف
على قراءة المزامير بحكمة وسيرشدك الروح إلى فهم معانيها، وحينئذ تتمثَّل بحياة
القديسين الذين كتبوا هذا السفر بإرشاد الله.]([39])

ويعلِّق
العالِم
Resch على هذه الرسالة إلى مارسللينوس قائلاً: “إنه يظهر منها أن
أثناسيوس كان له الفضل الأعظم في نشر الوعي الكتابي في الأوساط الرهبانية بمصر،
وأنه كان أكثر من اهتم بذلك بغيرة وبقدرة على الإقناع.”([40])

ونقدِّم
في ما يلي بعض الأمثلة لتفسير أثناسيوس للمزامير:

+
تفسير مزمور 22: 70 حسب السبعينية «أُسبحك بالقيثارة يا الله»:

[إن
النفس حينما لا تصنع شيئاً باطلاً وتخلو من الأحاسيس الضارة لإيمانها ولحياتها،
فإنها تُدعى بحق قيثارة روحية
noht¾ kiq£ra].

ويكمِّل
هذا المعنى في رسالته إلى مرسللينوس (27) قائلاً:

[إن
النفس التي لها فكر المسيح بحسب قول الرسول في 1كو 16: 2
ينبغي أن تتوافق مع هذا الفكر كتوافق القيثارة مع مَنْ يحرِّك أوتارها … هكذا
يجب أن يكون في القيثارة الروحية التي هي
الإنسان، يجب أن تخضع الأعضاء والحواس جميعاً لفكر المسيح وتصير طيِّعة لمشيئة

الله.]

+ تفسير مزمور 8: 100 حسب السبعينية «في أوقات الغدوات كنت
أقتل جميع خطاة الأرض»:

[إن
المزمِّر (داود) يشير بكلمة “الخطاة” إلى الأفكار الشريرة التي يبيدها حينما يقوم
في الغدوات ليصلِّي ويحفظ فكره في حضرة الله.]

+
تفسير مزمور 96: 118 حسب السبعينية «لكل تمام رأيت منتهى أمَّا وصاياك فواسعة
جدًّا» يقول إن الحياة الروحية نمو متواصل:

[حتى
أن اكتمال الدرجة السابقة هو بعينه بداية للدرجة اللاحقة، فالإنسان حينما ينتهي
يكون في نفس الوقت مبتدئاً بحسب قول الكتاب (سيراخ 6: 18).]

 

ثالثاً: تمسُّكه الشديد بالتقليد الكنسي

لقد
نشأ أثناسيوس داخل الكنيسة متمسِّكاً بتقليدها، وكان يعتز بأنه يفهم الأسفار
المقدَّسة [فهماً كنسياً
di£noian ™kklhsiastik»n]([41])
أي فهماً يتوافق مع تقليد الكنيسة الأُولى الذي استلمته من الرب نفسه:

[لنتأمَّل
إذن في تقليد الكنيسة الجامعة منذ البدء
t¾n ™x arcءj
par£dosin
وتعاليمها وإيمانها
التي أعطاها الرب وكرز بها الرسل وحفظها الآباء، على هذه تأسَّست الكنيسة،
ومَنْ يسقط من هذه لا يعتبر بل ولا يكون مسيحياً.]([42])

ويقرِّر
العالِم
Quasten:

“إن
أعظم فضل لأثناسيوس يتركَّز في أنه دافع عن المسيحية التقليدية وحفظها من خطر
التلوُّث بالفكر اليوناني
Hellenization الكامن في هرطقة أريوس وأتباعه.”([43])

بل
إن أثناسيوس نفسه يقرِّر هذه الحقيقة: إن سبب انحراف أريوس بل وجميع الهرطقات هو
أنهم لم يلتزموا بالتقليد الكنسي المسلَّم من الرسل:

[إن
جميع الذين اخترعوا الهرطقات الخبيثة، وإن كانوا يستشهدون بالأسفار المقدَّسة
إلاَّ أنهم لا يتمسَّكون بالآراء (التفاسير) التي سلَّمها القديسون، بل يعتبرونها
مجرَّد تقاليد للناس، ولذلك يضلون إذ لا يعرفونها بالحق ولا يدركون قوتها، ولهذا
السبب يمدح بولس أهل كورنثوس لأن آراءهم كانت موافقة لآرائه (1كو 2: 11).]([44])

[إن
الرسول يمدح أهل كورنثوس قائلاً: «فأمدحكم أيها الإخوة لأنكم تذكرونني في كل شيء
وتحفظون التقاليد كما سلَّمتها إليكم» (1كو 2: 11) وأمَّا هؤلاء (الأريوسيون)
الذين يحتقرون آراء الذين سبقوهم يليق بهم حقا أن يقولوا بلا حياء عكس ذلك
لرعاياهم أي “إننا نمدحكم لأنكم لا تذكرون الآباء ونزيدكم مدحاً حينما تحتقرون
تقاليدهم”.]([45])

[هذا
هو جنون وشطط هؤلاء الناس بحسب ما وصفناه وأمَّا
إيماننا نحن فمستقيم ونابع من تعليم الرسل وتقليد الآباء ومشهود له من العهدين
الجديد والقديم كليهما.] ([46])

[إن
أساقفة نيقية لم يخترعوا هذه العبارات من أنفسهم بل كانت لهم شهادات من الآباء لما
سجَّلوها. فإن أساقفة العصور السالفة في رومية
العظمى وفي مدينتنا (الإسكندرية) قد كتبوا
منذ أكثر من 130 عاماً وحرموا كل مَنْ يقول إن الابن مخلوق أو أنه ليس من جوهر
الآب.]([47])

رابعاً: اتصاله المستمر بالأوساط الرهبانية

لقد
تعرَّف أثناسيوس على أنطونيوس منذ شبابه المبكِّر في الصعيد وعاش بجواره فترة، وهو
نفسه يخبرنا بذلك ويعتز بأنه سكب ماءً على يديه كعلامة للتلمذة له([48]):
[لقد رأيت أنطونيوس مراراً وتعلَّمت منه لأنني لازمته زمناً طويلاً وسكبت ماءً
على يديه.]
(حياة أنطونيوس، المقدِّمة)

وقد
وصفنا للقارئ شدَّة تأثر أثناسيوس بشخصية أنطونيوس الروحية (انظر
صفحة 32و33).
وقد سمع كذلك أخبار باخوميوس وهو لم يزل شاباً في
الصعيد (انظر صفحة 53)، وظلَّت اتصالاته مستمرة بالأوساط الرهبانية بعد
رسامته سواء كان بالأديرة الباخومية بالصعيد أو بأنطونيوس وتلاميذه في بسبير أو
بآمون في نتريا، أحياناً بالزيارات الرعوية وأحياناً أخرى بالرسائل، وقد أسهبنا في
شرح ذلك (انظر صفحة 178 إلى 188).

وقد
سانده أنطونيوس في عدة مناسبات في جهاده ضد الأريوسيين (صفحة
105 إلى 107 وصفحة 128129)
وكذلك أيضاً باخوميوس ورهبانه (صفحة 130131، 171) وفي نفيه
الثالث والرابع تعاونت جميع براري مصر المملوءة بالرهبان في إيوائه وإخفائه من
مطارديه (صفحة 242244 وصفحة 291295).
وفي هذه الفترة التي قضاها أثناسيوس بين أصدقائه الرهبان وهو ينتقل متخفياً
بين أديرتهم وقلاليهم ومغايرهم، وضع أعظم مؤلفاته اللاهوتية، وهذا يدلنا بلا شك
على مقدار الراحة الروحية والنفسية التي كان يشعر بها بين الرهبان حتى كان ذلك
ينعكس على إنتاجه الفكري.

لذلك
فبسبب اتصاله المستمر بالأوساط الرهبانية منذ صبوته بالصعيد وحتى إلى آخر أيامه،
لا نعجب أن نرى روحانية الرهبان قد أثرت في صميم شخصيته الروحية واللاهوتية بعدة
تأثيرات إيجابية نذكر منها ما يلي:

(أ) تقواه ونسكه:

لقد
أجمع كل شعب الإسكندرية على اختياره ليكون رئيس أساقفة للإسكندرية قائلين:

[إنه
مسيحي تقي وواحد من النُّسَّاك([49])

eظlabء cristianصn kaˆ ›na tîn ¢skhtîn.]

وبالفعل
كان يتميَّز أثناسيوس بالتقوى وكان محباً للصلاة، حتى نجده يرأس بنفسه بصفة عادية
صلاة السهر التي كانت تدوم طول الليل استعداداً للقدَّاس في الصباح، وهو نفسه
يخبرنا بذلك عفواً أثناء وصفه للاضطهاد الذي وقع عليه.

[لقد
هجم سيريانوس على الكنيسة بعساكره بينما كنا مشغولين في الخدمة .. لأنه كان سهرٌ
تحضيراً للشركة في الغد ..]([50])

[…
بينما كنا نقيم السهر في بيت الرب ومهتمين بالصلوات …]([51])

كذلك
يخبرنا عفواً في إحدى رسائله إلى سيرابيون أنه كثيراً ما كان يلجأ إلى الصلاة
أثناء تأليفه الكتب اللاهوتية، فكان كلما وجد صعوبة في شيء يقوم ويصلِّي حتى يأخذ
الإلهام من الله:

[وبينما
أنا متفكِّر في هذه الأمور بدا لي أن المعنى المخفي في هذه الكلمات ذو عمق كبير، فبدأت
أولاً أُصلِّي كثيراً للرب
الذي جلس على البئر ومشى على المياه، ثم عدت أيضاً
أتأمَّل في التدبير الحادث فيه من أجلنا لعلِّي أتلمَّس منه معنى هذه الكلمات.]([52])

(ب) ربطه الدائم بين العقيدة والتقوى أي بين
المعرفة والحياة العملية:

[إن
العقيدة والتقوى مرتبطتين كمثل أختين: فالذي يؤمن بالله يصير تقياً وكذلك الإنسان
التقي يكون له إيمان أقوى. لذلك فالذي يصنع الإثم يضل أيضاً بلا شك من جهة الإيمان
والذي يترك التقوى يفقد أيضاً الإيمان القويم.]([53])

[إن
دراسة الكتب ومعرفتها بالحقيقة تتطلَّب حياة صالحة ونفساً نقية وفضيلة لائقة
بالمسيح، حتى إذا ما استرشد بها العقل استطاع أن يدرك الله الكلمة على قدر ما
تستطيع الطبيعة البشرية ذلك. فإنه بدون ذهن نقي ومماثلة سيرة القديسين لا
يستطيع أحد أن يدرك أقوال القديسين … فمن أراد أن يدرك فكر الناطقين
بالإلهيات
qeolزgwn
يجب عليه أولاً أن يغسل نفسه ويقوِّم حياته ويقترب إلى القديسين بالتشبُّه
بأعمالهم حتى إذا ما اشترك في سيرتهم استطاع أيضاً أن يفهم ما أعلنه الله لهم.
]([54])

فعلم
اللاهوت
qeolog…a
عند أثناسيوس مرتبط أشد الارتباط بالقداسة، فهو يقوم أساساً على قداسة السيرة مع
إلهام وإعلان من الله! فبدون القداسة لا نستطيع أن نفهم ما أعلنه الله للقديسين!

[فحينما
تنزع النفس عنها وسخ الخطية ولا تبقي في ذاتها إلاَّ ما هو طاهر وموافق للصورة
الأصلية، فحينئذ حينما تصير هذه الصورة مصقولة فيها، ترى النفس فيها
كما في مرآة “الكلمة” صورة الآب بل إنها فيه تتمثَّل الآب نفسه لأن
المخلِّص هو صورة الآب.]([55])

أي
أن نقاوة النفس تؤهِّلها لتتأمل “الكلمة” على حقيقته:

[وهكذا
فإن نقاوة النفس تؤهِّلها لتتأمل الله داخلها، كما يقول الرب: «طوبى لأنقياء القلب
لأنهم يعاينون الله».]([56])

[وقد
أكَّد الرب ذلك وثبَّته قائلاً: «إن ملكوت الله داخلكم».]([57])

(ج) صارت له حاسة روحية يستشف بها الجانب الروحي من كل
عقيدة:

يقول
العالِم
Cavallera:

“لقد
كان أثناسيوس متمكِّناً في العقيدة حتى لم يكن له مثيل في ذلك فإني لا أجد أحداً
في القرن الرابع يضاهيه … ولا سيما في عمق حاسته المسيحية التي كانت تدفعه
تلقائياً إلى أن يكشف في كل عقيدة عن الجانب الذي يجعلها متصلة بصميم الحياة
الروحية لإحياء النفوس وإنعاشها وتجديد حياتها الروحية
واندفاعها نحو الخير.
فإننا لن نتعلَّم من أحد آخر أفضل منه كيف يمكن أن تنبع من العقائد
حتى من أصعبها على الإدراك البشري ينابيع مياه حيَّة ودفقات روحية
عالية. فالثالوث ليس عند أثناسيوس مجرَّد حقيقة نظرية يُلزمنا الإيمان بأن نقبلها
بعقولنا دون أن يكون لها أثر فعَّال في سلوكنا العملي، بل إن الثالوث عنده هو كل
شيء في الحياة الروحية كما في العقيدة المسيحية على حد سواء.”([58])

وبنفس
المعنى يقول الأب
Bouyer:

“إن
كل كتابات أثناسيوس تؤكِّد باستمرار الحقيقة التالية: إنه قد صار في مقدور الإنسان
أن يحيا حياة إلهية بسبب أن كلمة الله تأنَّس وأنه صار يُحيي جميع الذين ينتمون
إليه، بمجرَّد أن يكونوا مستعدين أن يتخلُّوا عن كل شيء من أجله … فإن كنَّا
نتساءل عن أكثر شيء تحمَّس له أثناسيوس لدرجة أنه كرَّس حياته من أجله نستطيع أن
نقول إنه الحياة المسيحية المعاشة بكل عمقها.
فأثناسيوس قبل أن يصير اللاهوتي
البارع (مع أنه كان كذلك) وقبل أن يكون الأسقف الذائع الصيت حتى صار ينافس في ذلك
أبطال الأساطير، أثناسيوس من قبل كل ذلك كان إنساناً يريد أن يحيا الحياة
الإلهية التي أحضرها الكلمة المتجسِّد إلى عالم الإنسان،
وذلك بالسلوك في
الطريق النسكي الذي صار مزدهراً (في الرهبنة) في نفس الفترة الزمنية. هذه كانت
شهوته الأُولى التي لا نراه قد حاد عنها قط!
([59])

وأمَّا
العالِم
Resch فيقول في ختام كتابه المذكور عن النسك في القرن الرابع بمصر، ما
ملخَّصه:

“إن
أثناسيوس قد عبَّر بأسلوب لاهوتي عمَّا كان يختبره شخصياً وعمَّا كان الرهبان
المعاصرون له يعيشونه دون أن يُعبِّروا عنه، فقد زوَّد العقيدة العامة بأسرار حياة
التألُّه في المسيح التي كان يلذ له أن
يتكلَّم عنها، تلك الأسرار التي تعلَّمها من خبرته الروحية الخاصة
التي كانت بلا شك غنية جدًّا، كما أيضاً من اتصاله
المستمر بالرهبان القديسين المعاصرين
له.”([60])

ويعود
العالِم
Bouyer ويكمِّل هذا المعنى قائلاً:

“ونعتقد
أن هذا المنهج في فهم النُّسك الرهباني (على أنه ممارسة الحياة الإلهية التي
أحضرها الكلمة المتجسِّد إلى عالم الناس) قد نال استحسان مؤسِّسي الرهبنة الأوائل
مثل أنطونيوس وباخوميوس، لأنهم لم يكفُّوا عن مساندة أثناسيوس سواء كان بالتأييد
العلني أو بالمودة الشخصية. فنحن نعلم كيف عبَّر أنطونيوس عن مودته الخاصة للبابا
أثناسيوس بأن ترك له ثوبه وجلد الغنم الخاص به.”([61])

(د) صار يبرهن على صحة العقيدة من واقع ممارسة الرهبان
العملية:

لقد
كتب عنه هارناك:

“إنه
استطاع أن يربط قضية الهوموؤسيون ربطاً وثيقاً محكماً بالنسك والعبادة التقوية”.

ففي
نهاية سيرة أنطونيوس ينصح أثناسيوس بأن يُقرأ على الوثنيين:

[لكي
يعرفوا أن ربنا يسوع المسيح هو الله وابن الله، وأن المسيحيين الذين يخدمونه بالحق
ويؤمنون به يبرهنون على عدم ألوهية الشياطين
آلهتهم بل يدوسونها بأقدامهم
ويطردونها.]([62])

وفي
كتاب تجسُّد الكلمة يقول:

[على
أن هذه البراهين التي قدَّمناها لا تستند إلى مجرَّد حجج كلامية، ولكن هناك اختبارات
عملية
تشهد لصحتها. فليذهب من أراد ويعاين دليل العفة في عذارى المسيح
(الراهبات) والشبان الذين يمارسون حياة العفة المقدَّسة (الرهبان).]([63])

وفي
حياة أنطونيوس يبيِّن كيف أخذ أنطونيوس يقنع الوثنيين أولاً بالكلام النظري، ثم
قام وقدَّم الدليل على صحة كلامه بأن رشم
بعلامة الصليب بعض المرضى فقاموا معافين (حياة أنطونيوس 79).

وكثيراً
ما يعود أثناسيوس ويبيِّن قوة علامة الصليب كدليل على ألوهية المسيح:

[بمجرَّد
علامة الصليب يستطيع الإنسان أن يفضح خداعات الشياطين.]([64])

[وليأتِ
مَنْ أراد أن يختبر أقوالنا السابقة عملياً وليستعمل وسط خداع الشياطين وخزعبلات
المنجِّمين وأعاجيب السحر، علامة الصليب، فيرى كيف تهرب الشياطين بواسطته ويبطل
التنجيم ويُباد السحر والعرافة، فمَنْ هو المسيح هذا؟ وما أعظمه؟!!]([65])

[فإن
كان المخلِّص يعمل الآن مثل هذه الأعمال العظيمة بين الناس … فهل يشك أحد بعد
ذلك أن المسيح حي بل أنه بالحري هو نفسه “الحياة”؟!]([66])

خامساً: إدراكه الواضح لحدود العقل في المعرفة اللاهوتية

يقول
العالِم
Quasten:

“إن تعليم أريوس كان نتاجاً مميّزاً لللاهوتية العقلانية

a
typical product of theological rationalism

وقد
أرضى لدرجة كبيرة ذوي التفكير السطحي لأنه أعطاهم حلاًّ رخيصاً ومبسَّطاً (تبسيطاً
مخلاًّ) لأصعب مشكلة لاهوتية، ألا وهي نوع العلاقة بين الله الآب والابن.”([67])

“وإزاء
هذا الاتجاه العقلاني كان أثناسيوس يؤكِّد أولوية الإيمان على العقل،
فالعقل لا يجوز أن يُحتكم إليه في الأمور الفائقة الطبيعة، لأن الإنسان بعقله يعجز
حتى عن أن يفحص طبيعته الخاصة، فكم بالحري أن يتكلَّم عن طبيعة الله الفائقة.”([68])

وهذا
هو ما يقوله أثناسيوس في ذلك:

[كيف
يتجاسر غير الأتقياء ويتكلَّمون بجهالة على غير ما يجب، إذ أنهم مجرَّد بشر وغير
قادرين حتى على وصف ما على الأرض. ولماذا أقول ما على الأرض؟ بل لعلَّهم يقولون
لنا ما هي طبيعتهم الخاصة إن كانوا قادرين على فحصها! ولكنهم بجسارة واعتداد
بالذات لا يرتعدون من أن يخترعوا النظريات عن الأمور التي تشتهي الملائكة أن
تطَّلع عليها (1بط 12: 1)، التي تفوقهم بمثل هذا المقدار، سواء كان من جهة طبيعتها
أو قدرها السامي. لأنه أي كائن أقرب إلى الله من الشاروبيم والسارافيم؟ ومع ذلك
فإنهم لا يشخصون إليه ولا يمسون الأرض بأرجلهم أمامه ولا يكشفون وجوههم بل
يغطُّونها ويقدِّمون التسابيح بشفاه لا تفتر، ولا يفعلون شيئاً آخر غير تمجيد
الطبيعة الإلهية الفائقة بتسبحة الثلاثة تقديسات.]([69])

بهذا
الوصف يحدِّد لنا أثناسيوس ولو بطريق غير مباشر ما يجب
أن يتميَّز به اللاهوتي الحقيقي إزاء حقيقة الله: فهو يجب أولاً أن لا يرتئي فوق
ما ينبغي أن يرتئي، ثم أن يُنهض روحه بمشاعر التقوى والعبادة والوقار أمام الحضرة
الإلهية الفائقة متمثِّلاً بالشاروبيم والسارافيم الذين يغطُّون وجوههم أمام
الطبيعة الإلهية الفائقة ولا يكفون عن التسبيح المتواصل. فالمعرفة اللاهوتية الحقة
تمتزج بالضرورة بروح التسبيح والتمجيد وتقديم العبادة اللائقة للثالوث:

[إزاء
هذه الأمور يستتر الشاروبيم بأجنحتهم.
فمَنْ يُريد أن يفحصها بزيادة فليسمع
القائل: «لا تكن حكيماً بزيادة لئلاًّ تَخْرِب نفسك» (جا 16: 7) فإن ما سُلِّم
بالإيمان لا ينبغي أن يُفحص بالحكمة البشرية
بل أن يُقبل بخبر الإيمان.]([70])

[إن
تسليم اللاهوت (المعرفة اللاهوتية) لا يمكن أن يكون بالبراهين الكلامية بل
بالإيمان وبأفكار التقوى مع الوقار.]([71])

وهذه
بالذات التقوى مع الوقار هي التي كانت تعوز تعليم
الأريوسيين، فأساس نكبة أريوس اللاهوتية هو كما سبق أن قلنا: “أنه كان يملك معرفة
دينية ولكن لم يكن يملك أخلاقاً دينية … فالتقوى غائبة في الفكر اللاهوتي
لأريوس، فالذي يدرس تعليم أريوس يُصدم بحقيقة الانفصال الواضح بين التقوى
والمعرفة.” (انظر صفحة 36 و487).

 

سادساً: إدراكه أن علاقتنا بالمسيح

هي علاقة كيانية أي علاقة ثبات متبادل

إننا
نلمس هنا الإلهام الأساسي الذي وجَّه كل تفكير أثناسيوس اللاهوتي في ردوده
العقائدية على الأريوسيين. هذه الفكرة الملهمة الأساسية تتلخَّص في أنه يوجد اتصال
كياني أساسي وعميق بين المسيح في حال تجسُّده وبين سائر أعضاء الجنس البشري. فكل
ما صنعه المسيح بجسده الخاص قد صار له رنين أو أثر فعَّال في سائر أعضاء الجنس
البشري.

لقد
كان الأريوسيون يعثرون في جميع الآيات التي تصف المسيح بالضعف ويستدلون منها أنه
أقل من الآب في الجوهر، والسبب في ذلك أن منهجهم كان منهجاً نظرياً يريد أن يفحص
كيان المسيح في ذاته بمعزل عن عمله الخلاصي. ولكن أثناسيوس يجيب: هذا مستحيل، لأن
كيان المسيح المتجسِّد مرتبط أساساً بعمله الخلاصي:

[فالناس جميعاً لهم جسد ليعيشوا به ويوجدوا به، وأمَّا كلمة
الله فقد تأنَّس لكي يقدِّس الجسد.]
([72])

[فكل ما كُتب في ما يختص بناسوت مخلِّصنا ينبغي أن يُعتبر
لكل جنس البشرية لأنه أخذ جسدنا نحن وعرض في نفسه ضعف البشرية.]
([73])

[فلمَّا اغتسل الرب في الأُردن كإنسان كنَّا نحن الذين فيه
وبواسطته نغتسل، وحينما اقتبل الروح نحن الذين كنَّا بواسطته مقتبلين هذا الروح.]
([74])

[فحينما يُقال عنه بشرياً أن الله قد
“مسحه”
(أع 38: 10)، نكون نحن في الواقع الذين ننال فيه المسحة.
وهكذا أيضاً حينما يُقال عنه إنه اعتمد نكون نحن الذين فيه نعتمد.]
([75])

[فهو
نفسه الذي يقدِّس كل شيء يقول للآب: «من ولأجلهم أُقدِّس أنا ذاتي» (يو 19: 17)،
ليس بمعنى أن “الكلمة” يمكن أن يزداد في القداسة، بل بمعنى أنه هو نفسه يقدِّسنا
نحن جميعاً في ذاته.
]([76])

[وبنفس
المعنى ينبغي أن نفهم الآية التي نحن بصددها: «لذلك رفَّعه الله» (في 9: 2)، ليس
بمعنى أنه هو نفسه (الكلمة) يمكن أن يزداد في الرفعة إذ أنه هو العلي، بل لكي يصير
لنا برًّا ونصير نحن الذين نرتفع فيه!]([77])

[إذن
فقد قيل عنه بشرياً من أجلنا وبسببنا أن الله “رفَّعه” حتى كما أننا بموته قد
مُتنا جميعاً في المسيح، هكذا في المسيح عينه نرتفع نحن أيضاً
(برفعته) ونقوم
من الموت ونصعد إلى السموات.
]([78])

فمعمودية
الرب هي معموديتنا فيه، ومسحة الرب هي مسحتنا نحن فيه، وقداسته هي قداستنا نحن فيه،
وموته هو موتنا نحن فيه، وقيامته ورفعته وصعوده إلى السموات هذه كلها هي لنا نحن
فيه. هذا هو منهج أثناسيوس العام في تفسير الأسفار، وهو نفسه يؤكِّد بثقة أن هذا
هو المنهج الكنسي العام في فهم الأسفار “فهماً كنسياً.”([79])

[لقد
فتح الرب طريقاً جديداً للصعود إلى السماء قائلاً: «ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم
وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية» لأنه لم يكن “الكلمة” نفسه هو المحتاج لانفتاح
الأبواب إذ هو رب الكل … بل نحن الذين كنا في حاجة إلى ذلك، نحن الذين كان
يُصعدنا بواسطة جسده الخاص
oقj ¢nڑferen aظtصj di¦ toà „d…ou sèmatoj
aظtoà
.]([80])

[وهكذا
أيضاً الآية القائلة: «وأعطاه اسماً فوق كل اسم» لم تُكتب من أجل “الكلمة” نفسه،
إذ كان معبوداً في كل حين قبل تجسُّده … بل من أجلنا وبسببنا نحن قد كُتب هذا
أيضاً … حتى تدركنا نحن أيضاً هذه النعمة
(أي نعمة التبني بأن نُدعى فيه
أولاد الله).]([81])

[أخذ
ضعفنا عليه وهو غير ضعيف وجاع وهو الذي لا يجوع لكي يرفع ما هو لخاصتنا حتى يبطله
عنَّا … فحينما يُقال عنه إنه جاع وبكى وضعف وصرخ «إيلوي إيلوي» التي هي جميعاً
انفعالاتنا البشرية، فهو قد استلمها منَّا لكي يرفعها إلى الآب متشفِّعاً فينا
حتى يُبطلها عنَّا في ذاته.
]([82])

وكثيراً
ما يشير أثناسيوس في عبارة واحدة متصلة إلى جسد المسيح الخاص وإلى أجسادنا نحن
كأنها حقيقة واحدة متصلة. من مثل ذلك قوله:

[فالآن
بعد أن صار الكلمة إنساناً وقد اقتنى لنفسه كل ما يخص الجسد، لا تعود هذه
الأضرار تصيب الجسد بسبب “الكلمة” الذي حل فيه،
ولكنها قد أُبطلت بواسطته
ولذلك لا يعود الناس بعد خطاة وأمواتاً بحسب شهواتهم الخاصة ولكنهم قد قاموا بقوة
“الكلمة” وصاروا غير مائتين وغير فاسدين!]([83])

وهنا
في عبارة: [لا تعود هذه الأضرار تصيب الجسد بسبب “الكلمة” الذي حل فيه] واضح أن أثناسيوس
يشير بكلمة “الجسد” إلى جسد المسيح الخاص (بسبب الكلمة الذي حل فيه)، ولكن في نفس
الوقت أيضاً إلى جسد كل إنسان بصفة عامة بسبب الرباط السرِّي الذي يربطه بجسد
المسيح الخاص كحقيقة واحدة متصلة!

[لذلك
قد جاء كما قلت سابقاً لكي يتألَّم بالجسد فيصير بالتالي
الجسد فائقاً للألم وللموت. لقد جاء كما قلنا مراراً
لكي يأخذ على نفسه المذلَّة وبقية الشرور لئلاَّ تقع على الناس في ما بعد بل تبطل
نهائياً بواسطته، وأيضاً لكي يدوم الناس في ما بعد غير فاسدين إلى الأبد إذ قد
صاروا هياكل للكلمة. لو كان أعداء المسيح
Cristom£coi (أي الأريوسيون) قد
أدركوا ذلك وتمسَّكوا بهذه “النظرة الكنسية
tصn
skopصn tصn ™kklhsiastikزn
كأنها مرساة للإيمان
لَما ضلوا أبداً من جهة الإيمان!
]([84])

فسبب
فساد نظرية الأريوسيين من الأساس هو أنهم فشلوا في إدراك هذه “النظرة الكنسية” إلى
المسيح، باعتباره متصلاً اتصالاً كيانياً بكل واحد منَّا، حتى أن كل ما فعله الرب
من جهة بشريته ينبغي أن يُعتبر لنا جميعاً. ويتابع أثناسيوس الأريوسيين في منطقهم
الفاسد ويتدرَّج معهم من خطوة إلى خطوة بالمنطق ليكشف كيف أن عقيدتهم المنحرفة
يترتَّب عليها أيضاً نتائج روحية معيبة:

[وإن
كنَّا لسنا نحن “المخلوقين فيه” فنحن بالتالي لا نقتنيه داخلنا بل خارجاً عنَّا، وبذلك
يكون لنا كمجرَّد معلِّم نتعلَّم منه من خارج!!
]([85])

لا
يستطيع أثناسيوس أن يقبل مثل هذا الفكر! أن يكون المسيح مجرَّد معلِّم للدين
والأخلاقيات نتعلَّم منه من خارج كمثل أساتذة المدارس اليونانية! لا يكون هذا هو
مسيحنا! إمَّا أن يكون المسيح هو حياتنا وهو قيامتنا أو نكون نحن أشقى جميع الناس.
لذلك فالأريوسية التي تنكر هذه الحقيقة هي أشر الضلالات، ولذلك يستطرد أثناسيوس
قائلاً:

[لو
كان الأمر كذلك لو كان المسيح مجرَّد معلِّم يعلِّمنا من الخارج
لكانت إذن الخطية لا تزال تملك على الجسد كما كانت من قبل! ولكن الرسول يعارض مثل
هذه الأفكار قائلاً: «نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع» (أف 10: 2). فإن كنا في
المسيح قد خُلقنا فليس إذن هو في ذاته المخلوق بل نحن المخلوقين فيه.]([86])

من
كل هذه الأقوال يظهر جلياً أن علاقتنا الكيانية بالمسيح، أي تداخلنا في المسيح
وتداخل المسيح فينا، ليست أمراً ثانوياً في التعليم اللاهوتي للقديس أثناسيوس، بل
هي حجر الأساس الذي بدونه ينهدم صرح الإيمان كله ويبطل خلاصنا. فعلاقتنا بالمسيح
لا يمكن أن تكون مجرَّد علاقة تلاميذ بمعلِّم “يعلِّمنا من خارج” بل لابد أن تكون
علاقة تداخل وثبات متبادل.

لذلك
يؤكِّد أثناسيوس أنه بمجرَّد تجسُّد الكلمة صار الكلمة بنوع ما فينا وصرنا
نحن بنوع ما “محمولين فيه”:

[فمن
الواضح أن الكلمة قد صار فينا لأنه قد لبس جسدنا نحن

™n ¹m‹n gڑgonen ذ
Lزgoj tص g¦r ¹mڑteron ™nedعsato sîma
]([87])

وفي
تفسيره لصلاة المسيح الكهنوتية (يو 17) يقول:

[أنا
فيهم بسبب الجسد
™gë de ™n aظto‹j di¦ tص sîma

فأسأل
أن يصيروا واحداً بحسب الجسد الذي فيَّ …

حتى كما أن الجميع محمولون فيَّ … foresqڑntej
par’ ڑmoà

يكونوا
جميعاً جسداً واحداً وروحاً واحداً.]([88])

[لقد
تأهَّلنا بالكلمة لأننا صرنا منضمين إليه بواسطة جسده
proslhfqڑntej
di¦ tءj sarkصj aظtoà
وبذلك ورثنا الحياة الأبدية.]([89])

وقد
عرضنا أقوال القديس أثناسيوس بخصوص “الاتحاد بالله” أو بحسب تعبيره “التألُّه
qeopo…hsij” في الفصل الخامس من الجزء اللاهوتي تحت عنوان: “نتيجة غلبة الموت
والفساد: اشتراك الإنسان في الطبيعة الإلهية” (انظر صفحة 435447)
وسيتبيَّن منها القارئ أهمية مفهوم التألُّه في الفكر اللاهوتي لأثناسيوس، إذ
نرى أنه يقع موقع القلب من التعليم اللاهوتي بل ومن مفهوم المسيحية كلها عند
قديسنا الكبير (صفحة 446). ويوافقنا في ذلك العالِم
Gross الذي عمل دراسة مقارنة لمفهوم “التألُّه” عند جميع آباء العصور
الأُولى، إذ يقول:

“إن
اتحادنا بالله أي “التألُّه” ليس في تعليم أثناسيوس مجرَّد فكرة ثانوية
تكميلية كما كان عند الآباء السابقين له، بل قد صار بالحق محوراً لكل تفكيره
اللاهوتي.”([90])

وبنفس
المعنى يقول العالِم
Bouyer:

“إن الذي يمكننا أن ندعوه بحق معلِّم لاهوت لعقيدة
“الاتحاد بالله” هو بلا شك القديس أثناسيوس.
ومن الجدير
بالملاحظة أنه هو نفسه الذي أمسك بدفة الكنيسة لإرجاع تعليمها من التأثُّر
بالفلسفات اليونانية عن اللوغس إلى الأمانة الكاملة للمفهوم الكتابي عن الله.([91])

أي
أنه لم يستقِ هذا التعليم عن “التألُّه” من الفلسفات اليونانية المعاصرة له بل من
صميم الكتاب المقدَّس، مما يقوله بطرس الرسول: «لكي تصيروا شركاء الطبيعة الإلهية»
(2بط 4: 1)، ويوحنا الرسول: «إن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا
به
» (1يو 9: 4)، «سنكون مثله لأننا سنراه كما هو» (1يو 2: 3). وبولس
الرسول: «لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله.» (أف 19: 3)

وطبعاً
لا يقصد القديس أثناسيوس من “التألُّه” أننا سنخرج به من حدود طبيعتنا البشرية
المخلوقة، أو نتحوَّل إلى طبيعة الله، حاشا! ولكن ما يعنيه هو أننا سننال بالتأكيد
انسكاباً حقيقياً من حياة الله نفسه داخلنا
لتجديد خلقتنا. وهذه هي الغاية النهائية التي من أجلها قد جاء ابن الله إلينا:

[من
أجل ذلك قد صار الكلمة جسداً: لكي يجعل الإنسان قادراً أن يتقبَّل اللاهوت

†na tصn ¥nqrwpon
dektikصn qeزthtoj poi»sV
.]([92])

 

سابعاً: روحه الكنسية العالية جدًّا

 

يقول
العالِم
Bouyer:

لقد
كان لأثناسيوس روح كنسية عالية جدًّا …
وهذا أفضل ما يُفسِّر لنا تصرفاته
… فإن كان لم يرتضِ بأن يكف ولا لحظة واحدة عن الجهاد من أجل العقيدة، ولم يرضَ
أن يحتفظ بإيمانه لذاته تاركاً الآخرين يتوحَّلون كما يشاءون في
اللاهوت الأنطاكي الشائك، فالسبب في ذلك أن الحياة المسيحية كانت بالأساس في نظره
“حياة كنسية”، فكان من العبث في نظره أن يدَّعي أحد بأنه يُنمِّي حياته
الروحية الفردية ويترك بقية الكنيسة تتعثَّر، كما يكون من العبث الاحتفاظ بالحياة
الطبيعية داخل إحدى خلايا جسم يؤول إلى الانحلال! فإن كنَّا نجد عنده الحياة
الروحية الداخلية تتوافق بالتمام مع “الاهتمام بجميع الكنائس”، فالسبب
في ذلك هو اقتناعه العميق بأن حياة الكنيسة ليست شيئاً خارجياً بالنسبة لحياة
الإنسان المسيحي الخاصة.”([93])

“فأول
ما تقلَّد المهام الأسقفية صار يبذل نفسه بلا حساب في كنيسته المصرية المتسعة، وفي
فترة وجيزة وضع الله عليه “الاهتمام بجميع الكنائس”، بحسب قول بولس
الرسول. فالحق الذي كان يعيشه كان يدفعه بقوة جارفة إلى أن يسلِّمه لغيره ويجعل
الآخرين يتمتَّعون به معه. كان لا يحتمل أن تكون النفوس الموكولة إليه محرومة من
هذا الحق. وكلما كان يتقدَّم في الحياة، كلما كانت تزداد فيه هذه الغيرة المُلحة
لأن يسلِّم إيمانه بالكامل لكل مَنْ دُعي باسم المسيح … بل إننا نعلم بأي قدر من
الاهتمام استقبل فرومنتيوس أول رسول للحبشة، وكيف رسمه أسقفاً وعضَّده بكل وسيلة
حتى تصير خدمته ناجحة.”

“غير
أن هذا العمل الخارجي الدائب لم يكن عند أثناسيوس متعارضاً مع حياته النسكية
الداخلية. فلا نجد لديه أي أثر للتعارض بين هذين الاتجاهين.”([94])

والسبب في هذا التوافق الداخلي بين هذين الاتجاهين أنه لم
يكن يفرِّق قط بين المسيح وبين كنيسته. فعلاقته بالمسيح كانت هي نفسها علاقته
بالكنيسة التي هي جسده، وفي ذلك يقول العالِم
Moehler:

“لقد
ضرب أثناسيوس جذوره عميقاً عميقاً جدًّا في تربة الكنيسة، وقد كان أثناسيوس لا
يعرف نفسه إلاَّ فيها، فكان ماضيها حاضراً دائماً أمامه، وقد أخذ على عاتقه أن لا
يُقدِّم المسيح يسوع إلاَّ متحداً بكنيسته من الداخل، وفي كلمة واحدة كان
المسيح هو نفسه الكنيسة!
([95])

وهذا
الإحساس الواضح بحقيقة الكنيسة كجسد للمسيح يظهر عند أثناسيوس منذ شبابه حينما كتب
كتابه الأول “ضد الوثنيين”، وفي “تجسُّد الكلمة”:

[لهذا
لم يمت (المسيح) ميتة يوحنا بقطع رأسه وفصلها عن جسده، ولا مات ميتة إشعياء بنشر
جسده وفصله إلى نصفين، وذلك لكي يحفظ جسده سليماً غير منقسم حتى أثناء موته، حتى
لا تكون فرصة للذين يريدون تقسيم الكنيسة وتجزئتها.
]([96])

فالكنيسة
في نظر أثناسيوس هي جسد المسيح. ولو مات المسيح بتقسيم جسده إلى أجزاء لأمكن الآن
أيضاً أن ينجح الأريوسيون والميليتيون في تقسيم الكنيسة. ولكنهم لن ينجحوا في ذلك
طالما أن المسيح واحد وغير قابل للانقسام …

ونستطيع
أن نتبيَّن في بعض أقوال القديس أثناسيوس البذرة الأُولى للتعليم الذي بلوره في ما
بعد وأفاض في شرحه القديس كيرلس الكبير، والذي مؤدَّاه أن الوحدة الكنسية تقوم
أساساً على سر الإفخارستيا وعلى شركة الروح القدس.

فعن
سر الإفخارستيا كأساس للوحدة الكنسية يقول أثناسيوس مفسِّراً صلاة الرب (يو 17):

[ليصيروا
هم أيضاً كاملين إذ تكون لهم الوحدة لهذا السبب وليصيروا كياناً واحداً بعينه. حتى
كما أن الجميع محمولون فيَّ، يكونوا جميعاً جسداً واحداً وروحاً واحداً ويجتمعوا
إلى إنسان كامل. فإننا نحن جميعاً إذ نتناول من (الرب) الواحد بعينه
™k toà aظtoà metalamb£nontej نصير جسداً
واحداً إذ يكون لنا في أنفسنا الرب الواحد.
]([97])

وفي
نص مشابه للسابق يقول عن شركة الروح القدس كأساس للوحدة الكنسية:

[المخلص
يقول: «كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا»، وهو
لا يقصد بذلك أننا يمكن أن نصير مساوين له، ولكنه يطلب من الآب أن يُعطَى الروح
بواسطته للمؤمنين كما كتب يوحنا (يو 16: 14) فإننا بالروح نصير في الله
وبالتالي نصير متحدين بعضنا مع بعض في الله.
]([98])

وأمَّا
بؤرة الوحدة ومحورها فكان أثناسيوس يراها في صليب الرب:

[لقد
نقض بموته حائط السياج المتوسِّط
(أف 14: 2) وصارت الدعوة لجميع الأُمم، فكيف
كان ممكناً أن يدعونا إليه لو لم يصلب؟ لأنه لا يمكن أن يموت إنسان وهو باسط
ذراعيه إلاَّ على الصليب، لذلك لاقَ بالرب أن يحتمل هذا الموت ويبسط يديه حتى
باليد الواحدة يجتذب الشعب القديم وبالأخرى يجتذب الذين من الأُمم ويتحد الاثنان
في شخصه،
فإن هذا هو ما قاله أيضاً بنفسه مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن
يفدي بها الجميع «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع».]([99])

ومن
الوجهة العملية قد صار أثناسيوس بلاهوته الرصين وروحانيته العميقة “رباطاً”
أساسياً وقوياً في جسد الرب «الرأس الذي منه
كل الجسد بمفاصل ورُبُط متوازراً ومقترنا ينمو نمواً من الله.» (كو 19: 2)

فنحن
نعلم كيف استخدم الله شخصيته الروحية العميقة ليجعل منه أثناء نفيه
الأول والثاني خير ممثِّل للكنيسة القبطية بين كنائس الغرب، حتى
انعقدت بذلك أول وأقوى صلة روحية عميقة وأصيلة بين كنائس الشرق والغرب كما سبق أن
أوضحنا في الجزء التاريخي صفحة 83.

لقد
كانت أخلاق أثناسيوس النبيلة وتقواه وأمانته الشديدة للحق تسبي قلوب جميع الذين
عرفوه عن كثب. من أمثال هؤلاء مكسيميانوس أسقف تريف الذي أُرسل إليه أثناسيوس
أصلاً ليوضع تحت مراقبته. ولكن ذلك الأسقف الوقور وكل شعبه انغلبوا منذ أول لحظة
لشخصية أثناسيوس الروحية، وصاروا يتشرَّبون منه مفاهيمه الروحية واللاهوتية،
وظلَّت تريف حتى بعد موت مكسيميانوس من أوفى المدن لأثناسيوس وللإيمان النيقاوي
بصفة عامة.

أمَّا
يوليوس أسقف روما فقد دعاه لمشاركة الأسرار الإلهية منذ أول يوم (انظر صفحة 163)، وتشرَّب على قدر ما استطاع كل مفاهيمه
وفكره. وتدلنا رسالة يوليوس إلى أساقفة الشرق على “مدى التأثير الذي استطاع
أثناسيوس أن يسكبه في الشعور واللاشعور الروماني والغربي بوجه عام” (صفحة 146).

وذلك
إنما يدلنا على أصالة الروح الكنسية التي كانت تنبض في قلب أثناسيوس، حتى أنه
لمَّا صار في المنفى لم ينعزل في صومعته بل استمر يعمل دائباً لبناء جسد الرب، وظل
يتفاعل كعضو حي يؤثِّر في بقية أعضاء الجسد الواحد.

والعجيب
أنه حتى حينما خانه أعز أصدقائه في الغرب وهما ليباريوس أسقف روما وهوسيوس الشيخ
الوقور، صديق العمر، حتى حينما خانه هذان، بقي أثناسيوس يلتمس لهما الأعذار ويدافع
عنهما! عجيب هو هذا الإنسان الذي يظل وفياً في صداقته حتى حينما يخونه أعز
الأحباء!

هذا
من جهة أصدقائه، أمَّا من جهة خصومه، أو بالحري على حد تعبيره “أعداء المسيح”، فقد
كان صارماً، كاشفاً للأخطاء، ثابتاً كالصخر لا يتزعزع! غير أنه في ذلك أيضاً لم
يكن يعرف أن يحقد. كان احترامه الشديد للنفس البشرية مهما تمادت في شرها يمنعه أن
يهينها. وفي ذلك يقول العالِم
Bouyer في وصفه لشخصية أثناسيوس:

“إن
أثناسيوس في كل كتاباته الجدلية والدفاعية يُظهر سخطه بشدة على خصومه، ولكنه في
ثورته عليهم يخلو تماماً من مشاعر البغضة أو الحقد. إنه يندفع بشهامة ليظهر
استياءه الشديد، غير أنه في ذلك أيضاً لا يتخلَّى تماماً عن وداعته الطبيعية، بل
سرعان ما تعود وتكون هي السائدة. إنه يفضح أريوس ويوسابيوس وقسطنطيوس ويصفهم بما
لا يشرِّفهم، غير أننا لا نراه قط يطأهم بقدميه، فنحن لا نجد في كتاباته أثراً
لعداوة شخصية تسُود صفحاتها كمثل شبح روفينوس في كتابات جيروم.”([100])

والسبب
في ذلك أن أثناسيوس لم يكن يقاوم عدواً شخصياً له بل كان يقاوم أعداء الإيمان،
وكان مستعداً في أي وقت يرجعون فيه إلى الحق أن يقبلهم بسعة صدر.

أمَّا
العالِم
Quasten فيقول بخصوص حزم أثناسيوس وسماحته:

“على
الرغم من مناهضته الشديدة للأخطاء بدون أية مساومة معها، ومن تصديه لها بكل حزم، إلاَّ أنه كان يتميَّز بفضيلة يندر أن تنجمع مع
مثل هذا الطبع الحازم، وهي أنه كان
قادراً حتى في حمية الجهاد أن يصير
سموحاً ومتسعاً إزاء الذين ضلوا الطريق بنية صادقة.”([101])

وهذا
هو في الحقيقة رأي المؤلِّف الواضح، إذ أن أثناسيوس في كتاباته استطاع أن يفرِّق
دائماً وبدقة بالغة بين وقت المهاجمة ووقت الدفاع، وبين خصومة لا تهادن قط وخصومة
تقبل المهادنة، وفرَّق بين أعداء الإيمان وبين الأغبياء في الإيمان وبين الضعفاء
في الإيمان، فعلى الأولين أعلن حرباً لا رحمة فيها، وللمتوسطين أفاض وأسهب وشرح
وأطنب، وللآخرين شجَّع وتنازل وسار حتى إلى منتصف الطريق!! (انظر
صفحة 245).

وقد
ظهرت هذه القدرة العجيبة في التمييز والإفراز بين الخارجين عن الإيمان وبين الذين
لا يختلفون إلاَّ في التعبير عن هذا الإيمان الواحد، ظهر هذا الإفراز مع حكمة
أثناسيوس ورزانته على الخصوص في موقفين: الأول في علاقته مع أنصاف الأريوسيين
الذين تجمَّعوا حول باسيليوس أسقف أنقرة، والثاني في علاقته مع الفريقين
المتنازعين في أنطاكية.

ففي
الموقف الأول كتب أثناسيوس في كتابه: “عن المجامع” بخصوص باسيليوس (أسقف أنقرة)
والذين معه:

[أمَّا
الذين يقبلون كل مقررات مجمع نيقية ويتشكَّكون فقط في عبارة “الهوموؤوسيون” فلا
ينبغي أن يعامَلوا معاملة الأعداء، ولا نقصد هنا أن نهاجمهم بوصفهم مصابين
بالأريوسية، ولا نحن نعتبرهم مقاومين لتقليد الآباء، ولكن نناقش الأمر معهم كإخوة
مع إخوة لأنهم يقصدون ما نقصده نحن، وليس النزاع بيننا إلاَّ حول اللفظ فقط …

ومن أمثال هؤلاء باسيليوس الذي كتب من أنقرة بخصوص الإيمان.]([102])

وبعد
ذلك يعود أثناسيوس ويعبِّر أيضاً عن محبته نحو هؤلاء الأساقفة ويقينه أنهم لم
ينحرفوا عن الإيمان الصحيح:

[إن
المعنى الذي يقصده هؤلاء الأحباء ليس غريباً ولا هو بعيداً عن معنى التساوي
في الجوهر.]([103])

وكان
نتيجة ذلك الإفراز أن زال سوء التفاهم وأعلن 59 أسقفاً من أنصاف الأريوسيين سنة
365 أنهم يقبلون قانون الإيمان النيقاوي بدون قيد ولا شرط. “إن أثناسيوس كان على
حق في أمله وتطلعاته فقد كان يؤدِّي دوراً نبيلاً!! ففي رسالة “المجامع”
ارتفع أثناسيوس فوق نفسه!! وكانت النتيجة أن استجاب الله في لحظة وأوقف هذا الشغب،
فالمحبة التي ترجو كل شيء لابد أن تتبرَّر في كل ما تعلمه وتتزكَّى.” (انظر صفحة 268)

أمَّا
بخصوص الفريقين المتنازعين في أنطاكية فقد كان كل منهما يتهم الآخر بالهرطقة، ولكن
أثناسيوس بعد أن استجوب مندوبين من كلا الفريقين جاءوا إلى الإسكندرية واستفهم
منهم بتدقيق عمَّا يعنيه كل منهما من وراء المصطلحات اللاهوتية المختلفة، تيقَّن
أن إيمانهما واحد وصحيح وأن الخلاف بينهما خلاف لفظي فقط. فأخذ ينصحهم في الرسالة
التي أرسلها إلى أنطاكية قائلاً:

[لا تتعاركوا بخصوص كلمات لا فائدة لها ولا تتخاصموا بخصوص
العبارات المشار إليها، بل اتفقوا في مشاعر التقوى … واعتبروا فوق كل شيء قيمة
ذلك السلام الذي في حدود صحة الإيمان، لعل الله يتراءف علينا ويوحِّد ما قد انقسم
فلا يكون بعد سوى رعية واحدة لراعٍ واحد الذي هو ربنا يسوع المسيح نفسه.]
([104])

وأول
ما تهيَّأت له الفرصة للذهاب إلى أنطاكية (سنة 363 لمقابلة الإمبراطور جوفيان)،
اجتمع هناك بالفريقين المتنازعين ليكمِّل الصلح بينهما. وقصد أن يتأخَّر في
أنطاكية عدة شهور حتى يبذل أقصى ما في وسعه لإقامة الصلح والسلام في هذه الكنيسة
الشقيقة.

فكل
ذلك سواء كان تأثيره العميق على أساقفة الغرب أثناء نفيه هناك، أو
نجاحه في ربح باسيليوس أسقف أنقرة مع الأساقفة الذين معه، أو توسطه الحكيم بين
الأحزاب المتنازعة في أنطاكية كل ذلك إنما يدلنا على امتياز روح
أثناسيوس من الوجهة الكنسية، وعلى شدة إحساسه العميق بحقيقة الكنيسة كجسد للرب.
فكل جهاده الكنسي على مدى هذه السنين الطويلة كان يؤول إلى غاية واحدة: أن يجمع في
وحدانية الإيمان كل الذين صاروا أعضاء في جسد المسيح: [ليت الله يتراءف علينا
ويوحِّد ما قد انقسم، فلا يكون بعد سوى رعية واحدة لراعٍ واحد الذي هو ربنا يسوع
المسيح نفسه.]

وقد ظلَّت شخصية أثناسيوس حتى بعد موته وهو
بالحق لم يمت بحسب مدلول اسمه([105])

ظلَّت شخصيته الروحية تستقطب قلوب الكثيرين من
الشرق والغرب على مدى الأجيال، حتى اعتُبر
أثناسيوس عند الكثيرين شعاراً متجسِّداً حيًّا لإيمان كنيسة المسيح
الواحدة. وفي ذلك يقول أحد المعاصرين:

“لقد
صارت الأرثوذكسية الجامعة متجسِّدة في شخص أثناسيوس.”([106])
(مِرش)



اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى