علم المسيح

الإيمان المسيحي وعقيدة القيامة



الإيمان المسيحي وعقيدة القيامة

الإيمان المسيحي وعقيدة
القيامة

لقد
كتب بولس، في رسالة إلي الكورنثيين، ثلاثين سنة تقريباً بعد تلك الأحداث: ”
إن كان المسيح لم يقم، فكرازتنا إذن باطلة، وإيمانكم أيضاً باطل!” (1 كورنثوس
15: 14). وقد اتخذت الكنيسة ركناً لبنائها، ذاك الحدث الخارق الذي لا يطيق الملحدون
إلا أن يدرجوه في عداد الأساطير، والذي شطبه رينان، ضمنياً، من سيرة المسيح، إذ
ختم قصة حياته بالدفن. وإنه لينتصب في صميم لاهوت الكنيسة كما في صميم مسلكيتها،
رسم المعلم الذي سحق الموت، ومنه ينبعث الرجاء المسيحي برمته، لأنه “إن كان
رجاؤنا في المسيح، في هذه الحياة فقط، فنحن أشقي الناس أجمعين!” (1 كورنثوس
15: 19)..

 

عقيدة
القيامة

. إن
الأهمية التي يوليها المسيحيون عقيدة القيامة، لهي أعظم من أن تكون محض اكتراث
تاريخي. فحياة يسوع الثانية ليست مجرد مرحلة خارقة، وفصلاً إضافياً ألحق بسيرته.
ولأمست المسيحية مذهباً من بين المذاهب السلوكية، لو لم تنطلق بها “قيامة
المسيح” من “المسلكية” إلي أجواء الميتافيزيقية. فمن أخذ بهذه
العقيدة فإن مأساة الحياة عينها، وسر مصير الإنسان، يستضيئان، في نظره، بضياء
جديد. ولا نذهبن إلي القول بأن عقيدة القيامة ما كانت سوي اجتهاد لاهوتي جادت به
قريحة بولس النافذة. فلئن كان رسول الأمم. قد بسط تلك العقيدة بتقص لم يجاره فيه
أحد، في رسالته الأولي إلي الكورنثيين، فحسبنا أن نطالع خطاب بطرس، في مطلع
“أعمال الرسل”، فيتضح لنا أن الفوج المسيحي الأول كله قد أولي ذاك الحدث
نفس الأهمية. وعندما وقعت القرعة علي متياس ليحل محل يهوذا، في مصف الرسل، فإنما
انتدب ليكون “شاهداً”، مع الرسل، للقيامة. وبعد ذلك، فإن آباء الكنيسة
كلهم، من أكليمنضس الروماني إلي أغناطيوس الأنطاكي، وبوليكربوس السمرني،
وديونيسيوس، وأوريجنس، وأوغسطينوس، قد ركزوا تعليمهم علي ذاك المؤدي، وأعلنوا
المكانة الأساسية التي يحتلها الاعتقاد بيسوع القائم من بين الأموات

 

. إن
القيامة هي أسمي وعود المسيحية، فيسوع الناهض من بين الأموات إنما هو “باكورة
الراقدين” (1 كو 15: 20). وكما نجا يسوع من القبر، بإمكان كل إنسان، في إثره،
أن يرجو ذلك أيضاَ. “ها إني أكشف لكم سراً – يقول الرسول بولس – لن نرقد
كلنا، ولكن سنتحول كلنا، في لحظة، في طرفة عين، عند البوق الأخير، لأنه سيهتف
بالبوق، فينهض الأموات بغير فساد، ونحن نتحول” (1 كورنثوس 15: 51)

 

. وقد
مر بنا أن الاعتقاد بقيامة الأموات، كان قد شاع شيوعاً واسعاً عند اليهود، عهد
المسيح. لقد كان الصدوقيون يمارون فيه، وأما الشعب فكان آخذاً به. وقد قالت مريم،
أخت لعازر، وكأنها تردد حقيقة مألوقة: “أنا أعرف أنه سيقوم في اليوم
الأخير!” (يوحنا 11: 24)

 

. ذاك
الرجاء الفخيم، كغيره من مؤدبات الإيمان المسيحي، كان قد أنبت شيئاً فشيئاً،
وارتوي ونضج في أعمق أعماق الوعي الإسرائيلي. وكان الأنبياء العظام قد نادوا بأن
الموت سوف يسحق إلي الأبد (أشعيا 25: 8): “ويبيد الموت علي الدوام، ويمسح
السيد الرب الدموع عن جميع الوجوه ” – “ستحيا موتاك وتقوم أشلائي!
استيقظوا ورنموا، يا سكان التراب” (اشعياء 26: 19) – “وكثيرون من
الراقدين في تراب الأرض يستيقظون بعضهم للحياة الأبدية، وبعضهم للعار والرذل
الأبدي!” (دانيال 12: 2) وأي مؤمن لم يكن قد روعي في أذنيه صيحة أيوب
المتهللة، ومناداته الخالدة: “وبعد ذلك تلبس هذه الأعضاء بجلدي، ومن جسدي
أعاين الله!” (أيوب 19: 26)

 

. ذاك
هو الرجاء الذي أفرغت عليه قيامة المسيح كمال اليقين. لقد كان يسوع، إبان حياته،
قد أنبأ بمصيره الفاجع، مستعيناً برمز الهيكل، ينقض ثم يعاد بناؤه في ثلاثة أيام،
بيد أن أتباعه لم يفقهوا التلميح، كما أنهم لم يصيبوا في “آية يونان” من
الفهم أكثر مما أصابوه في رمز الهيكل. ولكن، من يوم فتحت القيامة بصائرهم، فهموا
وعرفوا وأعلنوا أن ذاك الحدث يعينهم شخصياً، بل يعني أيضاً جميع الناس. وما كان في
العهد القديم مجرد استشمام، وعقيدة متنازعة، أضحي، في العهد الجديد، ركن الدين
كله. أجل، لقد قال يسوع لمرتا، أخت لعازر، بعبارة صريحة: “أنا القيامة
والحياة! من آمن بي، وإن مات، فسيحيا!”، ولكن من كان – يوم ذاك – ليفهم تلك
الكلمات فهماً محكماً؟ ففي هذه القضية، كما في جميع القضايا الأخرى، قد اجتاز
الوحي آخر مرقاة له

 

.
ولكن الاعتقاد بالقيامة لا ينحصر فضله في أن يولي الإنسان الفاني رجاءاً خالداً:
بل هو يجدد نظرة الإنسان إلي الحياة عينها. فالمذاهب الفلسفية القديمة كلها
تقريباً قد علمت أن الجسد شر كله، وأنه سجن وقيد وقبر، وقد كتب أفلاطون، في كتابه
فيدون: “إن النفس لن تملك ذاتها تماماً إلا إذا تجردت من الجسد.. ولن نحيا
إلا إذا تحررنا وتطهرنا من غضاضات الجسد..”. أما المسيحية فهي تشرك الجسد مع
النفس في نصرها الخالد، وتقول بالإنسان الكامل، مؤلفا من نفس وجسم متكافلين في
المسؤولية، هكذا أمسي امتهان الجسد أمراً مستحيلاً، وقد دعي إلي الاشتراك، ضمن الكيان
الكلي، في المجد المقيم. “إن كان الأموات لا يقومون، فلنأكل ولنشرب، فإنا
غداً نموت!” (1 كورنثوس 15: 32). ولكن، بما أنهم سوف يبعثون، فالنزاع، في
ذواتنا، وفي الآخرين، حرمة ذاك الجسد المدعو إلي المجد. قيامة المسيح هي إذن
باكورة قيامة كل إنسان، وهي، في ذات الوقت، إثبات الكرامة البشرية. فشتان بينها
وبين أن تكون محض أسطورة أو رمز أدبي، بل هي شهادة للواقعية في أسلم معانيها،
وعليها ترتكز، في آخر المطاف، المسلكية والمجتمعية المسيحية

 

.
“أين غلبتك، أيها الموت؟ أين شوكتك، أيها المنون!..” صرخة متهللة أطلقها
الرسول بولس، فكانت كلمة عزاء ترجعت أصداؤها في التقليد المسيحي كله. ولكنه أضاف:
“إن شوكة الموت هي الخطيئة” (1 كورنثوس 15: 55 – 56): كلمات قلائل تلخص
فيها مصير الإنسان بأسره. فبالخطيئة قد ولج الموت في التاريخ، ولكن يسوع قد أثبت
أن الإنسان – مهما تفاقم بؤسه وذله – بإمكانه أن يسيطر عليهما، بحسب وعد الله.
فالاشتراك في “يسوع القائم من بين الأموات”، إنما هو اشتراك في العبرة
السامية التي آتاناها في حياته. فالشر والموت سيان، وكل ما ينحاز فينا إلي
الخطيئة، ينزع إلي الموت، وكل انصراف إلي الخير هو خطوة شطر الخلود! فالقيامة ليست
فقط واقعاً تاريخياً، وحدثاً محصوراً ضمن حيز معين من المكان، ولحظة من الزمان، بل
هي الشرح الذي به تستضئ مأساة الإنسان بالذات: فنحن لا نحفظ فينا للحياة إلا ما
كان خليقاً بأن يبقي، ويخلد إلي الأبد

 

. قبل
أجيال كثيرة، وفوق تلك البقعة بالذات حيث عاش يسوع وتألم وقهر الموت، شعب صغير كان
قد استكشف شيئاً فشيئاً تلك الفكرة الجليلة: أن الله ليس هو فقط
“القدرة” “الإرادة” و”سر الأشياء”، بل هو، فوق كل
شئ، الخير المطلق والكمال الأسمى. ثم إن ذاك الشعب راح يتقصى مبادئه، شيئاً
فشيئاً، ويتحري مقتضيات حياته، ويعمل علي إخضاع مراسيم شريعته لأحكام العلي. وقد
تفرد، من دون الشعوب كلها، بإعلان أن ليس من ناموس خلقي إلا وعلي الله مرتكزة.
وكان عليه أن يذهب إلي أبعد من ذلك، فيبلغ ذروة منيفة لم تبلغ إليها ديانة أخرى،
جامعاً، ضمن نظام واحد، ما بين المسلكية والمتافيزيقية، وموفراً للناس وسيلة لتحقيق
حلمهم القديم، بأن “يصبحوا كآلهة”

 

. إن
الفرح الذي استودعه المسيح تلاميذه، يوم فارقهم، إنما ارتكز علي هذا اليقين. ولقد
تحقق، إذ ذاك، ما كان إسرائيل قد أوجسه: وهو أن الوجود والخير شئ واحد، ليس فقط في
الله، بل للإنسان أيضاً، وأن الوسيلة الوحيدة للاشتراك في ما هو إلهي وأبدي هي أن
ننفذ، منذ هذه الحياة الفانية، المثل التي تركها لنا يسوع تعليماً وعملاً،
والشرائع الصعبة التي تقضي بها المحبة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى