علم

أنبا دانيال



أنبا دانيال

أنبا
دانيال

 كان أنبا
دانيال، سائراً مرةً مع تلميذِه في طريقٍ، فلما قربا من موضعٍ يقال له أرمون
المدينة، قال لتلميذِه: «امضِ إلى هذا الدير الذي لهؤلاء العذارى، وعرِّف الأم،
أني ههنا». وكان الدير يُعرف بدير أنبا أرميوس، وكان فيه ثلاثمائة عذراء.

 

فلما
قرع التلميذُ البابَ، قالت له البوابةُ بصوتٍ خافتٍ: «من هذا، ماذا تريدُ يا أبي؟»
قال لها الأب: «أريد أن أتكلمَ مع الأم». فقالت له

«إن
الأم لا تتكلم مع أحدٍ، فعرفني بما تريده، وأنا أعرِّفها»، فقال لها: «قولي لها،
هو ذا راهبٌ، يريدُ أن يتكلمَ معكِ»، فمضت ودعت الأم،

 فجاءت
إلى عندِ البابِ، وتكلمت معه على لسانِ البوابةِ، فقال لها الأخُ: «اصنعي محبةً،
واقبلينا إليكِ هذه الليلة، أنا وأبي، لئلا تأكلنا الوحوشُ». فأجابت قائلةً: «ليست
لنا عادةٌ أن يبيتَ عندنا رجلٌ، والأصلح لكما أن تأكلكما وحوشُ البريةِ، ولا
تأكلكم السباعُ الجوانية، الذين هم الأعداءُ الشياطين»، فقال لها الأخُ: «إنه
أبونا دانيال، أرسلني إليكِ».

فلما
سمعتْ أنه أنبا دانيال، خرجت مسرعةً إلى البابِ الثاني، والعذارى يجرين خلفها، وهن
يفرشن بلالينهن في الطريقِ إلى موضع الشيخِ،

فما
أن دخلَ الديرَ حتى قدمت له لقّاناً فيه ماء، وغسلت رجليه، ولما فرغت من غسلهما،
جعلت العذارى يأخذن الماء ويغسلن وجوهَهن،

ما
خلا أختٌ واحدةٌ، كن يقلن له الهبيلة، مطروحةً عند البابِ، بخرقٍ زريةٍ جداً، فلما
فرغوا من الغسل، خرج الأب أنبا دانيال عند البابِ،

 فنظر
إلى تلك الأختِ، فلم تسلِّم عليه، ولا التفتت إلى كلامِه، فصرخت عليها الأخواتُ،
أن تقبِّل يدي أبينا أنبا دانيال، فلم تقف، فقالت

 الأم
للأنبا دانيال: «يا أبانا إنها مجنونةٌ، وطلبتُ مراراً كثيرةً أن أطرحها خارجَ
بابِ الديرِ، ولكني خشيتُ من الخطيةِ».

ثم
إنهن قدمن للأنبا دانيال طعاماً ليأكلَ، وبعد ذلك أكلن، ثم قال لتلميذِه: «اسهر
معي الليلةَ، لتنظرَ عِظم فضائل هذه القديسةِ التي يدعونها مجنونةً».

ولم
تمضِ هجعةٌ من الليل، وإذا بالمجنونةِ قد قامت، وانتصبت، ورفعت يديها نحو السماءِ،
وفتحت فاها وباركت الله، وصنعت مطانيات

كثيرةً،
وكانت دموعُها تجري مثلَ ينبوعٍ يجري، من أجلِ حُرقة قلبها في اللهِ، وكان هذا
عملها في كلِّ ليلةٍ، وإذا سمعت حساً نحوها،

 طرحت نفسَها
على الأرضِ، وتظاهرت بأنها نائمةٌ. وهذا كان تدبيرُها جميعَ أيامِ حياتِها. فقال
لتلميذِه: «استدعِ الأم بسرعةٍ».

فلما
أتت ونظرت الأختَ عبدة المسيح، والنورَ بين يديها، والملائكةَ تسجدُ معها، بكت
وقالت: «الويل لي أنا الخاطئة، فكم صنعتُ بها من

الشتمِ
والإهانةِ والتعيير».

فلما
ضُرب الناقوسُ، واجتمعت الأخوات للصلاةِ، عرفتهن الأم بما عاينت. فلما علمت
(القديسة) أنهن علمن بخبرِها، كتبت ورقةً وعلقتها على

 قصبةٍ
عند بابِ الدير، وخرجت من الديرِ، وكان مكتوبٌ في الورقةِ: «أنا الشقيةُ، لشقوتي،
ومعاندة العدو، أخرجني من بينكن، وأبعدني من

 وجوهكن
المملوءة حياةً. إهانتكن لي كانت قرة نفسي، وضجركم عليَّ كان ثمرةً تُجمع كلَّ
يومٍ، استقلالكن لي كان ربحي، ورأس المال

 يزداد كل
يوم وساعة، فمباركةٌ تلك الساعةِ التي قيل لي فيها: يا هبيلة، يا مجنونة، وأنتن
محاللات من جهتي، بارئات من الخطيةِ، وإني

قدامكن،
قدام المنبر، سوف أجاوب عنكن لأجلي؛ ليس فيكن مستهزئةٌ، ولا من هي محبةٌ للحنجرةِ،
ولا للِّباس، ولا للشهوةِ، بل كلكن نقيات».

وهذه
هي آخرُ رسالةٍ لها، فلما قرأها أنبا دانيال قال: «ما كان بياتي البارحة هنا، إلا
لهذا السببِ».

وإن
جميعَ الأخوات، أقررن له بما كنَّ يهينونها، ويفترين به عليها، فحينئذ حاللهن الأب
أنبا دانيال وعرَّفهن بأن لا يستهزئن بخليقةِ اللهِ، فهذه

 أعظم
الخطايا، حتى ولو كان هبيلاً، لأن توراة موسى النبي تقول: «خُلق الإنسانُ على
صورةِ الله ومثالِه بالوقار، والإكرامِ، وطولِ

 الروحِ،
والتأني»، ثم إنّ الأب صلى عليهن، وتوجه إلى ديرِه.

كان
بالقربِ من جبلِ شيهات
، الذي تفسيرُه ميزانُ القلوب، ديرٌ فيه كثيرٌ
من العذارى، وكان لهن رزقٌ قليل، وكن يفرقن منه على

 المساكين
والغرباء، وإنَّ مبغضَ الخير، لم يحتمل البرَّ الذي يصنعنه، فدخل في قلبِ مقدمِ
قبيلةٍ بالقربِ منهن، وأغراه بسرقةِ الديرِ، وكم كان

 فرحُ
رجالهِ لما عرََّفهم بعزمهِ.

فلما
جاءوا إلى الديرِ، تحايلوا كيف يجدون السبيلَ لأخذهِ، لكنهم لم يقدروا، لأن حصنَ
الديرِ كان منيعاً، فقال لهم مقدمُهم: «ما أقوله لكم

 افعلوه،
امضوا واحضروا لي ثيابَ راهبٍ، وبليناً أسودَ، وقلونية منقوشةً كلها صلبان، مثل
شكل أنبا دانيال، الذي من شيهات، فإذا أمسى

الوقتُ،
لبستُ كلَّ ذلك، وآخذ بيدي جريدةً، وأقرع البابَ، فإذا نظرن إليَّ يفتحن لي من
أجلهِ، وبذلك أهيئ لكم الموضعَ لتنهبوه براحةٍ».

فلما
سمعوا فرحوا، وأحضروا الثيابَ الذي طلبه.

ولما
أمسى الوقتُ، قام المقدمُ، لابساً الثيابَ، وأخذ في يدهِ جريدةً، وقرع البابَ،
فجاوبته البوابةُ: «من أنت يا سيدي وأبي؟»، فقال لها:

«امضِ
وعرِّفي الأم بأن المسكينَ دانيال القسيس، الذي من شيهات، قائمٌ على البابِ،
ويقول: اقبلنني عندكن إلى الغداةِ لكي أستريحَ». فأبلغت

البوابةُ
الأم بالكلام، وما أن سمعت الأم أن أنبا دانيال قائمٌ على البابِ، حتى قامت
مسرعةً، والأخوات يتبعنها، وقبَّلن رجلي ذلك الإنسان. ولأن

الوقتَ
كان مساءً، فإنهن لم يتحققن شخصَه، بل أسرعن، وأحضرن ماءً في لقانٍ، وغسلن رجليه،
ولما أردن أن يفرشن له في علو الديرِ،

منعهن
قائلاً: «لن أفارقَ هذا الموضعِ».

وإن
الأم والأخوات أخذن الماء الذي غسل فيه رجليه، ووضعوه قدامه، وبدأت كلُّ واحدةٍ
تغسل وجهَها منه، وهو يُصَلِّب عليها. وكانت بين الأخوات بنتٌ عذراء عمياء من بطنِ
أمها، فحدث لما أمسكن بيديها، وأحضرنها إلى ذلك الإنسان، أن كان الأب أنبا دانيال
قد حضر عندهن بالروح في تلك الساعةِ، وأمسك بيد العذراء وأحضرها إلى ذلك الإنسان،
وقلن له: «يا أبانا، نطلب من قدسِك أن تصلِّب على عينيها»، فقال لهن: «قدِّمن لها
فضلةَ الماءِ الذي في اللقان». وكان قولُه هذا استهزاءً بالماءِ، واستقلالاً
لعقولهن، فلما أخذت الأختُ الماءَ، ورشمت عليه باسمِ المسيحِ قائلةً: «بصلاة
القديس أنبا دانيال»، فللوقتِ انفتحت عيناها، وذلك الإنسانُ ينظرُ.

فيا
للخوفِ الذي لحقه ويا للرعدةِ، وما أعظم الصراخ الذي صرخن به في تلك الساعةِ وبدأن
يقبِّلن رجلي ذلك اللص، قائلات له: «يا أبانا، مباركةٌ الساعةُ التي دخلتَ فيها
إلينا».

أما
اللصُ، فقال: «يا ويلي، ويا غربتي من اللهِ، إذا كان باسمِ أنبا دانيال، تُفتح
أعينُ العميان، فكم تكون عظمة ذلك الذي يعمل عملَ الربِّ، ويلي، كيف ضيعتُ زماني
في عملِ النجاسات، وحق صلاة أنبا دانيال، من الآن، لن أرجعَ أسلك الطريقَ التي
كنتُ أسلكها»، وكان يقول هذا، وهو يبكي، وينتف شعرَ لحيته.

أما
العذارى، فكن يكررن عليه القولَ: «مباركةٌ الساعةُ التي حضرتَ فيها إلى ههنا»،
وأما هو فكان يقول: «بالحقيقة إنها ساعةٌ مباركةٌ».

وأما
الرجالُ الذين كانوا ينتظرونه، ليفتحَ لهم البابَ، فقد كانوا قياماً، وسيوفُهم
بأيديهم، وهم قلقون على فتحِ البابِ، وقد سمعهم، وهو في الداخلِ، يقولون: «لقد أزف
الليلُ، لعله يريدُ أن يترهب ويسكن عندهن»، وآخر منهم يقول: «لعل راهبةً منهن
جعلته نصرانياً»، وكانوا يقولون هذا الكلامَ باستهزاءٍ، فكان يسمع ذلك ويقول:
«حقاً، لقد نطقَ نبيُ الله على أفواهِهم، بأني أترهب، وأن راهبةً منهن جعلتني
نصرانياً».

ولما
أنار النورُ، وانقطع رجاؤهم فيه، خافوا وانصرفوا إلى مكانِهم محزونين، وأسنانُهم
تصرُّ على مقدِّمهم. ولما كان الصباحُ سَحراً، بسط ذلك اللصُ يديه نحو المشرقِ
قائلاً: «يا ربُّ، إنك لم تأت لتدعو الصديقين، لكن الخطاةَ، فاقبلني إليك بصلاةِ
الذين تعبوا على اسمِك». ثم إنه ودعهن، وخرج وهن متحققات من أنه أنبا دانيال.

فلما
توسط الطريقَ، خرج عليه رفقاؤه، وقالوا له: «ما الذي أصابك؟ إنما قعودك كان لأنك
وجدتَ جواهرَ حسنةً، وأنت تقصد أن تبدِّي نفسَك علينا. أرنا ما معك». فلما فتشوه،
وجدوه بأسوأ حالٍ، وقد تغير وجهُه، وتورمت عيناه، من عِظم البكاء، وقد تغيَّر
كلُّه، وخرجت منه النفسُ السبعية، وعند ذلك خافوا وارتعدوا، وبدءوا يسألونه بخوفٍ
وحشمةٍ، أن يُعرِّفهم ما السبب في تغيير جميعِ حياته.

وعند
ذلك بدأ يعرِّفهم من وقتِ دخولهِ عندهن، وأمرُ العذراءِ العمياء، حتى الساعة التي
هو فيها. أما هم فلما سمعوا، داخلهم الخوفُ وسكتوا.

ثم
إنه توجَّه نحو البريةِ، إلى عندِ الأب دانيال، وتبعه بعضُ رفقائه، وقصَّ عليه ما
جرى بدير العذارى، فقال له أنبا دانيال: «أنا الذي أحضرتُ إليك العذراءَ العمياء،
ومن وقتِ دخولك إليهن، أنا كنتُ حاضراً بينكم بالروحِ». ومن بعد ذلك رهبنه، وأقام
عنده بالعبادة الحسنةِ، والزهد الزائد، إلى يومِ وفاته، وعمل هذا اللصُ معجزاتٍ
عظيمةً، وبصلاته سكن فردوس النعيم، بركة صلاته تكون معنا آمين.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى